سور القرآن الكريم

سُوَرِة الحَج

هدف السورة: دور الحج في بناء الأمّة

سورة الحج هي من أعاجيب سور القرآن الكريم؛ ففيها آيات نزلت في المدينة وأخرى نزلت في مكة ، وآيات نزلت ليلاً وأخرى نهاراً، وآيات نزلت في الحضر وأخرى في السفر وجمعت بين أشياء كثيرة. وهي السورة الوحيدة في القرآن كله التي سميّت باسم ركن من أركان الإسلام وهو الحج. فالسورة تتحدث عن مواضيع كثيرة منها يوم القيامة والبعث والنشور والجهاد والعبودية لله, فما علاقة كل هذه الأمور ببعضها وبالحج؟ الواقع أن الحج هو العبادة التي تبني الأمة لما فيه من عبر لا يعلمها إلا من حجّ واستشعر كل معاني الحج الحقيقية.

1. فالحج يذكرنا بيوم القيامة وبزحمة ذلك اليوم والناس يملأون أرجاء الأرض وكلهم متجهون إلى مكان واحد في لباس واحد في حرّ الشمس (النفرة من مزدلفة والنزول من عرفة والتوجه لرمي الجمرات). ولذا جاءت الآيات في أول السورة عن يوم القيامة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) آية 1 و2 وكم تساءلنا عند قراءتنا لسورة الحج ما الرابط بين يوم القيامة وسورة الحج! والآن وضحت الصورة وفهمنا مراد الله تعالى من هذه الآيات فما أنزل الله تعالى الآيات إلا في مكانها المناسب بتدبير وحكمة لا يعلمها إلا هو ولكن العبد يجتهد في تحرّي هذا المعنى حتى يفهم هدف الآيات التي يتلوها فسبحان الحكيم القدير.

2. والحج يذكرنا بيوم البعث، فمنظر الحجيج في مزدلفة وهم نيام بعد وقوفهم في عرفة عليهم آثار التعب ويعلوهم التراب والغبار ثم يؤذن لصلاة الصبح فتراهم يقومون وينفضون عنهم التراب كما لو أنهم بعثوا من قبورهم يوم البعث.

3.والحج يذكرنا بالجهاد ولذا جاءت آيات الجهاد في السورة بعد آيات الحج لأنّ الحج تدريب قاس على الجهاد لما فيه ارتحال من مكان لآخر وتعب والتزام بأوقات ومشاعر أمر بها الله تعالى وعلّمنا إياها رسولنا الكريم .

4. والحج يذكرنا بالعبودية الخالصة لله تعالى فالكل في الحج يدعون إلهاً واحدا في عرفة حتى الشجر والدواب والطير والسموات والأرض كلهم يدعو ربه ويسبحه لكن لا نفقه تسبيحهم. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) آية 18.

في ختام السورة تأتي آية سجدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) آية 77 وهناك مفارقة بين هذه السجدة والسجدة في سورة العلق (كلا لا تطعه واسجد واقترب) فالسجدة في سورة العلق كانت أول آية سجدة في القرآن وهي خاصة بالرسول r وحده أما آية السجدة في آخر سورة الحج فهي آخر آية سجدة نزلت وهي موجهة للمؤمنين جميعاً. فسبحان الله العظيم

تناسب بداية الحج مع نهايتها

قال في أولها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)) وقال في آخرها علّمهم كيف يتقون (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {س}(77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)) هذه التقوى، تكون بالركوع والسجود والمجاهدة حتى ينجوا من عذاب الله الشديد. ثم كرر الطلب في آخر آية (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)). كيف يتقون؟ بهذا التفصيل. بعد أن أمرهم علّمهم كيف يفعلون، هذه مظاهر التقوى. لما قال لهم اتقوا الله يقولون كيف نتقيك؟ فيجيبهم افعلوا كذا وكذا.

تناسب خواتيم الأنبياء مع فواتح الحج

خواتيم الأنبياء في الساعة وما يليها من العقاب والثواب (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)) إلى آخرها (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)) وفي الحج (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)) ذكر في آخر الأنبياء أحداث الساعة وفي الحج ينبغي علينا أن نتقي ربنا (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)، هناك كلام في الساعة وهنا في الساعة (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)) يعني استكمال لما انتهى به في السورة السابقة وكأنها سورة واحدة.

تناسب خاتمة الحج مع فاتحة المؤمنون

نحن الآن مع تناسب خواتم الآيات السور ابتداء بين سورة الحج والمؤمنون السورتان الثانية والعشرون والثالثة والعشرون، قال في خواتيم سورة الحج (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)) هكذا خاطب الذين آمنوا وقال (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)) إذن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وقال في أول سورة المؤمنون (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)) لعلكم تفلحون – قد أفلح المؤمنون، (الذين هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)). (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) قد أفلح المؤمنون الذين فعلوا هذه وكأن المؤمنون قد استجابوا لهذه النداءات من الله سبحانه وتعالى.

تأملات قرآنية – سورة الحج


#تأملات_قرآنية
#سورة_الحج

ورد لفظ الجلالة (الله) في سورة الحج 75 مرة هي سورة التعظيم لله حقًا وذكر فيها أكثر من 30 اسمًا من أسمائه الحسنى
فيها تعظيم شعائره
وتعظيم حرماته
فيها سجدتان:
الأولى سجدة تعظيم متناغمة مع سجود الكون كله لله
والثانية سجدة استجابة المؤمنين امتثالا وسمعا وطاعة لله عزوجل
وكأن فيها خصوصية اصطفاء وخصوصية قرب لمن صفا قلبه بالتوحيد الخالص وكان قصده خالصا إلى ربه في الحج وغيره.

آيات الحج في سورة الحج تهيئة للقلوب لرحلة إيمانية مقصدها توحيد الله الخالص وتعظيمه لعل الله يزكيها بالتقوى ويغسلها بماء المغفرة
ذكر فيها: قلوب تقية، قلوب وجلة، قلوب تعقل، قلوب مخبتة
قلوب لا تعقل، قلوب عمياء، قلوب مريضة وقلوب قاسية
فأيّ القلوب قلبك؟!

(يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم)
جاء التعبير عن الذات الإلهية بصفة الرب مضافة إلى ضمير المخاطبين دون اسم العَلَم (الله) إيماء إلى استحقاقه أن يُتّقى لعظمته بالخالقية وإلى جدارة الناس أن يتّقوه لأنه بصفة الربوبية لا يأمر ولا ينهى إلا لما فيه مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم.

وورد في السورة الحديث عن العذاب واختلف وصفه:
(ولكن عذاب الله شديد)
(ويهديه إلى عذاب السعير)
(وذوقوا عذاب الحريق)(ونذيقه يوم القيامةعذاب الحريق)
(نذقه من عذاب أليم)
(يأتيهم عذاب يوم عقيم)
(فأولئك لهم عذاب مهين)
والسورة افتتحت بالناس ولعل كل صنف من الناس يناسبهم صنف من العذاب والله أعلم.

إذا كانت التقوى زاد العبد في رحلة الحج (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)
فإن ذكر الله كثيرا هو خير معين له على هذا الزاد فذكر الله يجعل القلب متعلقا بالله مخبتا إليه مخلصا له معظما له ولشعائره ليحقق (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)
اللهم أعنا على ذكرك وتقواك..
✍️ سمر الأرناؤوط

تدبر سورة الحج / د. رقية العلواني

تدبر سورة الحج

د. رقية العلواني

 

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴿٢٧﴾ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴿٢٨﴾ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴿٢٩﴾ الحج)

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. اليوم حديثنا عن سورة الحج هذه السورة العظيمة التي عدّها المفسرون من أعاجيب السور نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً ونهاراً سفراً وحضراً منها ما نزل في مكة ومنها ما نزل في المدينة منها ما نزل عليه وهو في حال السلم ومنها ما نزل عليه وهو في حال الحرب وهي السورة الوحيدة التي اتخذت اسم ركن من أركان الإسلام. فلا سورة للصلاة ولا سورة للصيام ولا للزكاة ولكن هناك سورة الحج. هذه السورة العظيمة التي اتخذت اسم ركن الحج العظيم جاءت وهي تحمل في معانيها وبين آياتها مقصداً ريئساً في حياة المؤمن، هذا المقصد يدور حول التقوى، يدور حول تنمية القلب المخبت الخاضع الخاشع لربه سبحانه وتعالى. السورة بأكملها من أول آية حتى آخر آية بكل ما جاء في السورة من أحكام ومن أركان ومن آيات عظام جاءت تمشي مع الإنسان خطوة خطوة نحو تنمية التقوى نحو الترقي به في سُلَّم التقوى فالتقوى درجات والتقوى بناء. نحو تنمية القلب الخاضع الخاشع لربه سبحانه درجة درجة. العجيب في هذه السورة – ولذلك هي عدّت من أعاجيب السور – أنها ابتدأت بقضية يهيأ لقارئها في البداية أنها لا علاقة لها مباشرة تربط بينها وبين ركن الحج الذي سميت السورة على اسمه. السورة في أول آياتها تخاطب الناس أجمعين لا تخاطب المؤمنين فحسب مع العلم أن ركن الحج خوطب به الناس جميعاً ولكنه فرض على المؤمن السورة بدأت بقول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) تخاطب البشرية (اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) أول خطاب يخاطب به الله سبحانه وتعالى في السورة البشرية جمعاء هو خطاب التقوى الأمر بالتقوى الوصية بالتقوى (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) القيامة ذلك اليوم الذي قد يستبعده كثير من الناس قد لا يرون صورته بين أعينهم وهم يسيرون في دروب الحياة ولكن هو واقع لا محالة. وتأملوا معي قول الله عز وجل في الآية الثانية (يَوْمَ تَرَوْنَهَا) المسألة منتهية المسألة من المسلّمات المسألة قادمة قطعاً ولذا جاءت الكلمة (يَوْمَ تَرَوْنَهَا) ترون آيات يوم القيامة ترون الساعة ترون أهوال هذا اليوم العظيم (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) لو أردنا أن نبحث عن أي كلمات عن أي أوصاف تصف وتقرب أهوال يوم القيامة للبشر لا يمكن أن نأتي بمثل هذه الآية العظيمة، يا سبحان الله! هذا الكتاب العظيم معجز في وصفه معجز بكلماته بحروفه بكل شيء فيه ولا عجب فهو من رب العالمين سبحانه. الآية وصفت أنه ما يأتي يوم القيامة من مواقف، من شداد، من أهوال، من صعاب، يجعل حتى المرضعة التي هي أشد ما تكون التصاقاً ومحبة برضيعها تصاب بحالة من الذهول حالة من العجب حالة من الحزن والكرب الشديد يجعلها لا تلتفت إلى هذا الرضيع التي هي في الحالة المعتادة أشد ما تكون التصاقاً به. (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا) من شدة الهول. وترى الناس جميعاً في حالة من الذهول والكرب والحزن الشديد ما يجعلهم في حالة أقرب إلى السكر من أي شيء آخر، السُكر بمعنى غياب العقل بمعنى الذهول بمعنى عدم الإدراك لما يدور حولهم نتيجة للأهوال الشديدة، نتيجة لما يحدث أمام أعينهم في ذلك اليوم الشديد العظيم. (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) إذن يا رب هذا اليوم العظيم ما الذي يمكن أن أقدمه بين يدي وأنا الآن أستحضر هذا اليوم ولكني لا زلت في دار العمل؟ ما الذي أفعله؟ كيف يمكن أن أخلّص نفسي من أهوال ذلك اليوم العظيم؟ كيف أستطيع وأنا اليوم في دار العمل في الدنيا أن أقدم بين يدي ذلك اليوم أعمالاً وصفات تقربني إليك أنت وتنجيني من ذلك اليوم العظيم؟ تأتي الآيات التي بعد هذه الآية مباشرة لتقسم الناس إلى أنواع وأصناف على الرغم من أن قضية البعث وقضية يوم القيامة قضية محسومة تماماً لا جدال فيها، على الرغم من كل ذلك إلا أن هناك صنف من البشر يجادل ويحاجج بغير الحق في وقوع ذلك اليوم العظيم، لماذا يجادل يا رب؟ يجادل بغير علم ليس لديه حجة قوية ليس لديه دليل على ما يتوهم من عدم وقوع ذلك اليوم العظيم ويتبع كل شيطان مريد، إتباع الهوى إتباع الشيطان الذي يدلي للإنسان بغرور ويمنّيه ويعده (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا). يعد الإنسان بأن يوم البعث لا يمكن أن يأتي، يعد الإنسان بأنه لا حياة بعد الموت، يعد الإنسان بأنه من المستبعد تماماً أن تعود الحياة للإنسان بعد موته، قضية في غاية الخطورة ولذا كان الإيمان بالبعث قضية محورية الإيمان بالبعث ركن من أركان الإيمان. لا يتم إيمان الواحد منا أبداً إلا بالإيمان بالبعث. لماذا يا ربي الإيمان بالبعث؟ ولماذا كان الإيمان بالبعث على هذه الدرجة من الأهمية؟ الإيمان بالبعث قضية مصيرية قضية تعتمد عليها كل الأعمال التي يقوم بها الإنسان في الحياة الدنيا، في دار العمل، الحياة. أنا لا أستطيع أن أعيش وأقدم العمل الصالح الطيب الخيّر وقد لا أجد ثمرة له في الدنيا دون أن يكون لدي رصيد كافي ويقين من الإيمان بالبعث. ودعونا نقف عند مثال واحد فقط: من منّا في الحياة التي نعيشها اليوم في حاضرنا من منا لم تمر عليه ساعة استشعر فيها وقفاً قد وقع عليه فيه ظلم؟ موقفاً قد بُخِس فيه حقه؟ موقفاً نال منه شخص من النسا شخص من البشر بغير حق وشعر بمعنى الظلم حقاً. من منا لم يشعر في لحظات في حياته أنه لا بد أن تكون هناك محكمة عادلة محكمة لا تقوم على أساس إختبارات البشر ولا على أساس أحكام البشر ولا على تصوراتهم؟ من منا لم تمر عليه لحظة من لحظات الدنيا لم يستشعر بحاجته إلى عدالة السماء؟ من منا لم يستشعر بأن هذه الأرض التي نعيش على ظهرها ينقصها عدالة وعدل حقيقي عدل غير خاضع لأهواء البشر عدل غير خاضع لمصالحهم عدل مطلق وليس عدلاً نسبياً، من منا لم تمر عليه هذه اللحظات؟ الإيمان بالبعث هذا الركن العظيم هو الذي يجعل هذه الأحاسيس ووهذه المشاعر تقف عند الحد الذي ينبغي أن تقف عنده بمعنى آخر أني حتى حين يقع عليّ ظلم ولا أستطيع أن أرده لسبب أو لآخر أشعر بأن هناك عدالة وبأن هناك جزاء وأن هناك محكمة ستأتي لا محالة، محكمة يوم القيامة. من منا لم يستشعر بالحاجة إلى عدالة الله المطلقة؟ من منا لم يستشعر بالحاجة إلى الله سبحانه وتعالى الحَكَم العدل الذي لا يماري ولا يداهن أحداً من خلقه؟ من منا لم يقل في يوم من الأيام بصدق وبحاجة وبخشوع وتضرع يا رب خذ لي الحق الذي قد انتُهِب أو اختُلس مني؟ من منا لم يشعر بهذه الحاجة؟ الإيمان بالبعث يخفف وطأة وقائع الحياة وما يدور حولنا من أحداث على نفوسنا على قلوبنا يشعرنا بحقيقة قد نغفل عنها أحياناً أن هذه الدنيا التي نعيش فيها هي دار عمل وليست دار جزاء، أنا قد أعمل أعمالاً صالحة عظيمة وكبيرة ولكني لا أجد ثمرة لهذا العمل لسبب أو لآخر. أنا قد أقوم بكل ما استطيع أن اقوم به كبشر لكن لا ثمرة لعلمي، لا أجد من أهلي وأقاربي ومكان العمل الذي أعمل فيه والمجتمع الذي أعيش فيه لا أجد الجزاء الأوفى، من الذي سيجازيني؟ من الذي سيعطيني؟ من الذي سيكافئني؟ الله سبحانه وتعالى. متى سيكون هذا؟ ليس فقط في الدنيا، قد لا أجد الجزاء ولكن الذي يوفي الجواء الأوفى هو الحق سبحانه وتعالى ولذلك جاءت الآيات في سورة الفاتحة أول سورة في القرآن (مالك يوم الدين) يوم الجزاء يوم الحساب يوم المصير يوم المكافأة لمن لم يجد من يكافئه في الدنيا، يوم الجزاء الأوفى لمن وقع عليه الظلم ولم يجد في محاكم البشر ولا في محاكم الدنيا من ينصفه. يوم الجزاء هو يوم الراحة والهناء للمؤمن وللإنسان الصادق المُخلِص الوفيّ في عمله الذي نال في الدنيا ما ناله. يوم البعث ركن من أركان الإيمان لا يتم إيمان الإنسان إلا به ومع ذلك يجادل فيه من يجادل تكبراً وعناداً واستبعاداً وإصراراً وربما رغبة في الخلاص من العقوبة رغبة في الخلاص من الحساب. الإنسان حين يعيش دون أن يستشعر أن هناك رقيب عليه أن هناك حساب سيقف بين يدي الله سبحانه ويحاسبه على الكلمة وعلى التصرف وعلى الفعل وعلى الدرهم وعلى الدينار ولماذا فعلت؟ وكيف فعلت؟ ومن اين أتيت؟ حين يشعر بأنه بعيد عن كل هذه القيود وأنه طليق في تصوره وفي أوهامه التي ينسجهل له شياطين الإنس والجن، عندما يشعر بالبعد والانفصال عن كل هذه الأنواع من الرقابات قد تسول له نفسه أن يعبث في الأرض بما يشاء من أنواع الفساد من أنواع التخريب أنواع الظلم والتخريب والاعتداء على حقوق الآخرين. ما الذي يردعه؟ يوم البعث يوم الجزاء يوم الإنصاف يوم الحساب. تقدم آيات سورة الحج وتبني في نفس الإنسان بشكل عام في نفوس كل الناس ولذا جاء الخطاب في أول آية وفي آيات ستأتي فيها في مواضع في سورة الحج (يا أيها الناس) الخطاب لكل الناس. وانظر إلى الآية التي تليها الآية الخامسة وهي تناقش الإنسان المتكبر المتجبر الذي يجادل في الله بغير علم تناقشه إن كان يملك بقية من عقل ومن منطق ومن إحساس، تناقشه بمنطق العقل بمنطق الحُجة بمنطق الحس الذي يؤمن به وليس بمنطق الغيب الذي يؤمن به المؤمن فحسب. تأتي الآية الخامسة فتقول في سورة الحج (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ) هذه الصورة الأولى، تقدم سورة الحج في هذه الآية صورة مجسدة مقربة تقرب للإنسان كيف تجادل في وقوع البعث؟ كيف تناقش في قدرة الله عز وجل في إحياء الناس بعد الموت؟ كيف تجادل؟ كيف تجادل في قدرة الخالق سبحانه على أن يعيد الناس إلى الحياة من جديد بعد أن يصبحوا ويتحولوا إلى تراب، كيف تجادل؟! كيف تجادل وأصل الخلقة الذي هو أصعب واشد بمنطق العقل؟! كيف تجادل وقد خلقك الله أصلاً من تراب؟! خلق آدم من تراب، كيف تجادل وأنت ترى الإنسان الجنين كيف ينمو خاصة بعد أن كشف العلم الحديث أطوار نمو هذا الجنين ولم يخرج على الإطلاق ولو بقدر شعرة عما وصفته هذه الآية العظيمة هذه الآية في سورة الحج. علماء الأجنّة الأطباء كل ما توصلت إليه الدراسات الحديثة التي قاموا بها لم تخرج عن التوصيف العميق الدقيق الذي داء من رب العباد سبحانه. هذه الأطوار التي يمر بها الجنين وصفها القرآن قدمتها الآية كيف تجادل إذن؟! كيف أجادل في شيء لا علم لي به؟! الذي قدر واستطاع بقدرته المطلقة أن يخلق الإنسان من تراب ويمرر به هذه الأطوار العجيبة العظيمة النطفة العلقة المضغة المخلقة وغير المخلقة في تستقر في الرحم ثم تعود إلى الحياة وتنزل بعد ذلك ثم نخرجكم طفلاً ثم تمر بمراحل عديدة ليبلغ الإنسان مرحلة القوة والشباب ثم بعد ذلك يبدأ بمرحلة النزول (وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) هذه الأطوار العجيبة من الذي خلقها؟ من الذي سواها؟ من القادر سبحانه وحده دون سواه أن يغير من نطفة إلى علقة؟ من الذي يستطيع وحده دون سواه أن يغيّر من العلقة إلى المضغة؟ من؟ من يملك كل هذه القدرة المطلقة حتى يستطيع أن يجادل بعد ذلك ويقول ويزعم أن الله سبحانه غير قادر على أن يعيد الإنسان إلى الحياة من جديد بعد أن يصيّره إلى التراب؟ هذه الصورة الأولى في الآية الخامسة. وتقدم الآية العظيمة صورة أخرى للإنسان صورة تهز الإنسان من أعماقه من جديد تدق له كل أجراس الإنذار لتوقظه من سباته العميق لتشعره بأن يوم القيامة مهما حاولت الهروب منه مهما حاولت أن تهرب من الجزاء مهما حاولت أن تهرب من تلك المحكمة التي ستأتي لا محالة لا تستطيع الهروب. الصورة الثانية تتعلق أيضاً بصورة حسية نراها أمام أعيننا ليل نهار. وانظر إلى قول الله عز وجل وإعجاز القرآن في الكلمة (وَتَرَى الْأَرْضَ) أمر محسوس أمر نبصره بأعيننا أمر نعاينه كل يوم كل ليلة (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً) خامدة في حالة موت هامدة (فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء) من الذي ينزل الماء؟ الله سبحانه وتعالى (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) سبحان الله العظيم! آية في غاية الإعجاز والعظمة! كل ما نحتاج إليه لاستشعار عظمة هذه الآية أن أنظر في الواقع الذي أعيش أن أتدبر في الكون الذي حولي الذي ينطق بقدرة الله سبحانه وتعالى المطلقة. من الذي يحيي الأرض بعد موتها. أليس هو الله سبحانه؟ من الذي يعيد الحياة إلى الأرض الميتة بعد أن قد جفّت وانتهت كل أشكال الحياة فيها لا نبات ولا عشب ولا حياة على الإطلاق ينزل الله سبحانه وتعالى الماء بقدرته على هذه الأرض الميتة فيحييها من جديد لينبت فيها كل أنواع النبات من كل زوج بهيج، من الذي أحياها؟ من الذي بثّ فيها الروح من جديد؟ أليس هو الله سبحانه؟ أليس هو القادر على أن يحيي الموتى كما يحيي هذه الأرض؟ يا سبحان الله! هذه الآية العظيمة وحدها إذا تدبرت فيها وربطت بين ما أراه في الكون وبين كلمات الآيات وبين حروفها يبدأ الإنسان باليقظة يتخلى عن كبريائه يتخلى عن عناده يتخلى عن إصراره الكاذب عن إصراره وعناده وجداله بغير علم بقدرة الله سبحانه وتعالى على الإعادة إلى الحياة بعد الموت.

