سور القرآن الكريم

سُوَرِة الزُّمَر

هدف السورة: الإخلاص لله تعالى

هذه السورة مكّية وتدور حول محور الإخلاص لله تعالى في كل الأمور, وتبدأ بدعوة الرسول r الكريم بإخلاص الدين له وتنزيهه عن مشابهة المخلوقين. كما ذكرت الآيات البراهين على وحدانية الله في إبداعه في الخلق. وشددت على أهمية الإخلاص لله حتى يوصلنا هذا الإخلاص للجنة مع زمرة المؤمنين. وهي سورة رقيقة تذكرنا بأهمية الإخلاص لله تعالى وترك الرياء. والإخلاص يكون في عدة أمور: إخلاص العبادة لله وإخلاص النيّة والإخلاص في كل أمور الدنيا والحرص على أن يكون كل ما نعمله في هذا الدنيا خالصاً لله رب العالمين حتى ننال خير الجزاء ونسعد بالجنة ونعيمها. وقد وردت كلمة الإخلاص ومشتقاتها في هذه السورة 4 مرّات للدلالة على أهميته.

تبدأ السورة (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) آية 2 و3 بالدعوة لإخلاص العبادة لله وأن الدين لله وحده. وكما جاء سابقاً في القرآن (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين) سورة النحل، آية 66، من بين الفرث والدم يخرج لنا اللبن الخالص من الشوائب النقي، كذلك العبادة لله يجب أن تكون خالصة لله مهما أحاطها من زيف الدنيا. و(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي ) الآيات من 11 إلى 14 كلها تدعو لإخلاص الدين لله .

ثم تنتقل الآيات لبيان من أولى بالإخلاص له: الله تعالى أم غيره؟ (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) آية 29 فالحمد لله أنه إله واحد لا شريك له إياه نعبد مخلصين له الدين.

إخلاص العبادة: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) آية 9.

إخلاص التوبة: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) آية 53 و54، استخدام كلمة (أنيبوا) للدلالة على سرعة العودة لله. وذكر الصحابة رضوان الله عليهم أن هذه الآية هي من أرجى آيات القرآن الكريم لما فيها من سعة رحمة الله ومغفرته لذنوب عباده ودعوتهم لحسن الظنّ به وبعفوه عنهم مهما تعاظمت ذنوبهم فهي لا شيء أمام سعة رحمة الله تعالى فله الحمد وله الشكر.

تحذير من الإشراك بالله: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ) 64 إلى 66.

عظمة الله في الخلق تدفعنا للإخلاص له (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) آية 67. وهذه أساس عدم الإخلاص لأنه لو علم العبد قدر الله تعالى لما أشرك معه أحدا من مخلوقاته.

وصف المخلصين في يوم القيامة ومقارنتهم بالكفار. الكلّ يساق زمراً الكفار يساقون إلى النّار: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) آية 71، والمخلصون يساقون إلى الجنة زمراً (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) آية 73 لأن الله تعالى يأبى أن يدخل المؤمن وحيداً إلى الجنة وإنما يدخل قي صحبته الصالحة في الدنيا وكأن هذا الجمع والدخول الجماعي هو ثمرة الإخلاص في الدنيا فالصحبة الصالحة أساسية في الدنيا لأنها تعين على إخلاص العبادة لله وفي الآخرة تدخل أفرادها زمراً لجنة الخلد. فكلّ زمرة تحابوا في الله في الدنيا يدخلون الجنّة سوياً إن شاء الله.

وسميّت السورة بـ (الزمر) لأن الله تعالى ذكر فيها زمرة السعداء من أهل الجنة وزمرة الأشقياء من أهل النار وفي هذا دلالة على أهمية الصحبة في الدنيا فلنحسن صحبتنا في الدنيا عسى الله أن يحشرنا معهم زمراً إلى الجنة اللهم آمين.

تناسب فواتح سورة الزمر مع خواتيمها

قال في أولها: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)) وفي آخرها (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)) قُضي هنا بمعنى حكم وقضاء. الفرق بين الحكم والقضاء أن الحكم قد يكون من الحِكمة أو من القضاء فالحُكم أعم, (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) الشعراء) بمعنى الحكمة (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) مريم) أي الحكمة لأن الصبي ليس حاكماً فيأتي بمعنى القضاء (إن الله يحكم بينهم). ذكر الحكم في الحالتين (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) (وقضي بينهم بالحق).

تناسب خواتيم ص مع فواتح الزمر

قال تعالى في أواخر ص: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)) وقال في الزمر (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)).

سؤال: هل نهايات السور أيضاً توقيفية؟ أي أن السورة انتهت عند هذا الحد أمر توقيفي؟

لا شك، يعرفون ما بين السورتين بالبسملة تبدأ السورة بالبسملة إلا سورة براءة وجبريل  أطلع الرسول r على السور وأسماء السور توقيفية أيضاً كما ورد في الحديث ” افتتح بآل عمران” وقد تكون السورة لها أكثر من اسم “من قرأ سورة الإخلاص” كل ما وصل إلينا من المصحف هو توقيفي لم يتدخل المصطفى ولا الصحابة في شيء وإنما هكذا لقنه إياه جبريل  وحتى القراءات لما أراد الرسول r أن يخفف على عباده أُنزل القرآن على سبعة أحرف كما في الحديث “سألت التخفيف” طلب الاستزادة فقال “نظرت إلى ميكائيل فقال انتهت العدة” ليس للرسول دخل فيها وليس لنا أن نشكك في القراءات. في بعض القراءات يخفف فيقرأها بلغاتهم أحياناً وكلها بإذن الله تعالى وما وردنا من صحيح القراءات المتواترة من صحيح الروايات هذه أقرها الرسول r بإذن من ربه وقرأها جبريل  عليه، هذه القراءات المتواترة عن الرسول r .

تناسب خواتيم الزمر مع فواتح غافر

ذكر في خواتيم سورة الزمر: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)) وفي أول سورة غافر (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)) ذكر المصير، مصير الصالح والطالح ثم قال غافر الذنب الآن جعل المشهد أمامهم “سيق الذين كفروا وسيق الذين اتقوا” والآن موقفكم إليه المصير، (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ) والآن أمامكم فرصة إذا كنتم مذنبين فاستغفروه توبوا إلى الله وإلا فهو شديد العقاب إليه المصير وإلا ذكر المشهد أمامنا. ذكر في الزمر عاقبة الذين كفروا في الآخرة (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا) وذكر في غافر عاقبة المكذبين في الدنيا (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)) إذن ذكر العقوبة في الآخرة في الزمر وفي غافر ذكرها في الدنيا (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)) وقبلها كان الكلام في الآخرة (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا) إذن استكملت المسألة يعاقبهم ربنا في الدنيا ويعاقبهم في الآخرة. قال في آخر الزمر: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)) وقال في أوائل غافر: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)) نلاحظ مشهد تسبيح الملائكة في الدنيا والآخرة ومشهد العذاب في الدنيا وفي الآخرة (وإليه المصير) النهاية. تسبيح الملائكة في الدنيا (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا) وتسبيح الملائكة في الآخرة (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) وذكر عقوبة الكافرين والمكذبين في الدنيا وعقوبة الجميع وخاتمتهم في الآخرة، سورتان مترابطتان.

تدبر سورة الزمر / د. رقية العلواني

تدبر سور القرآن

سورة الزمر كاملة للدكتورة رقية العلواني
تدبر سورة الزمر 1-2
د. رقية العلواني
تفريغ: سمر الأرناؤوط جصريا لموقع إسلاميات

