السورة مكية ونزلت في وقت اشتد الأذى على الرسول r والمسلمين في مكة وتعرضوا للاستهزاءوالاتهام كحال المسلمين الآن فجاءت هذه السورة وكأنها رسالة قرآنية من الله تعالى ليطمئن رسوله والمسلمين أن هذا الدين محفوظ من الله تعالى وما على المسلمين إلا الاستمرار في الدعوة والتركيز عليها وعدم الانبهار بقوة أعدائهم أو الاستشعار بالضعف والوهن والانهزامية أمام الأعداء.
الحجر هو مكان سكنت فيه ثمود الذين ابتعدوا عن منهج الله تعالى وكانوا قد نحتوه في الجبال ليختبئوا من الزلازل والصواعق بظنهم أنه مكان آمن لهم يقيهم ويحفظهم (وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ) آية 82 ، لكن الله تعالى أهلكهم بالصيحة التي دخلت آذانهم فتركتهم صرعى ولم ينفعهم كل ما احتاطوا له ومكثهم في الحجر ما منع قضاء الله وعذابه من أن يحلّ بهم (فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) آية 84. وفي هذا دلالة على أن الله تعالى هو الحافظ ولا يتم الحفظ أو الحجر بالوسائل المادية وهذا حجر ثمود أكبر دليل على ذلك. ولقد سميت السورة بسورة الحفظ لأن كل آياتها تؤكد أن الله تعالى يحفظ كل شيء، ولذا جاءت فيها آية 9 (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) خاصة دون غيرها من سور القرآن.
بداية السورة ونهايتها تتحدث عن حفظ الله تعالى للكون
(الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ) آية 1 و(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) آية 97،98،99. وكأن الآيات الأخيرة هي الحل والتوجيه حتى يحفظنا الله تعالى.
يحفظ القرآن (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) آية 9 ،والسموات والأرض (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ) آية 16 و 17،والرزق (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) آية 21 ،والمؤمنون وقد تحدثت الآيات عن الشيطان كيف واجه ربه بأنه سيغوي عباد الله إلا الذين حفظهم الله تعالى:(إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) آية 40 وقال تعالى:(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) آية 42.
وقد جاءت جزئية قصة إبليس عندما قال لربه:(قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) آية 39 في هذه السورة خاصة بمعنى أنه سيحاول أن يخدع المسلمين ويغويهم بالباطل لذا جاءت الآية بعدها (لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) آية 88. فالسورة كلها تؤكد للمسلمين أن الله حافظهم والمؤمنون حقاً هم الذين يحفظهم الله تعالى من الشيطان ونزغه (إلا عبادك منهم المخلصين).
قال تعالى في أولها:(الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1)) وفي خاتمتها قال:(الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91)) ذكر القرآن في أولها وآخرها. قال في أولها:(وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)) وفي الآخر قال:(إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)) الذين يقولون إنك لمجنون أليس هذا استهزاءً؟ إذن ذكر أنهم استهزأوا به أولاً (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7))هذا استهزاء وفي آخر السورة ذكر المستهزئين (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) هم قالوا في الأول إنك لمجنون وهو يعلم بما يقولون وفي الآخر قال إنا كفيناك المستهزئين.
قال تعالى في خاتمة إبراهيم:(هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)) وفي الحجر قال: (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1))، هذا بلاغ للناس – تلك آيات الكتاب، هذا بلاغ للناس أي القرآن وما قاله في القرآن لأنه ذكر عاقبة الكافرين كل هذا من القرآن فقال هذا بلاغ للناس، كيف بلّغهم؟ (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ) بلّغهم بالقرآن.
قال تعالى في خواتيم الحجر:(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)) وبداية النحل (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)). في خواتيم الحجر قال:(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ (85)) وفي بداية النحل: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)). في خواتيم الحجر:(وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ (85)) وفي بداية النحل:(أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ (1)) ذاك إخبار أن الساعة لآتية في المستقبل والآن أتى أمر الله، آتية، ستأتي، أتى أمر الله فلا تستعجلوه. هنا تغيّر الصيغة الفعلية من فعل أو مصدر أو اسم مجرد طيّ للزمن وكأنها حدثت بالفعل ووقعت.