ولذا تأتي الآية التي تليها بقول الله عز وجل (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) انظر إلى عظمة الآية. الحق هو الله سبحانه، الحق هو الله وحده لا شريك له قادر على كل شيء وليس فقط على إعادة الناس إلى الحياة بعد الموت (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ). الآن وبعد أن قدّمت وتم البناء في نفس الإنسان غير المكابر غير المعاند بعد أن تم بناء الإيمان بالبعث والإيمان بأن هناك يوم قادم لا محالة وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى سيحاسب ويجازي وهناك محكمة عادلة تحاسب الناس على أعمالهم وسلوكياتهم وتصرفاتهم، إعمل ما شئت في الدنيا ولكن ضع أمام عينيك أنك ستحاسب على كل ما تقوم به. هذه الحقيقة الحاضرة الغئبة عن أذهان كثير من الناس تبنيها سورة الحج. ولكن قبل أن نستمر في تدبر آيات سورة الحج لنا أن نتساءل يا ترى لماذا جاءت سورة الحج بهذه البداية العظيمة والحديث المتواصل القوي الحاضر عن قضية البعث؟ لماذا؟ ما العلاقة بين الإيمان بالبعث وبين الحديث عن الحج؟ ما العلاقة بين هذه البداية المركزة التي تركز في نفس الإنسان الإيمان بالبعث والكلام عن الحج؟ السورة تتحدث عن الحج وسيأتي الحديث عن الحج فلماذا الكلام في البداية عن البعث؟ سبحان الله العظيم! هذا القرآن العظيم -كما ذكرنا قبل قليل- مُعجز في كل شيء مُعجز في تناسب الآيات والسور، مُعجز في ترتيب الايات في السورة الواحدة، مُعجز في تقديم الأمثال، مُعجز في كل شيء، يا سبحان الله! من أراد أن ينظر إلى منظر مصغّر ليوم البعث وليوم القيامة فليتدبر الحجّ. من أراد أن يرى مواقف وأهوال يوم القيامة بصورة مصغّرة مبسطة بطبيعة الحال فليذهب إلى الحج؟ كيف؟ مواقف يوم القيامة مواقف الحشر وقوف الناس ازدحام الناس ما يظهر عليهم من آثار السهر والتعب الشديد والنصب مظاهر أريد لها أن تجعل الإنسان يقترب قليلاً بعض الشيء من مواقف الحج. الحرّ الشديد الزحام الخانق الانتظار الطويل، حال البشر وهم يجتمعون في حالة انكسار وذل وخضوع وتضرع بين يدي الله سبحانه وتعالى. اللباس البسيط الذي يلبسه كل الحجيج دون طبقية دون فرق بين عزيز وذليل، دون فرق بين غني أو فقير دون طبقية على الإطلاق، دون فرق بين أسود أو أبيض، الكل يلهج بالدعاء والتضرع والخضوع والانكسار والذلة لله سبحانه وتعالى، للواحد، للملك، يقفون على هذه المواقف والمشاعر يطلبون شيئاً ًواحداً الكل يشتركون في طلب شيء واحد تركوا من ورائهم الدنيا تركوا الأعمال تركوا المناصب تركوا الأهل تركوا الأولاد تركوا كل شيء وجاؤوا لله الواحد القهار يسألونه صفحاً عفواً مغفرة رحمة من عنده. هذه المواقف العظيمة تذكر بشيء واحد تذكر بمواقف يوم القيامة مع فارق واحد أني حين أقف في الحج في المشاعر المقدسة على جبل عرفة على منى على مزدلفة حيت أقف تلك المواقف أنا لا زلت في دار العمل لا زلت فيها والحج عمل ومن أعظم العمل. أما يوم القيامة فسأقف مواقف الذل والتضرع والخضوع والترقّب والتوجس ولا يمكن أن يكون بين يدي عمل آخر أستطيع أن أقدمه فالآخرة ومواقف يوم القيامة دار جزاء لا دار عمل، انظر إلى الفارق وانظر إلى الربط العظيم الذي ينبغي أن يستحضره كل من يقف في مواقف الحج العظيمة كل من يقف على جبل عرفة عليه أن يتذكر ذلك الموقف الرهيب الذي سيأتي لا محالة. كل من يقف وينفر من منى إلى عرفة إلى مزدلفة عليه أن يتذكر تلك المواقف العظيمة عليه أن يتذكر تنقله بين مواقف وعرصات يوم القيامة عليه أن يتذكر الحال التي سيكون عليها وعليه أن لا ينسى أبداً أنه اليوم لا يزال في رحمة الله سبحانه هو لا يزال في دار العمل فليقدم بين يدي الله سبحانه من الأعمال ما يستطيع أن يقدّمه قبل فوات الأوان. الإيمان بالبعث يبقى دائماً حاضراً في سورة الحج ليؤكد على معاني التقوى ليكون هو الدافع الرئيس للإنسان للعمل للتزود بزاد الدنيا إلى زاد الآخرة للتزود بالأعمال الصالحة للقيام بكل ما يمكنه أن يقوم به ويتزود به من عمل في هذه الدنيا قبل فوات الأوان.

تأتي آيات الحج بعد هذا المقطع العظيم لتؤكد على نفس الحقيقة التي ابتدأت بها (وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴿٧﴾) القضية حقيقة ولكن ليست المسألة في وقوع هذه الحقيقة التي ستقع لا محالة دون شك ولا ريب، الإشكالية في بعض الناس في أصناف من الناس حقيقة الإيمان بالبعث لديهم فيها شك فيها جدال فيها عدم استحضار لهذه الحقيقة استحصاراً يدفع بهم إلى العمل وإلى التضحية وإلى تقديم كل غالي ونفيس في سبيل العمل الصالح في سبيل نيل رضى الله سبحانه وتعالى. وانظر معي إلى قول الله عز وجل في الآيات التي تليها وهو يقسم أنواع من البشر أنواع من الناس لم يجعلوا الإيمان بالبعث حقيقة حاضرة في حياتهم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ﴿٨﴾) هذا الصنف من الناس (ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) لأن القضية أصبحت جدالاً بالباطل، قضية البعث ليست مسألة تصديق وتكذيب هو يعلم هذه الحقيقة ولكنه يجادل بغير علم، يبتعد عن هذه الحقيقة، يتخذ كل الوسائل والسُبُل للتكذيب بها، هذا النوع من الناس إختار طريق الضلال والصدّ عن سبيل الله عز وجل، يستخدم كل ما أوتي من قوة مادية إعلامية سياسية اقتصادية لأجل الصدّ عن سبيل الله عز وجل. وتأملوا معي كيف يجعل الله سبحانه وتعالى في آيات سورة الحج الإيمان بالبعث حقيقة واقعة، تأملوا معي قول الله عز وجل (لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿٩﴾ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴿١٠﴾) يجعل الإنسان يستشعر كل ما أقوم بعمل من الأعمال صالحاً أو غير ذلك كل ما قمت بعمل علي أن أستحضر الجزاء قبل أن أقوم به عليّ أن أتوقف للحظة ما نتيجة العمل؟ ما هي النتيجة التي ستترتب على العمل الذي سأقوم به؟ هذا الإنسان الذي ضلّ عن سبيل الله وصدّ عن سبيل الله يتوعده ربي عز وجل بخزي بفضيحة في الدنيا ربما تكون فضيحة مالية ربما تكون فضيحة أخلاقية ربما تكون في السياسة ربما تكون في أي شيء ولكن خزي ومذلة ومهانة لماذا؟ الجزاء من جنس العمل، أراد الصدّ وإضلال الآخرين عن طريق الحق، لم يكتفي فقط بإضلال نفسه لم يكتفي فقط بأن يكون هو مبتعداً عن خالقه سبحانه لكنه أراد أن يردي الآخرين في هذا الطريق فكان الجزاء له من نفس العمل (لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿٩﴾).

وثمّة صنف آخر من الناس لم يجعلوا الإيمان بالبعث حقيقة واقعة مطبقة في حياتهم، هذا الصنف من الناس قد يؤمن بالبعث ولكن العلاقة بين استحضار هذه العلاقة فيها ضعف شديد فيها نوع من أنواع الخنوع من أنواع الذل والخنوع للدنيا ومطالبها، كيف؟ يقول الله سبحانه وتعالى واصفاً هذه الفئة من الناس (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴿١١﴾) هذا النوع من الناس علاقته مع الله عز وجل علاقة قائمة على المنفعة، قائمة على المصلحة، يعبد الله طالما أن طاعة الله سبحانه وعبادة ربه عز وجل وتقرّبه من الله سبحانه يأتي له بالمنفعة يأتي له بالمصالح الشخصية المنافع الدنيوية قد يجد زيادة في رزقه قد يجد بركة في وقته في ماله في أولاده في صحته قد يجد هذه الأمور، فكلما زاد له الله سبحانه من أمور الدنيا كلما ازداد تقربًا وصلاحاً وكلما ازداد التزاماً وكلما بدأت الدنيا بعض الشيء تبتعد عنه أو تمتنع عنه أو تأتيه أي نوع من أنواع الانتكاسات أو الابتلاءات أو الامتحانات التي يتعرض لها البشر بمختلف التزاماتهم ليس بالضرورة فقط المؤمن ما من بشر في هذه الدنيا إلا وهو معرّض للابتلاءات المؤمن وغير المؤمن في ذلك سواء ولكن المؤمن يرجو عند الله ما لا يرجوه غيره من البشر, هذا النوع من الناس إذا جاءه أي نوع من الابتلاءات بدأ يتذمر بدأ يتراجع في التزامه مع الله عز وجل بدأت ثقته بربه تضعف بدأ بدل أن يحسن الظن بالله عز وجل يسيء الظن بخالقه، يا رب أنا ازددت لك صلاة، أنا ذهبت إلى الحج أنا ازددت في التزامي فلماذا بدأت الابتلاءات تأتي على رأسي واحدة بعد الأخرى كلما ازددت التزاماً وتقرباً منك؟! هذا النوع من المساءلة هذا النوع من العلاقة مع الله شيء غير مشروع، غير مقبول، علاقتي مع الله عز وجل ينبغي أن تكون علاقة ثابتة علاقة مطلقة لا تهزها النوائب لا تغيرها المصائب أحبه في السراء وأحبه في الضرّاء، أحبه في الرخاء وأحبه في الشدّة، أحبه في الصحة وأحبه في المرض أحبه إن أقبلت الدنيا عليّ وأحبه سبحانه إن أدبرت الدنيا عني، ليس المقياس لدي إقبال الدنيا أو إدبار الدنيا المقياس الحقيقي عندي ثقتي ويقيني المطلق بالله سبحانه وتعالى يقيني الذي لا يتزعزع ثقتي المطلقة بخالقي سبحانه أنه حتى حين يمنع عني إنما منعه عطاء، منعه لأجلي، ابتلاؤه هو خير لي. قد لا أرى الحكمة من وراء هذا الابتلاء أو الامتحان، قد لا أرى الحكمة في الانتكاسة التي أصابتني في مالي أو في تجارتي أو في صحتي أو في أولادي ولكن قطعاً هناك حكمة ولكن أمر المؤمن كله خير إن أصابتني السراء شكرت وحمدت وتقربت إلى الله عز وجل وإن أصابتني الضراء صبرت فكان كذلك خيراً لي. هذا النوع من العلاقة هو ما تريد آيات سورة الحج أن تبنيه في نفسي علاقة حسن الظن والثقة المطلقة بالله سبحانه، اليقين بأن الله سبحانه وتعالى لا يختار لعبده المؤمن المتقرّب المُقبل عليه إلا الخير في كل شيء قد لا تتضح لي الحكمة في الموقف الذي أصابني في الابتلاء الذي أصابني في الانتكاسة التي مرّت بي ولكن الحكمة موجودة عند الخالق سبحانه الذي كل شيء لديه بقدر سبحانه وتعالى. الجزاء قد لا آخذه  في الدنيا ولكني قطعاً أؤمن بالبعث وأؤمن بيوم الدين، إيماني بالجزاء إيماني بكل هذا إيماني بنتيجة العمل الذي أقوم به قطعاً هي واقعة في نفسي هذا الوقوع وهذا الإحساس وهذا الاستحضار العظيم ليوم البعث يولد طاقة هائلة عند الإنسان طاقة إحسان الظن بخالقه عز وجل ولذا كان حسن الظن بالله سبحانه من حسن العبادة ولذا ربي عز وجل يقول في الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي. لذا القرطبي لديه كلام جميل في تعليقه على هذا الحديث يقول: ظنّ الإجابة عندما تدعو الله سبحانه وتتوجه إليه وظنّ القبول عندما تطلب المغفرة منه وظنّ التوبة عندما تتوب وتؤوب إلى خالقك سبحانه. عليّ أن أغلّب في حياتي حسن الظن بالله سبحانه. وتأملوا معي موقف الحبيب صلى الله عليه وسلم حينما هاجمه وطرده أهل الطائف، ذهب بدعوته إليهم ذهب إليهم وتجشم العناء والتعب وما ناله بعد ذلك إلا أي شيء؟ إلا أن أغروا به صبيانهم ليرموا بقدمه الشريفة الأحجار وكل ما كان لديهم، ماذا كان موقف الحبيب صلى الله عليه وسلم؟ هل تراجع؟ هل تراجعت ثقته بربه وبخالقه؟ أبداً، ما كان منه إلا أن شكا إلى ربه وناجى خالقه سبحانه فقال: إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي لك العتبى حتى ترضى ولا حول لا قوة لي إلا بك. هذا الإيمان الثابت، هذا الإيمان الذي أنا بحاجة شديدة إليه اليوم. هناك موقف أيضاً ينبئ عن معنى حسن الظن بالله سبحانه وتعالى عن عبد الله بن الزبير. عبد الله بن الزبير يحدثنا عن أبيه يقول: كانت على أبي ديون وقت استشهاده فأوصاني وقال لي: إن عجزت عن الوفاء بها فادعو مولى الزبير، يقول عبد الله: فسألت أبي من مولاك يا أبي؟ حتى أدعوه وأستعن به على قضاء الدَيْن؟ قال مولاي ربي سبحانه وتعالى إذا عجزت عن شيء فادعوه وحده سبحانه. يقول عبد الله بن الزبير فوالله ما عجزت عن شيء من قضاء دَيْن أبي إلا قلت: يا مولى الزبير إقضِ عني الدَيْن فيقول فيساعدني مولاي ومولى الزبير. هذا الشعور والإحساس العميق واليقين والثقة المطلقة بالله سبحانه هي ما نحن اليوم أشد ما نكون حاجة إليها في واقعنا الذي نعيش، لماذ؟ عدم الثقة بالله سبحانه أو ضعف الثقة بالله أو عدم إحسان الظن به يجر الإنسان إلى الإستعانة بالمخلوقين دون الخالق وهذا خلل في التوحيد عظيم وليس بالبسيط. عدم إحسان الظن بالله في مسألة بسيطة على سبيل المثال في مسألة النصر أو الرزق أو ما شابه ذلك يجرّنا إلى الإستعانة بأولياء من دون الله سبحانه ولذا جاءت الآية العظيمة -وتأملوا عظمة وإعجاز القرآن في ترابط آياته- بعد الآية التي قال عنها (ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴿١١﴾) عن هذا النوع من البشر (يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴿١٢﴾ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ﴿١٣﴾) ضعف الثقة بالله سبحانه واليقين به يجر الإنسان إلى الوقوع في موالاة المخلوقين دون الخالق في طلب الرزق منهم والاستعانة بهم ونصرتهم دون الاستنصار والاستعانة بخالقه عز وجل. ومن كان هذا حاله يصفه القرآن فيقول (ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ). هذه الآيات تركز في نفوسنا جميعاً خاصة حينما يذهب الإنسان إلى الحج ويرى بأم عينه كيفية تضرع الخلق إلى خالقهم الغني والفقير القوي والضعيف العزيز والذليل الكبير والصغير الأسود والأبيض العربي وغير العربي كلهم يشعرون بمدى الحاجة إلى الخالق سبحانه. هذا الإحساس والشعور يوقظ في نفسي كإنسان الشعور الذي تعززه هذه الآيات أن لا ناصر إلا الله ولا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله ولا معين إلا الله ولا مجير إلا الله سبحانه وتعالى وهذا الإحساس بالضبط ما تبنيه في نفسي آيات سورة الحج.