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بدأنا الليلة السابقة من ليالي هذا الشهر المبارك بتدبر السورة التي كان لا ينام النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقرأها هي وسورة بني إسرائيل أو سورة الإسراء، سورة الزمر.
محور السورة الإخلاص، الإخلاص الذي لا يُقبل أيّ عمل من الأعمال دون وجوده في قلب المؤمن. كثير من سور القرآن محورها الأساس هو بناء الإخلاص وهو سرٌ في قلب الإنسان، بين الإنسان وربه عز وجل ولكن الجميل والعظيم في هذه السورة التي خصصت للإخلاص أنها تعلمني كيف أُنمّي الإخلاص في قلبي سواء في التوحيد والاعتقاد أو في العمل ولا بد أن يسبق الإخلاص في الاعتقاد الإخلاص في العمل. والجميل أيضاً أن الله عز وجل ولذلك سميت هذه السورة عند معظم التابعين “سورة الغرف” لأنه قد ورد فيها وصف الغرف والغرف التي جاء ذكرها في آخر السورة سنأتي عليها جعلنا الله من أهلها وردت في سور أخرى ولكن ليس بهذا الوصف الذي جاء في هذه السورة العظيمة.
ورد في البخاري عن وصف الغرف: عن أبي سعيد الخدري قال: “قال النبي صلى الله عليه وسلم إنَّ أَهْلَ الجنَّةِ ليتَراءونَ أَهْلَ الغرفِ مِن فوقِهِم، كما تتراءونَ الكوكبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ منَ الأفقِ منَ المشرقِ أوِ المغربِ، لتَفاضلِ ما بينَهُم قالوا: يا رسولَ اللَّهِ تلكَ مَنازلُ الأنبياءِ لا يبلغُها غيرُهُم، قالَ بلَى، والَّذي نَفسي بيدِهِ ! رجالٌ آمَنوا باللَّهِ وصدَّقوا المُرسَلينَ. الراوي: أبو سعيد الخدري المحدث: مسلم – المصدر: صحيح مسلم – الصفحة أو الرقم: 2831- خلاصة حكم المحدث: صحيح” أهل الجنة يترآؤن أهل الغرف كما نرى النجوم في الدنيا وهذا يدل أن الجنة متفاوتة المنازل، جعلنا الله في أعلاها. التفاضل بين أهل الجنة في المنازل والمراتب. إذا كان أهل الجنة ينظرون إلى تلك الكواكب البعيدة أهل الغرف بهذا البعد والعلو إذن لا يمكن أن تكون هذه منزلة لأحد عادي من البشر فتساءل الصحابة تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بلَى، والَّذي نَفسي بيدِهِ ! رجالٌ آمَنوا باللَّهِ وصدَّقوا المُرسَلينَ، نسأل الله أن يجعلنا منهم. إذن مبدئياً من الأساس التفاضل في الدرجات ما بين أهل الجنة شيء رائع أعلاها أصحاب الغرف والمنزلة ما بينهم وبين أهل الجنة كما ينظر أهل الأرض الآن إلى الكواكب البعيدة عنهم. السؤال جاءت في سورة الزمر تحديداً وسورة الزمر تتكلم عن الإخلاص، صحيح أن الله سبحانه وتعالى لا يُدخل أحداً منا الجنة ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمله ولكن الجزاء من جنس العمل فعندما أطلب أن أكون من أهل الغرف أعلى درجة لا بد أن أوطن نفسي على عمل أهل الغرف، صحيح أني لن أبلغ بعملي ولكني لأن الله وفقني لأعمل شيئاً لا بد، ولذلك من يطلب الحسناء لم يغلها المهر، سيدفع. والذي ينجح بمعدل 50 ليس كمن ينجح بمعدل 98 ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. أنا أوطن نفسي من البداية في سورة الزمر أن المسألة تحتاج إلى مجاهدة نفس وتحتاج أن أهيء نفسي للعمل وهو يسير على من يسّره الله عليه.
أول بناء في بناء الإخلاص أن أتعرف على الله عز وجل ونحن لا نتعرف عليه سبحانه وتعالى إلا من كتابه وآياته المبثوثة في الكون فربي عز وجل يتعرف إليّ بالقرآن ولذلك بدأها فقال (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ثم توالت صفات الله عز وجل حتى يعرّفني، لماذا يعرّفني؟ فلنا أن الإخلاص معناه أن أُخلّص، أن أنقي اعتقادي، عملي، إيماني، لكي أعرف أن أصل إلى مرحلة النقاء عليّ أن أعرف من هو الرب الذي أعبده سبحانه وتعالى الذي لا تدركه الأبصار، لما أريد أن أخلط عملي بالنظر لرؤية الخلق ولممدحة الخلق ولثناء الناس ما الذي ضيعته على نفسي؟! سنجد ما يقابل الإخلاص وهو الشرك الخفي والعياذ بالله، الرياء، أن أبتغي بعملي محمدة الناس، أن أبتغي بعملي نظر الناس إلى ما أقول وهذه كارثة تحلق العمل لأن الله عز وجل أغنى الشركاء عن الشرك لا يقبل أن يشرك به لا في الاعتقاد ولا في العمل. في العمل أريد أن أضرب أكثر من عصفور بحجر أما في الإيمان والعمل لا ينفع ضرب العصافير لا ينفع! ما معنى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) الأنعام) وأنا أتوجه أتوجه إلى الله بعملي بعقيدتي بتوحيدي ولن أتوجه بكلّي إلى الله إلا لما أعرف من الرب الذي أنا أعبده ولذلك جاءت الآيات واحدة تلو الأخرى وأول قضية ذكرناها أنه لا وساطة ولا وسطاء بيني وبين الله عز وجل ليس بيني وبينه إلا أن أقول يا رب وهو قريب يجيب الداعي إذا دعاه وأتوجه إليه بصدق وإخلاص.
ثم توالت الآيات في التعرف على آيات الخلق، ولذلك الآيات التي ستأتي آيات عظيمة (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى (5)) (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)) (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)) إذن أنا عليّ أن أصحح في القلب أصحح في داخلي وفي اعتقاي أن لا أحد يملك لي ضراً ولا نفعاً إلا الله عز وجل وإلا بأمره سبحانه فلما أبدأ أضع الناس في منازلهم لا يهمني شيء عندها وهذا ليس تقليل لاحترام الناس لكن تقليل لوضع البشر الذين هم مثلي، كل البشر، أمراء، فقراء، سفراء، أغنياء، كلهم يشتركون فيما أنا اشترك فيه يمرضون يتعبون، يسقمون، يفتقرون إلى رحمة الله، يموتون، كلهم في ذلك سواء، ليس هناك تفرقة ولا درجات، نحن نضع الدرجات في الدنيا، فلما ربي عز وجل يقدّم لي في هذه الآيات الملك الحقيقي ولذلك جاءت (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)) الملك الدائم الباقي الذي لا يفنى ولا يزول ولا يحول ولا يتغير ولا يتبدل ولا ينقص ولا يتهدد مُلك الله عز وجل ملك حقيقي ليس فقط على وجه التصرف إذن السؤال الآن يأتي التدبر في معاني القرآن: لما تستقر هذه الحقيقة في قلبي أبعد ذلك يتوجه قلبي وتطرف عيني على أحد من البشر أن يمتلك لي نفعاً أو ضراً أو موتاً أو حياة أو نشوراً؟ أو منعاً أو عطاء أو مرضاً أو شفاء؟ لا يمكن لأن الوجه والقلب توجه لمن له الملك الحقيقي سبحانه ولذلك جاءت الآية مباشرة بعدها (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ (7)) لكن في نفس الوقت (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) لماذا؟ لأنه ربٌ خلقنا ويحبنا لا يرضى لنا الكفر ليس لأنه سبحانه بحاجة إلى إيماننا ولكنه لأنه لا يرضى لعباده الكفر، وليس الكفر هنا بمعنى أن أكفر بالله عز وجل عياذاً بالله ولكنه نقيض الإخلاص أن ينصرف قلبي بالاعتقاد أن أحداً من الناس يملك لي ضراً أو نفعاً. هذه قضية خطيرة، هذه في الاعتقاد ليس في العمل. نحن نتعوذ بالله من الرياء ولكننا لا نستطيع أن نغفل – وسورة الزمر تعيد القضية إلى نصابها – أحياناً نغفل، لم نرائي؟ لم نحب محبة الناس؟ لم نفعل لأجل الناس؟ أو أفرح فرحاً شديداً يخرجني عن إرادة العمل عندما يقول عني أحد كريمة أو حلوة الحديث؟! لم؟ خلل في الاعتقاد جاء من تصور أن الناس يملكون لي بطريقة أو بأخرى ضراً أو نفعاً فالسورة من البداية حطّت هذا، لا يستقيم مع الإيمان، لندع الحقيقة تستقر في أنفسنا، ولذلك هذه الآية (لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) الملك لله، كل ما نطلبه وما لا نطلبه بيد الله الواحد القهار فأتوجه لله الواحد القهار، هنا يبدأ التوحيد يتخلص من الشوائب، تسقط عنه الشوائب وللك عندما يقول (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ (3)) منقى من الشوائب كيف ينقى من الشوائب؟ بقرآءة السورة وهنا نفهم لم كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على تلاوتها قبل أن ينام في الليل لأنها تثبت المعاني والخطاب موجود (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (11)) أمر، التزام، الدين هنا التزام مجموع التشريع والأحكام كلها لله ولا تستقيم هذه الالتزامات إلا لما نبني بناء صحيحاً في قلوبنا وليكن رمضان هو البداية.
العجيب في سورة الزمر ومن أعاجيب السور والقرآن كله عظيم وأحسن الحديث يأتينا بالصورة والمقابل النقيض لها وهذا ليس في موضع واحد وإنما في عدة مواضع في السورة (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ (8)) هذا كل البشر مؤمن كافر عاصي مطيع الكل عندما يمسه الضر مسّاً يتوجه إلى الله عز وجل (مُنِيبًا) يعني صدقاً، ما الذي كسر القشة وأصبح هذا القلب القاسي الذي لا يعرف له رب ما الذي جعله يتوجه لله وقت الشدة حتى الملحد الذي لا يعترف بوجود رب (اللادينيين) لما يصاب بشدة حقيقية ورأى الموت بعينيه يقول (Oh my God) ما الذي كسر هذا؟ شعور الإنسان بحجمه الطبيعي، بضعفه بعجزه وأن الملك لله الواحد القهار، انكسر الجحود الذي فيه انكسرت عناصر القوة المزيفة التي كان يتخيل أنه في قوة (ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ (8)) بعض العلماء قالوا في تفسير الآية ليس بالضرورة أنه كان كافراً ثم أصبح مؤمناً ثم مشركاً ولكن الكلام عن الإخلاص، ساعة الشدة يدرك تماماً أن لا أحد ينقذه ساعة الشدة إلا الله عز وجل مهما عرف من الناس الوجهاء القريبين والبعيدين لا يملكون له شيئاً فيتوجه إلى الله عز وجل وحده لا شريك له. بعدما تنتهي النعمة (خَوَّلَهُ نِعْمَةً) نلاحظ دقة اللفظ القرآني وإعجازه في كلمة (خَوَّلَهُ) يعني أعطاه جزء من حرية التصرف في شيء، ما أعطاه نعمة، وهكذا عطاء الله اختباراً منعاً وعطاء فإذا خوّل النعمة نسي ما كان يدعو إليه ورجع للأنداد والأنداد هنا ليست بمعنى الأصنام وليست بمعنى الشرك والطواغيت ولكن بمعنى أنه لا يتوجه بالإخلاص بقلبه لله يرجع لما كان عليه يعتقد أن فلاناً يملك له ضراً وفلان يملك له نفعاً، رزقه بيد فلان وعطاء بيد آخر وبالتالي ولذلك يتوجه قلبه مرة على فلان ومرة على فلان، عينه معلّقة برضى فلان وبغضب فلان فيصبح مشتتاً كما سيأتي عليه المثل في الآيات التي تليها، هذه صورة لإنسان غير مخلص.
أما الإنسان المخلص الذي طبّق الإخلاص في حياته كيف هو؟ السؤال كان هل توجهي لله وقت السراء كما هو في وقت الضراء؟ وليس المقصود في وقت الدعاء فقط لكن أين قلبك؟ هل قلبك وإنابتك لله في حال الرخاء وفي حال الفرح والسعادة كما هو في وقت الشدة والإحساس بالعجز؟ أم لا؟ هنا نكتشف درجة الإخلاص. هذا سؤال مهم لأنه هو المحك الذي نعرف به درجة الإخلاص التي لا يملك أحد من الناس قياسها لأنها سر بين العبد وربه، إذن كيف أعرف إن كنت مخلصة أم لا؟ بهذا الاختبار.
(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ (9)) لم يمر في شدة لم يمر في محنة لم يمر في فقر أو مرض أو في المستشفى، هو يعرف الله في الشدة كما يعرفه في الرخاء، يعرفه في الأفراح والدنيا مقبلة عليه والأعراس لأن البعض في الأفراح ينسى كل شيء! يبدو من الصخب والمزامير والطبول ينسى الدنيا وكأن حياته هي هذا العرس الذي لا يدوم إلا سويعات في عمر الزمن والله عز وجل وهو الملك وهو أغنى الشركاء عن الشرك يحب العبد أن يسأله في الرخاء كما يسأله في الشدة، لك أن تخيلي وأنت في وسط العرس والفرح تقولين بقلبك يا رب اغفر لي وارحمني، اذكريه حين يغفل عن ذكره الغافلون!
الإخلاص الذي تربيه في قلبي سورة الزمر يبني في قلبي أن يكون القلب معلقاً بالله عز وجل. ولذلك استحق جزاء الغرف. والغرف ليست كباقي المنازل وفيها يتنافس المتنافسون. (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) ليس عنده طلب محدد أن يكشف الله ما به من ضر هو كل الذي يهمه أنه يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، هذه كل أمنيته وقدّم يحذر الآخرة على ويرجو رحمة ربه بخوف، يعيش في قلقل، يعمل العمل وهو غير متأكد هل قبل الله تعالى منه أم لا؟ يحمل همّ قبول الله لعمله. كم مرة نحن نحمل همّ إن كان ربي تقبل مني أم لا؟ كم مرة ندعو الله عز وجل ونلح على ربنا أن يتقبل منا دعاء المضطر لا دعاء من له حاجة طالب المصلحة الذي يدعو وقت حاجته وعندما تنقضي يتوقف! لا، أصحاب الغرف شيء آخر، هذه أولى عباداتهم. وتختم الآية بقوله سبحانه وتعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (9)) من يصل إلى هذه الحقائق؟ أصحاب العقول الموزونة الكبيرة التي تعرف أن تفرّق بين الزائل الفاني الذي لا يساوي فلساً الدنيا بمتاعها وبين الباقي الذي لا زوال بعده. نحن في الدنيا اعتدنا أن نشتري وندفع الأموال في أشياء نريدها أشياء زائلة ونحن نريد أن نشتري في الآخرة، فلنقارن وسورة الزمر مقارنة، نحن نريد أن نشتري غرفة من هذه الغرف والشراء في الآخرة ليست نقداً وإنما دفعها أعمال قلبية توحيد، أدفعه من قلبي، من نفسي من مراقبتي لله بقلبي والله هو الغني سبحانه وتعالى عنا وعن أموالنا فالمال ماله هو أعطانا إياه لكن الكلام هنا عن القلب عن الإخلاص عن التوجه بالعمل لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
ثم انتقلت الآية (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)) يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب والكريم لما يعطي يعطي بلا حساب!. الإخلاص يحتاج لصبر ومجاهدة نفس، النفس تحب أن تُمدَح وتحب أن ترى نفسها، وتحب أن يقال عنها كل شيء جميل ويعجبها أن تكون في منزلة جميلة والناس لا تنتقدها ويقولون عنها كل أمر طيب، هذه ليست مشكلة لكن تبدأ المشكلة عندما يتعارض هذا مع ما يرضي الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة وقومه أسموه الصادق الأمين وامتدحوه يستشيرونه ويأتمرون بأمره ولكن بعدما جاءت الرسالة وقال ما لم يعجبهم قالوا عنه ساحر وكاهن ومجنون وتقوّل علينا بعض الأقاويل! السؤال في مثل هذه الحال، انظر الموازنة: رضى الله أو رضى الناس؟! لذلك جاءت الآية (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا) الخطاب في السورة ليس فقط للنبي صلى الله عليه وسلم والسورة مكية وإنما خطاب عام (اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) الأرض التي لا تعلمك ولا تعطيك فرصة أن تكون مخلصاً لله فأرض الله واسعة لا تضيق بأهلها ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ضاقت فيه بلده مكة التي يحبها هاجر لأن الحق أغلى من مكة، هذا الإخلاص، وفي النهاية (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ).