ورة الحِجر، سورة الحفظ
ورد قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} في سورة “الحِجْر” ومعناها: المنع والحفظ، وأولها: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وآخرها حفظ الرسول، وفيها حفظ السموات.
(د. أحمد نوفل)
————————-
إضافة تدبرية من إعداد صفحة إسلاميات
اسم السورة:
سورة الحجر سميت باسم بلدة الحجر أو مكان الحجر الذي كان فيه قوم صالح عليهم السلام ومما يتميز به هذا الاسم بأنه لم يذكر في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع فسميت السورة بهذا الاسم. والحجر هو نوع من الحفظ. فقوم صالح أرادوا أن يحفظوا أرواحهم وبلادهم بهذا النوع من البنيان وهذا النحت من الجبال (وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)) ولكن الله عز وجل حفظه هو الحفظ الذي لا يمكن أن ينفلت أو يضعف فأوقع الله بهم العقوبة وأخذتهم الصيحة فما نفع هذا البينان القوي الشديد الحامي من ظواهر المطر ومن الأشياء الخطيرة لكن صيحة واحدة أزهقت أرواحهم.
(من برنامج التفسير المباشر)
وجو السورة مبني على الحفظ والحماية وقد ورد فيها:
– حفظ الكتاب: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9))،
– وفيها حفظ السماء: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (17))
– حفظ الأرزاق في الخزائن (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ﴿٢٠﴾ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴿٢١﴾)
– حفظ ماء المطر في باطن الأرض: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴿٢٢﴾)
– وفيها حفظ العباد من الشيطان (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴿٤٢﴾)
– وفي ختامها حفظ الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴿٩٥﴾).
ففي هذا الجو، قال الله تعالى عن المؤمنين: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)، فحُفظوا من جهنم التي لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، أما المتقون فهم كما قال الله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿٤٥﴾ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ ﴿٤٦﴾ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴿٤٧﴾ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴿٤٨﴾)، فحُفظوا من النار ومن الخروج من جنة الأبرار، والكافرون لا حفظ لهم.
هذا والله تعالى أعلم
سورة الحجر سورة البشرى بحفظ الله تعالى لدينه ولرسوله ولكتابه ولأهل دعوته ولكونه كله من السماء إلى الأرض وما بينهما وما هو مستودع في باطن الأرض فتبارك الله خيرٌ حافظا!
في السورة سمى الله تعالى القرآن: كتابا وقرآنا (تلك آيات الكتاب القرآن مبين) وفي آية الحفظ سماه ذكرا (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)) فالقرآن ذكر محفوظ ويحفظ صاحبه فمن أدام الذكر وحفظه:
حفظ قلبه من الغفلة ولم يلهه الأمل .
ومن أدام الذكر انجلت بصيرته وانصرف عنه الشيطان مدحورا لا استطاع وإغوائه ولا التزيين له!
ومن أدام الذكر وحفظه سلم قلبه من الغلّ في الدنيا فسلمه الله من الغلّ في الجنة وجعله مع أقرانه على سرر متقابلين..
ومن حفظ الذكر رأى البشائر ولم يقنط من رحمة الله لأن الذكر يذكّره أن لكل شيء عند الله أجل معلوم، حتى الفرج له وقت معلوم وإهلاك الله عزوجل للمجرمين له أجل…
فيما من تطلبون الحفظ عليكم بالسبع المثاني وهذا القرآن العظيم ولا تمدنّ أعينكم إلى قوة مادية تحفظكم ولا إلى دول الشرق والغرب ولا إلى جمعيات حقوق الإنسان والعدل الدولية….
القرآن، الذكر حبل الله المتين، الله عزوجل حافظه ويحفظ من حفظه فما علينا إلا أن نحفظه في قلوبنا وصدورنا أخلاقنا وبيوتنا وأهلنا ومجتمعنا وأمتنا، نحفظه بأخذه كله بقوة ولا نجعله عضين نأخذ منه ما يوافقنا وندع منه الكثير،
لنحفظ الذكر الذي حفظه الله ما دام في الصدر قلب ينبض…
هذا والله أعلم
سورة الحجر
إسم السورة
د. عبد الحكيم: سورة الحجر سميت بإسم بلدة الحجر أو مكان الحجر الذي كان فيه قوم صالح عليهم السلام ومما يتميز به هذا الإسم بأنه لم يذكر في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع فسميت السورة بهذا الإسم.