تستمر الآيات في تعزيز الإيمان بالبعث واستحضار هذه الحقيقة والتأكيد عليها في كل آياتها وكل مقاطع السورة إلى أن تصل إلى قول الله عز وجل (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ۩﴿١٨﴾) يُدخل الإنسان بعد تركيز الإيمان بالبعث في قلبه وفي نفسه يُدخله في منظومة التسبيح والسجود لخالقه سبحانه، كل ما في الكون من شجر من قمر من نجوم من جبال كل ما في الكون يسجد لله خضوعاً وانقياداً واستسلاماً. لماذا ينقاد الكون من حولي ولا أنقاد أنا الإنسان لخالقي سبحانه؟ لماذا لا أشعر بعظمة هذا الخالق فأنقاد لأوامره بسلاسة وخضوع كما تخضع بقية الكائنات؟ الشعور بالسجود وتعظيم السجود في هذه الآية على وجه التحديد التي جاءت في سورة الحج لها مغزى لها مقصد عظيم، تأملوا معي قول الله (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) من يتعالى عن السجود لخالقه من لا يخضع لخالقه سبحانه بالسجود والتذلل والانكسار بين يديه إنما هو في حقيقة الأمر يهين نفسه ولا يهين شيئاً آخر. قمة الإهانة أن لا يخضع الإنسان لخالقه، لماذا؟ لأنه إن لم يخضع لخالقه قطعاً سيخضع لمخلوق وتلك هي قمة الإهانة وقمة الكرامة والعزة أن يخضع لخالقه، قمة الكرامة أن يضع جبهته على الأرض سجوداً وانصياعاً وخضوعاً وانقياداً لأمره سبحانه وتعالى. السجود الذي تأتي به هذه الآية في سورة الحج ليس مجرد سجود الجباه، لا، سجود القلب خضوعاً وانقياداً وتسليماً لخالق عظيم لخالق لا يخرج شيء في هذا الكون عن إرادته وقدرته وقوته سبحانه.

ثم تتوالى الآيات آية بعد آية لتستحضر وتذكّر الإنسان دائماً بالجزاء (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴿١٩﴾) ثم تأتي عن المؤمنين فتقول (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴿٢٣﴾) ولنا أن نقف ونتساءل لماذا يتكرر في سورة الحج ذكر الجزاء للمؤمن وغير المؤمن آية بعد آية تقريباً بعد كل مقطع من مقاطع سورة الحج يأتي الحديث عن الجزاء، لماذا يا رب؟ كما ذكرنا في البداية سورة الحج تريد أن تبني فيّ التقوى تريد أن تبني قمة التقوى في قلبي، تريد أن تصنع من قلبي قلباً مخبتاً متواضعاً عائداً لربه سبحانه، وأعظم وسيلة لصناعة التقوى ولبناء القلب المخبت الراجع المتواضع إلى ربه المنكسر بين يدي خالقه التذكير المستمر بالبعث جعل قضية القيامة وقضية الجزاء قضية حاضرة كأني أنظر إليها كأني أراها أمام عيني ليل نهار، لا ينبغي أن تغيب عن عيني أبداً، لا ينبغي أن يغيب استحضار اليوم الآخر عن قلبي عن واقعي عن سلوكياتي. وهنا يحضرنا تصرّف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه. النبي صلوات الله وسلامه عليه كان كلما جلس مجلساً مع أصحابه ذكّرهم بيوم البعث ذكّرهم بالجزاء ذكّرهم بالآخرة ليجعل قضية الآخرة حاضرة دائماً كأنهم يعيشونها. في الحقيقية جعلهم يعيشونها قبل الموت في الحياة الدنيا، لماذا؟ ليكونوا أكثر تمسكاً بها ليكونوا أكثر إقبالاً على الآخرة وأكثر حباً للآخرة وأكثر ابتعاداً عن ملهيات الدنيا ومغرياتها. ذات يوم جاء للنبي صلى الله عليه وسلم قطعة من حرير ناعمة ذات ملمس ناعم رقيق جعل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتلمسونها بأيديهم ويتعجبون من رقتها وحُسنها فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم ويقول أتعجبون من لين هذه ووالله لمناديل سعد بن معاذ في الجنة ألين من هذه وأحسن أو كما قال عليه الصلاة والسلام. ما الذي جاء بذكر مناديل سعد في الجنة بهذه القضية المادية المحسوسة التي كانت أمام أعينهم؟ أراد أن ينقلهم نقلة سريعة وواضحة وقوية من التأمل في مسألة دنيوية كقطعة الحرير إلى الربط بمسألة أخروية مناديل سعد بن معاذ في الجنة أرقّ من هذه وأليَن. عندما أجعل الآخرة حاضرة في ذهني حاضرة في واقعي أعيشها قبل أن أعيش الآخرة قبل أن أصل إليها يدفعني إلى ذلك التضحية يدفعني ذلك إلى سهولة أن أقدّم ما لدي في الدنيا مهراً لتلك الجنة مهراً للآخرة. هذا النوع من الاستذكار الدائم للآخرة هو الذي حدا بصحابة النبي صلوات الله وسلامه عليه هذا ما حداهم أن يضحوا بكل شيء لأجل الآخرة لأنهم عاشوها ولذلك كان بعض الصحابةرضوان الله عليهم يقول في غزوة أُحد إني لأشم ريح الجنة من خلف جبل أُحد، إني لأشم ريحها كانوا يستشعرونها حقيقة، كانوا يعيشونها ولذا كان الواحد منهم يقول إن عشت حتى أنتهي من أكل التمرات إنها لحياة طويلة! هي ثواني هي مجرد دقائق، ما الذي جعلها حياة طويلة أمام هذا الواحد منهم؟ تلك الحياة تلك الجنة التي كانوا يتوقون إليها. وما الذي أبعدنا اليوم عن الآخرة؟ ما الذي جعلنا نتشبث بالدنيا تشبثاً شديداً؟ جعلنا لا نستطيع أن نضحي بشيء من متاعها الزائل؟ ما الذي جعلنا نصل إلى هذه الحالة؟ عدم استذكار الآخرة، البعد عن استحضار الإيمان بالبعث، البعد عن استذكار الجنة استذكاراً يجعل الجنة حاضرة في مواقعنا حاضرة في قلوبنا فإن سكنت على سبيل المثال بيتاً جديداً أو قصراً أو انتقلت إلى بيت جديد إستحضرت بيوت الجنة إستحضرت قصور الجنة إستذكرت رياش الجنة إستذكرت لباس الجنة حين أرتدي لباساً جديداً حين أشمّ ريحاً طيباً أقول في نفسي ما بال ريح الجنة؟ كيف ستكون الجنة؟ كيف ستكون أنهار الجنة؟ إن رأيت منظراً حسناً من مناظر الدنيا أو تأملت في الكون إستذكرت الجنة إستذكرت الآخرة هذا هو ما نحتاج إليه لنصل إلى إيمان حقيقي يجعل التقوى حاضرة في قلوبنا حاضرة في واقعنا حاضرة في سلوكياتنا، وهذا ما تبنيه فيّ سورة الحج آية بعد آية.

ثم تنتقل الآيات إلى قول الله عز وجل (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴿٢٤﴾) هذه الحقيقة الحاضرة دائماً الإنتقال السريع من الجزاء في الآخرة والحديث عن الجنة وكيف أن لباسهم حرير ثم إلى (هدوا إلى الطيب من القول) الجزاء من جنس العمل، جعل الجزاء دائماً حاضراً قبل أن يقوم الإنسان بالعمل يذكره بالجزاء. أنت حين تقوم بعمل صالح قدّم الله لك الجزاء قبل أن تقوم بالعمل.