ولذلك تأتي الآية بعدها (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴿١١﴾ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ﴿١٢﴾ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿١٣﴾ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ﴿١٤﴾ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) حوار لنا جميعاً لأن هذا القرآن باق ولا يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم لوحده، القرآن يخاطبني اليوم، قد يقول قائل لم يعد هناك أصنام وأوثان والكل موحدون والكل يصلّون والحمد لله. ولكن الكلام القاطع الفصل في الآية قولوا عني ما شئتم لكن في النهاية قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه، تحدي وقوة! من أين جاءت هذه القوة؟ هو صلى الله عليه وسلم فرد قال فيه الله سبحانه وتعالى (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) الكوثر) النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده ولد فعيّرته قريش أنه أقطع حاشاه فأنزل الله عز وجل الآيات (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) الكوثر) من أين جاءته صلى الله عليه وسلم هذه القوة؟ الرب عز وجل الذي يعبده وأخلص له العبادة عزيز قهار حكيم عليم له الملك فأنى تُصرفون. من يعبد مخلصاً له الدين؟ يعبد الغش والكذب أو الصدق الذي يراه (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ (33))؟ المؤمن عندما يُخلص العبادة لله تصبح عنده قوة يمكن أن تحرّك الجبال! ربما الأسباب المادية محدودة فمن أين تأتيه كل هذه القوة؟! من يقينه بأن الرب الذي يُخلص له العبادة كلما أخلص له العبادة كلما سانده ولو حاربته الدنيا كلها لأن السند هو العزيز القهار وسيظهر من ينتصر في النهاية. الإخلاص ليس شارة أضعها أو شعار أضعه وإنما هو سر بيني وبين الله ولذلك المفروض في هذه الأيام أن نكثر ونلحّ في الدعاء: اللهم اجعل سرّي خيراً من علانيتي. فكما نتزين أمام الناس يجب أن نعدّل سرّنا أمام الخالق، سرّي يراه ربي سبحانه وتعالى فلنعدّل سرائرنا بالتخلص مما لا يحبه الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كابرنا ولم نحاسب أنفسنا الآن وانشغلنا فقط بعدّ الركعات التي نصليها ركعة بعد ركعة وتسبيحة بعد تسبيحه لكن لا بد أن تقودني عبادتي هذه إلى تطهير السر الذي ينظر الله عز وجل إليه النقاوة والطهارة التي يراها الله عز وجل إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم والإيمان والإخلاص في القلب فإذا نظر الله عز وجل إلى قلب أحد فلا يرينّ فيه سوى الإيمان به والاعتقاد به والتوحبد به إلهاً واحداً لا إله إلا هو.
ثم تأتي الآية (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)) قد يعرَّض المؤمن أو المخلص إلى خسران أشياء كثيرة مادية في الدنيا يمكن أن يخسر تجارة كما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم في البداية، خسر مكة أول الأمر وبعض المسلمين وأغنى الأغنياء منهم خسر تجارته وماله وأهله وخرجوا وتركوا كل شيء فخسروا بمعدل الربح والخسارة ولكن هذا ليس الخسران الحقيقي فالخسارة الحقيقية يوم القيامة. إذن المخلص حتى يترقى في درجة الإخلاص عليه أن يتجافى قليلاً عن دار الغرور الدنيا ويعلق نفسه قليلاً بالآخرة. نحن إشكاليتنا هذا التعلق الممقوت بالدنيا، نحن نحب الدنيا! إياي أن أحبها لأجلها هي فهي لا تستحق، إن أحببتها أحبها لأجل أن أستزيد من العمل ولذلك جاء في الدعاء الصحيح (أحييني ما علمت الحياة خيراً وأمتني ما علمت الوفاة خيراً لي) أنا قلبي ليس متعلقاً بها، علي أن أدرك وأستحضر أن الحياة الحقيقية هي هناك إن أردنا أن نكون من أهل الغرف. الغرف أعلى مرتبة وهي في الفردوس الأعلى.
في المقابل والعياذ بالله، سورة الزمر تعرض لي أمثلة متقابلة، الشيء وعكسه، الغرف فوقها غرف يعني هي درجات وطوابق وفي نفس الوقت والعياذ بالله أهل النار لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل من النار (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)) الإنسان يستوحش لما يرى الصور المتقابلة وفي نفس الوقت يفكر في العمل فتأتي صفات عمل أهل الغرف.
ومن مواصفات أهل الغرف الأخرى (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)) اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله، ورد ذكر الطاغوت كثيراً في القرآن منها في سورة البقرة (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) البقرة) بعض الناس يعتقد أن الطاغوت صنم، حجارة، فطالما الآن ليس هناك أصنام فالحمد لله! ابن القيم عنده كلام جميل في معنى الطاغوت أنه كل ما طغى وتجاوز الحدّ الذي وضعه الله كما ذكر في عدد من الآيات (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا (229) البقرة) (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا (187) البقرة) فكل ما يتجاوز الحدّ طغى ولذلك جاء في الآيات (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) العلق) يتجاوز الحدّ (أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7) العلق). فيقول ابن القيم: طاغوت كل قوم من يتبعونه على غير بصيرة أو يطيعونه بما لا يعلمون وبما يعلمون أنه معصية لله عز وجل (كلام مخيف ويدل على أن الطواغيت كثيرة وأن الطواغيت لم تنتهي) ثم يقول: ولو تأملت أحوال الناس اليوم لرأيت أكثرهم عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت وعن التحاكم إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى التحاكم إلى الطاغوت وعن طاعته طاعة الله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته. وأصحاب الغرف ليسوا أنهم لم يتبعوا الطاغوت فقط وإنما اجتنبوا كل ما يمكن أن يقرّب من الطاغوت بكل تأثيراته الفاسدة. فلنحدد أسماء لطواغيت قد تكون شيئاً أو مؤسسة أو تلفزيون أو أي شيء، كل ما يمكن أن يتبع غير الله ويطيعه في غير الله صار طاغوتاً يُعبد فقد لا ينتبه الإنسان لنفسه فالمال قد يكون طاغوتاً والشهرة يمكن أن تكون طاغوتاً وأشياء كثيرة مختلفة فعليّ أن أنتبه. فأصحاب الغرف اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ولذلك بعض العلماء فسروها (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا) لا يعني سجدوا وركعوا لها عبدوها بطاعتهم لها، تتحكم في حياتهم، يتحكم الطاغوت في حياتي كما يحصل عندنا هوس أحياناً في أمر يتحكم بنا قد يكون أشياء مختلفة طغى وتحكّم. ليست المسألة في أن الله عز وجل يحرّم الزينة (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ (32) الأعراف) الإشكالية حين تصبح زمام القلب الذي يفترض أن يكون خالصاً لله، بدل أن ينجر ويُحكم بحكم الله أصبح يُجر بحبل وراء أشياء مختلفة من أهواء الدنيا، إعلام، مسلسلات، أشياء مختلفة! فهؤلاء أهل الغرف اجتنبوا ومعنى الإجتناب أنهم لم يكتفوا فقط بالابتعاد لكن فوق الابتعاد فعلوا شيئاً آخر وهو أنهم حاولوا أن يوقفوا طغيان هذا الذي قد طغى بطرق لطيفة، على سبيل المثال بناتنا ونساءنا لو سمعت كلمة سيئة أو شيء سيء لا تكتفي فقط أن تكرهيه بقلبك لأن الاجتناب مراحل يبدأ بالقلب أن أكره هذا الشيء ولكن إحدى المراحل الأفضل مواجهة الشر بالخير، أطفئ النار بالماء، أطفئ الشر بالخير وبالمعروف، أطفئ الكلمة السيئة بالكلمة الحسنة الطيبة، أطفئ الفساد بالصلاح وبالتالي يحضرني الآن مثال هذه الآيام الإعلام في رمضان يشدّ كل الوسائل التي عنده بقده وقديده ويخرج لنا بأشياء مختلفة وقد لاحظت هذه السنة تحديداً حملة شعواء على القيم والأخلاق التي كان لا يجرؤ في السابق أن يرمز لها رمزاً لكنه اليوم تجرّأ ولذلك أصحاب الغرف اجتنبوا الطاغوت حتى لا يدعوا له مجالاً أن يمتد. والطاغوت سمي طاغوتاً لأنه كلما يزيد يزيد أكثر، هناك مسلسلات وبرامج بدأت تتكلم عن العلاقات غير المشروعة بشكل لطيف وتعرض على أسماع بناتنا وشبابنا ويصورون أن هؤلاء الناس أبطال ويصورونهم على أن عندهم جمال ولكن كل ما فيهم غير مشروع وغير شرعي وضد القيم، ارتكس في النفس وإن كرهته لأن النفس تربط بين العين وبين القيمة. السؤال هل أصحاب الغرف يتفرجون على هذا؟ ما كانوا نالوا الغرف يوم القيامة! ما المطلوب منا؟ لا بد أن يكون هناك إعلام مضاد، لا بد أن يكون بقدر ما يرمي من سموم لا بد من الخير لأنه في النهاية الزبد لا بد أن يذهب جفاء وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض وهذه حقيقة لأنه مخالف للفطرة لكني أحتاج أنا كإنسان أن يكون عندي صوت وصوت مسموع لأجل أن يصل ولأجل أن يكون هناك إبداع وجمال. يعجبني الكارتون رأيت برنامجاً جميلاً يعرض قصص من القرآن بطريقة لطيفة فإذا أعجب الكبير سيعجب الصغير، أنا لا أؤيد ولا أدخل في تفاصيل ولكن القصد أن الإنسان لا بد من أن يبحث عن البدائل ويقدّم البدائل ولا يكتفي بأن يكره ما يراه ويجري، أصحاب الغرف ليسوا سلبيين وليسوا عالة على مجتمعاتهم هم أناس مبادرين يقدّمون البديل قبل أن يتكلموا.
ومن صفاتهم أيضاً في المقابل (وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ) ولنقارن بين الإنسان الكافر والمؤمن لما قال (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ) وبين المؤمن (وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ) الفرق بينهما كبير لأن الكافر أناب إلى ربه لأنه شعر بالضعف والعجز والمؤمن أناب إلى ربه لما شعر بالحق وأراد أن ينتصر إلى الحق، هو دائم الإنابة إلى ربه. وهنا يظهر معنى الإخلاص ومعنى العلاقة بين العبد وربه في الاعتقاد الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى وهو روح كل شيء في حياتنا، هو المقصد والأساس وخاصة في هذه الأيام العظيمة عندما ندعو الله عز وجل ونناجيه في سرّنا ودعونا من كل قلبنا فخشع قلبنا وسمعنا وبصرنا وبكينا فهذه الدمعة قيمتها عند الله عز وجل عظيمة وتعدل الكثير فعلاقة المخلص مع ربه عز وجل ليست علاقة كمّية وإنما علاقة نوعية قائمة على الإخلاص ولذلك (لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ) والبشرى قال فيها العلماء والمفسرون أشياء كثيرة، قد تكون في الدنيا وقد تكون بشارات من الرؤى الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له كما في الحديث الصحيح ويمكن أن تكون بشرى الملائكة حين تتلقاه (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا (12) الحديد) هذه كلها بشرى وبالتالي هل العمل الذي يقوم به الإنسان ويتعب فيه في الدنيا يزول بمجرد البشارة! لنتخيل لثواني الإنسان وهو يفارق الدنيا والناس من حوله يبكون عليه وهو في عالم ثاني مستأنس لأن الملائكة تتلقاه ويرينه مكانه وقصره وجناحه فهل سيفكر بما رآه في الدنيا؟! وهل يفكر بالتعب الذي رآه؟! لماذا نحن نتعلق بالدنيا كثيراً ولا نحب الآخرة؟ لأننا نخاف، نربط الأمور بالوحدة وبأشياء أخرى وتراثنا الشعبي صوّر لنا الموت على أنه وحشة وتعب وضنك ووحدة وألم بينما القرآن يعرّفني بالصورة الأخرى لمن أخلص لله العمل.
ومن أروع صفات أهل الغرف (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) القول هو القرآن (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ (68) المؤمنون) القول هو القرآن، القرآن كله حسن فهل هناك حسن وأحسن؟ ربي عز وجل من رحمته بنا يعرف طاقتنا فهو خلقنا يعرفنا لا يكلف نفساً إلا وسعها ويعرف أننا لن نذهب جميعنا إلى الغرف وأدنى إنسان في الجنة منزلة ملكه يعدل ملك سبعين ملكاً في الدنيا كما جاء في الأحاديث الصحيحة لكن الإشكالية في صاحب أدنى منزلة أنه لما ينظر إلى أهل الغرف لا يشعر بما عنده فيتحسر لأن الفرصة كانت أمامه! نضرب مثالاً أولادنا أول ما يأخذوا درجاتهم يفرحون لكن عندما يرى زميله أعلى درجة منه فلا يشعر بلذة النجاح كثيراً وهذه طبيعة النفس. المشكلة أنه في الجنة انتهى وقت للعمل ولا رجعة فالإنسان لا بد أن يعمل لأن القرآن مبني على العمل وأهل الغرف (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ). كيف يتبعون أحسنه؟ على سبيل المثال قال الله عز وجل في سورة البقرة (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ (179) البقرة) واحد قتل آخر فيجوز لأولياء المقتول أن يقتلوه لأولياء المقتول (القصاص) أن يطالبوا بدم القاتل وهذا حقهم المشروع كتبه الله سبحانه وتعالى ومكتوب في القرآن، لديهم خيار آخر وهو أن لا يقتلوه وإنما يأخذون الدية وهذا أيضاً في القرآن ولهم درجة أعلى وهي درجة أصحاب الغرف (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ (40) الشورى) فهؤلاء أصحاب الغرف لا يتبعون فقط الشيء الحسن الموجود في القرآن بل الأحسن. أليس هذا صعباً أن ترى قاتل ابنك أمام عينك يمشي وتعفو لوجه الله عز وجل، العقيدة تتحول إلى عمل. كيف يمكن أن يتولد هذا عند الإنسان؟ عندما يعمل الإخلاص عمله في القلب فيبدأ الإنسان يتيقن أن ما عندكم ينفد وما عند الله باق والكلمة واضحة (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ (100) النساء). (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ (1894) البقرة) يمكن أن يعتدي عليك أحد بكلمة فتردين لها بكلمة لكن الأحسن أن تدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم في غير ضعف، في غير خنوع في غير ذلّة هو قادر على أن يرد الإعتداء لكنه لا يرد لأنه يتبع التي هي أحسن (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (34) فصلت) هؤلاء هم أهل الغرف لأن المسألة فيها مجاهدة، عندهم اختيارات لكنهم يختارون الأحسن. وقس على هذا كل شيء في حياتك، عندك ديناران وبإمكانك أن تخرجي أحدها وتبقي الآخر وتجدين لهذا ألف فتوى وأغلبها يقول لك تصدقي بدينار واتركي لك ديناراً لكن أنت في يوم من الأيام أردت أن تتبعين الأحسن فتنفقينها كلها. (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) العلاقة مع القرآن استماع والاستماع ليس معناه سماع وإنما سماع باهتمام يعني لما تأتيني الآية أنا مستعدة لأن أتلقاها (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) في كل شيء، في لبسك في قولك في فعلك في كلامك تنتقي كلماتك لأجل أن تبحثي عن الأحسن، لمن هذا كله؟ لله الواحد القهار. لا بد أن يكون لله الواحد القهار لما أترك لبس شيء يعجبني لأنه لا يتناسب مع اللبس الذي أمر الله سبحانه وتعالى به أو أشياء أخرى متعددة بينك وبين نفسك، هذا كله لله الواحد القهار وضعي في بالك قاعدة ختمت بها الآية (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).