د. عبد الرحمن: لم يتكرر بكونه بلدًا لأنه ورد قوله تعالى (وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا (22) الفرقان)
د. عبد الحكيم: (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80))
د. عبد الرحمن: إذن هي موقع قوم صالح
د. الحكيم: وتسمى مدائن قوم صالح ولا يعرف لهذه السورة إسم آخر غير هذا الإسم.
د. عبد الرحمن: أين نزلت هذه السورة؟ ومتى نزلت؟
د. الحكيم: السورة مكية المشهور أنها سورة مكية وفي ترتيب نزولها عند بعض المفسرين يذكرون أنها نزلت بعد سورة يوسف وقبل سورة الأنعام. أما مرحلة نزولها فاختلف المفسرون في مرحلة من المرحلة المكية وهناك آية في هذه السورة تدل على تحديد شديد لمرحلة النزول وهي جاءت في آخر السورة في قوله تعالى (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ (94)) فالمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت دعوته في البداية سرًا ثلاث سنوات لما نزلت هذه الآية (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) فبدأت الدعوة جهرية وتعجب ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير من اختلاف المفسرين مع وجود هذه الآية في هذه السورة فقال فيها دلالة واضحة على أن مرحلة نزولها في السنة الرابعة من البعثة النبوية للنبي عليه الصلاة والسلام.
د. عبد الرحمن: وهذا دليل أنه يستطيع الناظر في القرآن الكريم أن يحدد أوقات نزول بعض السور من خلال استنباطه مثل هذا المعنى ففي قوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) هذا دليل يستدل منه كل من يكتب في السيرة النبوية على أنها كانت هي التي دعت إلى الدعوة الجهرية في السنة الرابعة
د. عبد الحكيم: لكن السور ليس بالضرورة أن تكون نزلت دائمًا دفعة واحدة فلذلك بعض الأحيان تكون السورة مكية وفيها آيات مدنية فهذا يُشكل عليه. لكن بصفة عامة موضوع السورة السور المكية تكون غالباً في أساس الدين الحديث عن النبوة والحديث عن الرسالة والحديث عن البعث والحديث عن القرآن الكريم وهذا هو أساس هذه السورة كما هي السور المكية.
د. عبد الرحمن: ضوابط القرآن المكي كلها شبه متوفرة في هذه السورة
المحور الأساسي لسورة الحجر، عمود السورة
كما هو معروف أن موضوع السورة اجتهادي الإنسان يتأمل في إسم السورة ومرحلة النزول، يتأمل في التناسب بين مقاطع السورة وأسباب النزول الواردة في السورة وقد يلمح الموضوع وقد يكون غامضًا وقد يكون ظاهرًا والذي يظهر والله أعلم أنه يمكن أن نتناولها من موضوعين:
الموضوع الأول وهو المشهور والأوضح أنها تحذير من تكذيب النبي عليه الصلاة والسلام، تحذير لقريش، أول ما بدأ الدعوة الكفار كانوا يكذبون ويستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءت هذه السورة في التحذير من الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه وبيان أصل هذا التكذيب وأن أساسه من إبليس الذي أراد إغواء بني آدم ثم قصّ الله عز وجل من قصص الرسل والأنبياء الذين أقوامهم كذبوا المرسلين فأنزل الله عليهم العقوبات (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ (75)) إن كان الله تعالى يعاقب الأمم السابقة لما كذبت رسلها فمحمد صلى الله عليه وسلم مثلهم فقومه إن كذبوا به عاقبهم الله كما عاقب الأسبقين.