ثم تنتقل الآيات انتقالاً رائعاً وسلساً إلى الحديث عن الحج موضوع السورة الرئيس والأساس. وتأمل معي قول الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿٢٥﴾) إنتقال مباشر كما أن هناك في الدنيا مؤمنين الغاية الرئيسة في قلوبهم وفي حياتهم أنهم يهدون الناس إلى صراط الحميد، هناك أناس لا غاية لديهم سوى الشر وصد الناس عن سبيل الله والكفر ووالمسجد الحرام، الصدّ عن المسجد الحرام. هذه الفئة من البشر هذه الفئة التي جعلت الغاية الأساس في حياتها الصد والظلم والكفر والضلالة يتوعدها الله سبحانه وتعالى ليس بشيء واحد كما جاء في الآيات الأول من سورة الحج الخزي في الدنيا وعذاب الحريق في الآخرة، لا، شيء آخر، لماذا ازدادت العقوبة؟ ازدادت العقوبة لأن الحديث عن الوعيد لمن أراد الظلم والكفر والصدّ عن سبيل الله في المسجد الحرام. بدأت الآيات بالحديث عن قدسية هذا المكان العظيم وتأملوا معي كيف سماه الله تعالى المسجد الحرام وفي آيات أخرى البيت الحرام، لماذا بيت حرام ولماذا مسجد حرام؟ جعله ربي سبحانه من عنده محرّماً على أيّ نوع من أنواع الإفساد، أيّ نوع من أنواع الخوف أو الرهبة أو إدخال الرهبة في نفوس من يأتي إلى هذا البيت. هذا البيت العظيم وهذا المسجد الحرام، هذا البيت جعل الله سلام، جعله الله أمان، من دخله كان آمناً آمناً في نفسه آمناً في ماله آمناً في قلبه آمناً على عرضه، أمّنه الله سبحانه لدرجة أن الناس في الجاهلية قبل الإسلام كانوا يقدّسون هذه الحقيقة ويحترمونها ويقفون أمامها ويقفون عندها فمن دخل في المسجد الحرام كان معصوم الدم لا يناله سوء حتى من رأى قاتل أبيه في البيت الحرام لا يتمكن من أن يمتد إليه بأي نوع من أنواع الأذى تقديساً واحتراماً وعصمة لهذا البيت العظيم البيت الحرام. فما بالنا بعد شرّفه وعظّمه الله سبحانه بآيات عظام من القرآن الكريم جعله الله بيتاً وسماه البيت الحرام ليكون فيه الصفاء ليكون فيه النقاء ليكون فيه استرداد المؤمن لروحه ولجوهره ولأصله. أراده الله سبحانه وأنزل فيه السكينة والأمن والإيمان خصيصاً لأجل هذه الغاية. كل من أتعبته هموم الحياة كل من أتعبته مشاغل الدنيا ومكائد الدنيا وابتلاءات الدنيا ومصائب الدنيا عندما يأتي إلى هذا البيت الحرام لن يجد فيه إلا الأمن والأمان والصفاء والنقاء والسكينة، هذا وعد من رب العالمين. وفي ذات الوقت (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) مجرد إرادة، قد لا يُقدِم، مجرد تفكير مجرد أن يريد أن يفعل هذا الفعل توعده الله عز وجل بالعذاب الأليم، لماذا؟ حفاظاً على قدسية هذا المكان العظيم، حفاظاً على مكانته في القلوب وفي النفوس المؤمنة التي جاءت إليه من كل فجّ عميق – كما ستأتي الآيات – لترقى إلى مستوى الصفاء لترقى إلى مستوى الأمن والأمان والسكينة والراحة والهدوء التي جاءت تبتغيها في هذا المكان العظيم. (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿٢٦﴾) بدأت الآيات بالحديث عن الحج من خلال الحديث عن مكانة وقدسية البيت الحرام وقصة بناء البيت الحرام. وربطت الآيات هذا البناء العظيم الذي نراه اليوم بعد كل تلك السنوات آلآف السنين ربطته بإبراهيم عليه السلام. هذا الربط العظيم يذكرنا بشيء واقع، يذكرنا بالتوحيد، التوحيد الذي أقام على أساسه إبراهيم عليه السلام قواعد هذا البيت. هذا البيت العظيم ليس مجرد أحجار بنيت حجارة فوق حجارة، هذا البيت العظيم قام على التقوى قام على التوحيد قام على (أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ). هذا البيت العظيم البيت الحرام بيت الله الحرام، هذا البيت العظيم طُهّر من الشرك قبل أن يطهّر الطهارة الحسية طُهّر طهارة معنوية والطهارة المعنوية هي طهارة التوحيد طهارة العقيدة طهارة وجود أي خلل في العقيدة ولذا على المؤمن المقبل على هذا البيت العظيم أن يطهر قلبه من الشرك كما طُهر هذا البيت الذي يطوف به من الشرك. ولذا جاءت الآية (أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) أحتاج وأنا أطوف بالبيت وأنا أبدأ بمراسيم الإحرام وشعائر الإحرام، أحتاج قبل أن أبدأ بشعائر الإحرام وأرتدي لباس الإحرام أن أتطهر أن أطهر قلبي من كل شرك، من كل خلل، أن أطهر قلبي من كل ما يمكن أن يصدّ عن سبيل الله عز وجل أن أطهر قلبي وأصفّيه وأنقّيه. كلنا يعلم أن الاغتسال للإحرام والدخول في الإحرام هو سُنّة وليس بفرض ولكن أن أغسل قلبي من الشِرك وأن أنزّه قلبي وأطهّره من أن يلتفت إلى أي أحد سوى الله سبحانه وتعالى إيماناً أو يقيناً أو استعانة أو استنصاراً أو استرزاقاً إنما هو فرض عين عليّ أن أقوم به في كل وقت وفي وقت الإحرام أفرض فأنا متوجه لخالقي متوجه لبيت الله الحرام. وهنا نحتاج أن نتوقف عند الآية التي تليها تأمل قول الله عز وجل (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴿٢٧﴾) أذّن في الناس هذا النداء الخالد العظيم الذي قام به إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، هذا النداء العظيم الذي بنى أسسه إبراهيم عليه السلام بناء متواصل بناء عميق في البشرية بناء يذكرني اليوم وأنا أذهب إلى الحج أن هذه الرسالة رسالة التوحيد الخالدة عميقة الجذور عميقة الجذور في تاريخ البشرية وأنها هي الأصل وأن عدم التوحيد والابتداع والبُعد عن الله سبحانه وتعالى والشرك كل هذه المظاهر مظاهر طارئة على البشرية الأصل في البشرية هو التوحيد الأصل في هذا النداء العظيم هو التوحيد الذي جاءت أسس البيت على إقامته. (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا) يأتون بكل الوسائل، وسائل النقل المختلفة منهم من يأتي راكباً ومنهم من يأتي ماشياً مختلف الأنواع مختلف الوسائل تلبية لهذا النداء العظيم. ونريد أن نتوقف عند نقطة عظيمة، نقطة علينا أن نربط بين معاني الحج ومعاني الواقع الذي أعيش فيه. كلنا يعلم أن الناس في واقعنا إذا ما أرادوا أن يأتوا لزيارة أحد الملوك أو أحد الكبار من البشر أو أحد الأمراء يرتدوا ويلبسوا أجمل وأحسن وأفخر ما لديهم من الثياب احتراماً لهذا الشخص ولهذا الملك أو لهذا الكبير الذي جاؤوا لزيارته. ما بال الحجيج حين يأتون لزيارة بيت الله الحرام لا يرتدون إلا تلك القطعة المتواضعة البسيطة التي تشبه الكفن؟ ما بالهم لا يرتدون أفخر الثياب؟ لماذا هذا التفاوت الغريب العجيب بين زيارة ملوك الدنيا وبين زيارة بيت الله الحرام ولله المثل الأعلى؟ الناس حينما يُقبِلون على الملوك والأمراء إنما يُقبِلون على بشر مهما بلغت منزلة هؤلاء البشر في النهاية هم بشر ينظرون إلى الثياب ينظرون إلى المظهر الخارجي الذي يرتديه الآخرون أما الله سبحانه وتعالى له المثل الأعلى لا ينظر إلى صورنا لا ينظر إلى اللباس الخارجي الذي نرتديه ولكنه ينظر إلى لباس التقوى الذي يرتديه القلب الذي لا يطّلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى. التفاوت واضح والمقصد عظيم. قلة من الناس من يلتفت إلى هذا المعنى العظيم وهو ينوي الحج وهو ينوي العمرة حال ارتدائه للباس الإحرام. كلنا يعلم أن الحجيج لا يهتمون اهتماماً حقيقياً بالكماليات عندما ينوون النية للحج أو العمرة لأنهم يدركون تماماً أن الخالق أن مالك الملك الذي يتوجهون لزيارة بيته الحرام لا ينظر إلى صورهم لا ينظر إلى قطعة القماش التي يرتدونها لا ينظر إلى أي ماركة أو أي صنف أو إلى أي نوع من أنواع الأقمشة يرتدون ولكنه سبحانه ينظر إلى تلك القلوب التي لا ينبغي لها أن تأتي إلى الحج إلا وقد لبست وارتدت لباس التقوى. وتأملوا معي قول الله تعالى في آية أخرى (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ (26) الأعراف) هو لباس سماه لباساً ولكن الفارق بين ذلك اللباس العظيم الذي تخيطه لي سورة الحج وبين الألبسة التي أرتديها في الدنيا أن لباس التقوى لا يصنّع في مصانع، أن لباس التقوى يصنّع في القلب والذي يصنّعه هي تلك الآيات العظيمة حين أقوم بتدبرها حين أستشعر معانيها حين أستشحضر تلك المعاني العظيمة وأحققها في واقعي وفي سلوكي. التقوى تُنسج التقوى لباس التقوى تنسج بخيوط وخيوط التقوى هي تلك الأعمال التي ابتدأت سورة الحج ببنائها في نفسي بخياطتها وصناعتها في قلبي. قلبي ينبغي أن يكون مجهّزاً حاضراً مستعداً أن يرتدي ذلك اللباس العظيم. الله سبحانه وتعالى في الحج يريد مني هذا اللباس العظيم يريد مني أن أرتدي لباس التقوى وليس أي لباس آخر من ألبسة الدنيا. الحج وأنا أقوم بالاستعداد له أحتاج أن اقوم بخطوات عملية لكي فعلاً يتحقق في نفسي معنى لباس التقوى. أنا تركت الدنيا وراء ظهري تركت كل شيء وراء ظهري وأنا تركت هذه الأمور باختياري أنا ليس معي زاد كثير كلنا يعلم أن الحاج عندما ينوي الحج لا يتزود بالكثير من الملابس أو من الأمتعة لا يأخذ معه إلا أقل القليل هذا الزاد القليل من الدنيا أحتاج أن أتذكر أني في يوم من الأيام سأخرج من الدنيا بلا حقيبة سأخرج من الدنيا بلا متاع سأخرج من الدنيا بلا لباس سوى لباس التقوى والعمل الصالح. اليوم خرجت بإرادتي قاصداً بيت الله الحرام وغداً سأخرج من الدنيا بدون إرادة مني مُكرهاً وأفراق هذه الدنيا بدون متاع. سأترك كما تركت ورائي في رحلة الحج الأولاد ووالأموال والأعمال وكل المشاغل التي أخذت ردحاً طويلاً من حياتي ومن زمني ومن عقلي ومن خواطري ومن تفكيري. تلك الأشياء التي شغلت قلبي طويلاً أنا اليوم في الحج أتخلى عنها، أتركها وراء ظهري، أترك كل شيء وراء ظهري لأني قد قررت أن اقصد بيت الله الحرام. ما أعظم هذه المعاني التي تبنيها فيّ سورة الحج حين أقوم باستحضارها وأنا أنوي الحج وأنا أقرر السفر إلى الحج وأنا أقوم بالإعداد لرحلة الحج. هذه المعاني ينبغي أن تكون حاضرة أمام عينيّ ينبغي أن أعيش الأيام القلائل قبل رحلة الحج هذه الحياة وهذا الملابسات ينبغي أن أعيشها بظروفها بملابساتها بمعانيها بمقاصدها ينبغي أن أعيش الحج قبل أن أذهب، ينبغي أن أتلمس رحلة البعث قبل أن أذهب إلى الحج ولذا جاءت الآية العظيمة التي تليها (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) مطلق المنافع ممكن أن تكون منافع دنيوية ولكن التركيز الأعظم على المنافع المعنوية. وأيّ منافع معنوية يا رب؟ أن أرجع بذنب مغفور وسعي مشكور وعمل متقبل وتجارة لن تبور ليس كتجارة الدنيا. الحاج قد يذهب إلى الحج ويقوم ببعض الأعمال ويقوم ببعض الأنواع من التجارة ومن الأمول ومما شابه ويلتقي ببعض الناس هذا أمر وارد ولكن المكسب الحقيقي والتجارة الحقيقية التي لن تبور هي التجارة مع الله سبحانه بالعمل الصالح. ولذا جاءت آيات في الحج عندما يقول الله سبحانه وتعالى (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) البقرة) يا أصحاب العقول النيّرة أصحاب العقول المتدبّرة المتبصّرة التي تستطيع أن تتدبر في معاني الحج في مقاصد الحج وأن تحوّل الحج من مجرد رحلة عادية إلى رحلة العمر حقيقة إلى رحلة الدنيا والآخرة إلى رحلة الذنب المغفور إلى رحلة التجارة التي لن تبور كل تجارة إلى بوار إلا التجارة الوحيد التي لن تبور مع الله سبحانه وتعالى بالعمل الصالح بالعمل النافع بالعمل الخيّر. ساعات الحج ودقائق الحج ولحظات الحج وثواني الحج من أغلى وأنفس اللحظات في العمر كله وليس فقط في الحج. ولذا على الحاج المتوجّه أن لا يشغل قلبه ولا لسانه ولا خاطره بشيء من الدنيا، لا يشغله بأي شيء سوى ذكر الله سبحانه. وتدبروا معي قول الله سبحانه وتعالى (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) إذن هو ذكر الله عز وجل في القلب وفي اللسان وفي الخاطر وفي الذهن، الذكر المتواصل الذي لا ينقطع. لا ينبغي لحاج تكبد عناء السفر وجاء من كل فجّ عميق لا ينبغي له بعد كل هذا العناء وبعد كل ذلك الإكرام من الله عز وجل، الحج إكرام، الحج دعوة، الحج دعوة من الله سبحانه وتعالى دعوة كريمة من رب كريم من ملك الملوك دعاك إلى بيته فكيف تكون إجابتك لهذه الدعوة؟ كيف يكون استغلالك لهذه الدعوة؟ كل لحظة كل ثانية هي لحظة نفيسة لا تضيّعها في غير ذكر الله عز وجل، لا تضيعها في أيّ شيء سوى الله سبحانه وتعالى. أقبِل عليه إقبالاً عظيماً لا تجعل لسانك ولا قلبك ولا خاطرك يفتر لحظة عن ذكر الله عز وجل. إجعل الذكر عبادة دائمة لا تنقطع في قلبك وفي نفسك، هذه هي التجارة التي لن تبور هذه هي المنافع الحقيقية المتوخاة من رحلة الحج. وانظر إلى قول الله عز وجل (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴿٢٨﴾) ليس المقصود في قضية الذبح ذبح الأضاحي ليس المقصود فيها مجرد الذبح، لا، المقصود والمقصد الرئيس والحقيقي أن تذكر الله عز وجل، أن تذكر الله سبحانه وتعالى ذكراً حقيقياً ذكراً يجعلك بالفعل تتذكر معاني التوحيد العظيمة، معاني التوحيد ومعاني الاستشعار بتسخير الله سبحانه وتعالى لك. كل ما في هذا الكون بما فيه بهيمة الأنعام قد سُخّر لك، لأجل أيّ شيء؟ لأجل أن تذكر الله عبادة وخضوعاً واستسلاماً وتقرّباً له سبحانه. أنا حين أذبح بهيمة الأنعام أذبحها بأمر الله أذبحها باسم الله أذبحها طاعة للخالق الذي أمرني بذلك وليس لمجرد هوى وليس لمجرد تسلية وإنما طاعة وقرباناً للخالق سبحانه وتعالى. (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴿٢٩﴾) كل شيء في الإحرام يصبح له قيمة يصبح له معنى لا يستطيع الحج أن يمسّ طيباً، يرى الطيب ولا يمسّه، يرى الصيد ولا يقتله، يرى الشعر يزعجه ولكن لا تمتد يده إليه ولا يمسك بشعرة لكي يقصّ أو لكي يحلق هذه الشعرة، لماذا؟ ما هو السبب؟ تعظيم (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴿٣٠﴾). القضية في الإحرام ليست مجرد شعرة وليست مجرد مسّ الطيب وليست مجرد صيد وليست أي شيء من هذه الأشياء لذاتها، القضية تحولت إلى قضية حرمات ربي هو الذي حرّم، تعظيم من حرّم وليس تعظيم الأمر لذاته فحسب. القضية ما عادت في شعرة ولا في طيب ولا في صيد القضية أصبحت في الذي أمر بألا يمسّ الطيب في الذي أمر بألا تقتلوا الصيد وأنتم حرم في الذي أمر بهذا ونهى عن ذاك. ولذلك قيمة الأمر هي في قيمة من تُعظّم سبحانه وتعالى. أنا حينما أعظّم الشيء وأقف عند حدود الله إنما أعظّم الله سبحانه وتعالى الذي أمرني ونهاني عز وجل. تخيلوا للحظات لو أن ذلك الحرص الشديد من قِبَل المُحرِم أن لا تقع منه الشعرة متعمداً أن لا يقتل الصيد أن لا يمس الطيب هذا الحرص الشديد لو استمر معنا في كل ميادين الحياة لو استمر معنا في مواقعنا المختلفة لو استمر معنا في أُسرنا في بيوتنا في حياتنا في أعمالنا لو أصبحنا وقافين عند حدود الله عز وجل كل ما يأمر به نقف عنده دون مناقشة دون جدال كل ما نهى عنه نقف عنه ونجتنبه ونعظّمه سبحانه وتعالى. هذا التعظيم العظيم للحج ولشعائر الحج لو استمر معي في حياتي بعد أن أعود من الحج كيف ستكون حياتي؟ كيف ستكون أعمالي؟ كيف ستكون الدنيا؟ كيف سأكون مع أوامر الله سبحانه؟ كيف سأكون مع محارم الله عز وجل؟ ولذا قال العلماء عندما تعصي الله سبحانه وتعالى لا تنظر إلى صِغَر المعصية وتقول كما يقول بعض الناس كذبة بيضاء وكذبة صغيرة، لا تقل هذا ولكن أُنظر إلى عظمة من عصيت سبحانه وتعالى. وكذا في قضية الإحرام الحج يعلمني أن أكون وقافاً عند أمر الله عز وجل منتهياً عما نهاني عنه. الحج مدرسة، الحج يعلّمني أن أعظّم حرمات الله عز وجل الحج يعلّمني ما معنى أن اقف عند شعرة فلا أقص هذه الشعرة ولا تمتد يدي إليها لأن الله قد نهاني عن ذلك. الحج يعلمني مدرسة عظيمة ودورة مكثفة تعلمني كيف أقف عند أوامر الله عز وجل، الحج يعلمني كيف أنتهي عما نهاني الله عنه سبحانه وتعالى دون جدال لا أتساءل عن الحكمة ولا عن المقصد إن أخبرني ربي فعلي الرحب والسعة وإن لم يخبرني فسمعاً وطاعة. الحج يحعلني وقافاً عند أمر الله، أنا أطوف حول البيت سبع مرات ولكن لماذا سبعة؟ لماذا لم تكن ثمانية؟ لماذا لم تكن ستة؟ لماذا لم تكن خمسة؟ لا حتى يخالجني في نفسي أو مشاعري أو خواطري السؤال عن الحكمة، أقوم بالعمل وأطوف حول البيت سبع مرات بحرص شديد وتفاني شديد أن أقوم بهذا العمل كما أمرني به ربي. حرص شديد على ألا يقع عندي أي محظور من محظورات الإحرام، لماذا؟ لأن الحج مدرسة، لأن الحج أراد ربي سبحانه وتعالى أن يخرّجني في هذه المدرسة عبداً مُحسناً عبداً مُخبتاً عبداً خاضعاً لربه منقاداً لأمره عبداً يُعظم حرمات الله عز وجل ولذا جاءت (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ). وتأمل قول الله سبحانه وتعالى (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴿٣١﴾) هذا الحضور الرائع المستمر المتواصل للتوحيد هو ما تبنيه سورة الحج في نفسي. سورة الحج تحيي معاني التوحيد في قلوبناـ التوحيد يقوى ويضعف أحياناً في قلوبنا التوحيد يزيد وينقص في قلوبنا بسلوكنا بتصرفاتنا، بميل قلوبنا في بعض الأحيان إلى البشر، بالاستعانة بالبشر دون الاستعانة بالخالق، بالوقوع في مأساة أن ألجأ إلى المخلوقين دون الخالق، بموالاة الخلق دون الخالق سبحانه، كل هذه الأنواع من الخلل إنما هي خلل في التوحيد خلل في العقيدة. قلة الثقة بالله سبحانه وتعالى كما ذكرنا في بعض اآيات، قلة إحسان الظن بالله سبحانه وتعالى، إساءة الظن بخالقي، عدم اليقين المطلق بالله عز وجل. كل هذه الأنواع من السلوكيات والتصرفات هي خلل في التوحيد هي خلل في العقيدة تصححه سورة الحج (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ). سورة الحج تعيد في التوحيد الحياة من جديد تعيد لي التوحيد الحقيقي تعيدني إلى الحنيفية السمحاء التي جاء بها إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام، سورة الحج توقظ في قلبي معاني التوحيد العظيمة. وتأمل الآية التي تليها (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴿٣٢﴾) غاية الحج أن أعظّم شعائر الله سبحانه وتعالى، غاية الحج هي هذه. حُرمات الله أن أعظمها شيء عظيم ولكن الأعظم أن أعظّم شعائر الله عز وجل ودعونا نقف وقفة طويلة عند قوله سبحانه (فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) التقوى غاية سورة الحج، الغاية التي تبنيها في قلبي، الغاية التي تبنيها في نفسي. ولذا بيت الله الحرام وكل الشعائر المقدسة من مزدلفة إلى منى إلى عرفة كل هذه الشعائر مقدسة ليست لذاتها نحن لا نعظّم حجراً فتعظيم الحجر شركٌ بالله عز وجل ولكن نوع من أنواع الاحترام لهذه الشعائر إنما هو من تعظيم شعائر الله التي أمر الله عز وجل بتعظيمها إيماناً وانقياداً وخضوعاً وتسليماً لأمر الله سبحانه وتعالى. وتأملوا معي نحن في منى نرمي بالجمار نرمي بالحجارة، لماذا؟ الله سبحانه وتعالى قد أمر بها، نبيه صلى الله عليه وسلم الذي وقف هذا الموقف وقال خذوا عني مناسككم رمى بهذه الحجارة، من رمى بهذه الحجارة بعد إبراهيم عليه السلام واقتداء به وسيراً على هديه. ولكن في نفس الوقت هناك الحجر الأسود الذي جعله الله في الكعبة الذي جعل الناس يطوفون حول الكعبة ويقفون عند هذا الحجر وأحياناً إن سنحت لهم الفرصة أن يقبّلوا هذا الحجر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فليفعلوا اقتداء بسيرة نبيهم عليه الصلاة والسلام وسيراً على هديه. ولنا أن نتساءل من الذي أمر بذلك الحجر الصغير أن يُرمى في الجمار ومن الذي أمر بهذا الحجر الأسود أن يُمسَح عليه ويُقبّل؟ من الذي أمر؟ هذا حجر وذاك حجر، لماذا هذا يُرمى ولماذا ذاك يُمسَح عليه ويُقبّل؟ تعظيم شعائر الله. أنا ليست القضية عندي قضية حجر، أبداً، وإلا تحولت إلى شِرك، القضية عندي قضية أوامر الله شعائر الله حُرُمات الله عز وجل، التعظيم للشعائر وليس للأشياء ولا للأحجار ولا للأماكن في حد ذاتها. وتأملوا معي في الدنيا كل الناس كل الشعوب في العالم اعتادت على أن تعظّم وتحترم قطعة قماش إنما هي تشكل علم هذه الدولة أو تلك والسؤال الذي يطرح نفسه هل القيمة الحقيقية هي في هذا القماش. في قطعة من القماش أم هي في رمزية هذا القماش؟ أم هي في القيمة التي تحملها هذه القطعة من القماش؟ ولله المثل الأعلى، تعظيم شعائر الله عز وجل، إحترام أوامر الله سبحانه، إحترام هذه الأماكن المختلفة التي أمر الله سبحانه بالحفاظ على حرمتها بالحفاظ على قدسيتها إنما هو من تعظيم أوامر الله وتعظيم شعائره. وأريد أن أتوقف للحظات عند قدسية الأماكن وعند احترام هذه الأماكن وعند تعظيم هذه الشعائر من خلال احترامها بألا يُرمى حتى فيها أي قطعة من ورق أو ما شابه لا ينبغي أن تُرمى تعظيماً لشعائر الله وتقديساً لهذه الأماكن التي شرّفها الله سبحانه وتعالى. ولذا من أشد العيب على المسلمين اليوم أن يستهان بالطعام والشراب فيرمى في تلك الأماكن وتلك المشاعر المقدسة، هذا نوع من أنواع التهاون في شعائر الله عز وجل قلّ من المسلمين اليوم من ينتبه إليه، هذا نوع من أنواع التهاون لا ينبغي أن نسامح أنفسنا فيه. وكما أن هذه المشاعر المقدسة جعلها الله سبحانه وتعالى حراماً وجعل لها مكانة وقدسية في نفوس المسلمين جعل للمسام قدسية وحرمة ومكانة عظيمة لا ينبغي لأحد أن يتجاوزها أو يتطاول عليها. ودعونا نقف عند قول النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال وسأل أصحابه أيّ يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال أليس يوم النحر؟ قلنا بلى، قال فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أن سيسميه بغير اسمه فقال أليس بذي الحجة؟ قلنا بلى، قال فإن دماءكم وأمولكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. المسلم المؤمن لا ينبغي أن يتجاوز على أخيه المسلم في هذه الأماكن المقدسة – هو أي نوع من أنواع التجاوز في الأموال والأعراض والدماء حرام سواء كان في هذا اليوم أو في غير هذا اليوم – ولكنه في هذا اليوم أشدّ وفي هذه المشاعر المقدسة أشدّ ولذا “من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من حجّه كيوم ولدته أمه”، “الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”، (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ (197) البقرة) فلا كلمة نابية ولا كلمة سوء على أحد من المسلمين ولا محاولة إيذاء واحد منهم بأي شكل من أشكال الأذى. هذا النوع من التعظيم لحرمات الله عز وجل ولأوامره سبحانه من أن تنتهك لا يمكن أن تقع إلا من قلب لا يعرف إلا الله سبحانه وتعالى القلب المُخبت القلب الخاضِع القلب المُتقي الراجِع العائد إلى الله سبحانه وتعالى. الإلتزام بحرمات الله جانب عظيم من جوانب التقوى ولكن الأكمل والأتمّ أن أعظّم كل شيء يدلّني على الله سبحانه وتعالى. هذه المواقف العظيمة في الحج لا ينبغي أن تغيب عن أذهان الحجيج وهو يتوجهون في عرصات وفي مواقف الحج المختلفة في مختلف الأماكن المقدسة لنا أن نربط ما نراه في واقعنا وبين ما نتدبره في هذه السورة العظيمة. وللأسف الشديد في أثناء الزحمة والازدحام الشديد وما يحدث في مواقف الحج المختلفة من غضب أحياناً ومن نسيان للمواقف التي نمر بها كحجيج يدفع البعض منا إلى أن يفقد أعصابه وربما تخرج منه كلمة لا تليق ربما سبّ ربما ستم ربما كلمة نابية هذا النوع من أنواع التهاون إنما هو تهاون في شعائر الله عز وجل ينبغي أن يتوقف الحاج عنه ينبغي أن يتوب إلى الله عز وجل ويتراجع ينبغي أن لا يقوم بهذه الأعمال أن يتوقف عنها ينبغي أن يكون تقديسه وخشيته وخوفه من أن يفسد حجّه بقصّ شعرة أو بمسّ طيب ينبغي أن يكون بالضبط كما يتهاون في كلمة نابية أو في إساءة لمسلم أو في رمي قطعة ورق أو قطعة طعام أو في أحياناً أن يدوس بقدمه على قطعة طعام دون أن ينتبه أو دون أن يلتفت. هذا النوع من أنواع التهاون من بعض المسلمين في مواسم الحج ربما بدون قصد ربما بحسن نية لا بد أن يتوقف. آن له الأوان أن يتوقف خاصة ونحن نتدبر في هذه الآيات العظيمة ولذلك جاءت الآية التي تليها (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴿٣٢﴾ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) عن الأضاحي عن الأنعام من جديد (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴿٣٣﴾ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ﴿٣٤﴾) القضية ليست قضية أن أذبخ غنماً ولا قضية أن أذبح شاة ولا بعيراً القضية تحولت إلى قضية أخرى قضية إخبات قضية توحيد (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) قضية ذكر اسم الله عز وجل وتوحيد رب العالمين واستذكار المشاعر العظيمة (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿٣٥﴾ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) مرة أخرى (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿٣٦﴾ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴿٣٧﴾) إذن هي التقوى الحاضرة، قضية الأضاحي وقضية ذبح الأنعام ليست مسألة ذبح وإنما هي مسألة خروج وإخراج الشُحّ من الأنفس، خروج الشُحّ من النفس لتتعلم العطاء، لتتعلم الشعور بالآخرين الشعور بالقانع والمعترّ، لتتعلم الإحساس بالفقراء والمساكين، لتتعلم كيف تخرج من أموالها الصدقات والعطاء القضية ما عادت قضية مجرد ذبح، القضية تعود بنا إلى الذبح الأول إلى قضية الأضاحي وإلى قصة إبراهيم عليه السلام. إبراهيم أبو الأنبياء الذي حين جاءه في المنام أن يذبح ابنه الغالي اسماعيل لم يفكر ولم يتردد لحظة واحدة بالتضحية به وإنما قال له (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ (102) الصافات) وما كان من الابن إلا أن قال (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) هذا النوع من أنواع التضحية هي ما أحتاج أن أتسحضره اليوم وأنا أقوم بتقديم القربان أو الأضحية. والأضاحي ليست قضية متعلقة فقط بالحاج بل هي مفتوحة للحاج ولغير الحاج فمن لم يتمكن من المشاركة في هذا الموسم من الخيرات موسم الحج العظيم والذهاب إلى الحج لا تفوته سُنّة الأضاحي هذه السنة العظيمة التي قام بها أبو الأنبياء وقام بها النبي صلى الله عليه وسلم وحين أقوم بهذه الأضحية وحين أقوم بهذه السُنّة العظيمة عليّ أن أستذكر التضحية ومعنى التضحية أنا أضحي لله عز وجل لأني على يقين أن الله سبحانه وتعالى سيرزقني وسيعطيني كما فعل أبو الأنبياء حين أراد أن يضحي بابنه إيماناً وانقياداً وخضوعاً وتسليماً لأمر الله. أنا حين أضحي أضحي لأمر الله سبحانه طاعة وتقرباً لله سبحانه. النفس التي تصنعها سورة الحج ويصنعها موسم الحج ويخرجّها موسم الحج ليجعل منها نفساً محسنة نفساً غير شحيحة نفس معطاء تعلمت التضحية بالغالي والنفيس تعلمت أن تسكت في كثير من الأحيان لكي لا تخرج منها وتتفوه بكلمة سوء فيها إساءة لأحد من المسلمين صبراً واحتساباً لله سبحانه وتعالى وتعظيماً لشعائره. النفس التي تعلمت أن تقف عند أوامر الله وتعظم حرمات الله وتعظم شعائر الله نفس مضحية نفس تعلمت معنى التضحية ذاقت جمال وحلاوة التضحية ذاقت جمال أن تترك شيئاً لله سبحانه وتعالى. النفس التي تغضب النفس التي بحكم الزحام وبحكم العدد الرهيب من البشر ممكن أن يدفعها أو يدوس على قدمها أحد من الناس تسكت وتحتسب بل تدعو لمن أساء إليها وتدعو بظهر الغيب لمن آذاها هذه النفس العظيمة خرّجتها سورة الحج، هذه النفس العظيمة تخرّجت في موسم الحج نفس محسنة ولذا جاءت الآية العظيمة (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) المؤمن في الحج المؤمن بعد مدرسة الحج تخرد مؤمناً برتبة محسن، تخرج مؤمناً برتبة مُخبِت. قلبي الذي صنعته سورة الحج قلبي الذي ربته سورة الحج قلبي الذي تخرج في موسم الحج قلب جديد قلب تخرّج برتبة محسن برتبة مخبت برتبة راجع عائد إلى الله سبحانه وتعالى، فبذلك فليفرح المؤمن الذي تخرّج بهذه الرتبة. ولذا جاءت الكلمة بعد آيات سورة الحج كل الآيات بقوله سبحانه (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) هنيئاً للحجيج هنيئاً لمن تخرجوا برتبة المحسنين هنيئاً لتلك القلوب التي ضحّت هنيئاً لتلك القلوب والألسن التي لم تفتر عن ذكر الله، هنيئاً لتلك الأيدي التي لم تمتد بأذى لأحد من المسلمين، هنيئاً لتلك الأيدي التي أمسكت فلم ترمي بورقة ولا بحجرة ولا بقطعة لحم ولا بأرز ولا باي شيء تعظيماً لشعائر الله، هنيئاً لتلك الأيدي التي صافحت، هنيئاً لتلك القلوب التي سامحت، هنيئاً لتلك الألسنة التي لهجت بذكر الله ليل نهار هنيئاً لتلك القلوب التي ضحت بالأضاحي وضحت بالغالي والنفيس تعظيماً لشعائر الله هنيئاً لتلك القلوب التي وقفت وتعلمت أن تقف عند أوامر الله هنيئاً لكل من عظّم شعائر الله فقد تخرجت برتبة محسن (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ). هؤلاء الذين تخرجوا برتبة المحسنين هؤلاء الذين ربّاهم الحج وتعلموا في مدرسة الحج، تعملوا التضحية تعلموا الوقوف عند محارم الله، تعلموا تعظيم شعائر الله هؤلاء هم من يستحقون أن يدافع الله سبحانه وتعالى عنهم وانظر إلى قوله عز وجل بعد هذه الآيات (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴿٣٨﴾).