وقفات تدبرية رمضان 1442هـ-/ أ سمر الأرناؤوط

🔸سورة الزمر سورة الإخلاص التام لله عزوجل، سورة تعلم كل مؤمن داعية إلى الحق أن أخلِص تُخلَص..

تعلم من الزمر العظيمة في السورة أن تكون موحدا لله،  شاكرا عابدا في السراء  والضراء على حد سواء، قانتا لله ساجدا وقائما تحذر الآخرة وترجو رحمة ربك متقيا صابرا تخشى الوقوع في المعاصي وتخشى عذاب يوم عظيم، تتجنب عبادة وطاعة طواغيت الجن والإنس، ذا لبّ قد أبصرت حقيقة الدنيا فما تعلّق قلبك بها، مسلما، ليّن القلب لا قاسيا جلدك خاشع يقشعر من خشية الله يلين لسماع كتابه، مهتديا صادقا موقنا أن الموت نهاية كل حيّ (إنك ميت وإنهم ميتون)

📮رسالة السورة للداعية: كن قانتا لله لا قانطا من رحمته ولا مقنّطا من تدعوهم فإنك تدعو لرب يغفر الذنوب جميعا لأنه الغفور الرحيم.

هذا والله أعلم

#رمضان_١٤٤٢

#وقفات_تدبرية

#الجزء_٢٤

سورة الزمر مقدمة لمجموعة سور آل حم المفتتحة بـ(حم) وعددها 7 تبدأ من غافر إلى الأحقاف، الزمر تبني الإخلاص والتوحيد في القلوب وهو أصل زاد الداعية إلى الله عز وجل. وتليها مجموعة آل حم التي برز فيها التنويه بالقرآن الكريم وافتتحت به فالقرآن هو منهج الحق وهو سبيل الدعوة ومقوماتها وزاد كل داعية يستقي منه ما يحتاجه وكل سورة تبين وجها من وجوه إعراض المدعويين عن قبول الدعوة وتعطي الداعية الأسلوب الأنجع في الدعوة.

🔸سورة الزمر ركزت على إخلاص التوحيد لله عزوجل من خلال حال الناس مع موضوع التوحيد ينقسمون فيه إلى زمر، هم بين مؤمن مصدّق مهتدي قانت لله يرجو رحمة ربه ويخشى الآخرة ويعمل الصالحات وبين كافر مشرك مكذّب ضالّ قانط من رحمة ربه لا يحسب للآخرة حسابا ويكتسب السيئات وفيها أرجى آية في القرآن التي فتح الله تعالى باب التوبة لعباده (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) وختمت السورة بمشهد المخلصين الموحّدين المتقين يساقون إلى الجنة زمرا ومشهد المكذبين الكافرين يساقون إلى جهنم زمرا، كلٌ قد جزاه الله تعالى على ما آمن به وبما قدّم لآخرته لا يظلم ربك أحدا.

فالداعية يدعو الناس بإبراز انقسام الناس فريقين (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق) ويبين لهم مواصفات كل فريق على شكل مقابلات توضح لكل عاقل أن النجاة في اتباع فريق المؤمنين الناجين والخسار كل الخسار في اتباع المكذبين الكافرين، ترغّب الذي يريد الإيمان بالمغفرة والجنة وتهدد من يعاند بعذاب شديد. وهذا الأسلوب في الدعوة قد يجد له صدى عند من تنفعه التذكرة والتذكير أو يكون مترددا في قبول الدعوة لم يحسم أمره والله أعلم.

التفسير المباشر – 1432 هـ – سورة الزمر

الحلقة 133 – 9 رمضان 1432 هـ

ضيف البرنامج في حلقته رقم (133) يوم الثلاثاء 9 رمضان 1432هـ هو فضيلة الشيخ الدكتور حاتم بن عابد القرشي الأستاذ المساعد بجامعة الطائف .

وموضوع الحلقة هو :

– علوم سورة الزمر . .

– الإجابة عن أسئلة المشاهدين .

د. الشهري: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسلمياً كثيراً إلى يوم الدين. حياكم الله أيها الإخوة المشاهدون في كل مكان في هذه الساعة القرآنية مع برنامجكم اليومي التفسير المباشر. ضيفنا في هذا اللقاء هو فضيلة الشيخ الدكتور حاتم بن عابد القرشي أستاذ الدراسات القرآنية المساعد بجامعة الطائف ومدير الاشراف على ملتقى الانتصار للقرآن الكريم في ملتقى أهل التفسير. سوف نتحدث في هذا اللقاء حول سورة الزمر

د. الشهري: تحدثنا أمس عن سورة ص واليوم سنتحدث بإذن الله عن سورة الزمر والمفترض أن نركز على هذه المسألة وهي قضية المناسبات بين السور حتى يعرف المشاهدون أن هناك تناسب بين السورة التي قبلها والسورة التي بعدها فلعلنا نسلط الضوء على التناسب بين سورة ص وسورة الزمر.

د. حاتم: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد. هناك ارتباط بين سورة ص السابقة وسرة الزمر التي معنا اليوم والتناسب الذي بين السورتين يقع من عدة أوجه هناك ما هو لفظي وما هو قائم على موضوع. ختمت سورة ص بقول الله عز وجل (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) بينما افتتحت سورة الزمر (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) إذن ختمت سورة ص بذكر القرآن وافتتحت سورة الزمر بذكر القرآن هذه مناسبة لفظية في ارتباط الكلمة ومن ناحية الموضوع لإي أنه تكلم عن القرآن وهنا يبتدئ بالكلام عن القرآن وعظيمة القرآن. من وجه آخر سورة ص قامت على دعوة الكفار للتوحيد وسورة الزمر موضوعها يقوم على التوحيد فهذا ارتباط بين موضوع سورة ص وموضوع سورة الزمر. ومن جهة أخرى ذكر في نهاية سورة ص قصة خلق آدم وفي الزمر ذكر لخلق البشرية من نفس واحدة وخلق منها زوجها.

د. الشهري: هذه دعوة للمشاهدين إلى التأمل في المناسبات بين السور السابقة واللاحقة أحياناً بل دائماً يكون بينها تناسب لكن أحياناً يكون التناسب ظاهر يدركه المتأمل بأدنى تأمل وقد تكون مناسبة خفية تحتاج إلى تأمل وتدبر.

د. الشهري: اسم السورة الزمر هذا هو الاسم الذي نعرفه مكتوب في المصاحف هل لها أسماء أخرى؟

د. حاتم: هي عرفت بسورة الزمر وهذا الاسم الأشهر لها ولها اسمان أيضاً سميت بسورة الغُرَف وسميت تنزيل. أما في ارتباط الاسم بالمسمى فسورة الزمر قيل لها الزمر والزمرة هو الفوج من الناس المتبوع بآخرين وذكر في السورة في قول الله عز وجل (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا) بعد ذلك ذكر حال المؤمنين وأنهم زمرا. فالزمر الفوج من الناس الذي يتبعه فوج آخر. والاسم الآخر الغرف لذكر الغرف في السورة (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ) وأما سورة تنزيل فإنه سميت بهذا لمطلعها (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) لكن الثابت والمعروف والذي هو موقوف على النبي صلى الله عليه وسلم ومن زمن الصحابة أنها سورة الزمر هذا هو الاسم الأشهر بدليل ما سيأتي معنا في فضل السورة.

د. الشهري: متى نزلت هذه السورة؟

د. حاتم: سورة الزمر نزلت كما قدر بعض أهل العلم في السنة الخامسة للهجرة وهذه مسألة اجتهادية لأنه بناها أهل العلم على قوله (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) فقالوا نزلت قبل هجرة الصحابة إلى الحبشة فلذلك قيل في السنة الخامسة للهجرة. قطعاً هي سورة مكية نزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الذي عليه أكثر أهل العلم أنها سورة مكية وبعض أهل العلم قال فيها آيات مدنية وذكروا (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أنها نزلت في المدينة والصحيح أنها مكية وأن ما ذكر في القصص مناسب لمعاني هذه الآيات ولكنها نزلت كلها في مكة.

د. الشهري: أحياناً تجد بعض الذين كتبوا في علوم القرآن مثل السيوطي في كتاب الاتقان أو الزركشي عندما يقول وهي كلها مكية إلا قول الله تعالى كذا وكذا والصحيح أنه لا يستثنى آية من سورة مكية أو العكس من سورة مدنية إلا بدليل واضح وصحيح أما مجرد أن موضوعها تتناسب مع موضوعات السور المكية أليس هذا صحيحاً؟

د. حاتم: بلى

د. الشهري: نعود إلى موضوع السورة الأساسي

د. حاتم: لو أذنت قبل ذلك نذكر فضل السورة لأنه مرتبط بالاسم والتوقيف من زمن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج الترمذي عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام على فراشه حتى يقرأ بني إسرائيل والزمر، وهذا حديث صحيح. بني اسرائيل سورة الإسراء فيه فضيلة لهاتين السورتين أن النبس صلى الله عليه وسلم كان يقرأهما قبل المنام وأيضاً فيها ذكر لاسم السورة والنص عليه من عائشة وهذا لا شك دليل على اشتهار الاسم.