د. عبد الرحمن: إذن هذا المحور الأول أو الموضوع الذي يمكن أن يكون الموضوع الأساسي لها تحذير المكذبين بالنبي صلى الله عليه وسلم
د. عبد الحكيم: في أول السورة تحذير من الكفر وأن الإنسان في المستقبل يود لو أنه كان مسلمًا وذكر الله عز وجل استهزاءهم بالنبي صلى الله عليه وسلم (وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)) إستهزاء به، فذكر الله عز وجل (مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)) وطلبوا آيات فردّ الله تعالى عليهم (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15)) ثم ذكر الله عز وجل الآيات الدالة على قدرته وخلقه وأنه القادر على بعثهم وعلى بعث النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً غليهم فالواجب عليهم أن يؤمنوا به. ثم ذكر الله عز وجل قصة الشيطان وعلاقته مع أبينا آدم وعداوته مع أبينا آدم فكأنه يستنهض هممهم أن لا يغويهم الشيطان كما أغوى الأمم السابقة وفي آخرها (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)) فواضح التحذير من الاستهزاء والتكذيب وتهديدهم بالعقوبات التي وقعت على الأمم السابقة.
الموضوع الثاني يمكن أن يؤخذ من إسم السورة “الحجر”، الحجر هو نوع من الحفظ. فقوم صالح أرادوا أن يحفظوا أرواحهم وبلادهم بهذا النوع من البنيان وهذا النحت من الجبال (وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)) ولكن الله عز وجل حفظه هو الحفظ الذي لا يمكن أن ينفلت أو يضعف فأوقع الله بهم العقوبة وأخذتهم الصيحة فما نفع هذا البينان القوي الشديد الحامي من ظواهر المطر ومن الأشياء الخطيرة لكن صيحة واحدة أزهقت أرواحهم.
والحفظ في السورة واضح من أول السورة لما قال الله عز وجل (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)) حفظ القرآن الكريم، فالله عز وجل أنزل هذا القرآن وحفظه من التغيير والتبديل، من الزيادة والنقصان من التحريف (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) فصلت) عندنا حفظ الآيات، نصوص الآيات محفوظة لا تنقص ولا يُزاد فيها، عندنا نفس الايات تدل على حق أي واحد ينظر إلى هذه الآيات وتكون نظرته بلغة عربية وبذهن سليم قوي لمّاح سيجد المعنى وهذا المعنى لن يكون إلا صحيحًا صوابًا لا باطل فيه (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيد) حفظ حسي وحفظ معنوي في ألفاظه. والأمر الآخر أن الله تعالى لما ذكر القرآن ذكر حفظ السماء (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (17)) وحفظ السماء من استراق السمع حفظ للقرآن الكريم وحفظ لوحي الله إلى ملائكته لأنه ما زال هناك وحي، لا زال هناك كُهّان يسترقون السمع وجِنّ، فالله عز وجل حفظ السماء من هؤلاء الشياطين. وذكر الله عز وجل قصة آدم عليه مع إبليس وقال (وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)) فهذا ضلال وخطر عظيم وذكر الله أنه يحفظ من هذا الضلال العظيم عباده المخلَصين (إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)) المخلِصين أو المخلَصين قراءتان متواترتان، هذا الحفظ الثالث. كذلك ذكر الله قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وحفظ الله تعالى لله بأن أمدّه بالولد على كبر وبشّره وأرسل له الملائكة وجعله يضيّف الملائكة -هل هناك من يضيف الملائكة قبل إبراهيم عليه السلام؟- فهذا نوع من الحفظ والكرامة. كذلك حفظ تلامذته وأقرباءه مثل لوط عليه السلام وهو ابن أخيه حفظه الله عز وجل (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)) وفي سورة أخرى قال (قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) العنكبوت) (لَنُنَجِّيَنَّهُ) هذا حفظ، حفظ الله إبراهيم وحفظ الله لوطًا وأهله وحفظ الله أيضًا شعيبًا في قوله سبحانه وتعالى (وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ (79)) انتقم الله منهم ونجى شعيبًا. (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)) أصحاب الحجر قوم لوط عاقبهم الله وأهلكهم وحفظ الله صالحًا ومن آمن معه.
د. عبد الرحمن: يبدو لي يا دكتور أن الله سبحانه وتعالى سماهم في هذا الموضوع بإسم الحجر إشارة أنهم كانوا يتخذون هذه البيوت في الجبال للحفظ والمنعة تماماً كما صنع اليهود (وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ (2) الحشر) فسماهم الله هنا الحجر لأنهم أرادوا بهذه البيوت الحفظ والامتناع ولكن الله أتاهم وأهلكهم.