ثم بعد آيات الحج تأتي آيات القتال ويأتي الحديث عن الهجرة ويأتي الحديث عن الصراع الدائم بين الباطل والحق ولنا أن نتساءل – قبل أن نأتي على آيات الجهاد – يا ترى ما هو وجه التناسب بين الحديث عن الحج وبين الحديث عن الجهاد؟ الحج والجهاد كلاهما نشرٌ للحق وللخير. الحج أعظم مؤتمر يمكن أن تنتشر من خلاله مبادئ الإسلام عالمية الإسلام سلام الإسلام سماحة الإسلام كل القيم السامقة التي جاء بها الإسلام. وكذا الجهاد الجهاد فيه حماية لمبادئ الحق وقيمه فلا بد للحق وللمبادئ وللقيم من أناس يذودون عنه ينتصرون له يدافعون عنه فأهل الباطل وأهل الكيد لا بد أنهم سائرون في طريقهم. وقد جاءت الآيات الأول أكثر من آية في بدايات سورة الحج تتحدث عمن يصدّ عن سبيل الله تتحدث عن من جعل أهم هدف وغاية له الصد عن سبيل الله سبحانه وإضلال الآخرين. هؤلاء لا بد أن يقف في وجههم أهل الحق أهل القيم أهل المبادئ الذين ربّتهم آيات الحج. ثم أن من لا ينتصر على نفسه في الحج لا يمكن أن يعرف النصر في الجهاد، الحج يعلم مجاهدة النفس على النفس الحج يعلم صناعة القلوب الحج يصنع القلوب القوية التي تستطيع أن تنتصر للحق وتدافع عنه، الحج يصنع القلوب الفائزة القلوب التي تستطيع أن تجني النصر والثبات أمام الباطل وأمام أهله. وابن القيم له كلام جميل في قضية مجاهدة النفس والجهاد، يقول في قوله سبحانه وتعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا (69) العنكبوت) “علّق سبحانه الهداية بالجهاد فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً وأفرض الجهاد (يعني أكثر أنواع الجهاد فرضاً) جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد الشيطان وجهاد الدنيا فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سُبُل رضاه الموصِلة إلى جنته ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطّل من الجهاد ولا يتمكن المرء من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطناً فمن نُصر عليها نُصر على عدوه ومن نُصِرت عليه نُصر عليه عدوه”. هذا معنى أن يأتي الجهاد والحديث عن الجهاد بعد الحج، الحج مدرسة تعلِّمنا جميعاً كيفية مجاهدة النفس كيفية وقوف النفس حين تُستغضب ويحدث ما يُغضبها فتكفّ اللسان عن أي كلمة نابية تتعلم كيف تكفّ اللسان وكيف تكفّأ اليد وكيف لا تؤذي المسلم وكيف لا تأتي بما يمكن أن يؤذي هذا الحج أو يمس شعائر هذا الحج العظيمة.

تأتي الآيات عن الجهاد لتبين بأن هذا المؤمن الذي صُنع بهذه الآيات ومن خلال تدبر هذه الآيات هو المؤمن الذي يستحق أن يرفع راية الجهاد (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿٣٩﴾ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿٤٠﴾) إذن هو الدفاع عن الحق هو التضحية في سبيل الحق القلوب المؤمنة تعلمت التضحية لا يكفي أن أكون مؤمناً بالله عز وجل وبالحق وبالقيم وبالمثل في حال السراء فإذا ما جاءت وأقبلت الضراء وحقت الحقيقة تخاذلت وتراجعت عن الحق الذي أؤمن به، هذا ليس بإيمان، الإيمان الحقيقي في السراء والضراء، الإيمان الحقيقي هو الذي تصقله التضحية كإيمان أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام حين طلب الله منه سبحانه وتعالى التضحية فلم يتوانى ولم يتراجع ولم يتردد ما هو موقفي حينما يطلب مني ربي عز وجل أن أضحي لأجل الحق الذي أؤمن به؟ هل أشعر بالضعف والخذلان؟ أم أني أقف وأثبت على الموقف الذي أنا فيه؟ ولذا جاء الوعد في الآية (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) نصرة الله بالحق الذي أؤمن به، أنصر الله عز وجل بثباتي على قيمي بثباتي ودفاعي عن الحق الذي أؤمن به أمام أهل الباطل وأمام كيدهم وأمام مكرهم. ثم ماذا تكون النتيجة يا رب؟ تأتي الآية التي تليها بقوله عز وجل (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿٤١﴾) إذن هو التمكين هو النصر هو فوز الحق على الباطل هو إعلاء كلمة الحق هو حماية المقدسات هو حماية دور العبادة على اختلاف دياناتها فالدين الإسلامي جاء ليحمي الديانات جاء ليحمي المقدسات جاء ليدافع عن الحق وأهله ولم يأتي ليسفك أو ليهدم أو ليظلم أو ليؤذي الآخرين بدون وجه حق. هذا الدين العظيم علّم أتباعه أن التمكين لا يعني الاستعلاء على الآخرين ولا يعني استعباد الشعوب المختلفة ولا يعني نهب مقدراتها بل هو الإصلاح، قمة الإصلاح تتحقق حين يمكن الله عز وجل لهؤلاء العباد المؤمنين الموحّدين المخبتين (أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) لا دعاية انتخابية لهم سوى الإصلاح وليست بدعاية ولكنها أفعال وسلوكيات وواقع في واقع الحياة التي يعيشونها ولذلك شهد العالم المنصِف للمسلمين الفاتحين حين فتحوا الديار حين فتحوا بلاد الروم وبلاد الفرس بأنهم فتحوا الديار بقلوبهم بأخلاقهم بأفعالهم بسلوكياتهم ولم يفتحوها بسيوفهم، الإسلام انتشر بالحق بالعدل بالقيم بالأُناس الذين كانوا يحملون تلك القيم بالأُناس الذين استطاعوا أن يحولوا تلك القيم من خُطَب رنّانة إلى سلوكيات وأفعال واقعة حادثة أمام أعين الناس تشهد لتلك القيم وتشهد للحق الذي آمنوا به ودافعوا عنه.

ثم تأتي الآيات بعد ذلك في سورة الحج لتبين مواقف من صراع الحق والباطل لتبين كيف أن دولة الباطل مهما علت ومهما امتد بها الزمن فإنها إلى زوال وأما الحق وأما أهل الحق فهم إلى ثبات وتمكين حتى وإن طال الزمن (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴿٤٨﴾) إذن هي الدنيا والصراع والابتلاء والمحن ولكن المحن والصراع لا تفتّ من عزيمة المؤمن الذي تعلم التضحية في سبيل الحق الذي يؤمن به ويدافع عنه وإن طال الزمن (فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿٥٠﴾ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿٥١﴾) هي قضية محسومة هي قضية لا جدال فيها كل من يسعى في الصدّ عن سبيل الله عز وجل فليس بمعجز قضيته منتهية قضيته إلى زوال مصيره واضح والمؤمن يؤمن بهذا المصير ويسير عليه. أما الكافر فهو وحده فقط يعيش في مرية وفي شكّ (فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴿٥٥﴾) الكافر يسير في الحياة في شك وارتياب ينظر إلى الحقائق أمام عينيه ولكنه لا يبصرها، لا يبصر هذه الحقائق لأنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، القلوب التي لم تستطع أن تخبت لخالقها لم تخضع له كما يخضع كل ما في الكون من شجر وجبل وطير الكل يخضع إلا هذا الإنسان الكافر (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴿٥٦﴾) ثم تعود الآيات من جديد مقطعاً بعد مقطع في كل مقاطع سورة الحج لتذكّر بالشيء الحاضر دائماً “الجزاء” استحضار البعث إستحضار الجزاء الذي يجعل من الإيمان قوة هادرة في وجه الباطل (فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿٥٦﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴿٥٧﴾)

ثم تأتي الآية لتبين مواصفة جديدة من مواصفات المؤمنين مثال آخر من أمثلة التضحية التي يمكن أن يصقلها الإيمان (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿٥٨﴾) إذن هي التضحية، الإيمان يحتاج إلى تضحية، إيماني بالله عز وجل معرّض لمحن، معرّض لاختبارات، معرّض لابتلاءات، المهم ليس في الابتلاء بل في النتيجة التي سأخرج بها من هذه الابتلاءات عليّ أن أخرج أشد عوداً واصلب إيماناً وأقوى عزيمة وحراكاً ودفاعاً عن الحق الذي أؤمن به. المؤمن الذي تعلّم التضحية في الحج وفي غير الحج هو وحده يستطيع أن يهاجر في سبيل الله أن يترك أرض الوطن ويترك الأهل ويترك الأحباب، لماذا؟ لله وحده لا شريك له، لأنه على يقين مُحسن الظن بالله عز وجل أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يعوضه خيراً مما أخذ منه (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) المؤمن الذي يعيش وهو يستحضر الجزاء يستحضر الثقة بالله اليقين بما عند الله أن يكون أوثق بما عند الله عز وجل بما عنده هو بما في يديه هو من مال أو من جاه أو من سلطان أو وطن أو ولد. هذا المؤمن هو القادر على أن يضحي ويقدم كل شيء لأجل الله وفي سبيل الله. ولذا جاءت الآية وعد واضح وصريح (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴿٦٠﴾) إنها الثقة بالله التي تحرك المؤمن وتدفع به في ميادين الحياة المختلفة. ثم تتوالى الآيات لتعزز جوانب هذه الثقة وتبني التقوى بناء حقيقياً في واقع الحياة. التقوى في قلب المؤمن ليست مجرد لباس بل هي أفعال هي تصرفات تدخل في كل جوانب الحياة التقوى في القول التقوى في العمل التقوى في العطاء التقوى في الأخذ التقوى في البيع التقوى في الشراء. وتتسلسل الآيات تسلسلاً عجيباً (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴿٦٢﴾).

ثم تأتي الآيات (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿٦٤﴾) إن عبدتْ فاعبُدْ الغني الحميد الذي يمتلك مقاليد السموات والأرض إن توجهت لاستنصار أو لطلب معونة أو لاستغاثة أو استجارة فاستجر بالملك بالواحد الديان القادر على كل شيء قدير (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿٦٥﴾) هذا الحق الذي تعلمني عليه آيات سورة الحج تعزز بناء التقوى في نفسي. وتتوالى الآيات لتعزز هذا البناء العظيم من خلال آيات الكون من خلال استحضار قدرة الله عز وجل في الكون التدبير الذي يدبر به الله سبحانه وتعالى هذا الخلق العجيب (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿٧٠﴾ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴿٧١﴾) هذه الآيات العظيمة تهزّ وجدان المؤمن تحرّك فيه فواعل الإيمان تجعل التقوى حاضرة في قلبه حاضرة في نفسه ليتوجه بالتوحيد والإخلاص لله وحده لا شريك له بيده العلم بيده القدرة المطلقة بيده الملك بيده كل شيء فلماذا أتوجه للآخرين؟ ولماذا أتوجه لمخلوق مثلي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، هو أضعف من أن ينصر نفسه حتى ينصر الآخرين، كيف أتوجه له؟

ولذا جاءت الآيات التي تليها بعد ذلك والخطاب فيها للناس أجمعين (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴿٧٣﴾ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿٧٤﴾) الكلام للناس جميعاً، الكلام للناس ودعوة للناس لكي يتخلوا عن الأولياء من دون الله، لكي يتخلوا عمن استنصروهم من دون الله عز وجل، عمن اتخذوهم أولياء. الكلام لأولئك الذين طرقوا ويطرقوا أبواب المخلوقين استعانة واستنصاراً واستغاثة ولجوءاً، إلى أولئك الذين يظنون ولو لثواني أو لحظات أن المخلوقين من دول عظمى وغير عظمى تملك لهم النفع أو الضر تملك لهم العطاء أو المنع تملك لهم أي نوع من أنواع القدرة. يقول الله سبحانه وتعالى في هذا المثل هؤلاء حتى الذبابة كم هي حقيرة لدى البشر تلك الذبابة، حتى الذبابة لا يتمكنون من خلقها حتى لو اجتمعوا. بل أقل من ذلك إن سلبهم أو أخذ منهم الذباب شيئاً لن يتمكنوا من استنقاذه أبداً (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). تلك المقارنة العجيبة التي تضعها هذه الآية العظيمة أمام ذلك الإنسان المكابِر المعانِد الجاحِد الذي لا يعرف لله سبحانه وتعالى قدره حق المعرفة. هذا الإنسان الذي يجادل ويماري بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير يستطيل ويتطاول على خالقه سبحانه ويظن أن له قدرة وأن له قوة وأن له جيوشاً تسيّر وأن له منعة وهو لا يملك حتى أن يأخذ ما يسلبه الذباب. وتأتينا الدرسات العلمية الحديثة لتبين أن الذباب بطبيعته بمجرد أن يلتقط أو يأخذ شيئاً فإنه يفرز عليه إفرازات تغير من تركيبته فإنه حتى إن إستطاع الإنسان أن يمسك بالذبابة التي أخذت منه شيئاً لا يستطيع أن يسترجع ذلك الشيء (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) الذبابة ضعيفة وهي خلق من خلق الله والإنسان ضعيف وهو خلق من خلق الله لكنه يتطاول ويغتر ويعاند ويعتقد بأهوائه وشهواته أنه يستطيع أن ينازع الله سبحانه وتعالى في ملكه وفي قدرته وفي قوته، يظن أنه قوة وأن له قدرة والحقيقة أن ليس له إلا الضعف الذي بينته هذه الآية العظيمة.

ثم تأتي الآية العظيمة وفيها السجدة دعوة للمؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) اتركوا عنكم هؤلاء الكافرين والمعاندين فسُنّة الله سبحانه وتعالى ماضية في خلقه وماضية في الكون. الصراع بين الحق والباطل قائم والكفار واقع ذلك الصراع والامتداد للصراع بين الكفار وبين المؤمنين لا عليكم منهم (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩﴿٧٧﴾) فالدنيا دار عمل، الدنيا داء ابتلاء الدينا ليست بدار جزاء الدنيا دار تكليف كل ما تستطيع أن تفعل فيها من الخير فافعل لا تتردد ولا تجعلنّ من أهل الباطل ولا من كيدهم ولا من مكرهم ولا من الامتحانات التي يعرضونك لها لا تجعلهم عائقاً يحول بينك وبين عمل الخير بينك وبين إعلاء الحق، بالعكس إجعل أهل الباطل والصراع مع أهل الباطل مطية ودرجة ترتقي بك في سلم الإيمان في سلم التقوى فكلما ازددت صراعاً ودفاعاً عن الحق الذي تؤمن به وفعلاً للخير وللمعروف وملئاً ونشراً للسلام والأمان في هذه الأرض كلما ازددت تقرباً من الله خالقك عز وجل.

ثم تأتي الآية لتختم سورة الحج العظيمة (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) إذن هو اجتهاد (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴿٧٨﴾) الآية الأخيرة تختم بالجهاد. الآية الأولى في سورة الحج يقول فيها الله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴿١﴾) والآية الأخرى توصي بقوله (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) إتقوا وجاهدوا في الله حق جهاده. تقوى الله لا بد لها من جهاد، تقوى الله والوصول إلى مرحلة التقوى لا بد فيها من مجاهدة النفس ومن لا ينتصر على نفسه وأهوائه وشهواته ونزواته وميوله وخضوعه وركونه إلى الدنيا وأهلها لن يتمكن من الانتصار على أحد لأنه لم ينتصر في داخله. النصر الحقيقي في النفس النصر الحقيقي الذي يتبعه التمكين والنصر في واقع الحياة لا يمكن أن يبدأ إلا من داخل النفس.