د. حاتم: موضوع السورة يقوم على التوحيد ولا شك هو أعظم مطلب ومقصد بعثة الرسل فقامت السورة على التوحيد وذكر التوحيد إما بالأمر المباشر للعباد بأن يوحدوا الله بتوحديد الألوهية وتوحيد الربوبية أو بالأجر العظيم الذي سوف يترتب على اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم والتوحيد وذكر حال المؤمنين والكافرين وضرب الأمثلة للمسلم والمشرك الذي فيه شركاء متشاسكون ذكر فيه من أدلة التوحيد البراهين التي تبرهن على وحدة الله في خلق واستحقاقه للعبودية والألوهية وذكر حال الفريقين المؤمنين والكافرين وختمت السورة كلها بذكر الفريقين الذين يساقون إلى الجنة ويساقون إلى النار

الموضوع يقوم على التوحيد وارتباطه ما بين أول السورة وآخر السورة هو لا شك أنه ظاهر، فمثلاً الله عز وجل ذكر في أول السورة قال (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) فهذا الكتاب المقصود به القرآن الذي نزل من الله العزيز الحكيم قال في منتصف السورة (إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) أيضاً تكرر إنزال الكتاب والتذكير بالكتاب. في مطلع السورة يقول عز وجل (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) هذه أول إشارة للإخلاص إخلاص الدين لله عز وجل وهذا هو مقتضى التوحيد أن يوحد الله عز وجل ولا يكون له شريك في العبادة ولا تخالط النفس نزعات الرياء أو العجب أو الغرور أو ما شابه مما يختلط بالتوحيد فيدنس التوحيد فالذي ينبغي أن يكون مخلصاً أي خالصاً من كل الشوائب لله عز وجل لأنه هو الذي يستحق هذه العبودية

د. الشهري: ألا يمكن أن يقال أن الموضوع نفس التوحيد لله تعالى الإخلاص لله سبحانه وتعالى ويكون الإخلاص يشمل كل العبادات أم أنك ترى أن موضوع التوحيد أشمل من الإخلاص؟

د. حاتم: الأشمل لا شك أنه كلمة التوحيد لأن السورة تتنزل في حال الكافرين ودعوتهم للتوحيد فهذا أشمل ولا شك إذا نزلنا درجة للخطاب للمؤمنين فلا شك أن الخطاب يتوجه لهم بالإخلاص

د. الشهري: وأذكر كتاب للشيخ صديق خان الغنوجي رحمه الله سماه الدين الخالص من هذه الآية.

د. حاتم: الله عز وجل يقول (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) قال في الآية بعدها (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) تكررت خالص ومخلص تكررت في السورة في أربعة مواضع وهذا دليل على أهمية أن يكون التوحيد لله عز وجل لأنه ذكر بعد ذلك نقيض هذا الأمر فالله عز وجل عندما أمر مباشرة بالإخلاص قال (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) لا يكون هناك شركاء لا يكون هناك ما يدخل فيه محبة ينازع محبة الله أو ينازع في الخشية فذكر النقيض، أولاً قعّد هذه المسألة (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) ثم ذكر النقيض (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى), هذه حجتهم (لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) أي يقربونا إلى الله قربى، هم يقرون بتوحيد الربوبية أن الله خلقهم ورزقهم لكن اتخذوا هؤلاء ليقربونهم إلى الله وسائط بينهم وبين الله وهذه حجة قديمة وحدية حديثة أيضاً فالله عز وجل يلومهم على هذا الأمر، الله عز وجل يقول (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2) َلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ (3)) وهم يتخذون هؤلاء ليقربونهم إلى الله والله عز وجل غني أن يجعل بينه وبين العبد أي واسطة

د. الشهري: أعجبتني كلمة لأحد الزملاء الدكتور خالد الدريس زميلنا في الكلية في جامعة الملك سعود يقول في أحد حلقات برنامجه “التفكير” يقول إن الشرك بالله سبحانه وتعالى خلل فكري الآن هؤلاء عندما يقولون “ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى” لماذا لا تعبد الله سبحانه وتعالى مباشرة دون وسائط؟، وللأسف هذا الاعتقاد موجود الآن والبعض يظن أننا عندما نتحدث عن الأصنام والمشركين نتكلم عن تاريخ مضى لكن أنت شاهدت في الهند ورأيت الأصنام تصنع بشكل وهناك أسواق خاصة ومحلات خاصة تذهب تشتري صنماً بأي مقاس تحتاجه حسب المكان الذي عندك ثم تعبده دون الله تعالى، منتهى الاختلال في التفكير!

د. حاتم: هذه فعلاً مثل ما تفضلت شبهة قديمة وحديثة فالناس كانوا سابقاً عندما كانوا كفاراً في أول البعثة كانوا يشركون بالله بالصنم مع أنهم أناس بعضهم قد أوتي العقل لديه العقل والنبي صلى الله عليه وسلم شهد لبعضهم بالعقل وفي معركة بدر عندما اصطف المشركون والمسلمون يقول النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى صف الكفار قال إن كان فيهم خير فمن صاحب الخيل الأحمر يقصد عتبة بن ربيعة لأنه كان فيه رجاحة في العقل لكن ما هُدي إلى التوحيد لأن المسألة ليست قائمة على العقل فقط فالدين استسلام لله عز وجل والهداية هي منحة إلهية يقذفها في قلوب العباد والله أعلم بمن يصلح لهذا الأمر

د. الشهري: ولذلك تأمل في كبار المشركين الذين أسلموا وهداهم الله تعالى إلى الإسلام كيف نفع الله بهم الاسلام بعد ذلك مثل عمر رضي الله عنه كان شديد العداوة لكن عندما أسلم أصبح من كبار الصحابة رضي الله عنه وكذلك معاوية وأبو سفيان والده وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص كانت عقولهم في غاية الرجاحة، عمرو بن العاص كان يعتبر من دهاة العرب لما أسلم نفع الله به وقاد مصر فترة طويلة وهو أكير على مصر

د. حاتم: هذه الشبهة التي كانت في بداية البعثة هي شبهة حادثة وقائمة الآن في بعض الدول التي يقام فيها الأضرحة والمشاهد التي تطاف وتعبد من دون الله، هذا الذي يدعو هذا القبر هو يعلم في حقيقة قلبه أنه لن يجيبه ولن يحقق مطلوبه إلا الله عز وجل لكن يتخذ هذا الميت في القبر أو الضريح يتخذه واسطة بينه وبين الله فما الفرق بين هذه الحجة الذي اتخذ سواء هذا الولي أو غيره اتخذه واسطة من حجة هؤلاء الكفار قالوا (لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) نفس المسألة لم تختلف وإنما هي في الأزمة والخطاب قائم من زمن نزول القرآن إلى الآن (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) فالدين لا يكون إلا لله والتوحيد لا يكون إلا لله وهؤلاء لا يقدمون ولا ينفعون ولا يضرون وسيأتي معنا لاحقاً أن الشفاعة وأن الكون كله بإرادة لله عز وجل ولا يحقق مطلوب العبد إلا الله عز وجل.

د. الشهري: من الأشياء التي نلاحظها وأنا أستضيف المشايخ وزملاء من أمثالك أكثر الموضوعات التي تتحدث عنها السور المكية تتحدث عن توحيد الله وعن العقيدة ونبذ الشرك وعن إثبات البعث واثبات اليوم الآخر مما يدل على أهمية هذه المسألة. وهناك مشكلة الآن عندما نتكلم عن التوحيد أو نكتب بعض المقالات أو يعتني الناس بها قالوا أنتم أزعجتونا بالحديث عن التوحيد وهذا هو أكثر كتاب الله عز وجل حديث عن التوحيد وعن العقيدة مما يدل على أنها هي أصل الدين وإذا اختلت اختلت بقية الأمور

د. حاتم: صحيح لا شك أن هذا من الأمور المهمة والتي أتى الخطاب فيها في القرآن في مواضع كثيرة وكان حال النبي صلى الله عليه وسلم قائم على هذا بأشده

د. الشهري: لو نحاول أن نربط مقاطع السور ومحاورها بهذا الموضوع الرئيسي الذي هو موضوع توحيد الله سبحانه وتعالى وإخلاص العبودية لله سبحانه وتعالى.

د. حاتم: المقطع الأول انتهى بقوله (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ) هذا شرط من الله يذكره ويقول أهل العلم أنه لا يمكن أن يكون لله ولد وهذا ما يسمونه يجوز تعليق الشرط بالمستحيل لو أراد الله أن يتخذ ولداً يستطيع لكن هذا لا يمكن لأنه قال عز وجل (هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) فهو الله الواحد لا ينبغي أن يكون له ولد ولا ينبغي أن يكون له زوجة هو القهار سبحانه وتعالى هو الذي يقهر دون ذلك ممن اتخذوا زلفى من الأصنام وغيرهم. وهذه الآية ليس كما يظن البعض أن فيها رد على النصارى من ناحية التنزل نزلت في مكة ولم يكن فيها محاجة مع النصارى.

بهذا ينتهي المقطع الأول. المقطع الثاني يذكر الله عز وجل فيه البراهين والأدلة على وحدانيته سبحانه وتعالى مثل خلق السموات والأرض وتكوير الليل والنهار أن يدخل الليل في النهار وتسخير الشمس والقمر وأيضاً قال (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) والنفس هذه الواحدة هذه الآية خطاب للمشركين أيضاً لذلك ذكرنا أن موضوع السورة التوحيد لأن الآيات تخاطب المشركين(خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ)، كيف نعلم ذلك؟ بدليل خاتمة الآية قال (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) كيف تعدلون عن عبادة الله عز وجل فالآية هي خطاب للمشركين ولا شك أنه يدخل في التأمل والتدبر باقي المؤمنين قال (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) أي آدم و (ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) حواء. (وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) وهذه الأزواج هي التي فسرت في سورة الأنعام (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ (143)) (وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ (144)). (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ) هذا الكافر الذي اتخذ هذا الولي أو اتخذ هذا الصنم من دون الله ليقربه إلى الله زلفى المفترض أن يتأمل في هذه البراهين أن الله عندما خلق السموات والأرض وسخر الليل والنهار والشمس وكورها خلق النفس خلق آدم خلق حواء وخلق منها بعد ذلك أنفساً كثيرة وخلقكم خلقاً من بعض خلق يعني طور من بعد طور في ظلمات ثلاث ظلمة المشيمة الغطاء الرقيق الذي يحيط بالجنين وظلمة الرحم وظلمة البطن فهذه الظلمات الثلاث والله يعلم ماذا في هذا الجنين وكيف يكون وما مآله إذا خرج من بطن أمه فهذا الذي يستحق العبادة والذي قدر على أن يفعل هذا الشيء هو المستحق للعبادة. ثم قال عز وجل (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) إن تكفروا فإن الله غني عنكم وهذا كما جاء في الحديث القدسي: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك في ملكي شيئاً إلا كما ينقص البحر إن يغمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه. الراوي: – المحدث: ابن تيمية – المصدر: مجموع الفتاوى – الصفحة أو الرقم: 8/71، خلاصة حكم المحدث: صحيح”. فالله عز وجل يقول (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) وقال بعد ذلك (وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) اللائق بكم والجدير بكم والحقيق بكم أن تشركوه لكن جعل جملة اعتراضية (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) حتى لا يظن القارئ لقوله (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ) أن الله لا يبالي، لا، الله رحيم بعباده والله أن يقوم التوحيد على الأرض (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)

د. الشهري: يأتي سؤال هنا قد يستشكله كثير من المشاهدين وهو الله سبحانه وتعالى هو الذي قدر على الناس المقادير فالذي يؤمن فقد آمن بقضاء الله وقدره والذي يكفر فهو الذي قدر عليه الكفر هو الله سبحانه وتعالى ولكن هل يرضى له الكفر؟ الله سبحانه وتعالى يقول هنا لا (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) كيف نفرق بين الارادة الشرعية والارادة الكونية حتى يتضح الفرق للناس؟

د. حاتم: لا شك أن الله عز وجل لا يرضى من عباده وقوع الكفر وقوع الشرك والنفاق والمعاصي وهذا يدل في الإرادة وقد قسمها أهل العلم إلى إرادة كونية وإرادة شرعية وهناك غيرها من الألفاظ التي تقسم إلى شرعية وكونية بعكس المشيئة التي لا تنقسم إلى كونية وشرعية وله مجال واسع للكلام في كتب العقائد ولكن بإيجاز: الارادة الكونية هي كل ما يكون في هذا لا يكون الكون إلا بارادة الله من خير أو من شر لا يقع إلا بإرادة الله عز وجل ولا يتعلق بالإرادة الكونية محبة الله أو رضى الله لكن هذه الأمور مقدرة تقديراً كونياً من الله ولذلك هذا لا بد أن يقع، الإرادة الشرعية هي أخص من الإرادة الكونية وهي التي يتعلق بها رضى الله وكره من الله وهذه التي يتعلق بها إذا عبد الإنسان الله عز وجل أحبه الله وإذا أشرك بالله كره الله منه هذا الفعل فالإرادة الأولى كونية باعتبار كل ما وقع في الدنيا في الكون هو من إرادة الله عز وجل لا يرتبط به محبة ولا كره والارادة الشرعية هي التي يرتبط محبة الله والكره من الله.