د. عبد الحكيم: أحياناً يستعد الإنسان لشيء ويظن أنه يستعد من كل النواحي لكنه يؤتى من مأمنه. في آخر السورة ذكر الله عز وجل الحفظ للنبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)) فلا يستطيع المستهزئون أن يصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل والإساءة كما قال (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (67) المائدة) وكذلك من حفظ الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لما ضاق صدره من هؤلاء قال (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) فكانت الصلاة حفظًا للإنسان وحرزًا له وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وهناك حديث في مسند الإمام أحمد أريد أن أشير إليه وهو حديث قدسي صححه المحقق وغيره أن الله عز وجل قال: يا ابن آدم احفظ لي أربع ركعات من أول النهار أكفِك آخره”. ما هي الأربع الركعات أول النهار؟ الله عز وجل قال (وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) فالسجود صلة العلماء على قولين إما أنها ركعتا الفجر السنة والفريضة وهذا يؤكد قول النبي صلى الله عليه وسلم “من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي” وإما أن يكون الحديث عن سنة الضحى، والحديث صحيح والإنسان ينبغي أن يحافظ على أربع ركعات من أول الصباح سواء كانت سنة الفجر مع صلاة الفجر أو كانت ركعات الضحى، هذا الحفظ.
د. عبد الرحمن: يمكن أن نقول أن هذا خيط رفيع يجمع كل هذه القصص أولاً حفظ الله لكتابه، حفظه لآدم، حفظه لذريته الصالحين المخلَصين، حفظه لإبراهيم ولوط وحفظه أيضًا لصالح ولشعيب ثم حفظه للنبي صلى الله عليه وسلم في آخر السورة فيمكن أن نقول السورة سورة الحفظ.
ونحن نتكلم عن الحفظ نتكلم عن قوله عز وجل (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)) وأن بعض الطوائف من المسلمين وغلاة من الرافضة يقولون أن القرآن فيه آيات كثيرات لم تظهر للناس بعض الصحابة أبو بكر أو غيره أنه حجبها عن الناس في الجمع الأول أو الثاني فيجاب عليه بجواب أن الله عز وجل قال في كتابه الكريم (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فهذا خبر من الله سبحانه وتعالى أن القرآن محفوظ إن كان فيه نقص فهو نقص في الحفظ، الله عز وجل قال (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ (23) البقرة) الذي يقل أنه ناقص أو زائد هو في ريب مما نزلنا على عبدنا، فاتوا بسورة من مثله سواء كانت سورة البقرة أو الكوثر (وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) صادقين في دعواكم هذه. الأدباء وأهل البلاغة والفصاحة في اللغة العربية في الأرض كثير من المسلمين ومن النصارى ومن غيرهم ومن الملحدين فيمكن أن يوظف الإنسان مائة شخص على أن يأتوا بمثل هذا القرآن سورة واحدة سورة واحدة كسورة الكوثر لا تتجاوز سطر ونصف فإذا عجز الإنسان عن مماثلة القرآن وقد عجز الخلق كلهم قريش التي انتقلت من الإتيان بسورة إلى محاربة النبي صلى الله عليه وسلم لعجزها فثبت لنا أن القرآن محفوظ وأن هذا الخبر في هذه السورة الذي أنزله في هذه السورة أنه حفظها إذن ليس هناك نقص في كتاب الله.