ثم إن الآية الأخيرة تؤكد على عالمية الرسالة على عالمية الإسلام وشهادة المسلمين على الناس. ولنا أن نتساءل: ما دور الحج في قضية عالمية الرسالة؟ الحج يحمل رسالة عالمية الحج يفترض فيه أن يقدم للعالم كل العالم حتى غير المسلمين يقدم لهم عنواناً وقصة حقيقية لهذا الدين لتعاون المسلمين لوقوفهم جنباً إلى جنب لتواضعهم لإصرارهم لانكسارهم وخضوعهم بين يدي الله المؤمن خاضع ذليل بين يدي ربه ولكنه قوي على أهل الباطل وأهله  عزيز بإيمانه وليس ذليلاً لا يذل لأحد سوى خالقه لا يركع لأحد سوى خالقه لا يسجد لأحد سوى لربه سبحانه وتعالى تلك الجبهة التي تعلمت أن تسجد لخالقها لا تسجد للمخلوقين لا تتخذ المخلوقين أولياء من دون الله سبحانه لا نصرة ولا استعانة ولا ظناً بنفع أو بضر. هذه الجباه العظيمة التي تعلمت الإيمان (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ) رسالة الإسلام جاءت لتكون رسالة عالمية جاءت لتقدم للعالم القيم، جاءت لتقدم للعالم السلام جاءت لتقدم للعالم الشهادة على الناس. الشهداء على الناس في هذه الآية العظيمة هي تكليف، هي تكليف كبير للمسلمين أن يقوموا بدورهم وواجبهم ولذا فكل حاج ليتذكر وليستحضر هذا المعنى وليتذكر ويضع أمام عينيه أنه هو في حجه رسالة للعالم. فيا ترى بأي شكل ستُقدَّم هذه الرسالة؟ بأي مظهر ستقدم هذه الرسالة؟ ولذا كان عليّ أن أستحضر كل سلوك وكل تصرف أقوم به في الحج وفي غير الحج ولكن في الحج أولى في المشاعر المقدسة أولى عليّ حين تسوّل لي نفسي أن أرمي بورقة ولو حتى ورقة عليّ أن أمتنع عن ذلك علي أن أضع نصب عيني أني أنا من الشهداء على الناس أني أنا الحاج من أحمل رسالة الإسلام أنا من يقدم الإسلام للعالم فعلي أن أحسن التقديم وعلي أن أحسن العرض وعلى المسلمين جميعاً أن يجعلوا من الحج أبهى صورة جمالاً ونظافة ونزاهة وقداسة وروحانية وقبولاً على الله سبحانه وتعاوناً ومحبة فيما بينهم. فكل إساءة لا تعتبر مجرد إساءة فردية وإنما هي إساءة لهذا الدين العظيم، إساءة لعالمية الاسلام إساءة للقيمة الكبرى التي جاء بها الإسلام قيمة نشر هذا الدين ولذا جاءت الآية العظيمة (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) ولذا على الحجيج في كل وقت وفي كل زمان أن يستحضروا الرسالة العظيمة والأمانة الكبيرة التي شرّفهم الله سبحانه وتعالى بحملها في موسم الحج عليهم أن يكونوا أمناء في إيصال هذه الأمانة أمناء في إبلاغ هذه الرسالة فعلاً وسلوكاً وتطبيقاً وعملاً. فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي وقف ذلك الموقف ونادى بين الناس “اللهم هل بلّغت، اللهم فاشهد” قد بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة وحمل هذه الأمانة أمانة التكليف والتبليغ على أتم وجه وأكمله صلى الله عليه وسلم. وعلى عاتقنا اليوم تقع أمانة الرسالة وأمانة إيصال هذه الرسالة التي لا نريد أن نكون نحن المسلمين اليوم من يقف عائقاً وحائلاً بين العالم وبين رسالة الإسلام العظيمة من خلال تصرفات هوجاء أو من خلال سلوكيات شاذة لا تمت إلى ديننا بصلة، فديننا يدعو إلى كل جمال يدعو إلى التعاون يدعو إلى المحبة يدعو إلى النظافة يدعو إلى النزاهة يدعو إلى كل شيء جميل علينا أن نكون أمناء في إيصال رسالة الإسلام، علينا أن نكون أمناء في السير على ملة أبينا إبراهيم علينا أن نكون أمناء في إيصال كلمات الحق ليس من خلال الكلمات بل من خلال سلوك وأفعال.

أسأل الله العظيم أن يبارك للحجيج في حجهم وأن يوفقهم لما يحبه ويرضاه وأن يبلِّغهم التقوى وأن يوصلهم إلى القلوب المخبتة الخاشعة الخاضعة لربها وأن يعينهم على أداء أمانة الحج وتكليف الحج ورسالة الحج وأسأل الله العظيم سبحانه أن يتقبل منهم وأن يجعلنا جميعاً ممن يعظم شعائر الله وأن يجعل هذا الموسم العظيم فاتحة خير ورشد وإيمان وبركة على المسلمين وعلى العالم بأسره والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وقفات تدبرية رمضان 1442هـ / سمر الأرناؤوط

🕋وسورة الحج تكريم لإبراهيم الفتى الذي حمل راية التوحيد منذ شبابه وهاجر به إلى مكة ثم تشريفه بالأذان في الناس بالحج إلى البيت الذي رفع القواعد منه هو وولده إسماعيل الذي تربى على ميراث الكتاب فكان نعم الذرية الصالحة للأب النبي الصالح والذي من نسله ختم الله تعالى الأنبياء برسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين كما جاء في ختام سورة الأنبياء وجمعت سورة الحج في خاتمتها العظيمة إمام الحنيفية وخاتم أنبيائها فما أشرفها من سلالة وما أعظمه من ميراث للكتاب!
(هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)
إبراهيم الفتى ما اختار أن يعيش كباقي الفتيان لاهيا عابثا غافلا فما حجة الفتيان العابثين؟
سورة الأنبياء تدق ناقوس الخطر ليفيق الغافلون وتدحض عبر نماذج الأنبياء فيها حجج الغافلين فمن يدعي انشغاله عن اتباع الدين بمرض فذاك أيوب ابتلي أشد ابتلاء وما اشغله عن عبادة ربه وذكره، ومن يدعي انشغالا بسلطة أو منصب أو حكم فيما سليمان وداوود ما شغلهم الحكم عن عبادة الله وذكره، ومن يغفل بداعي الهمّ لعدم الإنجاب فذاك زكريا شاب ووهن عظمه وهو عابد بربه، وهكذا قس كل ما يلهيك ويجعلك غافلا عن دعوة الحق تجد أن أعذارك واهية!
قافلة من الأنبياء حملوا أمانة ميراث الكتاب فما غفلوا ولا ألهتهم عظمة المسؤولية ذكر ربهم وعبادته وما عبدوا الله على حرف أبدا! (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين)
ولو وقف الغافلون وقفة صدق مع أنفسهم لوجدوا أن علّة الغفلة واللعب واللهو (ما قدروا الله حق قدره) ولو أنهم فعلوا لعظّموا الله ولعظّموا شعائره فتحولوا من (لاهية قلوبهم) إلى عامرة قلوبهم بالتقوى (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) ولأيقنوا أن وعد الله حق والساعة حق فتخبت قلوبهم…
هذا والله أعلم

#رمضان_١٤٤٢
#وقفات_تدبرية
#الجزء_١٨

“طريق الفلاح، مقوماته وعوائقه”

سورة الأنبياء عرّفتنا بالنماذج القدوة عبر تاريخ الرسالات، هم القدوة في الاستسلام لله تعالى والعبادة والذكر والدعاء
وسورة الحج دورة تدريبية على جهاد النفس استعدادا للجهاد الأكبر وأول ما تعلمنا إياه تعظيم الله تعالى وتعظيم حرماته وبالتالي الخضوع والاستسلام لأوامر وأحكامه وتشريعاته وختمت بخلاصة المهمة المطلوبة من العبد (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون)

التفسير المباشر – رمضان 1431 هـ – سورة الحج

– علوم سورة الحج .

– الإجابة عن أسئلة المشاهدين حول السورة وحول الجزء الثاني والعشرين من القرآن الكريم

————————–

سورة الحج

إسم السورة، هل لها أسماء أخرى؟ هل هذا الإسم توقيفي؟

د. محمد: هذه السورة سميت بسورة الحج وهذا الإسم والله أعلم مشتق مما ورد في السورة في قوله تعالى (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ (27)) ذكر آية الحج. ولكن ينبغي أن نشير هنا إلى أن الحج يعني هذه السورة نزلت قبل مشروعية الحج قبل أن يفرض الحج وفرضية الحج ليست في هذه السورة وإنما جاء في سورة البقرة كما في قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ (197)) وفي سورة آل عمران (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (97)) ومع ذلك سميت هذه السورة بهذا الإسم. ولعل هذا الإسم عرف في وقت النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عقبة ابن عامر ” قلت يا رسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين قال نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما الراوي: عقبة بن عامر الجهني المحدث: الترمذي – المصدر: سنن الترمذي – لصفحة أو الرقم: 577 -خلاصة حكم المحدث: ليس إسناده بذاك القوي” والحديث فيه ضعف أخرجه الترمذي وأبو داوود لكن نستأنس به في هذه التسمية وأنها من زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف لهذه السورة إسم غير هذا الإسم.

وقت نزول السورة

د. محمد: هذه السورة في موضوع نزولها وقع خلاف بين أهل العلم هل هي مكية أو مدنية؟ وخلاف طويل ولذلك حتى عن ابن عباس وردت روايتان رواية عن ابن عباس هي مكية إلا بعض الآيات (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ (19)) وفي رواية أخرى جاءت عن ابن عباس قال هي مدنية إلا قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ (52)) تعددت الروايات عن إبن عباس وكذلك عن السلف تعددت الروايات ولذلك قال بعضهم فيما يروى عن الجمهور سماها مختلطة فيها مكي ومدني بل ليس المكي منحاز مجموعة آيات والمدني كذلك بل متداخلة. ومن العجيب في هذا أن السورة كما في بعض الروايات ورد على أنها مكية نزلت في آخر العهد المكي والمدني منها في أول العهد المدني كما في قصة (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) في بدر ولذلك نجد تواصل بين آياتها والقرآن كله كذلك، حتى أنك لا تفرق بين المكي فيها وبين المدني. لكن قول جمهور العلماء على أنهم يقولون أنها مكية ويغلبون عليها الجانب المكي ويستثنون بعض الآيات وهذا ما نلمسه في موضوعاتها وخصائصها، موضوعات المكي وخصائص المكي. لكن هناك إشارة معينة إلى أنه في أسلوب السورة فيها ما يأتي في أسلوب بعض السور المكية أسلوب الشدة والقوة في مطلعها (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ (2)) (فالذين كفروا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)) فتجد الشدة والقوة في آيات هذه السورة وهذا يؤيد ما ذهب إليه الجمهور من أنها في أغلبها مكية.

د. عبد الرحمن: لفتة كريمة لفت إليها أحد الباحثين عندما كان في البرنامج وهي أحيانًا عندما نقول أن هذه سورة الحج أو غيرها من السور مكية إلا آيات الفلانية مدنية أو العكس، هل لما نقول هذا هل نستحضر التعريف الراجح من تعريف المكي والمدني أن المكي ما كان قبل الهجرة والمدني ما كان بعد الهجرة أم أننا أحيانًا نغفل هذه النقطة فتكون نزلت في مكة وإن كانت بعد الهجرة وتعتبر مدنية أو نرزلت خارج مكة قبل الهجرة فتعتبر مكية وإن نزلت خارج مكة

د. محمد: الذي يظهر لي والله أعلم أن القول الراجح عند أهل العلم هو تحديد المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعد الهجرة وبناء عليه يحددون ذلك لكن لا يمنع أن بعض أهل العلم أحيانًا يتعامل مع الموضوع فيقول هذا هو موضوع السور المكية وأسلوب السور المكية فيعطيه حكم بذلك.

د. عبد الرحمن: وهذا يعتبر حكم بالمكية والمدنية من باب القياس

د. محمد: من باب القياس، هذا الموضوع العلماء لهم فيه مسلكان مسلك النقل والمسلك الثاني القياس ينظرون إلى الخصائص والأسلوب ويحكمون على السور بالمكية أو المدنية.

موضوع السورة الرئيسي

د. محمد: محور السورة. هذه السورة إذا تأملناها من أولها إلى آخرها هي ذكرت مواضع عدة من موضوع الساعة والبعث وإنذار الذين يجادلون في آيات الله ثم إنذار الذين يصدون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم بما لا قاه من قومه لكن جميع هذه الموضوعات تدور حول محور أساسي في السورة وهو محور العقيدة محور التوحيد والبعد عن الشرك ولذلك تجد كثير من هذه الآيات إما تبدأ أو تختم بهذا التوجيه أو تجد آية بعدها تعقب على هذه القضية ولذا نقول أن محور السورة الأساسي قضية العقيدة التوحيد والبعد عن الشرك وموضوعاتها الأخرى ولو كانت مدنية تخدم هذا المحور.

د. عبد الرحمن: لفت نظري النداء بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)) ومن الأشياء التي تلفت النظر أن سورة الحج وبدأت بالحديث عن الساعة مما قد يستدعي قائلا أن يقول ما علاقة الساعة الحج؟

د. محمد: أولًا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) كثر في هذه السورة والعلماء يقولون يراد بها كفار قريش والبعض يقولون عام وهو الأقرب في السورة أنه عام. ويغلب في السور المكية ولكن ثبت حتى في السور المدينة جاء فيها هذا الخطاب (يا أيها الناس). أما الربط بين موضوع ما ذكر من الساعة والحشر وشدة قيامها وبين الحج هناك تشابه عظيم جدًا وذلك لشبه المشهدين لبعضهما ولذلك الحج في حكمة تشريعه بهذه الطريقة أن الناس ينزعون لباسهم ويتساوون في لباس واحد ويقفون موقفًا واحدًا في صعيد عرفات هذا يذكرهم بيوم القيامة عندما يقومون لرب العالمين حفاة عراة غرل فهناك تشابه كبير في المشهدين ولهذا كان الربط قويًا بين المشهدين في السورة

د. عبد الرحمن: مشهد بداية السورة في الحديث عن الساعة وأيضًا وتسميتها بسورة الحج. الآيات في أول السورة تتحدث عن الساعة وعن الاستدلال على البعث ليتنا نتوقف عندها.

د. محمد: لعلنا نأخذ المقطع الأول الحديث عن الساعة قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)) شيء عظيم وشيء نكرة للتفخيم وأتى بعظيم يدل على عظم هذا الهول ثم شرح شيئًا من هذه العظمة (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ (2)) مرضعة هنا جاءت بالتاء هي التي تمارس الرضاعة لأن الوصف منه مرضع لكن مرضعة التي فعلًا تمارس الرضاعة تذهل تنشغل عن طفلها ولا يشغل المرأة التي ترضع طفلها إلا أمر عظيم. (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا) المرأة الحامل تلقي بحملها والمرأة الحامل عندما يأتيها أمر عظيم ربما يتأثر جنينها فيسقط فسقوط جنينها في ذلك الموقف يدل على شدة الموقف. (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) يتحركون حركة السكران ينظرون نظرة السكران ثم قال ليسوا سكارى من الشراب لكن تصرفاتهم وحركاتهم حركة السكران بسبب شدة الموقف وهذا تهويل عظيم لموقف القيامة وتحذير وذكره بهذه الطريقة ليستعد الناس له ولذلك بدأ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) ولذلك ورد في حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا الآيات في سفر في أصحابه وورد أنها في غزوة بني المصطلق فتأثر الصحابة إنهم من غد لن يضربوا الخيام ولن ينصبوا القدور، تأثروا بآية من كتاب الله فما بالنا نقرأ الآية مرة تلو المرة ولا نتأثر بذلك؟!

د. عبد الرحمن: وقفنا عند الآية في مطلع السورة (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) ولماذا قال هنا كل مرضعة ولم يقل كل مرضع لأن المرأة الأوصاف التي تختص بالمرأة في اللغة العربية يقال مرضع وحائض وطالق فكان جوابك جوبًا دقيقًا وهذا ذكرني بحوار في ملتقى أهل التفسير بعض الزملاء يتحاورون في هذه النقطة وجوابك أن المرضعة هي المتلبسة بالرضاعة أما المرضع فهو وصفها أنها قد ترضع وقد لا ترضع. ورأيت بعض الإخوان أن المرضعة هي التي ترضع أولاد الناس بأجر فاستغربت من هذا القول

د. محمد: ينبغي عند تفسير كتاب الله أن نرجع إلى اللغة وأقوال العلماء في ذلك فكل قول لا تخدمه اللغة وليس له سابق لأهل العلم لا ينبغي الأخذ به. وأنا من خلال ما اطلعت عليه في كتب التفسير لم أجد قولًا بهذا يكاد أو أجمعت الكتب التي اطلعت عليها على أن تحديد مرضعة بالتاء دليل على أنها تمارس الرضاعة فتذهل عنه في حالة الرضاعة يكون أشد. أما إذا كان بأجر فأعتقد أن التي ترضع بأجر قد تذهل عن الطفل حتى وليس في موقف فيه ذهول لأنها ليست المستأجرة كالنائحة فهذه مستأجرة تذهل لأي سبب وهذا والله أعلم بعيد عن بلاغة القرآن الكريم

د. عبد الرحمن: وكما تفضلت هذه الأمور لا تثبت إلا بنقل عن العرب وليست المسألة بالاجتهاد. من الأشياء التي أشارت إليها السورة ولا نريد أن نغفلها المجادلة بغير علم، الكلام بغير علم، هل المقصود هنا بها المجادلة مطلقًا بغير علم؟

د. محمد: أشارت إلى المجادلة بغير علم في موضعين (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ (3)) والموضع الثاني قال (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8)) كلاهما مجادلة في الله بغير علم والمجادلة في الله بغير علم لا تجوز سواء كان في وجود الله في أسمائه في صفاته في شرعه في أي أمر من شرعه المجادلة بغير علم لا تجوز. لكن نلحظ في الموضع الأول أن فيها إتباع أئمة الضلال، مجادلة بسبب إتباع أئمة الضلال قال (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) فهي مجادلة كان المحرِّك لها والداعي لها إتباع أئمة الضلال. والموضع الثاني كانت المجادلة الداعي لها هو الصد عن الإسلام، الصد عن الإسلام وكلاهما سيء، فالأول يجادل متابعة لأئمة الضلال من شياطين الإنس والجن والثاني يجادل بغير علم ليصدّ الناس عن الإسلام. وهذه قضية مهمة خصوصًا في عصرنا الحاضر فيما نسمى بعولمة الثقافة حينما دخلت على المسلمين ثقافة الأمم وأصبح وللأسف بعض المسلمين ربما يتكلم في قضايا لا دليل له عليها. الفارق بين الذي يجادل بعلم والذي لا يجادل بعلم هو الهوى فمن كان طلبه الحق ويبحث عن الحق فهذا الغالب أنه يبحث عن العلم والدليل لكن الذي يتبع الهوى فالغالب أنه يحيد عن العلم لأنه يريد أن يسير على ما يهواه. ولذلك كانت هذه الإشارة في هذه السورة فيها لفتة عجيبة في هذا الجانب

د. عبد الرحمن: وإن كنت ألمس من هذه الآية أنه العدة في الجدال هو العلم أو الهدى أو الكتاب الموثوق أما الدعاوى والفلسفات لا تعتبر مما يستدل به.

