البشائر

البشائر – الحلقة 20

اسلاميات

البشارة العشرون:

من الباشئر قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) المائدة) من هؤلاء الذين يحبهم الله تعالى قبل أن يحبو وقدّم محبته لهم قبل أن يقدموا محبتهم له؟ هؤلاء قوم (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) فالتذلل للمؤمنين عبادة يحبها الله عز وجل ويحبها المؤمنون وإذا أحبها الله تعالى وأحبها المؤمنون فاز العبد فوزاً عظيماً فإذا أحب الله تعالى عبداً نظر إليه وإذا نظر إليه لا يعذبه أبداً. والذل نوعان : ذل فيه منقصة ومهانة عندما تذل نفسك في مقام يجب أن تعزّها فيه وهناك ذل عبقري أفضل من العِزة كالذل للأبوين (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) كلما تذللت لهما كما ارتفعت عند الله تعالى في سُلّم المجد والعزة والكرامة. هكذا التذلل للمؤمنين هما آيتان مرة تهيب بالمؤمنين أن يكونوا أذلة فيما بينهم (أن يذل بعضهم نفسه لبعض) وآية أخرى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) والفرق بين الحالتين أن المؤمنين رحماء بينهم في كل حال بعضهم يرحم بعضهم وهذه قضية ليس فيها عنت ولا مشقة لكن العنت والمشقة أن تذل نفسك (أذلة على المؤمنين) وهذه الذلة هي التي يُعنون لها على منظومة التواضع والتراحم التي ينبغي أن تصادف فيك كظماً عظيماً للغيظ (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) حينئذ لا ينبغي لمؤمن أن يكون فظاً غليظ القلب مع مؤمن آخر مهما بدا منه من تقصير في حق نفسه أو حق أخيه أو حق الله تعالى. رجل صالح رأى أخاً له وكان طالحاً فقال والله ليدخلّنك الله النار قالها له بغلظة وقسوة وكان عليه أن يبتسم في وجهه وينصحه بأن يُنجي نفسه وأن يُحبب له التوبة ويترفق به كما ترفق الرسول r بالخطائين والمذنين فقال تعالى من هذا الذي يتألّى علي وعزتي وجلالي لأدخلنه الجنة ولأدخلنك النار لا لشي إلا لغلظ قوله وقسوته على أخيه. وهذا ما نسمعه كثيراً اليوم نسمع من يقول فلان مشرك وفلان كافر وفلان مبتدع وغيره ونسمع كثيراً من غليظ القول والقسوة وهذا يدخل في ما رويناه سابقاً في الحديث. وحديث آخر: قال صالح والله لا يغفر الله لفلان وكان هذا الفلان خطاء يملأ الدنيا خطايا فيقول تعالى من هذا الذي يتألى ألا أغفر له لقد غفرت له وأحبطت عملك لا لشيء الا لقسوته وغلظته على أخيه.

عن انس رضي الله عنه قال كنت مع النبي r وكان عليه بُردٌ نجراني غليظ الحاشية فجاء أعرابي فجبذه جبذة قوية فرأيت أثرها على صفحة عنقه وقال: مُر لي من مال الله الذي عندك فالتفت اليه النبي r وهو يضحك وأمر له بعطاء والكل يعرف قصة الأعرابي الذي بال في ناحية من المسجد فقام الناس ليأخذوا عليه فقال r اهدأوا إنمابُعثتم ميسرين لا معسرين وأمرهم أن يهرقوا الماء على البول.

فإذا رأيت رجلاً يتكبر على الناس ويقسو عليهم ويرى نفسه خيراً منهم فهو هالك كما جاء في الحديث عنه r: إذا قال الرجل هلك القوم فهو أهلكهم. رجل صالح ملتزم رأى فساد الناس فصرخ لقد هلك الناس كأنه يبرّي نفسه من فسادهم ويرى نفسهم خيراً منهم وفي يومنا هذا أفراد وجماعات تعتقد أنها في الوحيدة على الحق والباقي هالكون فمن يقول هذا فهو اشدهم هلاكاً وقد يكون الباقون هالكون فعلاً وكأن قولك يدل على أنك ترفع نفسك وتنظر اليهم بازدراء واحتقار فأنت أشدهم هلاكاً فلا يقول الرجل الصالح هلك الناس أو فسدوا وإنما يدعو الى الله بالحسنى واللطف والكلمة الطيبة. من أجل ذلك فإن لغة التخاطب بين المؤمنين ولغة التعامل بين الخطائين وغير الخطائين يجب أن تكون بغاية الرقة كما يفعل الطبيب مع مريضه. فإذا رأيت رجلاً يُعنّف ويفسّق ويكفّر فاعلم أن الله تعالى لا يحبه وهو بعيد عن الله وهو لا يحب الله تعالى ولو أحب الله تعالى لأحب عباده. قال موسى لربه: أراك يا رب تحب بني اسرائيل وأنا لا أحبهم فقال لأنك لم تخلقهم. حينئذ رب العالمين رب الناس طلب منا أن ندعو اليه بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال عبد الله بن مسعود: لا تحاسبوا الناس وكأنكم أرباب. فأنت لست رباً يحاسب الناس فرب العالمين هو وحده سبحانه الذي يحاسب الناس لكن عليك أن تحاول أن تنقذ أخاك بالكلمة الطيبة ووجهك باسم ولهذا يحبك الله تعالى وتحبه ولهذا قال r: من أحب أن يتمثل الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار ومن أجل هذا حُرّمت الخيلاء والكِبر وامتدح الله تعالى كظم الغيظ (والكاظمين الغيظ) ووعدهم أن يملأ نفوسهم رضى يوم القيامة لأنهم ذلّوا وأذلوا أنفسهم. قال r: ألا أدلكم على ما يُشرف البناء ويرفع الدرجات قال أن تحلم مع من جهل عليك وأن تصل من قطعك وأن تعطي من حرمك.

كل ذلك من ذل المؤمن العبقري الذي يحبه الله تعالى ورسوله ذلك الذل يجعل المؤمنين متراحمين متوادين فعليكم أن تكونوا مع المؤمنين أذلة لأنه ذلة يحبها الله ويحبها بكم وتجعلون رب العالمين يضفي عليكم من الرحمات فإذا أحب الله تعالى أعطى عطاء غير محدود.