د. عبد الرحمن: كنا نتحدث عن قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وهذه الآية آية عظيمة يتوقف عندها العلماء كثيراً للإشارة إلى حفظ الله سبحانه وتعالى للقرآن الكريم وذكرت في بداية حديثك إشارة إلى بعض الطوائف التي تنتسب للإسلام مثل الرافضة عندما يتهمون القرآن بأنه ناقص وهناك كتب كثيرة كتبت في هذا الموضوع تثبت هذه التهمة عليهم من جهة وأخرى تنفيها خاصة في الوقت الراهن الآن بدأت ألاحظ بعض الكتاب التي تنشر من قبل الرافضة تنكر القول بأن القرآن الكريم ناقص أو زائد ويقولون نحن لا نقول إلا بهذا القرآن الذي بين أيديكم لكن بغض النظر نتحدث عن هذه الآية أولاً في البلاغة الموجود فيها في كون الله سبحانه وتعالى عبّر فيها بصيغة التعظيم (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)
د. عبد الحكيم: مناسبة لطيفة في الآية (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) هم قبل قليل قالوا (وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)) هم قالوها استهزاء فجاء بهذا التأكيد وبلفظ العظمة وبالضمير (نحن) جمع تعظيم، هذا الذكر الذي تستهزئون به أنا الذي أنزلته سوماه بنفس الإسم الذي ذكروه (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)
د. عبد الرحمن: وهنا فائدة أنه لا يعدل عن الإسم الصحيح لاستهزاء الآخرين به، هم سمّوه الذكر على وجه الاستهزاء فليس معنى هذا أن نسميه نحن بإسن آخر لأنهم سخروا من هذا الوصف له فالله سبحانه وتعالى قال (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). هناك قصص كثيرة قد تفيد الإخوة المشاهدين أن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ القرآن الكريم وتوفر له من وسائل الحفظ ما لم يتوفر لأي كتاب سماوي آخر ولذلك العلماء يذكرون في كتب التفسير لماذا الله سبحانه وتعالى حفظ القرآن ولم يحفظ التوراة والإنجيل من التحريف والزبور غير موجودة الآن! ولن تأمن أي كتاب سماوي على الإطلاق على وجه الأرض إلا القرآن الكريم فقط أن تقرأ الآن في التوراة ولكنك غير مطمئن وتقرأ في الإنجيل وأنت غير مطمئن إلى أنه هو الذي أنزله الله، بل امتلأ بالتحريف والتشكيك غير مطمئن
الإنجيل كتب بعد المسيح عليه السلام بثلاثمائة سنة كانوا يتناولونه على طريق الحفظ لكن القرآن وهو ينزل كان صلى الله عليه وسلم إذا نزلت آية أمر بالكاتب فكتب ثم يقرأ للناس قم يقرأ في الصلوات ويقوم به الليل ويتذاكرونه وذكر الحديث تعهد القرآن فهو في عهد النبي صلى الله عليه وسلم معروف معروفة سوره ومعروفة آياته
د. عبد الرحمن: كتاب لأحد الباحثين أحمد طويله مقارنة بين جمع الأناجيل وجمع السنة النبوية أثبت فيها أن جمع المسلمين للسنة النبوية أوثق ألف مرة من جمع النصارى للإنجيل وجمع اليهود للتوراة فما بالك بالقرآن الكريم لأنه كان في غنى عن حفظ الناس لأن الله تعالى تكلف بحفظه، يذكرون في كتب التفسير أن الجواب عن ذلك أن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ القرآن كما في هذه الآية فقال (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وقال عن كتب أهل الكتاب (بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ (44) المائدة) فوكل حفظ التوراة والانجيل إلى الأحبار والرهبان فضيّعوها. قصص كثيرة تجدها في كتب التاريخ منها يذكرون في عهد المأمون كان عنده خطاط وكان صابئيًا وكان المأمون يرغب في أن إسلام هذا الرجل خطه جميل، خطاط فقال أسلم أعطيك عشرين ألف دينار فقال الأعرابي لا يا أمير المؤمنين دعني وديني، ثم غاب عن المأمون سنة أو أكثر ثم سأل عنه المأمون فلما جيء به فإذا به قد أسلم فقال ما قصتك؟ قال كتبت كتاب التوراة فزدت فيه ونقصت وبعته على أحبار اليهود فبالغوا في مدحه وفي ثمنه وتركت لهم مدة ليكتشفوا التحريف والنقص فلم ينتبه أحد وصنعت ذلك في كتاب النصارى، ما انتبهوا للتحريف كل واحد عنه نسخة مختلفة قال فجئت إلى القرآن الكريم ثم لم أذهب به إلى علماء المسلمين لتوقعي أنهم سيكتشفون الخطأ مباشرة، وذهبت به إلى سوق الورّاقين في بغداد الذين يبيعون الكتب (لا يكونون في العادة علماء متفرغين وإنما كَتَبة) فقال والله يا أمير المؤمنين ما فتح القرآن إلا وقعت عينه على الحرف الذي زدته فأعاده لي وقال لا حاجة لنا بمصحفك. فأنا عرفت أنه محفوظ من الله وأن هذا دين الحق وتتكرر هذه القصة كثيراً في زمننا هذا، هناك تضبط مصاحف فيها بعض الإضافات ودائماً -من خلال تجارب بالتاريخ- أن الذي يغيّر أو يزيد لا يُكثِر دائماً وإنما يضع حرفًا ناقصًا هنا وحرفًا زائدًا وبالرغم من ذلك يُكتشَف. يقول الغزالي رحمه الله أو أبو زهرة أحدهما يقول ما كنت أظن أن عامة الناس في مكة يحفظون القرآن قالت فجئت إلى مكة قبل سبعين سنة وأنا أصلي في الحرم فرفعت صوتي وأنا أصلي أتنفل في الليل فأخطأت في آية فرد علي شخص بعيد عني لكنه يسمعني قال ما كنت أتوقع أنه يقرأ أصلًا فضلًا عن أن يحفظ القرآن فلما سلمت من الصلاة ذهبت إليه فإذا به يحفظ القرآن فحفظ الله لكتابه صوره كثيرة. ولعل من حفظ كتاب الله ما نراه اليوم من إقبال الناس على القرآن الكريم وعلى علومه وعلى لغته، وأقول حفظ لغة القرآن الكريم من حفظ القرآن، اللغة هي أساس فهم القرآن إذا استحضر الإخوة المتخصصون باللغة العربية أنه بتعلمهم وتعليمهم لها وحرصهم على عدم الوقوع في اللحن والخطأ أنهم بهذا يتمثلون قول الله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وأن هذا من حفظ الله لكتابه.
د. عبد الرحمن: نعود لسورة الحجر والوقفات عندها وكنت تريد أن تتحدث عن هذه الآية (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)) فماذا لديك عنها؟
د. عبد الحكيم: نجعلها في آخر الحلقة. في قول الله سبحانه وتعالى لما ذكر جهنم (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)) بدأ بذكر جهنم ثم ذكر الجنات (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)) ثم قال بعدها (نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)) فبدأ بالمغفرة أولاً ثم العذاب الأليم (وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50)) كان الترتيب أن يذكر العذاب أولًا ثم المغفرة، لكنه ذكر الرحمة وهذا مما يدل على أن رحمة الله سبحانه وتعالى غلبت غضبه وذكر إسم المغفرة والرحمة بذكر أسماء الله سبحانه وتعالى (نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) بينما جاء في ذكر العذاب لم يأت بأسماء الله وإنما ذكر فعلًا له (وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ) وهذا غالباً ما يكون كذلك في ذكر الانتقام لا يذكر في الانتقام إسم لله وإنما فعل أما في الرحمة يذكر أسماءه عز وجل وهذا ما يدل على أن رحمة الله عز وجل وسعت كل شيء وهذا فيه تحبب للناس والعودة والتوبة. وفي قصة إبراهيم (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (56)) بشِّر بولد وهو كبير في السن فقالوا إن الله يبشرك فلا تكن من القانطين قال أنا ما قنطت لكن أريد أن أعرف كيف يكون لي هذا الولد فهو إذا كان في أمر الدنيا ولد لشخص كبير وإبراهيم عليه السلام الذي يعرف ربه وهو خليل الرحمن قال (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) فكيف برحمة الله عز وجل للعبد إذا تاب؟! لا شك أن رحمته عز وجل أسبق من هذا الأمر المتعلق بالدنيا وهو الولد.
اللفتة الأخرى في قول الله عز وجل في قصة لوط (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)) يعني كن في آخرهم كُن في آخر أهلك، اللفتة فيها أن الفائدة لما يكون القائد في آخر القوم يكون مراعياً لضعيفهم وإذا سقط منهم شيء ينظر لهم يحرسهم و كان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم هذا القائد الناجح وجاء في سنن أبي داوود أنه كان من هديه أنه كان في آخر الجيش يحمل مع الضعيف ويراعي العاجز ونحو ذلك، وهذا الذي ينبغي في كل قائد سواء كان أو مديراً أو رب أسرة أو مدرساً أو قائداً أن يراعي الضعيف وأن ينتبه لأحوال من تحت يده. فهذه الآية دلت على أن هذا كان هدي المرسلين (وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ) فيكون في آخرهم فيحفظهم فلا يقع أحد منهم في العقوبة فقد يتخلف أحد أم يلتهي بشيء آخر فهو يحفظ أهله حتى ينجو من هذا العذاب الأليم.