بعد ذلك يبين الله مقارنة بين المؤمنين والكافرين (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ) هذه مرتبطة بأول السورة وبموضوع السورة وهو التوحيد فالله يقول أن هذا العبد عندما يمسه أي ضر يقع له فإن القلب مباشرة يتجه لله عز وجل لأنه يعلم في حقيقة الأمر بالفطرة الموجودة في النفس أن الله هو الذي سيجيب هذا الدعاء ويحقق له مطلوبه فيقول

د. الشهري: كما ذكر في مواطن أخرى (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) العنكبوت)

د. حاتم: قال (ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ) يعني أعطاه ومنحه هذه النعمة نسي ما كان يدعو إليه من قبل، نسي الخطاب قبل قليل عندما كان مضطراً لذلك المؤمن يدعو الله في الرخاء والشدة يتعلق قلبه بالله في السراء والضراء لكن حال الكافر الذي لا يتعلق قلبه بالله إلا حين الضراء فإذا خرج من الفلك أو ارتفع عنه الضر أو أعطاه الله النعمة نسي ذلك التوحيد الذي أمره الله به (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) والله هو القادر على أن يستجيب لعباده. فقال (نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ) كيف تجعل لله أنداداً وأنت الذي كنت تدعو الله ليجيب لك الأمر إذا حصل بك الضراء بعد ذلك تجعل له الند؟! (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) والعياذ بالله لأن الله عز وجل قد يجيب الكافر عند طلبه في حال الضراء الله رحيم بالعباد، بعض أهل العلم مثل ابن تيمية قال بعض الذين يطوفون عند القبور ويتضرعون عندها قد يجيب الله له هذا الطلب لأمرين الأمر الأول لما يطلع الله على قلب هذا العبد من تضرع وخشوع وسكينة والثاني ابتلاء وفتنة

د. الشهري: حتى يقول أنه لم يُجَب طلبه إلا بسبب طوافه حول هذا القبر.

د. حاتم: في المقارنة بين حال المؤمنين والكافرين قال (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) فالمؤمن يسير بين الخوف والمحبة والرجاء (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) هذا كله بين حال الذين يوحدون الله علموا حقيقة الدين فوحدوا الله والذين لم يعلموا حقيقة الدين فلم يوحدوا الله عز وجل

د. الشهري: هذا فيه إشارة إلى أهمية العلم

د. حاتم: نعم لا شك الله عز وجل يقول (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) وذكر في كثير من آيات الكتاب العزيز تفضيل أهل العلم على غير أهل العلم لأن العلم الصحيح هو الذي يوصل الإنسان إلى الوصول إلى منشود الله عز وجل وحقيقة العبودية التي يريدها الله. والإنسان الذي يعبد الله على غير علم  يقع منه بسبب الجهل بعض التجاوزات والأخطاء ويقع منه ما حصل لبعض الناس من عبادة القبور والأضرحة وما شابه.

د. الشهري: في هذه المسألة نقطة مهمة جداً للإخوة الذين يتصدون لتعليم الناس يظن بعضنا أن كل الناس الذي يعبدون غير الله أو يشركون به أو يطوفون بالقبور أو يتضرعون لغير الله تعالى أنهم كلهم معاندون مستكبرون ولا يستمعون للنصيحة ولا يستمعون للحق والحقيقة أن كثيرا من هؤلاء سبب ما هم فيه هو الجهل تماماً بدليل أنهم عندما يعرفون الحق يستجيبون مباشرة وهؤلاء مسؤولية عظيمة لأمثالك من طلبة العلم في بيان الحق لهم باسلوب فيه تقدير لهم واحترام لأن بعض الناس يأتي ويقول أيها المشركون ايها المخرّفون الدجّالون طبعاً لا يمكن أن يستجيب لك أحد حتى لو كان فعلاً دجل ومخرّف عندما تخاطبه بهذه الطريقة لكن عندما يبين لهم بمثل هذه الطريقة آيات واضحة وصريحة في النهي عن الشرك والنهي عن عبادة غير الله فما تعليقك؟

د. حاتم: لا شك أن هذا أمر مهم من حيث الشكل والمضمون فالإنسان عندما يدعو الناس لا ينبغي أن يدعوهم وهم على تصنيف واحد من حيث العناد هناك فريق يعاند يعرف الحق فيعرض والعياذ بالله كما ذكرنا في السورة الماضية بالأمس أنهم يأخذونها استكباراً وحميّة وهؤلاء رؤوس لكن ليسوا كل الناس والغالب من دهماء الناس الذين يتبعونهم إنما هم عن جهل والعياذ بالله فينبغي أن يقشع غطاء الجهل وأن يعلمهم. ثم أمر آخر أن الداعية إلى الله وطالب العلم والعالم اللائق به أن لا يكون همّه هو الحكم على هذا الشخص بل الحكم أن ترفعه من هذة المكانة، كنت عند أحد العلماء فاتصل به أحدهم من أحد الدول يسأله قال رأيت إنساناً يسجد لغير الله هل هذا كافر أو مسلم؟ قال ادعه إلى الله، دعه يقوم من السجود ويعبد الله. فلا يكون همّ الانسان أن تحكم عليه هذا كافر أو هذا مسلم بل انتشله من وحل الكفر والشرك بأسلوب حسن وبطريقة ملائمة كما في الايات الله تعالى يخاطب زنادقة كبار ائمة في الكفر وصناديد في الكفر وآذوا أحب الخلق إليه صلى الله عليه وسلم فكان يدعوهم ببعض الساليب المنطقية بأسلوب رقيق جميل ينبههم على ما هم فيه يحاول أن ينتشلهم ويرفعهم من درجة الكفر إلى التوحيد ولا شك أن هذا الذي ينبغي أن يراعى

د. الشهري: الآن أصبح من السهل لكل أحد من عامة الناس والدهماء أن يطالع مثل هذا البرنامج إما مباشرة عبر الشاشة أو عبر شبكة الانترنت فأصبح من السهل أن تصل إلى عامة الناس وتبين لهم الحق وتبين لهم الآيات الواضحة في هذا لا فيها فلسلفة ولا فيها علم سري لا أحد يطلع عليه. لكن في الأزمنة السابقة كان بإمكان كبار العلماء والرؤساء أنهم يحتكرون الحقيقة ويحجبونها عن ملايين من الناس والآن أصبح هناك فرصة أن تخاطل عامة الناس مباشرة وقد حصل بسبب مثل هذه البرامج وهذه الإيضاحات الجميلة والبسيطة حصل بها خير كثير جداً. ننتقل إلى محور آخر.

د. حاتم: بعد أن ذكر سبحانه وتعالى قدرته في الخلق ثم ذكر حال المؤمنين والكافرين يبين الله عز وجل في خطاب للمؤمنين ووعيد الكافرين يقول الله عز وجل (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) هذه التي استشهد بها أهل العلم أنها نزلت قبل الهجرة للحبشة قال (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) كأن فيها إشارة إلى الخورج. ولا شك أن أي إنسان يضيق عليه في مكان في العبادة فأرض الله واسعة ويستطيع أن يذهب لمكان يستطيع أن يقيم فيه الدين والشعيرة. ثم قال (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) الذي لا يستطيع أو يذهب ويتغرب ويصبر على مرارة البعد عن الأوطان أو الأهل من أجل دينه فإن الله سوف يعوضه خيراً مثل الذين خرجوا للحبشة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) عادت قضية التوحيد والإخلاص، الذي يضيق عليه من أجل التوحيد يخرج في أرض الله يستطيع أن يوحد والله عز وجل هو الذي يعبد خالصاً مخلصاً سبحانه. قال (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) هذا حال محمد صلى الله عليه وسلم أول من حطم الأصنام أول من صدع بدعوة لا إله إلا الله. ثم بيّن الله عز وجل في خطابه للمؤمنين (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وهذه الإشارة فيها تنبيه وتحفيز للمؤمن أن يرتفع عن المعاصي أن ينتقل من حال المعصية لأن الله العظيم الذي يعبد وحده سبحانه وتعالى وهو المستحق بالعبادة لا ينبغي أن يقابله الإنسان يكفر نعمته ويقابله بالمعاصي

د. الشهري: لا زال حديثنا عن سورة الزمر وموضوعها توحيد الله سبحانه وتعالى والحديث عنه وتوقفن عند قوله سبحانه وتعالى (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي) ويقول (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ) هل معنى هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ) هذا لا مبالاة أم له مقصد آخر؟

د. حاتم: (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ) هذا أمر لا يشتمل على الإذن الشرعي من الله بأن يعبدوا ما شاؤوا من الأصنام، لا، إنما هو من باب التهديد والوعيد فاعبدوا ما شئتم من دونه أي سوف يلاقيكم جزاء هذا الفعل لأن الله ذكر في الاية التي قبلها مباشرة (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي) (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ) سوف تلاقون جزاء ما تعبدون من دونه من الأنداد التي تتخذونهم قربة وزلفى من دون الله. وذكر (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) يعني الذين عبدوا من دون الله أصناماً أخرى فإنهم سوف يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة (أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) الخسران ليس خسران المال ولا خسران الوظيفة وليس خسران حتى الولد والأهل هذه معاني دنيوية قد يعوض الله المرء فيها لكن الخسران الحقيقي الذي يقع اليوم الآخر الذي ليس فيها تعويض بسبب ما زرع في الدنيا فإنه سوف يحصده يوم القيامة، الكافر سوف يحصد الخسران الكامل والعياذ بالله والذي يقع في المعاصي سوف يكون تحت مشيئة الله

د. الشهري: أيضاً عندما يقول هنا (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ) ألمس هذا في سورة ص قضية المزاوجة بين الصور عندما يذكر التوحيد يذكر لشرك عندما يذكر جزاء الموحدين يذكر جزاء المكذبين فهنا يقول (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ)

د. حاتم: كما ذكر قبلها (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) قال هنا سبحانه وتعالى (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ) هذه صفة المؤمنين الذي اجتنبوا الطاغوت يمحضون التوحيد لله عز وجل يخلصون في عبادتهم أنابوا إلى الله فلهم البشرى فبشر عبادي الله تعالى يبشر عباده الذين ساروا على التوحيد والتزموا بخط التوحيد ولم يشركوا في عبادتهم ثم يبشرهم أن لهم البشرى يوم القيامة وأولئك لهم الخسران المبين والعياذ بالله. بعدها سبحانه وتعالى يبين صفات هؤلاء الذين اجتنبوا الطاغوت (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) وهذه آية عظيمة (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) قال الذي يستمع القول ويتبع أحسن القول إذا سمع الحق يتبعه وينقاد له. كما أن هذه الآية فيها توجيه آخر للإنسان الذي يتكلم ويلقي للناس ينبغي أن يكون خطابه حسن حتى يتبعه الناس لا يكن فيه كله يغلب فيه جانب التهكم والسخرية ولا يغلّب فيه جانب التهديد والوعيد لكن أيضاً يأتي فيه الوعد والبشرى كما يذكر الله عز وجل حال الكافرين وحال المؤمنين، هذا من حيث المضمون من حيث الأسلوب أن يكون بأسلوب حسن يعرض لهم دين الله سواء للكفار أو العصاة فينبغي أن يكون بأسلوب حسن حتى يحببهم في هذا الدين ويدخلوا لدين الله ويتبعوا هذا الكلام الحسن.

د. الشهري: يمكن أن نستنبط فائدة من قوله (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أن فيها إشارة أن من آداب الاستماع وآداب المسلم أنه يغفر الهفوات التي يقع فيها من يتحدث لأنه عندما تستمع حتى الآن الإخوة المشاهدون عندما يستمعون إلينا نتحدث في مثل هذا المجلس قد يقع من الواحد زلة لسان أو خطأ علمي أو خطأ في اللفظ قد يقع فيه لأي سبب من الأسباب من صفات عباد الرحمن هؤلاء أنهم يتبعون أحسن ما يسمعون مما يدل على أنهم يسمعون كلاماً أحياناً ليس بحسن لكنهم يتجاوزون عنه ويأخذون أحسن ما يتحدث به المتحدث أو الواعظ والحقيقة أن هذه لفتة مهمة في صفات هؤلاء المؤمنين.

د. حاتم: مهم أن يتتبع الإنسان الحسن ويتتبع الخير ويغض الطرف عن زلات إخوانه

د. الشهري: أحياناً يأتيك أحدهم فينقد يقول أنا سمعت الشيخ خاتم ولكن لاحظت عليه الملاحظات التالية فيستوقفه الأخطاء التي وقع فيها المتحدث ويتجاوز الإيجابيات، وهذا خلاف ما ذكره الله هنا لذلك قال في صفاتهم (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ) يعني تركيزك على الإيجابيات والتجاوز عن الهفوات غير المقصودة أنه من هداية الله لك. تأتي الآية التي فيها الغرف.

د. حاتم: قال الله عز وجل (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) هذا حال المؤمنين ولذلك قلنا تسمى سورة الغرف من هذه الآية فلهم غرف من فوقها غرف مبنية في منازلهم في جنات النعيم.

د. الشهري: لاحظت ذات يوم قرأت لأحد الباحثين أنه تتبع منازل المسلمين في الجنة فقال أن هناك الفردوس الأعلى وهناك جنات النعيم وهناك الغرف كما ذكر هنا (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ (75) الفرقان) وهنا قال (لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ) مما يدل على منازل المؤمنين نسأل الله أن يرزقنا والمشاهدين الفردوس الأعلى من الجنة.

د. حاتم: اللهم آمين. بعدها ذكر الله عز وجل في بضع آيات يذكر فيها من البراهين على وحدانية الله عز وجل في إنزاله الماء من السماء وخروج النباتات حتى تتغير وتصبح يابسة وهذه إشارة يبين الله فيها حال الدنيا فإن الدنيا مهما ازدهرت للإنسان فإن مصيرها إلى الزوال.

د. الشهري: هذا في الآية (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إ)

د. حاتم: هذا مثال عن حال الدنيا وأن هذا الزرع كما خرج بسبب الماء الذي في الأرض ثم يهيج يعني ييبس فتراه مصفراً يبدأ إلى الاصفرار واليبس حتى يتحطم فالدنيا هكذا مهما حصل الإنسان فيها من بهرجة الدنيا وزينة الدنيا فإنها سوف تزول كما زال ذلك النبات هذه كلها تحيي ما في النفوس بالتعلق باليوم الآخر حتى يوحد الله عز وجل ويعود للتوحيد ويرتبط قلبه بالآخرة ومهما اشتغل بالدنيا بالأمور التي لا بد منها لا يتعلق قلبه كاملاً بها وإنما قلبه يكون معلقاً بالآخرة.

بعدها يقول عز وجل (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) كلمة شرح سبحان الله توحي بشيء من الارتياح والانبساط في النفس، فالله عز وجل الذي يشرح صدره للإسلام هو الذي على نور من ربه وهداية كما قال عز وجل (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) وقال (ألم نشرح لك صدرك) فهذه الأشياء التي للمؤمنين الذين يحقق لهم الله هذا الانشراح فتنبسط نفوسهم وتقبل الحق بعدها قال (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ) الله يتوعد الذين قست قلوبهم فلم تنشرح قست قلوبهم فأعرضوا عن الذكر الحسن لم يتبعوه ولم يستجيبوا للتوحيد قال(أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).

ثم ذكر عز وجل آية عظيمة عن القرآن قال (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)

سؤال: هل هذه الآية إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم وقضية الذين تنشرح صدورهم لذكر الله يستبشرون بهذه الهداية هل هذا الحديث في الكفار فقط أم ننزله على بعض المؤمنين العصاة الذين أحياناً عندما تريد أن تتحدث معهم في ذكر الله سبحانه وتعالى ربما يتضايقون؟

د. حاتم: هذه الآية (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) وذكر بعدها صفات المؤمنين الذين يستمعون إلى القرآن ويتعظون والآية محل السؤال (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) هذه الآية اشمأزت يعني نفرت وهذه الكلمة صارخة من حيث البعد عن كلام الله عز وجل فهؤلاء الذين يستمعون للقرآن أو يستمعون لكلام ناصح واعظ فينصرفون تشمئز نفوسهم مباشرة هذا دليل على ما في القلوب والعياذ بالله لأنه لم يرتضوا بهذه المعاني الجليلة العظيمة فيتبعونها. بينما اللائق بالمؤمن عندما يسمع الله عز وجل فإنه يستبشر ليس كحال الذين يسمعون غير الله فيستبشرون لهذه المعاني. فالآن عندنا فريقان المؤمن الذي عندما يسمع كلام الله يسمع النصيحة يسمع الحديث يسمع القصة الهادفة يستبشر وينشرح صدره الفريق الآخر الفريق المعرض بدءاً من الكافر الذي يسمع الله وحده فيشمئز يريد الأصنام يريد الذين من دونه فهذا ينبسط إليها عندما يسمع من دونه ثم ننزل درجات عن الكافر للعاصي الذي يسمع ذكر الله فيشمئز منه ولا يرتاح فهذا الذي يشمئز ينبغي أن يفتش عما في نفسه لأنه قد يكون هناك شيء من البغض لهذا الكلام والعياذ بالله وهذا قد يكون سببه المعاصي إعتاد على المعاصي لأن المعاصي نكتة في القلب كما أخبرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم لكن لا يعني هذا أن كل إنسان ما استمع إلى نصيحة أو حديث مثلاً إنسان يتفرج على برنامج فما استمع وقلب على برنامج آخر مباح لا يعني هذا الإعراض بسبب البغض ولكن الذي يسمع فيشمئز يحصل منه أنه ينقبض من هذا الكلام هذا الذي يقع عليه التحذير والوعيد والعياذ بالله.

د. الشهري: تسويل الشيطان ووسوسته للإنسان بل أشد من ذلك عداوة الشيطان للإنسان، قد أخذ الشيطان على نفسه أنه (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) الأعراف) حتى في وقتنا الآن لاحظ الحضور في المساجد، ألقِ محاضرة في مسجد وانظر في حال الناس كم الذين سوف ينصتون ويستمعون إلى الخير ويحرصون عليه؟ هم قلّة مقارنة بمن يحضر المباريات الرياضية والعرضات الشعبية ومن يحضر الأمسيات الغنائية أعداد مهولة ويصبر الواحد منهم يجلس خمس ست ساعات وهو يشاهد الأغاني ويشاهد المسرحيات ويشاهد العرضات لكن في المحاضرات لو يجلس الوحد خمس دقائق عشر دقائق تجده ينظر في ساعته كل حين! فهذه أيضاً لها علاقة ولو من باب القياس بأن الإعراض والنفور من ذكر الله سبحانه وتعالى فيه شبه من هؤلاء الكفار الذي يشمئزون من ذكر الله

د. حاتم: والذي ينبغي للإنسان أن يعود نفسه على الاستماع لكلام الله والإكثار منه وتقبل الكلام الحسن والخير وأن يروض نفسه على هذه المجالس لأنها مجالس طيبة لا يقوم منها إلا مغفوراً له متقبل وتنزل عليه السكينة والرحمات.

د. الشهري: وربما يحتاج الإنسان أن يجبر نفسه على أن يصبر ويجلس في مجالس الذكر ويتقرب من أهلها لأن هذه النفس لو أطاعها الإنسان لذهبت واتبعت الهوى. وأمس قلت في قصة داوود (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ (26))

د. حاتم: هذه الآية عندما يقول عز وجل (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ) يبين الله عز وجل أن حال المؤمن الذي يسمع القرآن بعكس حال الذين قست قلوبهم قال (متشابهاً) المقصود الذي يشبه بعضه بعضاً في الحسن وليس هو المتشابه المذكور

سؤال: في قوله سبحانه وتعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) أريد أن تفسروها وتجلوها لنا حتى يرتفع الإشكال كيف تقشعر قلوبهم وكيف تلين بعد ذلك وكيف يمكن لنا أن نبلغ تلك المرحلة عند سماع كتاب الله؟

د. حاتم: الآية قائمة في صفات المؤمنين فالله عز وجل يقول في القرآن (كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) والمتشابه المقصود منه أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن وفي الإحكام وليس كلفظ المتشابه التي وردت في سورة آل عمران الذي قد يكون فيه شيء من المشتبهات التي قد يصعب فهمها لكن هنا المقصود يشابه بعضه بعضاً في الحسن وفي الإحكام مثاني من حيث الترديد والتكرار، المؤمن إذا سمع لهذا القرآن تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، المؤمن إذا سمع النصيحة أو الموعظة وسمع كلام الله ينتابه شيء من الرهبة يسبب قشعريرة في الجلد واضطراب في الجلد من خوفه من الله وهذا الوجل الذي يحصل في قلب الإنسان فينتقل من قلب الإنسان إلى الجلد فإذا ظهر على الجلد يعني أصبح فيه شيء من القشعريرة ويقيناً هذا مرتبط بما في القلب والإنسان يجد هذا الشيء في غير القرآن فإذا حصل له أمر فيه رهبة من أول وهلة يشعر بشيء في الجلد من تغير بعدها يسكن. والله تعالى قال (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) بعدما يسمع ويطمئن (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) تنقلب الجلود التي اقشعرت إلى لين وهدوء فيها ولا يعني هذا النواحي الحسية فقط، لا شك الجلد يتأثر وهو مرتبط بالداخل ظاهر الإنسان يرتبط بداخل الإنسان، إذا فعل معصية تظهر، الذي يقوم الليل يجدون على وجهه نوراً وصاحب المعاصي يرون على وجهه كآبة واسوداداً ويوم القيامة سوف تسود وجوههم. هذه الآية (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) فيها نقطة الآن الله عز وجل قال تقشعر جلودهم ثم قال تلين جلودهم وقلوبهم ذكر القلوب هنا ولم يذكرها في الأول وانما اكتفى بقشعريرة الجلود، الجواب عن هذا عندما ذكر الله تقشعر الجلود وتضطرب ويقيناً لن تضطرب إلا بما داخل النفوس لكن يوم تلين الجلود قد تلين بسبب النسيان أو الانشغال عن هذه الموعظة فنص الله على أن حتى القلوب أنها تلين الجلود ليس بسبب الاعراض والانشغال وإنما تلين الجلود وتلين القلوب من ذكر الله.

د. الشهري: وهذا مرتبط بموضوع السورة وهو الإخلاص أنه لا يكون إلا بالقلب والعبادة والتوحيد.

د. الشهري: وقفنا عند حديثك عن القلوب وجليها من الله عز وجل وكيف ينعكس ذلك على الجوارح. لعلنا نتوقف عند بعض المقاطع التي تختارها

د. حاتم: الآن الله عز وجل بعد أن ذكر حال المؤمنين والكافرين ضرب بعض الأمثلة التي هي مهمة في إدراك حقيقة التوحيد ولا شك أن المثال يقرب المعنى للعقول فمثلاً يقول عز وجل (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) هذا مثل يضربه الله عن رجلين الأول فيه شركاء متشاكسون والثاني سلم لرجل

د. الشهري: ما معنى فيه شركاء متشاكسون؟

د. حاتم: متشاكسون الذين يتنازعون فيه، مثلاً العبد الرقيق عند ثلاثة أو أربعة من الشركاء يتنازعون ويتخاصمون فيه

د. الشهري: يعني هو مولى

د. حاتم: يملكه ثلاثة هذا يأمر وهذا يأمر وهذا يأمر وهذا ينهى وهذا ينهى وهذا لا ينهى فيقع فيه الاضطراب

د. الشهري: حتى نقرب المعنى للمشاهدين يعني مثل واحد عامل عنده ثلاثة كفلاء أو ثلاثة أشخاص يأمرونه

د. حاتم: هذا مثال قريب. والرجل الآخر لا يأتيه الأمر إلا من واحد ولا يبحث عن رضى إلا واحد وهو سيده وهذا مثال المشرك والموحد، المشرك له شركاء من هذه الأصنام التي يعبدها من دون الله يبحث عن رضاهم بينما الموحد لا يعبد إلا الله عز وجل فخطابه محبته رضاه ما يبحث إلا عن الله فلا شك أنه سيكون متوجهاً إلى الله الواحد القهار لكن أولئك الذين قد أخذ فيهم الشركاء نصيبهم وتنازعوا ماذا يبقى لله عز وجل؟! وشركاء لا يعني الجمع وإنما لو كان شريكاً واحداً هو من الضلالة.

د. الشهري: في ختام هذه الآية قال (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) إشارة إلى أن الكثير ممن يقع في هذا بسبب الجهل.

د. حاتم: وقبلها مثل ما ذكر الله (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) فالذين يعلمون هم الذين وحّدوا فأصبحوا سلماً لرجل وفي قرآءة سالماً لرجل. بعدها يبين الله عز وجل من حال الفريقين حال الفريق المؤمن والفريق الكافر وذكر فيها من الصفات والتهديد والوعيد للكفار مثلاً يقول (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) اعملوا على طريقتكم في تكذيبكم لمحمد، عنادكم لمحمد، تكذيبكم لمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال قبلها (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ) ليس الإقرار ولا الإذن الشرعي وإنما التهديد والوعيد وسوف تلاقون جزاء ما تفعلون. ثم بين من دلائل وحدانية الله عز وجل خلقه للأنفس وقبضه للأنفس قال (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي أن كل نفس بقدر فمنها ما يقبضه الله حين نومه ومنهم من يقبضه الله خارج نومه.

د. الشهري: ممن يقبض في نومه واحد نام نوماً عادياً ثم لا تعود روحه إليه

د. حاتم: ولذلك يسمى النوم الموتة الصغرى. بعدها بين الله عز وجل من دلائل الربوبية والألوهية مقاطع جميلة لكن نقفز شيئاً للوقت. فيقول الله عز وجل بعدها بين الخطاب المباشر للتوحيد والتحذير من مغبة الشرك ثم بين الفرق بين الفريقين المؤمن والكافر بين الله عز وجل حال الفريق الذي قد ييأس من كثرة ما وغل في الشرك (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يا من اتخذتم أنداداً من دون الله وأشركتم في عبادة الله وكثرت أصنامكم وكثر بعدكم وضلالكم عشتم سنين طويلة على الكفر والضلال على المعصية فإن الله يغفر الذنوب جميعاً متى ما أقبلت بقلبك صادقاً مخلصاً فإن الله يغفر الذنوب جميعاً. ولاحظ أنه قال (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ) هذه الآية لو لم تأتي كلمة (جَمِيعًا) تعني العموم لكن الله أكد (جَمِيعًا) حتى يطمئن، قال الصحابي عندما أتى النبي صلى الله عليه وسلم: وغدراتي وفجراتي؟ قال وغدراتك وفجراتك، من كرم الله عز وجل. بل من كرم الله أنه يبدل السيئات حسنات فإذا أسلمت فالخيرات التي لم تكن في جانب الحسنات فإن الله ينقلها إلى جانب الحسنات بعد إسلامه، قال أسلمت على ما أسلمت من خير.

د. الشهري: حتى الخطاب (قُلْ يَا عِبَادِيَ) تحبب لهم بهذا الوصف يعني أنتم عبادي وأنا ربكم فلن أترككم. والأمر الثاني أنه جاء بعد الحديث عن المشركين الذين يشركون بالله فمن باب أولى أن الله يغفر للمسلمين المذنبين مهما كانت ذنوبهم.

د. حاتم: وهذه الآية يقول أهل العلم أنها أرجى آية في القرآن وهذه الآية التي قال البعض أنها نزلت في المدينة بسبب قصة وحشي عندما قتل حمزة لكن الصحيح أن كل السورة مكية وأن هذه الآيات يخاطب بها حتى المشرك لأنها أتت في سياق الأمر بالتوحيد والتحذير من الشرك ولا يعني ذلك أن نحصرها عليهم بل حتى تشمل المؤمن الذي ارتكب المعاصي وقد وسوس له الشيطان لأن الشيطان كما مر في سورة ص قال (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) فإن الشيطان يوجه كامل طاقته لإغواء الناس وقد يقع من الناس وهذا ما هو موجود في النفس البشرية لأن الذي لا يقع في المعاصي هم قلوب قد طُهرت وهذا لا يتوفر في بني البشر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح مسلم قال لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم. تحقيق لاسم التواب والغفور والغفار فهذه المعاني لا بد أن تقع ولا تقع إلا بوقوع الذنوب. لكن لا بد أن يتنبه الإنسان فلا يميل الكفة لهذه الآية فيقع في الذنوب ويقول الله غفار فيرجئ ولا يبالغ في الرهبة فيقول الله لا يغفر فيشتط أيضاً في الأمر ولكن هو يتوازن لكن متى ما وقع منك الذنب بادر بالتوبة والآن القلوب رقيقة في رمضان لكن بعد أن يفطر قد ينزعه الشيطان إلى مشاهدة ما حرم الله، متابعة ما حرم الله، إلى الالتهاء عن ذكر الله فلا تركن إلى هذه الحال لا بد أن تشي في نفسك التوبة الإنابة السرعة المبادرة لكن لا تيأس مهما وقع لك من ذنوب ومعاصي فإن الله يغفر الذنوب جميعاً أنت فقط أقبل على الله بقلب صادق فإن الله يغفر الذنوب جميعاً ويبدلها حسنات ولا تجد هذا عند غير الله عز وجل.

د. الشهري: وأنت تتحدث عن هذه الآيات تذكرت أول السورة (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) والله سبحانه وتعالى يقول ليس هناك داعي للوسائط. في سورة البقرة لما ذكر تعالى آيات الصيام قال (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (86) البقرة) لم يقل فقل لهم إني قريب وإنما قال (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) تجمع بين هذه الآية وتلك الآية ونظائرها في القرآن الكريم من الآيات التي يتحبب الله تعالى فيها إلى عباده ويطالبهم بسؤاله مباشرة ويعدهم بالإجابة ويعدهم بالمضاعفة وهنا في الآية عندما قال (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ) ولم يقل الذين أذنبوا

د. حاتم: الذين بالغوا في الاسراف وأكثروا من فعل الذنوب والمعاصي. الآية التي تليها يقول عز وجل (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) المقصود أنيبوا بقلوبكم وأسلموا بجوارحكم لكن لو أتت أنيبوا فقد بدون أن يعطف عليها أسلموا تجمع المعنيين الإنابة بالقلب والجوارح.

(مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) إحذروا يا هؤلاء الذين أمرناكم بالتوحيد واتبعتم الأصنام إحذروا أن تقولوا في يوم من الأيام أن تندموا ولات حين مناص لا ينفع وقتها الندم (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) كما ذكر الله عز وجل (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) هذا القرآن الذي يأمر بالتوحيد موضوع السورة فلا بد أن تتبعوا هذا التوحيد قبل أن تتحسر أنفسكم على هذه اللحظات التي لن تعود.

د. الشهري: وهذا إشارة إلى أهمية الوقت واغتنام الوقت وتنبيهك إلى اغتنام الوقت في رمضان في محله وأسأل الله أن يعيننا جميعاً على اغتنام الوقت.

د. الشهري: كنا تحدثنا عن الآية التي هي من أرجى الآيات في كتاب الله تعالى (لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ) وما بعدها من الآيات التي تلاحظ فيها رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده ودعوتهم إلى التوبة والإنابة قبل أن يفوت الأوان.

د. حاتم: وهذه الآية عندما ختمها الله عز وجل بقوله (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إشارة إلى هذين الاسمين العظيمين اللذين يحملان معاني عظيمة من المغفرة والرحمة فالله عز وجل رحمته وسعت كل شيء وله مائة رحمة لكن لا بد أن يتوب الإنسان لا يركن ويقول أن الله اسمه الغفور الرحيم، الله كريم وينعم على الناس بدون أن يقابله بخير لكن هناك معاني تحقيق التوحيد ومغفرة الذنوب لا بد أن تتوب إلى الله وتقبل إلى الله بقلب صادق. ثم بيّن الله عز وجل حال فريق من الآن ينبههم لا تكونوا مثل أولئك الذين يتحسرون يوم القيامة (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ) في طاعة الله وحقه (وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) كما قال في نهاية السورة (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا (100) المؤمنون) فلا ينتظر الإنسان اليوم الذي يريد أن يرجع إلى الدنيا، لا ينفع ذلك الوقت، (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ما عاد ينفع،  هذا كله معناه التمني لا يمكن أن يقع منه هذا الفعل (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ثم بين الله (بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) هذا وصف لمحادثة سوف تقع يوم القيامة فاحذر ينبغي أن نحذر أنا وأنت أن نكون من أولئك والعياذ بالله وكيف سيكون حال الإنسان لو أعرض عن ذكر الله؟ الله تعالى قال (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) فينبغي على الإنسان أن يتبع أحسن الحديث ويتعظ يوحد الله ويجتهد في الطاعة لأنها هي التي تعزز التوحيد وبقدر ما يقع الإنسان في المعاصي هي تزلزل التوحيد وقد يؤول به إلى غير ذلك والعياذ بالله لأن القلب إنما هو مضغة يوضع فيه نكتة فينكت فيه من المعاصي حتى يران عليه كاملاً فينبغي على الإنسان أن يحذر ثم يوم القيامة لما يتحسر يقول عز وجل (بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) يوم القيامة لا يستطيع أن ينكر والشهود عليه من جوارحه ومن غيرها، فهذا اليوم يوم القيامة (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ) كما قال (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ (106) آل عمران) الآن الإنسان يتفاخر ببياض الوجه الأب يقول لابنه بيضت وجهي لأنه شيء يفتخر به ويعتز به ولا يمكن أن يقول بيضت وجهي إلا من معاني عظيمة وإذا فعل المعاني المخزية يقول له سودت وجهي والعياذ بالله. فهذا يوم القيامة تبيض وجوه حال المؤمنين الذين اتبعوا أحسن الحديث وتسود وجوه حال الكافرين الذين لم يوحدوا الله، فهذا المعنى أن الله تعالى ينبه إلى هؤلاء المشركين أنكم دعيتم إلى التوحيد إحذروا أن تأتوا يوم القيامة ووجوهكم مسودة فيكون مثواكم في جهنم.

د. الشهري: فيكون المقصود هنا (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ) يعني كذبوا على الله فأشركوا معه غيره.

د. حاتم: ثم قال بعدها الله تعالى (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) يذكر حال الفريق وحال الفريق الكافر والمؤمن ولذلك الخطاب في الدعوة وغيرها لا بد أن ينوّع حتى يشمل الجميع قال (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) الذين اتقوا حصلت منهم التقوى في الدنيا ينجيهم الله عز وجل بمفازتهم والمفازة هي الفلاح والفوز الباء هنا تكون إما سببية أو للملابسة يعني بسبب تقواهم فازوا وفلحوا أو أنه ينجيهم وقد تلبسوا بالفلاح والفوز. (لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي لا يمسهم العذاب. بعدها بيّن الله عز وجل في آية عظيمة (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أوحي إليك يا محمد وأوحي إلى من قبلك من الأنبياء (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) هذا هو الأمر بالتوحيد توحيد العبادة لله والبعد عن الشرك، الله يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم لو حصل منه شرك وحاشاه صلى الله عليه وسلم ليحبطن عملك فأي أحد لا شك في المنزلة عند الله هو دون محمد صلى الله عليه وسلم فمتى ما وقع منك يقع من العبد الشرك فإن حبوط العمل والخسران هو نتيجة ذلك الفعل وإنما أخذت هذه النتيجة بما جنته يداك.

د. الشهري: يعني إذا كان هذا الخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتحذيره من الشرك وتهديده بأنه لو وقع منه هذا ليحبطن عمله فكيف بمن هو دونه؟!

د. حاتم: إحذر. ثم ذكر في المقطع الأخير من السورة بعدما قال (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أنبه على مسألة أن النفخة هنا هي نفختان لكن بعض أهل العلم قالوا هي ثلاث نفخات واستشهدوا بحديث أخرجه ابن جرير أنه قال ثلاث نفخات نفخة الفزع ونفخة الصعق والبعث وهذا الذي رجحه ابن جرير أنها ثلاث نفخات ثم بين حال الذين يساقون إلى الجنة والفريق الآخر الذين يساقون إلى النار الفريق الذي أمره الله بالتوحيد فاتبع التوحيد واستجاب لأوامر الله هو الذي سيساق إلى الجنة وهي أبوابها مفتوحة كما أن صاحب الدار يستقبل ضيفه وقد فتح أبوابه من قبل من باب الفرح والسرور بدخوله فيستبشر هو أيضاً فإن الفريق الآخر الذي كفر بالله ولم يوحد الله ولم يسجب لله والرسول فإنه سيساق إلى جهنم وأسأل الله أن يجيرنا وإياك من النار والسامعين وأن يجعلنا من أهل الفردوس الأعلى.

د. الشهري: شكر الله لك ونسأل الله أن يرزقنا كمال التوحيد له سبحانه وتعالى.

الفائز في حلقة الأمس: الأخت جواهر المبارك

سؤال الحلقة: من أهم عوامل النصر على الاعداء الثبات عند اللقاء وذكر الله تعالى وطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وعدم الاختلاف، وردت آيتان في الجزء التاسع تشيران إلى هذا المعنى فما هما؟