د. عبد الرحمن: في قوله (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)) ما معاني هذه الآيات؟

د. محمد: هذه الآيات أولًا ورد في سبب نزولها في الصحيح عن علي رضي الله عنه وعن أبي ذر كان يقسم أن هذه الآيات نزلت في علي وحمزة وعبيدة بن الحارث حينما تبارزوا مع عتبة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وذلك أنه في غزوة بدر برز هؤلاء عتبة وشيبة والوليد إلى صف المسلمين قالوا يخرج لنا من يبارزنا فخرج لهم ثلاثة من الأنصار وكانوا لا يرون وجوههم قالوا من أنتم؟ قالوا فلان وفلان وفلان قالوا كرام أبناء كرام، لكن نريد من قومنا فرجعوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم قم يا علي قم يا حمزة قم يا عبيدة فقاموا قالوا من أنتم؟ قالوا فلان وفلان وفلان فقبلوا المبارزة وبارزوهم علي وحمزة لم يمهلا أصحابهما فقضوا عليهما بضربة وعبيدة تخالف هو وصاحبه وكل منهما أثخن صاحبه بالجراح فكرّ عليه علي وحمزة وقتلوه وحملوا صاحبهما عبيدة بن الحارث إلى معسكر المسلمين. إذن فعليّ رضي الله عنه نحن أول من يجثو للخصومة يوم القيامة هذا في سبب النزول لكن هذا لا يمنع من عمومها. ولذلك ورد في بعض الآثار أنها بين المسلمين وأهل الكتاب كل منهما يقول نحن على الحق وهؤلاء يقول نحن على الحق وذكر العلماء قول ثالث أنها بين المؤمنين والكافرين وهذا الصحيح أنها عامة بين المؤمنين والكافرين لكن الله سبحانه وتعالى بيّن بيانًا واضحًا مصير كل فريق خصمان صف الإيمان وصف الكفر أما أهل الكفر فبيّن الله تعالى مصيرهم حينما قال (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)) هذا فريق الكفر، تصوير وذكر لشدة هذا العذاب يكاد قلب المؤمن أن يتقطع مما ذكر في شدته، (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ) تقطّع لهم ثياب تكون من نار والسبب أن الثوب يصيب جميع أجزاء الجسم حتى تتيه النار من جميع الجوانب. ثم أشد من ذلك (يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) الماء الحار الشديد حتى قال يذيب أدمغتهم ويذيب بطونهم ولذلك قال سبحانه وتعالى (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) قال أهل العلم تتساقط أمعاؤهم وتتساقط جلودهم ثم يعيدها الله سبحانه وتعالى مرة أخرى. وأشد من ذلك (وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) ما يقمع به وهي مقامع شديدة وقوية (كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ) كلما حاولوا أن يخرجوا منها من شدة ما يصيبهم من غمّ حتى قال بعض السلف أنهم لا يتنفسون فيها (كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) وذلك كما ورد هم مربوطي الأرجل والأيدي لكن يقولون إن لهب النار يدفعهم إلى الأعلى فإذا ارتفعوا إلى أعلى ظنوا أنها فرصة للخروج فيعودوا مرة أخرى إلى أسفلها وهكذا لا يزالون والعياذ بالله.

د.عبد الرحمن: معنى لا يتنفسون فيها في كلامك أنه لا يخرج منها هواء، لا ينفس منها أما هم فقد أثبت الله لهم (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) هود)

د. محمد: في مقابل هذا الفريق الفريق الآخر وهذه لفتة ينبغي علينا ونحن القرآن أن نتأملها أنه دائمًا في القرآن الكريم لا يذكر الله عذاب النار إلا ويذكر في مقابله نعيم الجنة ولا يذكر نعيم الجنة إلا ويذكر في مقابله عذاب النار، هذه حكمة. القضية قارن، هل بينهما مقارنة؟! لو كان الإنسان في نعيم أو ما في نعيم، لكن إما نعيم وإما عذاب. في مقابل هذا العذاب الشديد قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ (23)) ويقول المفسرون قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ) وهي معطوفة هي في مقابل (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) ما قال (والذين آمنوا) لكن تكريمًا لهؤلاء لم يعطفهم وإن كان في الكلام، إبتدأ الكلام وأكد (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)) وهناك قراءة (ولؤلؤٍ) يعني أساور من ذهب ولؤلؤ. ثم قال تعالى (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)) هل هذا في الجنة؟ قال بعضهم (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ (10) يونس) يعني أنهم لا يسمعون إلا الطيب من القول ولا يقولون إلا القول الطيب. وقول آخر أن هذه من صفاتهم في الدنيا، في صفة عباد الله المؤمنين أنهم يُهدَون إلى الطيب من القول فيكون دائمًا قوله طيبًا ولماذا يركب الإنسان الألفاظ السيئة؟ لماذا لا يكون رده طيبًا؟!إذا أخطأ عليك إنسان فرق أن ترد عليه بنبرة وأن تقول جزاك الله خيرًا، فرق كبير في المعنى وفي الأثر ولذلك ذكر تعالى (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)) هذه من صفات عباد الرحمن ولذلك ذكر الله تعالى أنه هداهم إلى الطيب من القول وهداهم إلى صراط الحميد.

د. عبد الرحمن: ولعله ونحن الآن في ايام صيام النبي صلى الله عليه وسلم أرشدنا إذا وقع بينك وبين أخيك نزاع أو نقاش فقال فإن شاتمه أحد أو خاصمه فليقل إني صائم هذا نوع من التربية على إلتزام القول الطيب

د. عبد الرحمن: سُنّة التدافع في قوله تعالى في آخر السورة (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا (40))

د. محمد: هذه سنة التدافع الله سبحانه وتعالى لما بيّن أنه يدافع عن الذين آمنوا ثم أذن للذين يقاتَلون وهم المسلمون بعد هجرتهم اذن لهم بالجهاد ثم بعد ذلك بيّن هذه السُنّة حيث قال سبحانه وتعالى (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا (40)) لما ذكر الله سبحانه وتعالى هذه السُنّة وذكر معابد الديانات المعتبرة اليهودية والنصرانية فبيّن أن حتى حماية جميع أماكن العبادة هي داخلة في سنة التدافع. وهناك كلمة ذكرها الإمام إبن كثير في هذا الموضوع وهي كلمة كأنها تتحدث في عصرنا يقول: ولولا أن يدفع عن قوم بقوم ويكشف شر أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض وأهلك القوي الضعيف. هذه سنة التدافع التي نجدها في حياة الناس ليست خاصة بالمسلمين الآن البشرية تعيشي بالقطب الواحد كلما تعددت الأقطاب كلما أسلم للناس وتوازنت وكلما أتحد القطر كلما كان أسوأ لحال الناس، هذه سنة التدافع، الله قد يدفع عن المؤمنين بالكافرين لأسباب يهيؤها ولذلك في كثير من بلاد المسلمين أحيانًا يدفع الله سبحانه وتعالى عن المؤمنين بالكافرين تحت هذه السنة الإلهية.

د. عبد الرحمن: وهذا ملاحظ وهي كأنها أشبه ما تكون بنظرية سياسية، عندما سقط الإتحاد السوفياتي تفردت الولايات المتحدة بالسيطرة جرتنا لويلات وإلى حروب ولا زالت إلى اليوم.

سؤال الحلقة

عن عائشة رضي الله عنها قالت “كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل تعالى …. قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك”. فما هي الآية المقصودة؟

قصة آية – (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ (11) الحج)

صفة عبادة ضعيف الإيمان

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) الحج)

اليوم بإذن الله تعالى سنتوقف مع آية من آيات سورة الحج وهي آية مخيفة تتحدث عن قضية الثبات والاستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى مهما كانت الأحوال، لأن الفتن عندما تتعرض للإنسان يتفاوت الناس في الاستجابة لها، فبعض الناس ضعيف الإيمان والعياذ بالله، فينقلب على عقبيه بسبب هذه الفتن، والموفَّق هو من وفقه الله وثبته، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعوة “اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”. (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) الحج) الله أكبر وأعوذ بالله ذلك هو الخسران المبين.

هذه الآية لها قصة كما ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: أسلم رجلاً من اليهود فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه فرح الصحابة رضي الله عنهم بإسلامه، لأنهم كانوا يفرحون إذا أسلم أحد من أهل الكتاب، ومن غير العرب ومن غير المشركين وهو فعلاً يستحق أننا نفرح به لماذا؟ يعني مثلاً كما نفرح اليوم إذا أسلم قسيس أو رجل من رجال الدين الكبار في الغرب، نفرح لهذا لسبب، لأننا نشعر أنه سيهتدي بهدايته قوم آخرون وأنه أيضاً أسلم عن علم وعن قناعة بخلاف المشركين والوثنيين، فإن الإنسان الخالي الذي ما عنده عقائد متأصلة ومبنية على كتاب سماوي ولو كان محرّفاً فإن يسهل أن يدخل في الإسلام ولذلك الآن تلاحظ بعض الدعاء، مثل الدكتور عبد الرحمن السميط، أسأل الله أن يشفيه ويعافيه، هذا الرجل يعني له جهود عظيمة في أفريقيا وسمعت كثيراً من قصصه يقول يعني بعضهم تجلس جلسة واحدة مع بعض الوثنيين فيدخل الشيخ القبيلة والقبيلة كلها في الإسلام. وتذكر أنت قصة الطفيل بن عمرو الدوسي الزهراني وهو من زهران رضي الله عنه وأرضاه عندما جاء إلى قريش هنا فقالوا له يعني لا تسمع إلى محمد، لذلك وضع في أذنيه القطن، لكن الطفيل بن عمرو الدوسي رجل شيخ قبيلة ورجل معروف وشاعر، استغرب من نفسه عندما يعني طاوع هؤلاء، فقال أنا أسمع وأرى وأحكم بنفسي. فلما استمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن أدرك أن هناك خللاً في الموضوع يعني هذا الكلام الذي يقوله النبي صلى الله عليه وسلم هذا لا يقوله بشر، وهذا الحق فاستجاب ودخل بدخوله في الإسلام قبيلته كاملة ربما. فالشاهد أن الصحابة فرحوا بإسلام هذا اليهودي، فلما أسلم ابتُلي، قالوا فذهب بصره وماله وأولاده في حوادث متفرقة فتشاءم بالإسلام، قال هذا الدين ما هو بدين خير، انظر الابتلاء. الابتلاء ليس بالضرورة أن يكون مباشراً، لا، ذهب أولاده وذهب ماله وذهب بصره، فقال أنا من يوم ما دخلت في الإسلام وأنا في مصائب، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أقلني، رجعت في كلامي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الإسلام لا يُقال، ما فيه إنك تدخل في الإسلام اليوم، وتأتي تقول غداً أنا بطلت، يعني المسألة ما هي بفوضى، دخلت في الدين خلاص، خرجت من الدين هذا ارتداد، يقام عليه الحد. فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم إني لم أصب في ديني هذا خيراً، أذهَبَ بصري ومالي وولدي، فقال النبي صلى الله عليه وسلمإن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفقه، وقيل ونزلت فيه هذه الآية ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾. لاحظ حتى في قراءة حرف، الحرف هو طرف الشيء، كما قال الله سبحانه وتعالى على (شفا جرف)، يعني أنه معرّض للانحراف بأسهل طريقة يعني إيمانه ضعيف لدرجة أنه ممكن يتأثر بأيّ مؤثر. قال (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ)، يعني الآن هذا اليهودي لو زاد ماله وكثر أولاده لقال والله الدين الإسلامي هذا كله خير، لا، الإسلام ليس بالهوى، والله سبحانه وتعالى أعلم بما في قلوبنا، ولذلك لاحظ كيف أن الله يركّز على هذا في القرآن قال ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾. وهذا الرجل علم الله ما في قلبه من الكذب ومن عدم الصدق مع الله سبحانه وتعالى فبتلاه فبهذه الابتلاءات ولذلك شوف مثل هذه الابتلاءات الذي ابتلي بها هذا الرجل وقعت لعدد من الصحابة وعدد من المسلمين، فما زادتهم إلا ثباتاً مثل مصعب بن عمير رضي الله عنه ومثل أيضاً عروة بن الزبير عندما مات أولاده وذهبت رجله، فما زاده إلا إيماناً وتسليماً في سبيل الله سبحانه وتعالى. يبتلى الإنسان، وإذا لم يبتلى الإنسان المؤمن فمن الذي يبتلى؟! فإن الله سبحانه وتعالى قال في أول سورة العنكبوت ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ فالابتلاء سنّة ماضية، ولكن يتفاوت الناس في درجات الابتلاء، والله هو الذي يقدّر سبحانه وتعالى. لذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال أشد الناس بلاءً الأنبياء، ولذلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو سيد الأنبياء وهو من إبراهيم عليه السلام إلى اليوم كل الأنبياء من ذريته، وهذا فضل عظيم، يعني تخيل كل أبنائه وأسرته كلهم أنبياء هذا شرف عظيم ناله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فأبناؤه كلهم أنبياء إسحاق وإسماعيل كل أنبياء بني إسرائيل من ذريته، ومحمد عليه الصلاة والسلام من ذريته، فابتلاه الله ابتلاء عظيماً، أولاً ابتلاه بتكذيب أبيه له، يعني لاحظ العادة أن والدك أشد الناس فرحاً بتميّزك، يعني الآن المفروض أن والد إبراهيم كان أول من يسارع إلى التصديق به، يعني كم تساوي أن يكون ابنك نبياً؟! رسول مرسل من الله، لكن للأسف أنه كان هو أشد الناس عداوة لابنه إبراهيم وقال (لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) مريم) وفعلاً خرج وقال (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ (47)) خرج إبراهيم، فهذا أول ابتلاء .

الأمر الثاني ابتلي بمحاربة قومه وكادوا يقتلونه وأنهم أيضاً تفننوا في قتل إبراهيم بشكل لم يحصل لأي واحد من الأنبياء أوقدوا له ناراً عظيمة وألقوه فيها بشكل لم يحدث في التاريخ تقريباً مثل ذلك الاحتفال أنهم يقتلون نبيهم بهذه الطريقة الفظيعة، وجمعوا له حطباً، قصة طويلة! والله سبحانه وتعالى نجّاه منها في القصة المشهورة، ثم ابتلي بالهجرة، ثم أيضاً ابتلي بالعقم، ما رزقه الله بأبناء يكونون عوناً له، فما رُزق بإسماعيل إلا وعمره ستة وثمانين سنة، ستة وثمانين سنة جاء له إسماعيل بعد ما تزوج هاجر وسارة زوجته الأولى ما رُزق منها بأبناء إلا بعد اثنتا عشر سنة من إسماعيل، بشّره الله سبحانه وتعالى بإسحاق، أليس هذا ابتلاء؟! ثم حتى إسماعيل لما كبر وأصبح يمشي معه وشعور الأبوة وهذا شعور عظيم، ولا يعرفه إلا من جرّبه! ثم إبراهيم جرّبه على كبر فأكيد أن فرحه بابنه هذا أشد من فرح الأب العادي، ستة وثمانون سنة، متعلِّق به ثم يأمره بذبحه! والله بلاء من أشد الابتلاءات، والله سبحانه وتعالى سمّاه قال ﴿إن هذا لهو البلاء المبين﴾ ولذلك يقول العلماء إن الله سبحانه وتعالى قد اتخذ إبراهيم خليلاً، والخُلّة هي منزلة عليا في الاصطفاء، أنه كما يقول الشاعر

قد تخللتِ مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلا

فإبراهيم عليه الصلاة والسلام، لما رزق بإسماعيل على كبر أراد الله أن يبتليه، ويمحص المحبة الخالصة أن تكون لله سبحانه وتعالى فأمره بذبح إسماعيل، الحقيقة هذا ابتلاء لم يحدث إلا لإبراهيم، ولم يذكر لنا أن أحدًا ابتلي بذبح ابنه، إلا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ﴿فلما أسلم وتله للجبين﴾ سينفذ الموضوع ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ﴾. ولذلك بشّره الله بإسحاق، وذريته كلهم أنبياء، فيقول أن الابتلاء أشد الناس بلاءاً هم الأنبياء، انظر إلى ابتلاء موسى عليه الصلاة والسلام، انظر إلى ابتلاء النبي صلى الله عليه وسلم كيف ابتلي فكذبه أبو لهب عمه وناصبه العداء وكذبه زعماء قريش وطردوه من مكة وهي أحب البلاد إليه، وكان يتمنى أنه يبقى في مكة ويكمل دعوته في مكة ولكن لم يستطع. حاربه قومه فخرج إلى المدينة وذهب هناك، فحاربه اليهود وحاربه المنافقون، مات عليه الصلاة والسلام كما تذكر بعض الروايات وهو من آثار السُمّ الذي وضعه له اليهود. ابتلاء إلى أقصى درجات الأنبياء تعرض له الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فمن يظن منا أنه بمنجاة من الابتلاء فهو واهم، وهذا الدين منذ آدم إلى الدين هو طريقه طريق ابتلاء وطريق تمحيص، ليس لأن الله سبحانه وتعالى في حاجة إلا أنه يبتلينا ويعذّبنا ويستمتع بذلك لا، وإنما هي لكي يرفع درجات الناس، ويختبرهم، ويبلوهم، يعرف الصادق من الكاذب ويظهر ذلك، وإلا الله سبحانه وتعالى يعلم ذلك قبل أن يبتلي الناس، لكن حتى يتميز الناس، فقال الله (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) العنكبوت)