في قوله عز وجل (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)) هذا فيه قسم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم وهذه أعظم نعمة على من جاؤوا من حياة النبي صلى الله عليه وسلم فمن بعده أن أرسل لهم النبي صلى الله عليه وسلم فأعظم نعمة إرسال هذا الرسول إليهم فكان به نجاتهم من النار ووصولهم إلى الجنة إن آمنوا به عليه الصلاة والسلام. فنعمة الله أن بعث لنا رسولًا لا شك أنها نعمة عظيمة ولذلك أقسم الله بعمر النبي عليه الصلاة والسلام (لَعَمْرُكَ) أو عُمرك كلاهما صحيح لكن الفتح لتسهيل القسم. (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) الضمير يعود إلى قوم لوط وليس إلى قريش لأنه في هذا اتصال السياق وعدم تحديد قائد وعدم انقطاعه عن قصة قوم لوط (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) سكرة، هذه سكرة الهوى نسأل الله العافية فهناك سكرة شرب الخمر والمخدرات وهناك سكرة الهوى صاحب الهوى والعشق والتعلق بالصور يكون في سكرة فلا يصل إليه الكلام، المقصود بالسكرة أنه مغلق على عقله الآن هم لا يدرون أن هؤلاء هم المئلائكة وهم يريدون الفاحشة! ولا زالوا في هذه الفاحشة وشدة طلبها مع أنه بعد لحظات ستقع العقوبات وهو يحذرهم إتقوا الله ولا تخزون في ضيفي.
هذه السكرة سكرة العشق والتعلق بالصور دعوة لكل مسلم أن يتأمل الصور وتتبعها والآن عندنا في ثورةالاتصالات والانترنت والمجلات ينبغي للمسلم أن يتقي هذه السكرة وأن يبتعد عن هذه الشهوة فهي تعلق بالصور وحب لها ومما يبعد عن ذلك ما ذكر الله عن يوسف عليه السلام في قصته مع المرأة (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) يوسف) وفي قراءة المخلِصين، فالإخلاص لله عز وجل واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى سبب للخروج من هذه الفتنة والضائقة والتعلق الشديد.
د. عبد الرحمن: أريد أن تعلق على هذه الآية (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)) وما وقع فيها من خلاف بين المفسرين.
د. عبد الحكيم: هذه الآية متعلقة بمنّة من الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام أنه أعطاه سبعاً من المثاني والصحيح في معناها أنها سورة الفاتحة ويدل على ذلك حديثان من صحيح البخاري الحديث الأول حديث سعيد بن المعلا كنت أصلي في المسجد ، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ، فقلت : يا رسول الله ، إني كنت أصلي ، فقال : ( ألم يقل الله : { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ) . ثم قال لي : ( لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن ، قبل أن تخرج من المسجد ) . ثم أخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج ، قلت له : ألم تقل : ( لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ) . قال : ( { الحمد لله رب العالمين } : هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيته ) . الراوي: أبو سعيد بن المعلى المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – لصفحة أو الرقم: 4474 – خلاصة حكم المحدث: [صحيح]. حتى وهو يصلي يجب أن يجيب.
د. عبد الرحمن: إذن المقصود في السبع المثاني هي الفاتحة
د. عبد الحكيم: ثم قال لي : ( لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن ، قبل أن تخرج من المسجد ) . ثم أخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج ، قلت له : ألم تقل : ( لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ) . قال : ( { الحمد لله رب العالمين } : هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيته ).
د. عبد الرحمن: أحببت أن أؤكد على هذا المعنى لأن بعض المفسرين يذكر فيها أقوالًا أن النقصود بالسبع المثاني أنها السبع الطوال والصحيح في البخاري أن السبع المثاني هي الفاتحة
د. الحكيم: ومما يزيد على هذا أنها مكية والسبع السبع الطوال فيها سورتان مكيتان والباقي كله مدني.
سؤال الحلقة
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فضل صلاة الجمع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل ولملائكة النهار في صلاة الصبح
يقول أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم…
ففي أي آية من آيات الجزء الخامس عشر ورد ما تلاه رضي الله عنه؟