هنا الآية في قوله سبحانه وتعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) لاحظ أنه لم يقل وإن أصابه شرّ، وإنما قال (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ) هذا فيه أشارة إلى أن هذا الذي يصيب الإنسان المقصود به تمحيصه، وابتلاءه، واختباره، تماماً كما يحصل اليوم عندما يتقدم أحد إلى الدراسة، أو يتقدم أحد إلى وظيفة، فإنه يُجرى له اختبار، لا يراد منه إهانته، ولا يُراد منه الإساءة إليه، وإنما يراد منه اختباره والنظر في مدى صلاحيته لهذا المنصب، أو لهذه الدرجة العلمية، أو لهذه الوظيفة لا أقل ولا أكثر، وهو أسلوب مقبول ومعقول، أن يبتلي الله سبحانه وتعالى عباده ليميّز بينهم في درجات الآخرة، أو في دركات النار والعياذ بالله ويبلوهم، فمن الناس من يثبت ولا يزيده الابتلاء إلا ثباتاً. ولذلك الصحابة الكرام رضي الله عنهم عندما يرون الابتلاء لا يزيدهم ذلك إلا ثباتاً، قال (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) الأحزاب) هؤلاء الذين نجحوا في الاختبار، لكن المنافقون ماذا يقولون؟ (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) الأحزاب) انظر الفريقين، والقرآن الكريم يعني أكثر من ذكر هذا الفريق وأكثر من ذكر هذا الفريق، وذكر علامات المنافقين، وذكر علامات المؤمنين، وذكر الابتلاءات وأن ليس هناك أحد بمنجاة من الابتلاء، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة ﴿أم حسبتم﴾ في ذكره الابتلاء في قوله سبحانه وتعالى ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ الإشارة إلى أن النبي نفسه وأتباعه يصل بهم البلاء درجة شديدة حتى الصادقون منهم يبدأون يتململون متى نصر الله؟! فيثبتهم الأنبياء ويقولون ألا إن نصر الله قريب، والنبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة رضي الله عنهم: “إنكم تستعجلون، والله ليتمنّ الله هذا الدين حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله، والذئب على غنمه، وقال قد كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمة لا يرده ذلك عن دينه”. فيشير إلى أن هذا الابتلاء مرتبط سبحان الله بالإيمان، وبالدين، وبالدعوة وشيء طبيعي ولذلك أعجبتني كلمة لأحد العلماء من السلف يقول أنه إذا لم يتعرف الداعية إلى الابتلاء فليشكّ في منهجه، لأن الابتلاء من علامات هذا المنهج، من عهد نوح إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الآيات تؤكد هذا. أما من يظن أنه سيسلك طريق الدعوة إلى الله ثم يجد الطريق مفتوحة ومُعبّدة ومفروشة بالورود فهذا وهم. ولذلك كنت ذكرت طرفة للشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله صاحب “أضواء البيان” وكان استاذاً في الجامعة الإسلامية وكان معه للشيخ محمد تقي الدين الهلالي والشيخ عبد العزيز بن باز، وعدد من العلماء الكبار في ذلك الوقت، قالوا في حفل التخرج أول دفعة، والجامعة كانت فرحة بهذا التخرج وهؤلاء الطلاب فقام الشيخ محمد تقي الدين الهلالي يلقي كلمة وقال أبشروا يا أبنائي الطريق أمامكم مفتوح ومعبَّد والناس في حاجة إليكم، وستجدون إن شاء الله التيسير وستجدون كذا، فالشيخ الشنقيطي ما أعجبه الكلام، فقام الشيخ الشنقيطي وعقّب وقال: لا، هذا الكلام غير صحيح، وهو يعارض الآيات الواضحة في القرآن الكريم، بل إن طريق الدعوة مليء بالابتلاء، ومليء بالعقبات، ومليء بالتحديات، وستجدون عقبات، وتجدون تحديات، والشيخ تقي الدين لم تكن غائبة عنه هذه الحقائق، لكن أراد أنه يحمِّس الشباب، والشيخ أراد أن يُظهر أيضاً هذه الحقائق في حياة الدعاة ليستعدوا لهم، فهذا مصيب وهذا مصيب. وأيضاً من فوائد الآيات سؤال الثبات، أن الإنسان يسأل الله سبحانه وتعالى الثبات. ومن فوائده أيضاً أن لا يعرِّض الإنسان نفسه للشبهات التي قد تضلّه عن طريق الله سبحانه وتعالى، ويسأل الإنسان دائماً الثبات فإن الإنسان ليس بمنأى عن الانحراف، مهما كانت درجته في العلم وفي العبادة إلا بتثبيت الله سبحانه وتعالى له. نسأل الله سبحانه وتعالى لي الثبات ولإخواننا ونسأل الله أن لا يعرضنا للفتن، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقنا وإياكم الثبات على الحق حتى نلقاه سبحانه وتعالى غير مبدّلين، وغير مغيّرين.

قصة آية – (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ (3) الحج)

خطورة القول على الله بغير علم

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ (3) الحج)

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. حيّاكم الله أيها الإخوة الكرام في كل مكان في هذا البرنامج “قصة آية” الذي يأتيكم برعاية وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية. اليوم بإذن الله تعالى سوف أقف وإياكم في هذه الحلقة مع آية من آيات سورة الحج فيها تحذير شديد لنا جميعاً أن نقول على الله بغير علم وأن نحذر أشد الحذر في هذه المسألة.

هذه القصة أو هذه الآية أغلب المفسرين يذكرون لها قصة ويقولون أنها نزلت بسببها وهي أنه كان هناك رجل من بني عبد الدار من قريش اسمه النضر بن الحارث. النضر بن الحارث -إن صح التعبير – كان بُعرف ذلك الزمان كان يعتبر إنساناً مثقفاً يقرأ في بعض الكتب ويأتي يتفلسف على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول هذا القرآن الذي أنت جئت به هذا أساطير الأولين أنت جمعتها من النصارى ومن اليهود، أنا عندي أشياء أحسن منه، ولذلك في سورة الفرقان (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)). وجاء هذا النضر بن الحارث تعالوا يا قريش ماذا يُسمِعكم محمد؟ يزعم أنه قرآن؟ أنا عندي قصص عن ملوك الهند القدماء عن ملوك فارس أنا إنسان قارئ أحسن من الذي عنده. فمن فلسفاته أنه يتكلم بغير علم ويتكلم بغير هدى عن خلق السماوات والأرض، عن خلق الملائكة، ويأتي بها من رأسه أو أنه يأتي بها من مصادر مضروبة إن صح التعبير. ولذلك يذكر بعض المفسرين أن النضر بن الحارث هذا مثقف نزل فيه أكثر من بضع عشرة آية كلها في التحذير منه ولم يصرّح باسمه. فتقول الرواية هنا يقال كان من قوله أنه يقول الملائكة بنات الله ولذلك ذكرها الله ونفاها في القرآن الكريم أن الملائكة هم بنات الله وهذا هو الذي قاله. فيقول زعم ما قاله بغير بيان معه لما يقول ولا برهان وبغير كتاب من الله آتاه لصحة ما يقول وإنما كان يقول ما يقول بالجهل ظناً منه وحسباناً بلا عقل صحيح ولا نقل صريح فالله سبحانه وتعال أنزل فيه عدة آيات منها هذه الآية لتكذيبه (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) هذا النضر بن الحارث. ولكن -كما في قلنا في أكثر من حلقة- ما يهمنا أنه النضر بن الحارث أو غيره المهم الذكرى. يعني واحد الآن يأتي ويقول إن حقيقة الروح هي انتقال الحياة من الأرواح الميتة إلى الأرواح الجديدة مثلاً التي يسمونها تناسخ الأرواح! كيف مع أن حقيقة الروح ما يعلمها أحد لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى؟ قال هي هكذا! من أين جئت بالكلام هذا؟ من أين تزعم؟ عندما تقول الملائكة هم بنات الله؟ أأنت كنت موجوداً يوم ولدوا؟ (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ (19) الزخرف)؟ ولذلك الله سبحانه وتعالى يقول في سورة الكهف (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ) من أين جئتم بهذه الشهادة؟ وذلك الله يقول (ستكتبُ شهادتهم ويُسْأَلون (19) الزخرف) ويُسألون من أين أتيت بهذا الكلام؟ فإذا هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث. ونحن نريد أن نذكر بعض الوقفات:

خطورة التكلم على الله تعالى أو على أسمائه أو على صفاته بغير علم، تقول من صفات الله سبحانه وتعالى مثلاً (القهار) وما الدليل على أن هذه صفة من صفات الله؟ فإذا قال (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) أقول صدقت. إذن هذه من صفات الله، لأننا نحن لا نثبت لله سبحانه وتعالى اسماً ولا نثبت له صفة إلا من طريقين فقط: إما أن يكون هو سبحانه وتعالى أثبتها لنفسه في القرآن أو يكون أثبتها له نبيه صلى الله عليه وسلم في السُّنّة فقط. غير هذين المصدرين لا يمكن أننا نثبت ولا نتكلم في الله ولا في اليوم الآخر ولا في حقائق الغيب إلا من هذين المصدرين لأن الوحي هو المصدر الوحيد لهذه الأشياء. واحد يأتيك بشيء عن الله أو عن رسوله أو عن الغيب من غير هذه المصادر فهو مردود وهو يدخل تحت هذه الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ). والحقيقة نحن نتحدث عن هذه الآية الآن وعن النضر بن الحارث وقد يظن بعد المشاهدين أن هذه قصة تاريخية حصلت وانتهت، لا، ما زال الناس يقولون في الله ويقولون في النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون في الدين (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ). وللأسف الشديد أننا في عصر الإعلام المنفتح اليوم الفضائيات أصبحت الآن بالآلاف والإذاعات كذلك ومواقع الإنترنت كذلك والصحف كذلك والكتب، الكتب الآن والمكتبات فيها الكثير من القول على الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. وفيها الكثير من القول على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وفيها الكثير من القول على الصحابة والكثير من القول على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وفيها الكثير من التحريف لكلام الله وفيها تقويل الصحابة ما لم يقولوا وفيها تقويل الأنبياء ما لم يقولوا بشكل مُفزِع .أقسم بالله أنك تقرأ في بعض الكتب كلاماً في حق الله وفي حق أنبيائه وفي حق الصحابة لا يقوله مسلم أبداً، وإنك تقرأ المؤلف فإذا به اسمه عبد الله أو اسمه عبد الرحمن يدّعي أنه من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم. أين الهدى وأين العلم وأين الكتاب المنير فيما تقول في حق الله وفي حق كتابه وفي حق أنبيائه وفي حق القرآن؟! ولذلك هذه الآية ليست قصة – وأنا كررت هذا مراراً – آيات القرآن الكريم هي أشبه ما تكون بقواعد، ليست تاريخية وإنما هي متجددة. ليس النضر بن الحارث شخصية تاريخية انتهت، لا بالعكس، هناك أكثر من النضر بن الحارث، كل يوم يطلع لنا النضر بن الحارث يتكلم في كتاب الله بغير علم ويتكلم في السُنّة بغير علم ويتكلم! والله واحد يوماً خرج وإذا به يقول صحيح البخاري ومسلم هذه مليئة بالخرافات ومليئة بالأحاديث الباطلة، كيف؟ قال هذا هو .أين دليلك؟ كيف؟ صحيح البخاري وصحيح مسلم هما أصح كتابين عند المسلمين بعد كتاب الله ومؤلفوها أئمة كبار وقد أجمعت الأمة على تلقّيها بالقبول ليست مجاملة للبخاري ولا لمسلم ولكن ثقة بالطريقة التي جُمعت بها هذه الأحاديث. ويأتيك هذا بكل بساطة يقول هذه مليئة بالأباطيل! الحديث الفلاني باطل، الحديث الفلاني باطل، إذن من أين نأخذ العلم إذا كانت المسألة بهذه الطريقة؟! القرآن الكريم أمرنا بالتثبت والاحتياط في أخذ العلم ويقول ابن سيرين وهي كلمة مسجّلة لابن سيرين رحمه الله يقول: إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم. ويقول ابن المبارك كلمة رائعة جداً عن الإسناد الذي وصلت به إلينا هذه الأحاديث فيقول: الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فإذا قيل له من حدّثك؟ اُذكر لنا السند بقي متحيّراً. ولذلك العلماء عندما صححوا هذه الأحاديث بناءاً على قواعد وعلى طرق غاية في الدقة والتمحيص والإتقان. ويأتيك بكل بساطة يشكِّك في البخاري ومسلم في قناة فضائية أو في مقالة على الإنترنت أو في مقالة صحافية! ويأتي واحد يشكك في الملائكة ويأتي واحد يتكلم عن خلق الإنسان من طين ويقول أن الإنسان لم يُخلق من طين، إذن مم خُلِق؟! فقال اكتشف علماء الآثار بواسطة حفريات لها أكثر من سبعة آلاف سنة ويُدخل في مهاترات ويترك قول الله سبحانه وتعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) والله سبحانه وتعالى يكرر لنا قصة آدم عليه الصلاة والسلام وأنه خلقه من طين وخلقه من صلصال، يتركون كل هذه اليقينيات ويروح على حفريات قبل سبعة آلاف سنة! فهذه الطريقة في الكلام بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير من الخسران والضلال المبين!.بل حتى في الكلام في كل فن يعني لو يأتي الآن مهندس فيتكلم في الطب بكلام لا خِطام له ولا ذمم يخالف الأصول التي يعرفها الأطباء ويأتي واحد مهندس ويتكلم في جراحة القلب المفتوح ويستدرك ويقول هؤلاء الذين يتكلمون عن جراحة القلب المفتوح ما يفهمون ويمكن إجراء عملية القلب المفتوح بواسطة إبرة!! طبعاً الناس كلهم سيضحكون عليه ويسخرون منه لأنه يتكلم بغير فنّه وأيضاً يخالف أبجديات علم الطب. العجيب في الموضوع أن الآن الذي يتكلم في الطب وهو غير طبيب كل الناس يقفون ضده، والذي يتكلم في الهندسة وهو غير مهندس يقف الناس ضده، إلا الدين يتكلم فيه كل أحد ويُفتي فيه كل أحد ولا يجد من يُنكِر عليه ولا من يحتسب عليه مع أنه أولى بالإنكار من هؤلاء جميعاً. لأن الطبيب مثلاً واحد تكلّم في الطب في غير فنّه فأتى بالعجائب ماذا سيترتب عليه؟ ربما يموت مريض، يعني فيخسر حياته لكن الذي يتكلم في الدين بغير علمه يخسر آخرته ويجعل الناس يخسرون الآخرة لأنه يفسد عليهم دينهم .

ولذلك كان يقول ابن تيمية رحمة الله: عجيب يوجد على الأطباء من يحتسب وعلى أهل الأسواق من يحتسب ولا يوجد على أهل العلم من يحتسب عليهم؟ يعني من يفسدون العلم فيتكلمون بغير علم يجب أن يكون هناك من يحتسب عليهم. ولا يمكن أبداً أن نعيش بسلام ما لم يكن فينا من يحتسب على أمثال هؤلاء الذين يتكلمون بغير علم فيفسدون على الناس دينهم ويفسدون على الناس حقائق العلم. بل حتى الذين يفسدون العلم الآن مثلاً جاء واحد تكلم في الطب وتكلم في الهندسة بغير علم وكتب في ذلك بحوثاً في الحقيقة أن هذا يفسد العلم نفسه ويضر به وينبغي أن يُحتسب عليه .ولذلك نحن بحاجة إلى معرفة من هم أهل العلم الذين نستطيع أن نأخذ منهم العلم. ولذلك العلم الصحيح هو ما في القرآن وفي السنة النبوية الصحيحة وهي ولله الحمد ثابتة ومعروفة وأهل العلم هم أهل العلم الصحيح الذين يفهمون القرآن على وجهه ويعرفون أصول تفسير القرآن الكريم. القرآن الكريم ليس كلأً مباحاً يتكلم فيه كل أحد وإنما له أصول للتفسير والفهم معروفة ومقررة فكل من خالفها فإنه يرد قوله ويمكن أن ندخل ذلك تحت حماية المستهلك. ألا يوجد الآن جمعية الآن اسمها جمعية حماية المستهلك؟ نحن في الحقيقة مستهلكين للعلم ومستهلكين لما في القرآن الكريم من الهدايات ولما في السنة من الهدايات فينبغي أن يكون هناك من يحمي المستهلك بالاحتساب على من يسيء إلى هذا العلم ويسيء إلى هذا الدين ويسيء إلى القرآن ويسيء إلى السُنّة بأن يتكلم فيها بغير علم فيفسد على الناس دينهم والناس ليسوا سواء في معرفة الحق من الباطل. يعني الآن ممكن يتكلم واحد بالباطل والناس يستمعون إليه هناك من الذين يشاهدون ويستمعون من يعرف أن هذا باطل ولكن هناك أيضاً ممن يشاهد لا يعرف الحق من الباطل فيغترّ بكلام هذا الرجل ويقع في الباطل. ولذلك اتصل عليّ ذات يوم أحد الأخوة يعمل طبيباً فقال أنا سمعت واحد يتكلم في إحدى القنوات ويُنكر النسخ في القرآن الكريم فما رأيك فيه؟ فقلت له كلمة يقولها لا أدري هل هو الإمام مالك أو غيره قال: أكُلّما وجدنا رجلاً أجْدَلَ من رجل تركنا ديننا واتبعناه؟! دين الله سبحانه وتعالى ما هو بالأهواء والتشهي. أنت الآن عندما تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتعرف أركان الإيمان وأركان الإسلام وحقائق الدين والعقيدة ثم يأتيك واحد فيلسوف فيقنعك أن الأركان ليست خمسة وإنما هي ستة وإذا به صاحب حُجّة وما شاء الله مثقف وقد يكون يعني عبارته جزلى وكتابته جميلة تأخذ كلامه وتترك كلام النبي صلى الله عليه وسلم؟! إذن معناها إنك إنسان مرتبك الأولويات ولا عندك معرفة. لا طبعاً فقلت له يا أخي العزيز النسخ في القرآن الكريم ثابت والمقصود به أن الله سبحانه وتعالى رفع الحكم في بعض الآيات بآيات أخرى وهذا شيء طبيعي وموجود في القرآن بالنص (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) هذا يقول لا، هذه الآية لا تدل على هذا المعنى!. الله سبحانه وتعالى قد أمر المرأة إذا توفى عنها زوجها أن تعتدّ سنة كاملة ثم في آية أخرى قال لا، اعتدّي أربعة أشهر وعشرة أيام، بأيهما نأخذ؟ قال نأخذ بهما معاً، كيف؟! انظر الفكرة! فالمسألة نوع من العبث. الله سبحانه وتعالى والنسخ ثابت في القرآن الكريم ولكنه محدود في آيات محددة ويعرفه أهل العلم مقررة شرعاً. ولكن يأتيك واحد مهندس أيضاً هو مهندس الذي يتحدث بهذا الكلام ويقول أنا غير مقتنع بمبدأ النسخ لأنه يتنافى مع علم الله، كيف تقول أن الله سبحانه وتعالى يقرر حُكماً ثم بعد فترة ينفي ويُقرِّر حُكماً آخر لسبب من الأسباب؟! مع أنها مسألة علمية سهلة جداً وينفّذها الناس. الآن الملك ألا يُصدر قراراً الآن ثم بعد سنة يصدر قراراً آخر يلغي القرار السابق وهذا مكانه؟ وهذا لا يدل إلا على تطور العمل وتغيّر الأسلوب ورأينا أن الأنسب في ذلك الوقت كان هو هذا القرار والأنسب الآن هذا القرار. فمثلاً لو أمرنا الناس الآن أنهم يداومون الساعة الثامنة صباحاً لأجل البرد وتأخر صلاة الفجر مثلا ً ثم في الصيف نقدّم التوقيت هل هذا يدل على جهل؟! بالعكس يدل على التنظيم لا أقل ولا أكثر. فكذلك فكرة النسخ فالشاهد هو فكرة القول على الله سبحانه وتعالى بغير علم وخاصة في الدين وفي القرآن وفي السنة ينبغي علينا أن نتصدّى لكل من يقول على الله سبحانه وتعالى وعلى كتابه وعلى نبيه صلى الله عليه وسلم بغير علم وأن هذا جزء من الاحتساب الذي يقوم به أهل العلم على هؤلاء حماية لأديان الناس وحماية لعقائد الناس من التشويه ومن التحريف وهذا من واجبات ولاة الأمر. ولاة أمر المسلمين في كل مكان ينبغي عليهم أن يحتسبوا بمعاقبة كل من يتكلم بغير علم ولا يتركوا هذه المنابر الإعلامية لكل من يريد أن ينشر شبهاته ويفسد على الناس أديانهم .

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع وأن يرزقنا وإياكم التحرّي فيما نقول وأن يكفينا وإياكم شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا .