سور القرآن الكريم

سُوَرِة الشُّعَرَاء

هدف السورة: أسلوب تبليغ رسالة الله تعالى

السورة مكيّة وقد عالجت أمراً هاماً نحن بأمسّ الحاجة إلى فهمه في عصرنا هذا، فالآيات في السورة تتحدث عن أساليب توصيل الرسالة بأحسن الوسائل الممكنة والاجتهاد في إيجاد الوسيلة المناسبة في كل زمان ومكان. بمعنى آخر السورة هي بمثابة رسالة إلى الإعلاميين خاصة في كل زمن وعصر وللمسلمين بشكل عام. والسورة ركّزت على حوار الأنبياء مع أقوامهم فكلّ نبي كان يتميّز بأسلوب خاص به في حواره مع قومه مختلف عن غيره من الأنبياء وهذا دليل أن لكل عصر أسلوب دعوي خاص فيه يعتمد على الناس أنفسهم وعلى وسائط الدعوة المتوفرة في أي عصر من العصور وعلى مؤهلات الداعية وإمكانياته.

والسورة تتحدث عن الإعلام والشعراء الذين هم رمز الإعلام خاصة في عصر النبي كان شعراء الإسلام وسيلة تأثير هامّة في المجتمع آنذاك خاصة أن العرب كانوا أهل شعر وفصاحة فكانت هذه الوسيلة تخاطب عقولهم بطريقة خاصة. أما في عصر موسى فكان السحر هو المنتشر فجاءت حجة موسى بالسحر الذي يعرفه أهل ذلك العصر جيداً وهكذا على مرّ العصور والأزمان. وفي كل العصور فإن وسيلة الإعلام سلاح ذو حدين قد تستخدم للهداية (كسحر موسى وشعراء الإسلام) وقد تستخدم للغواية والضلال والإضلال (كسحرة فرعون وشعراء قريش الكفّار).

سميّت السورة بالشعراء كما أسلفنا لأن الشعراء في عصر النبّوة كانوا من أحد وسائل الإعلام ولم يكونوا جميعاً كما وصفتهم الآية 226 (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) يقولون ما لا يفعلون إنما كان منهم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) آية 227 وسيلة للدعوة والهداية.

وقد ختمت السورة كما ابتدأت بالرد على افتراء المشركين على القرآن الذي أنزله الله تعالى هداية للخلق وشفاء لأمراض الإنسانية.

تناسب بدايات السورة مع خواتمها

قال تعالى في بداية سورة الشعراء: (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)). إذن ابتدأت بقوله تعالى: (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) وفي أواخر السورة قال: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)) إلى أن يقول (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)) هذه لا شك أنها متناسبة لقوله تعالى (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2))، (تلك آيات الكتاب المبين) وفي آخرها (إنه لتنزيل رب العالمين) ثم (وما تنزلت به الشياطين) وكأن خاتمة السورة تصلح لأن تكون نهاية لبدايتها. في أوائل السورة (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)) وفي آخر آية (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)) تناغم طيب بين الآيات.

تناسب خواتيم الفرقان مع فواتح الشعراء

قال تعالى في آخر الفرقان: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)) يعني العذاب يلازمهم, وقال في بداية الشعراء (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)) التكذيب للمخاطبين والقدامى (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)) (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)) يعني سيكون العذاب حقاً عليكم ولزاماً عليكم، (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)) تهديد. الخطاب للفئتين لكن يجمعها صفة واحدة وهو التكذيب والتهديد في الفرقان (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)) وفي الشعراء نفس الشيء (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)) وفي السورتين إقرار بأنهم كذبوا. في آخر الفرقان ذكر عباد الرحمن (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)) وفي الشعراء ذكر المكذبين فاستوفى الخلق (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)) استوفى الخلق الصالح والطالح عباد الرحمن والكافرين. في سورة واحدة قد يذكر الصنفين ويقولون كأنما الشعراء استكمال لما ذكر في الفرقان.

تناسب خواتيم الشعراء مع فواتح النمل

في آخر الشعراء ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)) استثنى الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً ثم هدد الذين ظلموا (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ). وقال في أول النمل ذكر المؤمنين (تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)) ذكر هناك الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وذكر القرآن الذي هو رأس الذكر إذن وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة يوقنون هذا العمل الصالح فهناك أجمل العمل الصالح وهنا فصّل يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وذكر الاعتقاد. هو هدد غير المؤمنين في النمل والشعراء، قال في الشعراء (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) وقال في النمل (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)) كأنما الآيتان متتاليتان فهي مرتبطة من أوجه مختلفة.

ctus nec ullamcorper mattis, pulvinar dapibus leo.

كيف نجعل سورتي الشعراء والنمل حياة؟ د. عصام العويد

من برنامج القرآن حياة – د. عصام العويد

(تفريغ موقع إسلاميات حصرياً)

سورة الشعراء وسورة النمل

سورتان عظيمتان من سور القرآن بينهما تباين كبير جداً ولكن يجمعهما موضوع هو في غاية الأهمية هما سورة الشعراء وسورة النمل. لو تأملنا قليلاً في السورتين: الشعراء اسمها واضح، من هم الشعراء؟ إنسان فصيح يستطيع أن يدخل على الأمراء والملوك بقصيدة عصماء ويأخذ بعض المال وأحياناً يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً. أما النملة فمسكينة ضعيفة، مخلوق من أضعف مخلوقات الله عز وجل فلماذا جاء القرآن قارناً بينهما الشعراء وبعدها سورة النمل؟ سورة الشعراء جاءت في التحذير من كلمة الباطل إن خرجت من كبير، من فصيح، إن خرجت من إنسان له هيلمان له محبة عند الناس، أحياناً يقول الإنسان الباطل المحض الذي فيه الضلال والعداء للدين ولكن يكون فصيحاً لبيباً يخدع الناس بحسن كلامه فعندئذ الله يحذّر من الشعراء من أصحاب اللسان إذا كانوا يُلبِسون الحق بالباطل. فلما يقوم الشاعر فيتكلم بقصيدة ويلقي تلك الأبيات العظيمة التي فيها تزيين لما هو باطل أو تزييف لما هو في حقيقته ليس بحق ولكن يصوّره كذلك فعندئذ يحذّر الله من أن ننخدع بهذا القائل مع أن مقوله باطل. فجاءت سورة الشعراء وقال الله عز وجل في ختامها (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)) الغاوي الذي لا يدرك حقيقة الأقوال. وجاءت سورة النمل في مقابل ذلك إن جاءك الحق من صغير ضعيف مسكين إن جاءك الحق من إنسان ثيابه رثّة أو سيارته لا تعجبك أو قديمة فعندئذ لا عليك من حاله وسيارته وأموره عليك من الحق الذي ينطق به لسانه فاقبل الحق وإن جاءك من ضعيف مسكين ورُدّ الباطل وإن جاءك من كبير عظيم. سورة الشعراء في التحذير من الأول وسورة النمل في التحذير من رد الحق إن جاءك من ضعيف فتنبّه لذلك.

كنت مرة في السوق فرأيت امرأة عليها آثار التبرج فردّت بعنف وقالت لم يبقَ إلا أنت تقول لي فما علاقتك بي؟ لا إله إلا الله كيف ينظر الإنسان إلى قدّم إليه نصيحة من أجل أن يحفظه في دينه ودنياه؟! أقول لهذه الأخت ولكل أخت وأخ وولنفسي ولكل الناس لا تنظر أبداً إلى قضية من الذي أمامك ومن الذي ينصحك ومن الذي يعطيك هدية حتى وإن أغضبتك ولكن انظر إلى تلك النصيحة التي خرجت من أجل أن تحفظك وأن تحميك من الوقوع في شيء قد يكون فيه فساد عليك في دنياك وفي أخراك. كثير من الناس إذا رأى من ينصحه له شكل وهيئة ومنظر وجمال أو شخص معروف فعندئذ يقول أبشِر، ولن أكررها مرة ثانية فإذا رأى الناصح ليس بتلك الهيئة ينظر إليه باستحقار ويطلق إليه عبارة أو نظرة محقّرة ابحثوا لنا عن شخص آخر ينصحنا! ما الذي يضيرك إن جاءت النصيحة من أي شخص كان؟! إن كان سليمان عليه السلام في سورة النمل قبِل النصيحة من نملة كانت تخاطب قومها وتناديهم (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)) ثم أخذ هذا وقبل النصيحة بشكل واضح بيّن من هدهد إنما هو جندي واحد من آلآف الجنود الجبابرة في جنده فأخذ النصيحة من هدهد واعتبرها وبنى عليها أيضاً أموراً عظيمة وقرارات كانت مهمة جداً. فسبحان الله كيف لا نقبل نحن نصيحة من فلان فقط لأن هيئته وشكله أو سمعته! اِطرح قضية من الذي يتكلم هنا وإنما انظر إلى المتكلَّم به ما هو؟ إن كان كبيراً وجباراً وفصيحاً أو أياً كان ثم قال عبارة لا ينبغي أن تُتّبع رُدّ عليه بكل أدب وقل له اسمح لي واعذرني لكن هذا الكلام لا يمكن أن أقبل به وإن جاءتك النصيحة من أي إنسان حتى ولو مولود صغير أو من أي شاب أو من أي فتاة فاقبله بصدر رحب واشكره على هذه الكلمات لأنك بأمس الحاجة إليها. إذا فعلنا هذا نظرنا إلى النصيحة كيف خرجت ولم ننظر إلى الناصح كيف هو كنا امتثلنا ما أمرنا الله عز وجل به في هاتين السورتين العظيمتين الشعراء والنمل.

لننظر في قضية في غاية الأهمية في هاتين السورتين. كثير من الناس وخاصة في هذا الزمن وقد تنوعت الخطابات يصبح يتلذذ بكلام الناس وبالتحليل والأخبار ويتلذذ بالأناشيد، يتلذذ بالأهازيج وأشياء من هنا وهناك ثم إذا سمع القرآن شعر أن قلبه لا يتقبل هذا القرآن، يقول الحمد لله سمعنا القرآن كثيراً كأنه يقول أعطونا شيئاً آخر غير القرآن. لا بأس أن تلطِّف الحياة بشيء من هنا وهناك بالحديث، بالقصة، بالأنشودة، بالشيء الطيب المباح ولكن لا بد أن يكون صلب الحياة الذي عليه المدار هو كتاب الله إن أردت الهداية والنجاة في الدنيا والآخرة. ولذلك لما خاطب الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في أواخر سورة النمل مخاطبة من يقول له إن طلب الناس منك غير القرآن لا تعطهم ولا عليك منهم لا هداية إلا بالقرآن ولا سعادة إلا بالقرآن ولا رضى إلا بالقرآن حتى وإن طلبوا منك ما طلبوا فاتركهم. يقول الله عز وجل في خواتم سورة النمل وهو سبحانه وتعالى يتحدث مع نبيه صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)) ثم ماذا؟ (وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ) أُمر محمد صلى الله عليه وسلم كما أُمرت أنا وأُمر الناس وأُمر الدعاة أن يتلوا على الناس القرآن أن يبينوا معانيه أن يجعلوه حياة لهم في كل أمورهم. ثم قال سبحانه وتعالى (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ (92)) من اهتدى بالقرآن وقبل القرآن وظل يعالج نفسه بالقرآن وبكى مع القرآن وفرح بالقرآن وسعد بالقرآن فهذا اهتدى بالقرآن فليبشر بالخير. وأما من أعرض فما لك يا محمد أن تلاحقه بأي شيء آخر بأي أسلوب ثان من هنا وهناك وإنما قل لهم (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ) إنما أنا أُرسلت بالبشارة والنذارة بهذا القرآن العظيم فاقبلوه من محمد صلى الله عليه وسلم واقبلوه ممن دعاكم به لا تلتفتوا يمنة ولا يسرة لا تبحثوا عن غير القرآن وإنما كل خير لكم في هذا القرآن كل سعادة لكم في هذا القرآن.

 

موافقات بين سورتي الرعد والشعراء


موافقات بين سورتي الرعد والشعراء
إعداد موقع إسلاميات

(وسيعلم) وردت فحسب في ختام سورتي الرعد ورقمها 13 (وسيعلم الكفار) والشعراء ورقمها 26 (وسيعلم الذين ظلموا) وأولهما (تلك آيات الكتاب) وكلمة (الأرض) في أولهما رقمها في كلتيهما 45
د. أحمد نوفل
تصميم الصورة موقع إسلاميات
——————————–
وقفة تدبرية بقلم موقع إسلاميات
كلتا السورتان تركزان على إثبات الوحي والنبوة فافتتحتا بالتنويه بالكتاب الذي هو وحي من الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا رد على كل من يزعم أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء بالوحي من عنده أو علمه أحد من البشر أو نحو ذلك من الافتراءات.
والسورتان تستعرضان براهين وحدانية الله تعالى وعظمته وقدرته على إهلاك المكذّبين:
فسورة الرعد تعرض براهين القدرة وعظمة الخلق وإثبات قدرة الله تعالى وقوته وعزّته وعدله فهو سبحانه يجازي كل إنسان بعمله من آمن فله جزاء الحسنى ومن كفر له عذاب أليم في الدنيا والآخرة.
ذكر د. محمد الربيعة في مقصد سورة الرعد: هذه السورة تركز على بيان حقيقة القوة والقدرة الإلهية ومظاهرها من خلال عرض الآيات الكونية ودقة تصريف الله لها، إثباتاً لما أنزل الله من الحق وما وعد به أولياءه وتوعد به أعداءه، مع بيان سنة الله في التغيير والتبديل.
وسورة الشعراء يبين د. محمد الربيعة مقصدها فيقول: هذه السورة تركز على مواجهة المصرين على التكذيب بالرسول الطاعنين برسالته من خلال تهديدهم بالعذاب وتذكيرهم بمصير المكذبين قبلهم، والتنويه بشأن القرآن وتنزله من عند الله ، وتفنيد الشبهات حوله تأييداً وتثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم.
وختام السورتين يتناسب ويلخّص ما جاء فيهما، فبعد أن تُعرض البراهين والأدلة التي تثبت القدرة الإلهية والقوة وبعد إصرار الكفار على عدم الإيمان بهذه البراهين ليس أمامهم يوم القيامة حين يرون العذاب واقع بهم إلا أن يعلموا حقيقة ما كذبوا به ورفضوا الإيمان به من البراهين الواضحة الدالة على ألوهية الله تعالى وعظيم قدرته في الخلق عندها فقط (سيعلم الكفار) (وسيعلم الذين ظلموا) أن وعد الله حق وأن العذاب على من كذّب واستكبر وسيعلمون أي منقلب ينقلبون علمًا حقيقيًا مشاهدًا لا ريب فيه.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
التفسير المباشر – رمضان 1431 هـ – سورة الشعراء

لحلقة 26

ضيف البرنامج في حلقته رقم (120) يوم الأحد 26 رمضان 1431هـ هو فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن يحيى صواب الأستاذ المشارك بكلية الآداب بجامعة صنعاء باليمن .

وموضوع الحلقة هو :

– علوم سورة الشعراء .

– الإجابة عن أسئلة المشاهدين حول السورة وحول الجزء السادس والعشرين من القرآن الكريم

————————

سورة الشعراء

إسم السورة

د. صالح: هذه هي سورة الشعراء وهذا هو الإسم المشهور عند العلماء وعند المفسرين سورة الشعراء. وتسمى أيضًا بسورة طسم لأنها افتتحت بها ومن المعلوم أن سور القرآن عادة إما أن تسمى بإسم شيء بارز فيها من قصة أو حدث أو عَلَم أو موضوع أو بمفتتحها مثلًا سورة البقرة آل عمران النساء التوبة الانشقاق هذه كلها بالمواضيع التي تحدثت عنها السورة لكن يمكن أن نجد أن سورة التوبة تسمى براءة وسورة الأعلى تسمى سورة سبِّح اسم ربك الأعلى وسورة الزلزلة إذا زلزلت فتسمى إما بالموضوع أو بالمفتتح الذي تفتتح به السورة ولهذا سميت هذا الإسم وإن كان المشهور هو سورة الشعراء.

د. عبد الرحمن: ما لها أسماء أخرى غير هذا؟

د. صالح: هناك إسمان وجدتهما لكنهما ليسا مشهورين، هناك من سمّاها “الجامعة” وعلل ذلك ابن عاشور رحمه الله تعالى هذه التسمية لأنها جمعت قصص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إلى قصة محمد صلى الله عليه وسلم، السور الأخرى عادة تتحدث عن الأنبياء أو الرسل السابقين فهذه ربما لهذا السبب. وابن العربي شاع في موطن أنه أشار إلى أنه قال “ولقد ذكرت ذلك وتحدثت عنه في سورة الظلّّة” وذلك لورود قول الله عز وجل في قصة أصحاب الأيكة (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)) فسميت بهذا الإسم لكن المشهور هو سورة الشعراء.

وقت نزول السورة:

د. صالح: هي سورة مكية بلا خلاف. فهي من السور التي نزلت بمكة، هناك خلاف في بعض الآيات وإن كان الظاهر والجمهور على أنها جميعها مكية قول الله سبحانه وتعالى (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا (227)) فبعض العلماء نظر إلى هذا الاستثناء في قول الله عز وجل (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) فقال المراد به من أسلم من الصحابة الذين كانوا في المدينة وكانوا يدافعون عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن ثم فهذه الآيات التي هي من قول الله عز وجل (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)) إلى آخر السورة مدنية ولكن ليس بالقول القوي بل الظاهر أن جميع السورة مكية. هناك قول لقتادة أن قول الله عز وجل (أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)) أنها أيضًا مدنية لأنها تحدثت عن بني إسرائيل لكن الصحيح أنه ليس كل آية تسير إلى بني إسرائيل هي مدنية لأن المشركين كانوا على صلة ببني إسرائيل وباليهود في المدينة وكانوا قريبين منهم فكانوا على صلة، فخلاصة القول أن السورة جميعها مكية وهذا هو الصحيح.

د. عبد الرحمن: والاستثناء عادة لا يثبت إلا بدليل صحيح

محور السورة

د. صالح: سورة الشعراء اشتملت على موضوعات كثيرة وعدد آياتها 227 آية وعلى العدّ غير البصري والكوفي 226 آية لكن موضوع السورة كبير ومتفاوت ويمكن أن نلخص هذا الموضوع بقولنا أنها جاءت للتنويه بشأن القرآن الكريم وتعنيف المكذبين بالقرآن الكريم وضرب الأمثال لهم هذا الموضوع واضح ذلك أنها افتتحت بالحديث عن القرآن وجاء في ثناياها الحديث عن القرآن (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)) وشنعت على المكذبين في هذه السورة ابتداء من المخاطبين مشركو مكة الذين لفت الله أنظارهم إلى الآيات المتنوعة سواء كان ذلك في الأرض في الجنات في العيون وغير ذلك أو المكذبين السابقين فجاءت للتشنيع على هؤلاء المكذبين فنستطيع أن نقول بأن هذا هو موضوع السورة وهذا موضوع لا ينفك عن العقيدة سواء فيما يتعلق بالتوحيد أو كان فيما يتعلق بالنبوة والرسالة اأو ما يتعلق بلوحي أو باليوم الآخر.

د. عبد الرحمن: حتى تسمية السورة بالشعراء فيه إشارة إلى الدفاع عن القرآن أنهم قالوا إنه شعر

د. صالح: هذه مسألة مهمة جدًا علاقة السورة بالإسم هنا، سميت سورة الشعراء ليس لأهمية الشعر والحديث عن الشعر وإنما لجانب مهم له علاقة بالوحي، كيف؟ المشركون كذبوا بالقرآن الكريم وبالمناسبة فإن آخر آية في سورة الفرقان هي قول الله عز وجل (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) الفرقان) فهذا التكذيب الوارد هو تكذيب بالقرآن الكريم فجاء هذا الحديث في هذه السورة أيضًا ليبين (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (6))

د. عبد الرحمن: هذا ربط بين سورة الفرقان وسورة الشعراء

د. صالح: ربط واضح، هناك حديث عن التكذيب وهنا أيضًا حديث عن التكذيب فكذبوا بالقرآن، ماذا قالوا عن القرآن؟ قالوا بأن القرآن كما جاء في سورة النحل في قول الله عز وجل (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103)) قالوا بأن القرآن شعر وقالوا بأن القرآن كهانة (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) الطور) فجاء الرد عليهم في هذه السورة فأما قولكم بأن الذي يعلمه أعجمي فقد نزل به الروح الأمين كما قال عز وجل (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)) وما كان لأعجمي أن يتحدث بلسان عربي مبين. وأما القول بأنه كهانة فقد ذكر الله عز وجل (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)) فالشياطين لا يوحى إليهم ولا يمكن أن يأتوا بهذا القرآن فنفى الله عز وجل أن يكون كهانة. ولأن العرب كانوا يقولون أن الشاعر يستلهم شعره من الجن هكذا كانوا يتصورون وإن لم يكن لهذا حقيقة، يتصورون الشاعر المبدع أن له شيطانًا يعلمه ذلك فبيّن لهم سبحانه وتعالى أن الشعر لم يكن عادة في الدعوة للإصلاح لا يأتي بمنهج مفيد وإنما انظروا إلى شعرائكم هؤلاء فما هو حالهم (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا (227)) فبيّن سبحانه أن القرآن ليس بشعر كما قال شبحانه وتعالى في سورة الحاقة (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)) فبيّن سبحانه وتعالى أن ذلك لم يكن شعرًا. إذن الحديث هنا عن الشعر والشعراء لم يكن الشعر هو أساس الحديث لكن تنزيه القرآن عن أن يكون شعرًا بذكر الشعراء وأنتم قوم عرب تعرفون حال الشعر والشعراء وتعرفون مجنون ليلى وتعرفون كثير عزة والجاهليين لم يأتوا بشيء من ذلك فهؤلاء (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)). ودعني أشير هنا ونحن نتلمس أيضًا جمال البيان القرآني الاستعارة الجميلة هنا (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ) فكأن هذا الشاعر كبعير هائم يبحث عن العشب والكلأ ولم يجد هذا العشب في الأماكن المرتفعة فاضطر إلى النزول إلى الأودية هائم يبحث عن ذلك وذلك أن الشاعر تجده يومًا يمدح ويومًا يذم وربما أحيانًا سخط على إنسان فذمّه وهو ليس أهلًا للذم وربما أعجب بإنسان فمدحه وأعلى شانه مع أنه لا يستحق المدح فلهم جوانب متعددة (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226))

د. عبد الرحمن: أحيانًا بعض الشعراء تجد في شعره كما قالوا عن المتنبي أنه كان إذا وصف معركة كانت أبياته أبلغ من نصالها تشعر كأنك في المعركة مع أنه هو ليس من الشجعان فهو يصف الشجاعة ولم يجربها.

د. صالح: قالوا أن الفرزدق قال أبياتًا من هذا (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) فقال قصيدة وكان عند سليمان بن عبد الملك قال فيها:

فبتنا بجانب مصراعاة وبت أفض أغلاق الختام

فقال له سليمان قد وجب عليك الحد لأنه اعترف بالفاحشة فقال يا أمير المؤمنين ما فعلت هذا والله ألم تر قول الله عز وجل (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) فدرأت عنه الحد وهكذا حصل مع أكثر من واحد فهم يقولون ما لا يفعلون.

د. عبد الرحمن: دعنا بعد أن تحدثنا عن موضوع السورة وفصلنا في ارتباط إسمها بموضوعها نتحدث عن الآيات من أولها بشيء من الإيجاز في قوله تبارك وتعالى (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)) ما معناها؟

د. صالح: هذه الآيات وهذه السورة تتحدث عن تكذيب المشركين وهذا التكذيب لا شك له أثر والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتألم لعدم إيمان قومه فالله سبحانه وتعالى يقول (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) هل أنت قاتل نفسك؟ باخع بمعنى قاتل وإن كان كما يقول العلماء بخع هي أقوى من قتل، فهو القتل بقوة وهو كما يقال بخع الذبيحة إذا السكين وصلت إلى عرق في الفقار فهو القضاء الكامل تقضي على نفسك قضاء كاملًا (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) هل أنت ستقتل نفسك؟ لا، هذه الآيات واضحة بيّنة ومهما كانت الآيات فإن هؤلاء لا يمكن أن يؤمنوا وهذا جانب مهم يجب أن نستفيد منه في حياتنا أنت لا تستطيع أن تهدي الناس أنت عليك البيان لأن بعض الناس يريد من الناس كلهم أن يؤمنوا وأن يسلموا ويكونوا على الحق لكنك لا تملك ذلك

د. عبد الرحمن: طبعًا هذا من شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بهم

د. صالح: من شفقته صلى الله عليه وسلم بهم ولكن الله عز وجل يوجهه ويقول له (وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ) والتقدير فافعل (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) الأنعام) فإذن لا يملك الإنسان الهداية، هداية الإرشاد والدلالة هي بيد الإنسان بينما هداية التوفيق فأمرها إلى الله سبحانه وتعالى. فبيّن سبحانه وتعالى أن الآيات موجودة، أول آية (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) ثم جاءت الآيات متسلسلة في هذه السورة بشكل كبير جدًا ولكن حتى ولو نزلت هذه الآيات فلا يمكن أن يؤمنوا

د. عبد الرحمن: من كتب الله أنه لن يؤمن فلن ينتفع بهذه الآيات أبدًا. من الملفت أن أول قصة أوردها قصة موسى ثم جاءت بعدها قصة إبراهيم مع أن موسى من حيث التاريخ متأخر عنهم

د. صالح: عادة يبدأ القصص القرآن بقصة نوح عليه السلام لأنه هو الأول زمنيًا ثم عاد وثمود ثم ابراهيم وأصحاب مدين لكن هنا هدف القصة هناك هدفان، قصة موسى أحدهما تسلية النبي صلى الله عليه وسلم (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) لا تحزن، ودائمًا موسى مثال للنبي صلى الله عليه وسلم في الصبر لأنه أوذي كثيرًا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) الأحزاب) فموسى عليه السلام كان أنموذجًا في هذا الباب وأنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم الغنائم فجاءت بعض أصحابه وقالوا إن هذه قسمة ما أُريد بها وجه الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم يرحم الله أخي موسى لقد أذوي بأكثر من هذا فصبر. إذن فلعلك باخع نفسك انظر إلى موسى وما لاقى، هذه واحدة. الأخرى قلنا أن السورة تتحدث عن الآيات والآيات كثيرة جدًا والآيات بارزة في قصة موسى أكثر من بروزها في قصة نوح أو إبراهيم وإن كان إبراهيم جاء بعده هنا، فالقصة بارزة تمامًا (إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)) الآيات موجودة وانظر إلى الآيات التي جاء بها موسى فالعلاقة من ناحيتين من ناحية التسلية ومن ناحية الآيات البينة في قصة موسى عليه السلام ولذلك قدمت قصة موسى عليه السلام.

د. عبد الرحمن: تأتي بعدها قصة إبراهيم عليه السلام، يلفت نظري أنه يذكر قوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)) يذكرها كفاصل بين كل قصة وقصة هل من حكمة في هذا؟

د. صالح: لأن الحديث هنا عن الآيات ولاحظ أنها لم تذكر هاتين الآيتين (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)) لم تذكر بعد قصة موسى وإنما ذكرت قبلها بعد أن لفت الله عز وجل أنظارهم إلى الآيات الحسية التي يشاهدونها ثم ذكر لهم الوقائع التاريخية فكل ذلك يتبع سبحانه وتعالى بقوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) وهذا فيه دلالتان: أما الأولى فهو أن هلاك هذه الأمم قبلكم كانت آية من الآيات يجب عليكم أن تعتبروا بها فيما أنبته الله عز وجل في هذه الأرض من كل زوج كريم فيه آية من الآيات وفي قصة موسى آية من الآيات وفي قصة إبراهيم آية من الآيات وفي قصة نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وغيرهم فيها آية من الآيات يجب أن تلتفتوا إليها، هذه واحدة. الثانية أن الله سبحانه وتعالى يبين لهؤلاء القوم (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ) أن هذه الآيات الله سبحانه وتعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)) وهذه كذبوا والله عز وجل عزيز والعزيز هو الغالب القوي ولكنه رحيم فلم يبادرهم بالهلاك ولم يعاجلهم بالهلاك وهذه أيضًا من الشيء الجميل في هذا. وفاتني قبل قليل في قوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ) لماذا تكررت؟ ذكرنا أحد الأسباب أن كل قصة من هذه القصص جديرة، لكن قد يقول قائل إنما حصل لقوم موسى عليه السلام أو لقوم فرعون إنما هو أمر طارئ أو إن ما حصل لعاد أو لثمود هو أمر طارئ فتكررت هذه آية وهذه آية وهذه آية ومن ثم لا يمكن أن تقولوا أو أن تزعموا أن هذا أمر طارئ هؤلاء جاءهم رسول فكذبوه فأهلكوا ولنقل أن هؤلاء إن قلتم إنها طبيعة ونحو ذلك وأنتم لا تؤمنون بالله عز وجل فماذا عن هؤلاء؟ فماذا عن هؤلاء؟ فماذا عن هؤلاء؟ إذن (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) فهي آيات متعددة

د. عبد الرحمن: وأنتم تطلبون الآيات فأنتم لستم بدعًا عن هؤلاء. قصة إبراهيم في السورة فيها فوائد كثيرة وكذلك قصة موسى لكن فيما ذكره إبراهيم من أدب في قوله (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)) أولًا في حجاج إبراهيم مع قومه وهذه تقدمت معنا في سورة الأنعام أسلوب إبراهيم في المجادلة والحجاج مع قومه وكيف يستفاد منه في الدعوة إلى الله؟ وأيضًا في أدبه في الدعاء في قوله (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80))

د. صالح: هنا جوانب كثيرة أولاها حديث عن الأصنام وحديث عن المعبود الواحد الأحد سبحانه وتعالى هم يعبدون أصنامًا كأن معنى كلامه أنتم تعبدون أصنامًا لا تخلق ولا تهدي ولا تطعم ولا تسقي ولا تشفي ولا تحيي ولا تميت أما أنا في المقابل فأنا أعبد الله سبحانه وتعالى الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يمتين ثم يحيين، هذه مسألة مهمة. الأمر الآخر وهي لفتة جميلة هذه الأوصاف ست كلمات جمعت البداية والنهاية وما تخلل ذلك من حياة الإنسان ابتداء من الخلق وإلى البعث وبين الخلق والبعث الهداية والطعام والشراب والشفاء والإماتة وقبل ذلك الخلق وبعد ذلك الإعادة والبعث. فهذه نحن ربما تمر علينا دون تأمل، نتأمل الاستدلال وكيف جمع هذه الأشياء كلها. ثم لاحظ كلمة (هو) هنا لم تأت في الآية الأولى (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)) لأنها معروفة ومسلّمة ولكن جاءت بعدها (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)) هذه من الأشياء المهمة. ثم انظر إلى أدبه، الله عز وجل هو الذي يمرض والله عز وجل هو الذي يشفي (قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ (78) النساء) ولكن من الأدب أن لا ينسب الإنسان الشرّ إلى الله سبحانه وتعالى فإبراهيم عليه السلام لم يقل إذا أمرضني فهو يشفين وإنما قال (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) نسب المرض إلى نفسه وهذا كثير في القرآن وهو من باب أدب الأنبياء  (الخير كله بيديك والشر ليس إليك) فلا ينبغي أن ينسب الشر إلى الله تعالى وإن كان هو المقدر والفاعل حقيقة.

د. عبد الرحمن: قصة أصحاب الأيكة لفت نظري أصحاب الأيكة هنا لماذا وصفوا بهذا الوصف؟ الذين هم قوم شعيب.

د. صالح: قبل أن نتجاوز قصة إبراهيم وقصة موسى أريد أن تتنبه إلى منهج الطغاة يعني منهج فرعون وكيف قابل موسى عليه السلام وتهديده له بالسجن وأيضًا مناهج ستأتي مثل منهج نوح عليه السلام تهديد قومه له بالرجم وتهديد قوم لوط له بالإخراج، دائمًا الطغاة يحاولون أن يواجهوا الحجة بالحجة فإن لم يجدوا حجة -وليس لهم حجة قطعًا- يلجأون إلى الطغيان (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)) (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)) يريد أن يشوه صورته عند الملأ وهكذا إبراهيم عليه السلام ما جرى لابراهيم من قذف به في النار لا شك أنه يحتاج لوقفات لكن الوقت ربما لا يسمح إنما نشير إلى منهج الطغاة في التعامل مع الدعاة، منهج مضطرد.

أما ما يتعلق بأصحاب الأيكة كثيرًا ما يطرح أن الله سبحانه وتعالى في قصة نوح وقصة صالح وقصة هود (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ (106)) (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ (124)) (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ (142)) (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ (161)) مع أن لوطًا ما كان منهم ما كان من أهل الشام لكنه لأنه سكن بينهم فترة كان أخًا لهم ولذلك هددوه بالإخراج هذه مسألة مهمة ربما البعض لا يعلم لماذا هددوا لوطًا بالإخراج (قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)) (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ (56) النمل) لأنه لم يكن أصلًا من هذه القرية، فهنا هددوه بالإخراج. لكن الله عز وجل لم يقل لم يقل أخوهم شعيب وهذه مسألة تحدث عنها العلماء

د. عبد الرحمن: مع أنه قال في مواضع أخرى قال (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا)

د. صالح: العلماء تحدثوا بأحد الوجهين: قال بعض العلماء أن أصحاب الأيكة هم ليسوا مدين وإنما بعث شعيب إلى أمتين إلى مدين وهم أهله وأصحابه ولذلك قال (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا (36) العنكبوت) وبعث أيضًا إلى أصحاب الأيكة ويستدلون بأشياء منها أن الله سبحانه وتعالى ذكر عذاب مدين في الأعراف وهود مرة ذكرهم بالصيحة مرة أخذتهم الصيحة ومرة أخذتهم الرجفة، الرجفة من الأرض والصيحة من السماء. أما أصحاب الأيكة فقد ذكر الله عز وجل بأنه قد أخذهم عذاب يوم الظلة فقالوا هؤلاء عذبوا بالصيحة والرجفة وهؤلاء عذبوا بعذاب يوم الظلة ومن هنا فهما أمّتان، هذا الوجه الأول. أما الوجه الثاني الذي يظهر والله أعلم أنه لم يقل أخوهم لأنه لم يقل مدين لم يذكرهم بإسمهم وإنما نسبهم للأيكة والأيكة هي الشجر الملتف وبعضهم يقول الغيضة فلم يقل كذبت مدين ويبدو أنهم كانوا يعبدون هذه الشجرة فنسبوا إليها فلما نسبوا إلى الشجرة لم يقل أخوهم وهذا الذي يظهر. وهناك وجه ثالث ذكره بعض العلماء وهو أن يكون قبيلتان في مكان واحد الطريقة واحدة والعذاب واحد ولكن هناك منهم مدين وهناك أصحاب الأيكة فاجتمعوا في مكان واحد فكان رسولًا إليهم جميعًا والذي يظهر لم نجد في سورة من سور القرآن أن الله عز وجل ذكر لنا مدين وأصحاب الأيكة في نفس السورة وهذا يدل على أنهم قوم واحد وهذا الذي رجحه ابن كثير.

د. عبد الرحمن: سؤال أخير في كتابة الأيكة هنا ليست مكتوبة (كَذَّبَ أَصْحَابُ لَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) هل من سر في هذا؟

د. صالح: وردت الأيكة أربع مرات وردت في مرتين الأيكة بالألف واللام والهمزة (الأيكة) وفي موضعين وردت ليكة، اللفظ واحد لكن في هذا الموضوع قراءتان والرسم العثماني يكتب بما يتوافق مع القرآءات فهناك قرآءة لابن كثير ونافع وابن عامر (ليكة) وإذا كتبت الأيكة بالألف فلا يمكن أن تقرأها بهذه القرآءة فهذا لكي يتوافق مع القرآءات.

د. عبد الرحمن: إذن هذا توجيه متعلق بالقرآءات.

سؤال الحلقة

عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال كنا جلوسًا ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربعة عشرة فقال إنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تضامّون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ …، فما هي الآية من آيات الجزء السادس والعشرين التي قرأ منها النبي صلى الله عليه وسلم؟

في رحاب سورة الشعراء – 1 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة الشعراء – 1

تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا

إجابة عن بعض أسئلة المشاهدين

سؤال من الأخ علي المرزوقي: هل هناك علاقة بين السامري الذي ورد في سورة طه وما بين المسيح الدجال؟

د. المستغانمي: هذه قضية تحتاج إلى تأكيد تاريخي وقد رجعت إلى مصادر في التفسير ولا يوجد علاقة بين السامري وبين المسيح الدجال، يذكرون في الشبكة العنكبوتية كثير من الأشياء غير مسندة وغير دقيقة والرأي الذي ارتحت إليه بعد بحث أنه لا يوجد علاقة بينهما وكما قال علماؤنا لا طائل من وراء هذا السؤال الذي لا نستفيد منه علمًا. ذكرنا في سورة طه قصة السامري، ثمة أحاديث صحيحة ولذلك ندبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصح الأمة بأن تقرأ سورة الكهف العشر الأوائل منها والعشر الأواخر منها. ورد المسيح الدجال في السُنة وورد في القرآن ذكر يأجوج ومأجوح وخروج الدابة ذكرت في القرآن وجاءت السنّة لتفسرها أيضًا.

المقدم: نؤكد على موضوع وهو أخذ العلم من العلماء المشهود لهم بالعلم لأن هناك اجتهادات كثيرة التي تجتهد وخاصة في مسائل آخر الزمان فعلى سبيل المثال هناك من يتحدث عن آخر الزمان على الشبكة العنكبوتية ولكننا يجب أن لا نقتنع بكل ما يقال خاصة إذا صدر من أناس لا يشهد لهم بالعلم في كتاب الله أو العلم الشرعي ومن ضمن ما قيل أن يأجوج ومأجوج ليست كائنات بشرية وإنما عبارة عن جراثيم وبكتيريا تظهر في آخر الزمان!!

د. المستغانمي: هذه تأويلات أصحاب المنهج العقلي وبالتالي ليس كل إنسان يؤخذ منه العلم الشرعي وننصح المشاهدين أن يأخذوا من المصادر العلمية الموثوقة مثلا لو قلت أني وجدت هذه المعلومة في كتاب الإمام الزركشي في البرهان لعلوم القرآن يكون له رصيد لأن هؤلاء علماء بحثوا وأتقنوا المادة العلمية التي قدموها في كتبهم وفي التفاسير الكبرى التي أسند أصحابها والتي حقق العلماء المتأخرون حققوا الأحاديث لذلك ليس كل واحد يؤخذ منه خصوصًا في الأشياء الغيبية.

سؤال من الأخت خولة العمري:  في سورة النمل الآية 40 (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) أما في سورة لقمان فيقول (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ما دلالة الاختلاف ما بين الآيتين؟

د. المستغانمي: سؤال وجيه في المتشابه اللفظي. في سورة النمل قوله تعالى (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) هذا من قول سليمان عندما طلب أن يُحضر له عرش بلقيس، الآية (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴿٤٠﴾) سليمان كان شكورًا لم يعتد بقوته أو بعلمه فقال (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) شكره يعود له (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ) عن شكر الشاكرين (كَرِيمٌ) يفتح المجال للتوبة والعودة والإنابة لله سبحانه وتعالى. بينما آية سورة لقمان فهي جاءت في وصية لقمان لابنه (وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿١٢﴾) لعل السؤال لماذا أتى فعل الشكر بالمضارع وأتى فعل الكفر بالماضي؟ علماء التفسير تطرقوا لمثل هذا السؤال لأن الشكر يتجدد ويتكرر أنت لا تشكر مرة وتسكت بل الشكر يتكرر في كل لحظة فيناسبه الفعل المضارع الذي يفيد الديمومة، ومن يشكر فإنما يشكر مكررا لنفسه، كل يوم الله تعالى ينعم علينا بالنعم إذا ما قمت من فراشك قلت: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا عليك أن تشكر والصلاة شكر والقرآن شكر والحمد لله الذي بلّغنا رمضان وعيد الفطر هذا شكر فالشكر متكرر والفعل المضارع أنسب (ومن كفر) أما الكفر فأتى بالفعل الماضي لأنه يكفر مرة واحدة لن يكفر يوما بعد يوم فأتى بالفعل الماضي لإفادة تصوير كفره. مع ذلك اختلف التذييلان: (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) غني عن شكره ليس بحاجة إلى عبادته حميد هو محمود في ذاته جلّ جلاله سواء حمده ذلك الإنسان أم لم يحمده، شكره أم لم يشكره، هذا في سورة لقمان وهذا يتناسب مع آية كريمة في سورة لقمان (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿٢٦﴾) في ذات السورة من باب التجاذب، ورد الغني الحميد، الإسمان الكريمان وردا متتالين في سورة لقمان. بينما في سورة النمل كان التذييل (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) لم يقل (فإن الله) وإنما قال (فإن ربي) لأن سليمان قبلها قال (ه هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) في النهاية قال (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) لم يقل فإن الله للتناسق في التعبير. ثم قال (غني كريم) غني عن شكرك ولكن كريم يعطيك الفرصة، ولا يمنع أيضًا التجاذب اللفظي عندما ألقي إلى بلقيس كتاب سليمان قالت (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴿٢٩﴾) دائمًا القرآن يراعي المعنى ويراعي اللفظ في ذات السورة.

سؤال من الأخت أمل هيرات: في سورة العنكبوت ما سبب ورود الآية (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٨﴾) بين آيتين (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٧﴾) و (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴿٩﴾) هل الجواب أن الإنسان قد تنقلب عليه طاعة والديه إلى فتنة يقع فيها عندما يشركهم بالله وبذلك تكون هذه الآية كالآيات الأولى التي تتحدث عن ابتلاء الإنسان بالفتن أم أن سبب ورودها تمهيدا لضرب مثل بيت العنكبوت الواهن الضعيف؟ أم لا هذا ولا ذاك؟

د. المستغانمي: هذه وجهة نظر منها لكن الآية (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) هذه الآية كما يقول علماء التفسير نزلت عندما ابتلي سعد بن أبي وقاص بأمه التي كانت مشركة ولما سمعت به أنه أسلم قالت له صبأت وكان بارا بها فأوقعته في فتنة معينة، إنسان أسلم وهو شاب وأمه رفضت أن تستظل ثلاثة أيام ولم تطعم ولم تشرب حتى يرجع عن دينه فجاء واشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يداريها وأن يحسن معاملتها ولكن الشرع واضح لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق خصوصا في مسألة التوحيد هي أمرته أن يكفر ويعود ولا مجال أن يكفر فعليه أن يحسن البر بها فنزل قول الله تعالى (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) لا طاعة لمخلوق في معصية الله أما في أشياء أخرى فتداريه وتحسن معاملته. السائلة سألت عن ورود الآية بين آيتين تتحدثان عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات بين قوله تعالى (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٧﴾) ثم (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٨﴾) ثم (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴿٩﴾) السائلة أتت برأي أراه بعيدًا والرأي الصواب الذي ذكره علماء التفسير أن الآية جاءت بين آيتين تتحدثنا عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وجزائهم فهي وعد من الله كل من آمن وعمل صالحًا أن الله سيجزيه أحسن الجزاء ولما جاءت (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) قد يشعر أحدهم عندما يكون بينه وبين أحد والديه جفوة لأنه رفض أن يدخل في الإسلام قال له ما عليك من أمر أمك أو أبيك إذا أمراك بالكفر بالعكس أحسن معامتلهما ملاطفتهما لكن لا تعد إلى الكفر ثم قال (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴿٩﴾) أنت إن عدمت أن تكون مع عائلتك فسوف تكون في رحاب الصالحين. فالآية جاءت بين الآيتين للبشرى وتثبيت للمؤمنين.

سؤال من الأخت أمل هيرات: لغويا ونحويا الآية 40 من سورة العنكبوت لماذا ورد فيها صيغة الجمع والإفراد (ف فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿٤٠﴾) لماذا  لما يقل: منهم من أرسلنا عليهم، أخذتهم الصيحة لأن العقوبة نزلت عليهم جماعات.

د. المستغانمي: وجهة النظر التي طرحتها نحويا صحيحة (من) اسم موصول هو مبهم يقع على العاقل، من الناحية اللفظية يتبعه الإفراد ومن ناحية المعنى ينطبق على الجمع أيضًا والقرآن ورد بهذا وذاك. (منهم) بالجمع (أخذته) بالإفراد وهذا ديدن القرآن (من) تأتي بالإفراد وبالجمع، في القرآن (ومنهم من يستمع إليك) وفي آية أخرى (ومنهم من يستمعون إليك) (من) ينطبق معها الجمع إذا ذهبنا للمعنى وينطبق معها الإفراد، اسم موصول بعدها يمكن أن يكون بالإفراد ويمكن أن يكون بالجمع لما روعي المعنى جاءت(يستمعون) ولما روعي اللفظ جاء بعدها الإفراد (يستمع). بل الأغلب في القرآن: (منهم من يقول) وليس من يقولون، (منهم من كلّم الله)، لغويا هذا صحيح (ومنهم من يلمزك في الصدقات) ولو في غير القرآن يمكن أن تكون منهم من يلمزونك (من) تنطبق على الإفراد والجمع ويستعملها القرآن حسب السياق وحسب المعنى. إذا قدّم الفعل على الفاعل يأتي الفعل مفردًا وإذا قدّم الفاعل أو المبتدأ يأتي مطابقا له. (من يستمع إليك)، (من يستمعون إليك) كلاهما صحيح (ومنهم من ينظر إليك) (ومنهم من عاهد الله) في غير القرآن ومنهم من عاهدوا الله صحيحة لأن (من) تحتمل الإفراد والجمع. (وأسروا النجوى الذين ظلموا) هذه لغة: أكلوني البراغيث.

سؤال من الأخ سالم أحمد: شرح الدكتور آية وسبب نزولها وكان حول عدم سماح زيارة الآخرين ثلاث مرات في اليوم، السؤال: أليس القرآن مكتوبا في اللوح المحفوظ؟ أليس القرآن عربي مبين في لوح محفوظ؟ كيف إذن يستقيم الأمر نزول آيات لأسباب تحصل في الحياة اليومية للعرب؟!

د. المستغانمي: أوجّه الأخ الكريم هو ربما التبس عليه وقد يلتبس على بعض الناس كيف أن القرآن في اللوح المحفوظ كما هو عند الله وأنزله الله سبحانه وتعالى إلى بيت العزة جملة واحدة ثم في الوقت ذاته ثمّة أحداث وقعت في السيرة النبوية وجاءت آيات إجابات عنها. القرآن الكريم أنزله الله سبحانه وتعالى من اللوح المحفوظ عن طريق أمين الوحي جبريل إلى بيت العزة في السماء الدنيا وهذا كلام يقول أهل السنة والجماعة وذكره الإمام الطبري وذكره الإمام الزركشي في البرهان في علوم القرآن، القرآن عند الله حتى قبل أن تقع الأحداث، فلماذا اختار السائل الكريم آية (ثلاث عورات لكم)؟ العناية الإلهية خصصت هذا الكلام العظيم لآخر أمة، آخر كلمة التقت فيها السماء بالأرض هو القرآن. لماذا لم يرد السؤال عند وقوع حادثة الإفك والرسول صلى الله عليه وسلم انتظر شهرا كاملا، القرآن موجود لكنه يتنزل بالتنجيم حسب الأحداث يعالج الوقائع. في سورة الفرقان لما قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴿٣٢﴾) هذا تفسير قوله تعالى (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) (إنا أنزلناه في ليلة القدر) أُنزل إلى السماء الدنيا ثم نجّمه الله عن طريق أمين الوحي بحسب الأحداث.

المقدم: الله سبحانه وتعالى كتب الأعمال لبني آدم كلها وهي محفوظة ولكن هناك أسباب ومسببات شخص عمل حادثا، مكتوب أنه سوف يعمل حادث الله يعلم ذلك لكن ما أوقعه في هذا الأمر ربما خطأ أو سرعة زائدة وهذا لا يعني بأنه غير مقدّر له، رفعت اقلام وجفّت الصحف لكن لا يرد القضاء إلا الدعاء كما قال صلى الله عليه وسلم.

————-فاصل———–

سورة الشعراء

المقدم: حديثنا عن سورة الشعراء لنكتشف شيئا من أسرارها كما اكتشفنا شيئا من أسرار السور التي قبلها. بداية نبدأ الحديث عن علاقة السورة بما قبلها سورة الفرقان وبما بعدها سورة النمل ونتحدث عن المحور العام لهذه السورة وعن الخصائص اللفظية لهذه السورة ومقدمة عن هذه السورة.

د. المستغانمي: سورة الشعراء سورة عظيمة كبقية القرآن الكريم وهي تقع في 216 آية في العد المكي والمدني آياتها قصيرة عبارة عن حزب كامل، سورة الشعرا ءمن حيث تعداد النزول هي 47 نزلت تعالج قضايا معينة تسلية وتثبيتًا لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم طابعها هو طابع القرآن المكي وقالبه وهي سورة تقع بين الفرقان وبين النمل. في نهاية سورة الفرقان (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴿٧٧﴾) ما هو الذي سوف يكون لزامًا؟ العذاب، (فقد كذبتم) والخطاب للمشركين فسوف يلزمكم العذاب سوف يكون العذاب لزاما فجاءت سورة الشعراء (طسم ﴿١﴾ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿٢﴾ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿٣﴾ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴿٤﴾) هذا تهديد شديد اللهجة (إن نشأ) الله جلّ جلاله يقول إن نشأ بنون العظمة (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴿٤﴾) يعني لو شاء لأكرههم ولألجأهم ولقصرهم إلى الإيمان والإسلام. وقبل ذلك خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا لا تهلك نفس إن لم يستجيبوا للدعوة ما عليك إلا البلاغ. (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) ثمة تناسق بين نهاية الفرقان وبداية الشعراء.

ثانيا (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴿٧٧﴾) وفي سورة الشعراء بعدها قال (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴿٤﴾ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ﴿٥﴾ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿٦﴾) هناك يقول (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) بالخطاب وهنا (فَقَدْ كَذَّبُوا) بالغيبة، في نهاية الفرقان قال (فَسَوْفَ) حرف تسويف للبعيد وفي الشعراء (فَسَيَأْتِيهِمْ) السين حرف تسويف للقريب وبالتالي ذكر لهم من الأقوام الذين كفروا وكذبوا أنبياء الله وحاق بهم العذاب فسيصيبهم ويحيق بهم ما حلّ بالسابقين. هذا ما يخص علاقتها بسورة الفرقان.

في نهاية سورة الشعراء ثمة حديث عن القرآن الكريم (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٩٢﴾) (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ﴿٢١٠﴾) بداية سورة النمل أيضًا عن القرآن الكريم (طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ﴿١﴾)

بدايات السورتين تتحدث عن الكتاب المبين، سورة الشعراء (طسم ﴿١﴾ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿٢﴾) تتحدث عن القرآن الكريم (تلك) اسم إشارة لبعد المنزلة عند الله لا لبعد المسافة، لبعد المنزل والسمو عند الله تعالى، في النمل (طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ﴿١﴾) وسورة القصص (طسم ﴿١﴾ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿٢﴾) كلها تبدأ بالقرآن وتنتهي بالقرآن الكريم، نهاية سورة الشعراء (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٩٢﴾ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿١٩٣﴾ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴿١٩٤﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴿١٩٥﴾) وفي نهاية سورة النمل (وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴿٩٢﴾) وسورة القصص تبدأ (طسم ﴿١﴾ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿٢﴾) وفي آخر آية في سورة القصص (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٨٥﴾) من أواخر الآيات. فالسور أسرة واحدة بينها علاقات تتناول ذات المواضيع وسنفصل فيها إن شاء الله.

المقدم: سورة الشعراء علاقتها واضحة بالقرآن في سورة الفرقان وبالقرآن في سورة النمل. هل تربطها مواضيع أخرى بسورة الفرقان؟

د. المستغانمي: فيها إنذار شديد اللهجة سورة الفرقان بنيت على الإنذار وذكرت الفرقان أن الله أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم نذيرا (نذيرا) ذكرت أربع مرات وسورة الشعراء فيها الإنذار في أجلى معانيه وصوره حيث تحدث الله عز وجلّ عن الأقوام الذين كذبوا المرسلين، خمس أنبياء ورسل كبار بدأ الحديث عن أقوامهم بقوله (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٠٥﴾) (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٢٣﴾) القصة تبدأ بالتكذيب مباشرة، العدسة البيانية التقطت لحظة التكذيب وما سيؤول بعدها (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٢٣﴾) (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٤١﴾) هم كذبوا رسولا واحدا ولكن من كذّب رسولا فكأنما كذبوا الرسل جميعًا، (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٧٦﴾) ذكرت الأقوام الذين كذبوا الرسل وما حلق بهم من العذاب وقصّ الله تعالى علينا هذه القصص (لقد كان في قصصهم عبرة  ) لكم أيها المؤمنون، لكم يا أولو الألباب يا من كذّب من قريش. فسورة الشعراء إن أردنا أن نعطيها حبلًا عظيما ثم مواضيع تلتف فجاءت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتا لقلبه. أذكر ملاحظة أحد السائلين أرسل يقول يا حبذا لو استبدلتم كلمتين تستخدمونها في البرنامج وهي تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لأنها لا تليق بجنابه والأخرى (نكتة) تقولون نكتة بلاغية فيبدو أن الأخ ذهب ذهنه للطرفة. أقول كلمة تسلية وتسرية وتثبيت هذه كلمات استعملها كبار المفسرين الإمام القرطبي والرازي راجعت كتب التفسير كبار المفسرين ذكروا كلمة: نزل القرآن مواساة للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية لقلبه فكلمة تسلية ليست بالمعنى الدارج اليوم وإنما التسلية تؤسيه وتؤنسه وتمسح دموع الشقاء التي كان يعانيها وكلمة نكتة أي جمع نكتة وهي لطائف بيانية ولا نقصد بها النكتة المضحكة إنما هي لطائف وفوائد بيانية. فسورة الشعراء أنزلها الله تعالى تثبيتا لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يقول له: لست وحدك يا محمد على طريق الدعوة إن كذبك قومك فقد كذبت أقوام، إن أساؤوا إليك فقد أسيء إلى أنبياء، إن اتهموك بالشعر وبالسحر والكهنوت فقد اتهم قبلك أنبياء وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمانهم (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿٣﴾) هذه الآية وردت مرتين هنا وفي سورة الكهف (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴿٦﴾) باخع يعني مهلك نفسك لكن معناها الدقيق لعلك قاتل نفسك، البخع هو الذبح حتى يصل الذابح إلى عمق الفقار، قال الإمام الزمخشري  أي هو ذاك العرق المستبطن داخل الفِقار معناها أن الذابح يعمّق الذبح (لعلك باخع نفسك) مهلك نفسك مع العذاب وشدة الألم فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ولا تُذهب نفسك عليهم حسرات ما عليك إلا أن تبلّغ ولست عليهم بمسيطر.

المقدم: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴿٦﴾ الكهف) لعلك باخع نفسك أسفا عليهم (أسفا) مفعول لأجله.

د. المستغانمي: هنا قال (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿٣﴾) لئلا يكونوا مؤمنين، ثمّة أداة جر محذوفة اللام (لئلا يكونوا مؤمنين) ليس الأمر كذلك يا محمد وعليك أن تدعوهم إلى الإسلام وما عليك إلا البلاغ والله يتولى هداية القلوب.

المقدم: سميت هذه السورة بسورة الشعراء فهل لها أسماء أخرى؟

د. المستغانمي: ورد عند بعض المفسرين أنها السورة الجامعة وهو ليس اسمًا توقيفيا وإنما اسم وصفي ألقاه عليها بعض المفسرين لأنها جمعت أكبر عدد من الأنبياء، تحدثت عن موسى وعن إبراهيم وعن نوح وعن صالح وعن هود وعن لوط وعن شعيب وعن محمد صلى الله عليه وسلم، لم تتحدث عن أسماء فقط وإنما أتت بقصة متكاملة. قصة موسى وردت فيها ووردت أكثر تفصيلا في سورة طه والأعراف وفي القصص وقصة موسى هي أكثر القصص دورانا. سورة الشعراء هو الاسم التوقيفي، لماذا سميت بالشعراء؟

المقدم: كنت أعتقد عندما أسألك لماذا سميت بالشعراء أنك ستقول لي لورود آخر السورة قوله تعالى (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴿٢٢٤﴾ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴿٢٢٥﴾ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴿٢٢٦﴾ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴿٢٢٧﴾)

د. المستغانمي: هذا جزء من الرؤية، الحقيقة الشعراء (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴿٢٢٤﴾ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴿٢٢٥﴾ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴿٢٢٦﴾ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴿٢٢٧﴾) الشعراء يقولون والأقوام الذين بسطت قصصهم يقولون (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ﴿١١٦﴾) كما أن الشعراء كلامهم لا يطبق وكثير هو من الخيال وكذلك الأقوام السابقة المشبه بهم الذين كذبوا أنبياء الله قالوا كثيرا من الوعود وكلها لم تتحقق حتى فرعون قال (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ﴿٥٤﴾) ولم يفعل شيئا بإذن الله وقال لموسى (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴿٢٩﴾)  ولم يستطع أن يفعل شيئا مع قدرة الله. بعض العلماء وجدوا صلة بين الشعراء العامة وبين أكثر الناس (وما أكثرهم بمؤمنين) (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) الدليل على أن الأكثرية من الشعراء في عهد الجاهلية لم يكونوا مؤمنين (إلا الذين آمنوا)، الاستثناء دائما أقل من الكثرة هذا نحويًا. ابن فارس في كتابه الصاحبي يقول: المستثنى أقل من المستثنى منهم. فعدد الشعراء الجاهليين الذين كانوا مشركين كثير (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) عددهم قليل، الأقوام جاءت كل القصص وكانت اللازمة القرآن بعد كل قصة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ربك يا محمد الذي يطمئنك ويثبتك ولن يتخلى عنك. يأتي بقصة هود (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) من هنا ربط بعض المفسرين بين الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون وثمة أسرار أخرى سوف نفصله إن شاء الله في الحلقة القادمة.

المقدم: هل اتهام كفار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم حين قالوا عنه بأنه شاعر له علاقة بتسمية السورة بالشعراء؟

في رحاب سورة الشعراء – 2- د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة الشعراء – 2

تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا

المقدم: من يقرأ سورة الشعراء يجد واضحًا أن جلّها يتحدث عن قصص الأولين من الأنبياء ومن الأقوام فلماذا سميت بالشعراء؟ ذكرت بعض الأسباب ونريد شيئًا من التفصيل في هذا الأمر.

د. المستغانمي: اسم السورة توقيفي من الله جلّ جلاله “سورة الشعراء” هذا عنوانها التوقيفي. بعض العلماء في التفسير قالوا تسمى السورة الجامعة أنها جمعت أكبر عدد من الأنبياء من حيث القصص أما سورة الأنعام ذكر فيها 18 نبي لكن فقط بالأسماء (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ(90) الأنعام) أما سورة الشعراء جمعت قصصهم مشاهد معينة من قصصهم. بعضهم سماها سورة الظُلّة (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(189) الشعراء) عندما أصاب قومًا الحر الشديد وهم أصحاب الأيكة ابتلاهم الله بحرّ شديد سبعة أيام، فلما اشتد الحرّ حتى غلت أنهارهم فجاءهم الله تعالى بغمامة، سحابة فأتوا تحتها يستظلون فلما تجمعوا تحتها أحرقتهم تلك الغمامة (عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) ولم يرد هذا اللفظ إلا في سورة الشعراء لذلك سميت به، عادة العناوين تتفرد بها بعض السور ولا تنطبق على كل السورة مثل الأنبياء ويوسف، لفظ الشعراء لم يرد في غير سورة الشعراء، ورد في غيرها شاعر، شعر لكن الشعراء لم ترد في غير هذه السورة. سورة الشعراء هي حوالي أكثر من 180 آية فيها حول القصص من مجموع آياتها 226 في العدّ المكي والمدني وفي العدّ الشامي 227 آية حسب علماء عدّ الآي. سميت سورة الشعراء العلماء يذكرون أنه لورود (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ(224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ(226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا(227)) لكن عندما نتعمق في تفسيرها وإدراك معانيها وتدبر آياتها  نجد أن ثمة شبهًا بين الشعراء غير المؤمنين وبين الأقوام غير المؤمنين لأن سورة الشعراء فصّلت الأقوام الذين كفروا وبعد كل قصة تأتي اللازمة القولية التي تكررت ثماني مرات (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(191)) (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ) أي القوم الذين سبق الحديث عنهم. هذه اللازمة القوية تكررت ثماني مرات. أكثر الأقوام كذبوا أنبياء الله فحاق بهم العذاب (أصابهم عذاب يوم عظيم) (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) فكأن القرآن يقول للشعراء الذين كان بعضهم يتولى كبر المعارضة المحمدية وكانوا يهجون الرسول صلى الله عليه وسلم منهم النضر بن الحارث ومنهم العوراء زوجة أبي لهب وكثير من الذين يهجون الإسلام ويفنّدون أساسيات القرآن قال (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ(224)) الذي غووا (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ(226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا(227)) استثنى الله (إلا الذين آمنوا)، ابن فارس النحوي صاحب كتاب الصاحبي في اللغة العربية وأسرارها يقول: المستثنى أقل من المستثنى منه. فالشعراء المؤمنون مستثنون من الشعراء غير المؤمنين أكثر الشعراء غير مؤمنين وهذا ينطبق على الأقوام (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ). ثانيًا وصف الله الشعراء بأنهم يقولون ما لا يفعلون (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ(226)) والأقوام معظمهم قالوا ما لا يفعلون فرعون قال لموسى (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ(29)) موسى عليه السلام كان مؤيدًا من الله وعندما ألقى العصا قال له فرعون: ناشدتك بالله يا موسى احملها، أخافته الحية أو الثعبان، وعندما آمن من آمن من السحرة قال (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ(55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ(56)) وتوعدهم أشد الوعيد ولكنه لم يفعل شيئا بل أغرقه الله وأطبق عليه الماء. قوم هود قالوا (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ(136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ(137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(138)) نفوا نفيًا قاطعًا فقال (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ(16) فصلت) وعذبهم الله. وقوم لوط (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ(167)) لئن لم تنته عن دعوتنا لنخرجك ونبعدك هو قال لهم (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ(168)) من الهاجرين، قلى هجر، هو الذي هجرهم (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ(81) هود) وكانوا هم الغابرين والمهلكين. سيدنا نوح قومه قالوا (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ(116)) يتوعدونه لكنهم لم يحققوا شيئًا من وعيدهم ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا، (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا! هل يهزم رجل معه الله؟! قال الله لموسى وهارون (قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ(15)) هل يستطيع فرعون أن يصيب موسى وهارون بأذى والله يقول (إنا معكم مستمعون)؟! هذه المعية عظيمة. (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) بالعكس هم الذين أصابهم ما أصابهم وغشيهم من اليم ما غشيهم وأغرقهم الله سبحانه وتعالى. إذن التقى الأقوام المشركون مع الشعراء بأنهم يقولون ما لا يفعلون.

المقدم: هم اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر واتهموا القرآن بأنه شعر فهل لهذا الأمر علاقة باسم السورة؟

د. المستغانمي: نعم، أول آية في سورة الشعراء (طسم(1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)) تلك آيات القرآن ليس بشعر هذا لام ليس بشعر ولا بثر ولا بخطب، براعة استهلال عجيبة! وبعدما قص عليه قصص الأنبياء مع أقوامهم المكذبين وما لحقهم من العذاب عاد الكلام إلى القرآن (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)) يثبت أن القرآن رباني المصدر، من عند الله (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ(194)) ثم قال (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)) الشعراء هم الذين يتبعون الشياطين (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(212)) هذا كلام مقدّس عجيب عظيم حفظه الله وأنزله. فلكي يفصل الله تعالى ويميز بين القرآن وقداسته وبين الشعر سمى هذه السورة سورة الشعراء تنفيدًا لأقوالهم لكن هذا لا يدعونا أن نأخذ موقفا من الشعراء كلهم، جاء الاستثناء (الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا(227)) الإمام الشافعي كان شاعرًا وحسان بن ثابت كان شاعرا وعبد الله بن رواحة كان شاعراً كانوا شعراء لكم الشعر الإسلامي الذي ينافح عن القرآن وعن الدين. بعض العلماء أيضًا لهم وجهة نظر في تسميتها قالوا: سميت الشعراء لأنها حفلت بخطابة الأنبياء مع الأقوام، كل الأنبياء قالوا كلامًا جميلاً بليغًا لأقوامهم، كل الأنبياء، موسى عليه السلام قال كلاماً بليغًا، سيدنا نوح قال لهم كلامًا بليغًا، سيدنا هود، سيدنا صالح، سيدنا لوط، كأن القرآن اجتزأ شيئا من خطابتهم لأقوامهم، كانت تلك الخطابة وسائل الإعلام وكان الشعراء في عصر الجاهلية كانوا هم الإعلام الحقيقي، الإعلام كان يتمثل في الخُطب وفي الأشعار حتى أن القبائل كانت تتنافس أن تُخرج من بينها شاعرًا أو خطيبا ليكون هو وسيلة إعلامها ويكون اللسان الذي يتحدث باسم القبيلة وأعدوا لهم سوق عكاظ لا للتجارة بل للأشعار وعلقوا أشعارهم على أستار الكعبة. إذن الشعر كان وسيلة إعلامية كأني بالقرآن يقول انظروا إلى الأنبياء والمرسلين كيف خطب كل واحد في قومه وكيف خاطبهم وبصّرهم وارشدهم وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم أرشد قومه وجاء القرآن وسيلة إعلامية عظيمة لتبليغ عقيدة التوحيد.

المقدم: نتحدث عن الخصائص اللفظية التي تميز هذه السورة عن غيرها.

د. المستغانمي: هذه السورة لها هندسة عجيبة، مهندّسة موزّعة وزّعتها اللازمة القولية المتكررة ثماني مرات بعد كل قول قوم لنبيهم (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9))، أول مرة جاءت بعد آية علمية (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)) هذه آية عقلية علمية موجهة لقوم محمد صلى الله عليه وسلم ، للمسلمين وللعالم، بدأت (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً) ثم جاء بأقوام الأنبياء موسى مع فرعون، نوح، إبراهيم، هود، لوط، شعيب، بعد كل مقطع ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (*) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(*)) هذه الآية تواسي وتثبت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك ولله المثل الأعلى العالم الحكيم الناصح الذي يمسك طالب علم ويراه قد تأسف على أمر ينصحه ويقول لا تأسف ولا تذهب نفسك حسرات، ثم يعطيه قصة ثم يعود إليه (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) كان القرآن يتخوّل محمدا صلى الله عليه وسلم بالموعظة ويمسح على قلبه ويقول (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) هؤلاء لا يعجزون الله، العزيز يعني الغالب القوي  هؤلاء لا يعجزون الله يستطيع عقوبتهم لكنه رحيم يفسح الآمال حتى يتوبوا وحتى يعودوا (العزيز الرحيم) وآخر شيء قال (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)) وتحدث عن محمد صلى الله عليه وسلم.

من بين خصائصها اللفظية نجد هذا التركيب الجميل: “وأنت من” “وأنا من” فرعون لما تحدث مع موسى قال (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)) لم يقل له وأنت كافر، (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)) قال موسى لما أجابه (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20))، (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)) ((من) لبيان الجنس، من هذه المجموعة، من هذه الزمرة والطائفة) فرعون لما أراد أن يسجن موسى قال (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)) (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)) (وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)) (مِنَ الضَّالِّينَ) هذه تكررت في السورة 22 مرة (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)) (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)) هذه خاصية. درسنا قبلها سورة الفرقان لا يوجد هذا التعبير، فلكل سورة خصائص لفظية.

من بين ما يميزها بدايتها (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) لما بدأت (الْكِتَابِ الْمُبِينِ) تكررت كلمة (مبين) (ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)) (لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)) (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)) (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)) هذه من خصائصها لأنه ثمة آيات أخرى (يس(1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ(2) يس) كلمة الحكيم ليس المبين لأن الحكيم تتناسق وتتناسب مع سورة يس من حيث اللفظ والمعنى.

مما يميز سورة الشعراء (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) كررها ثماني مرات حتى عندما أمر الله جلّ جلاله محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوكل قال (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217)) وهذه فريدة في القرآن العزيز الرحيم هذا الذي يؤانسك ويسليك ويثبتك ولن يتخلى عنك. في سورة الفرقان قال (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ (58) الفرقان) لأنه ورد في السورة (وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا(3) الفرقان) والله هو الذي يملك الموت والحياة والنشور فقال (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) وفي سورة الأحزاب قال (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) لأن فيها حديث عن الله.

من بين ما يميز سورة الشعراء أن فيها صبغة درامية سنصل إلى كل قصة، في كل قصة ذكر الله أن الأقوام استأسدوا واستغلظوا على أنبيائهم وتبجحوا، قال قوم هود (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ(136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ(137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(138)) عندما يتجبرون الله سبحانه وتعالى لما علّق عليهم قال (أخرجناهم) في فن الأدب تسمى النهاية الدرامية، صور الله النهاية الدرامية المأساوية وأخرجهم مما كانوا فيه. تحدث الله عن قوم فرعون قال (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(58)) أخرجناهم مما كانوا فيه لم يشكروا الله. قوم عاد (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ(132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ(133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(134)) ثم أخرجهم وعذّبهم، صالح مع ثمود (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ﴿١٤٦﴾ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿١٤٧﴾ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ﴿١٤٨﴾ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ﴿١٤٩﴾ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٥٠﴾ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ﴿١٥١﴾ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴿١٥٢﴾ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٥٣﴾ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿١٥٤﴾ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴿١٥٥﴾ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿١٥٦﴾) وهذه أوقع في التأثير على تحسّرهم، فوصف القصص جانبًا مما كانوا فيه من النعم ثم وصف إخراجهم منها.

مما تتميز به سورة الشعراء وتفردت بهذا الكلام في وسطها بعد حديث ابراهيم مع قومه (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿٧٧﴾ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿٨٠﴾) وتبرأ إلى الله بالتوحيد وعاد إليه بالتوحيد بعد أن انتهى مشهد إبراهيم مع قومه قال (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿٩١﴾ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿٩٢﴾ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ﴿٩٣﴾ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴿٩٤﴾) هم والغاوون وجاء في نهاية السورة (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)) هذا الرابط، الرابط أن الشعراء كانوا مثل الأصنام يتبعهم الغاوون مثل الكهنوت وهؤلاء الأصنام يتبعهم الغاوون، (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴿٩٤﴾ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴿٩٥﴾) استعمل (الغاوون) ثلاث مرات، هذا الحبل الرابط للسورة ولذاك سميت بسورة الشعراء. والشعر يغوي الناس ويوم القيامة يقول (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) القصص) أتت في سورة القصص.

مما يميز سورة الشعراء وهذا شيء لافت الحديث عن رب العالمين في البداية إلى النهاية. عندما أمر الله موسى وهارون أن يذهبا إلى فرعون قال (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦﴾) لم يقل رسول ربك حتى فرعون لما غضب واحتدّ قال (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٣﴾) ما جنسه؟ ما حقيقته؟. إبراهيم عليه السلام لما تبرأ مما يعبد قومه (إلا رب العالمين) وبدأ يصف من هو رب العالمين (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿٨٠﴾) الذي أنكره فرعون أجابه موسى وأفحمه وأجابه إبراهيم عليه السلام. حتى الأنبياء والرسل لما تكلموا مع أقوامهم قالوا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) لم يقولوا إن أجري إلا على الله، كل الأنبياء قالوها. هذه سورة حفيت واحتفلت بتفصيل من هو رب العالمين. ألم يقل فرعون (وَمَا رَبُّ ٱلعَٰالمِينَ (٢٣))؟ سأعرفك من هو رب العالمين وهذا تعريفه إلى أن يقول في الختام (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)) في سور أخرى (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) الجاثية) (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافر) ورد في سورة فصلت (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)) أما في الشعراء (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)) فهنا أيقونة لفظية مرعية ولها أسبابها.

المقدم: في سورة النور تبدأ (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1) النور) وقلنا حينما ينتهي الله سبحانه وتعالى من موضوع يذكر (آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) على سبيل المثال (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ (18) النور) الآن في سورة الشعراء يقول الله تعالى (طسم(1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)) وحينما ينتهي من قصة يقول (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) هل لهذه اللازمة علاقة ببداية السورة (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)؟

د. المستغانمي: هذه اللازمة هي التي قسّمت السورة. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً) تختلف من آية إلى آية، القرآن كله آيات منزّلة، لما تحدث عن الآية العلمية (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)) آية علمية آية الإنبات، لما تحدث عن قوم موسى وفرعون وما الذي وقع بينهم قصتهم عبرة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً) لعبرة، الآيات قد تكون قرآنية وقد تكون من الواقع ومن العلم.

المقدم: نلج في السورة بداية من الحروف المقطعة، (طسم) ما معناها ولماذا وردت هنا وهل لها علاقة بما سيأتي في السورة؟

د. المستغانمي: (طسم) من الأحرف المقطعة التي بدأت بها ثلاث سور سورة الشعراء (طسم)، سورة النمل (طس) وسورة القصص (طسم) وهي متوالية في المصحف وفي النزول. هذه الأحرف المقطعة ذكر العلماء فيها أقوالًا وهي تأويلات وذكرنا في سورة مريم (كهيعص) وفي سورة طه لمحنا إلى هذا القول وقلنا أن الأقوال التي ذكرها بعض العلماء في التفاسير من باب التأويلات وليست ثمة أدلة دقيقة على صحتها، منهم من يقول اسم السورة بعضهم يقول طسم الشعراء، بعضهم يقول هي أسماء الله، بعضهم يقول هي أسماء الملائكة، بعضهم يقول هي أسماء يوم القيامة، ورد فيها أكثر من عشرين رأيًا، بعضهم يعطيها تأويلات: الطاء من ذي الطول والسين من القدوس والميم من الرحيم، هي تأويلات لا ترجيح لرأي على رأي، الرأي الراجح عند اللغويين وذكره علماؤنا وهو الرأي الذي نرتاح إليه أنها حروف عربية أبجدية هجائية بدأ بها القرآن للتحدي.

المقدم: عُلمنا منذ كنا صغارا بأن هذه الحروف المقطعة دلالة على إعجاز القرآن والإعجاز هو التحدي بشيء لا يستطيع المتحدى أن يأتي به فحينما نقول أن طسم أو طس هي دلالة على إعجاز القرآن أنا لا أفهم أين الإعجاز في هذه الحروف؟

د. المستغانمي: الإعجاز ليس في الحروف وإنما فيما يأتي في السورة.

المقدم: الإعجاز فيما يأتي في السورة بدون هذه الحروف؟

د. المستغانمي: كأني بالقرآن يقول هذا الكلام المعجز هو من جنس هذه الحروف ذكر (طسم) وذكر (كهيعص) وثمّة أسرار وسنذكرها يومًا ما في حينه. (طسم) هذا القرآن، هذه السورة نسجت من هذه الحروف أفتستطيعون أن تأتوا على منوالها؟! (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)

المقدم: الإعجاز ليس في مادة هذه الحروف والأصوات وإنما الإعجاز في بناء هذا القرآن من هذه الأصوات

د. المستغانمي: في بناء نظم القرآن لذلك لم يستطع العرب قديماً وكانوا أفصح الفصحاء وأصقع الخطباء لم يستطيعوا أن يأتوا بآية من مثله في محتواها ومبناها وعندما أراد مسيلمة الكذاب أن يعارض القرآن سمع (الْقَارِعَةُ(1) مَا الْقَارِعَةُ(2) القارعة) فكتب: الضفدع ما الضفدع، والفيل وما أدراك ما الفيل، كلام فارغ لا معنى له، لذلك لا يستطيع العرب أن ينسجوا ولا علماء الدنيا وقد تحداهم القرآن (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) الإسراء)

المقدم: تعودنا أن نربط دائمًا العلاقات ما بين السور ونقول لماذا وردت هذه اللفظة أو هذا المصطلح في هذه السورة وورد مرادف له في سورة أخر لأنه يتناسب معها. حينما نقول بأن سورة الشعراء ثم النمل ثم القصص تأتي متتابعة في الترتيب وفي التنزيل وفي ذات البدايات (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) هذا معناه فيه سر؟

د. المستغانمي: طبعًا فيه سر، لا يوجد شيء في القرآن ليس فيه سر. حينما وضع الله عز وجلّ الفاتحة أول سورة ثم وضع سورة البقرة (الم) ثم سورة آل عمران (الم) ثم بعد عشرين جزءًا جاءت سورة العنكبوت (الم) والروم (الم) ولقمان (الم) والسجدة (الم) ست سور فيها (الم) هذه بينها علاقة وهي أسرة واحدة تبدأ بنفس المطلع، ثمة أسرار دلنا بعض العلماء عليها وثمة أسرار أخرى. (طسم) السور الثلاث الشعراء والنمل والقصص تحدثت عن قصة موسى، جاءت بداية قصة موسى في الشعراء من بعثته إلى فرعون (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(10)) لم تذكر تربيته في قصر فرعون، سورة الشعراء قصت لنا قصة موسى مع فرعون من البعثة اذهب إلى فرعون (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لم تتحدث عن طفولته ولا عن قتله القبطي ولا عن نزول الوحي، سورة النمل بعدها بدأت (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا (7) النمل) بدأت بالتكليف ونزول الوحي والتوراة عندما كلّم الله موسى. في سورة القصص (طسم ﴿١﴾ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿٢﴾ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٣﴾ القصص) قصة موسى وفرعون مفصلة وهامان وقارون، مفصلة من المولد (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ (7) القصص) العلاقة هرمية: سورة القصص التي هي آخر السور الثلاث بُنيت على التحدي تحدى الله فرعون الذي كان يقتل الأبناء ويستحيي النساء (طسم ﴿١﴾ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿٢﴾ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٣﴾ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴿٤﴾ القصص) ما دام علا في الأرض يستضعف طائفة هنا تدخلت العناية الإلهية (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ (7) القصص) هو أراد أن يقتل جميع أولاد بني إسرائيل فرباه في بيته وقالت زوجته (وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) وتحداه الله! قدرة الله تتحدى فرعون الطاغية الذي كان يدعي الألوهية فجاء مولد موسى ولما ولد تربي في قصره (وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) بعد ذلك وقع بينه وبين القبطي ما وقع وقتله خطأ  ثم ذهب إلى مدين وهناك تزوج من ابنة الرجل الصالح ثم عاد إلى مصر وتوقفت القصة عندما أوحى الله إليه في الطور. جاءت سورة النمل التي قبلها أكملت من ذات الموقف (آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا) فترة التلقي موسى يتلقى الوحي عند الطور وهي مرحلة جديدة تتوافق مع سورة النمل وشخصية سورة النمل (طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ﴿١﴾ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿٢﴾ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿٣﴾ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴿٤﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ﴿٥﴾ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴿٦﴾ النمل) لما قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴿٦﴾ النمل) أتى بالقصة المشابهة تلقي موسى للوحي من الله. العدسة البيانية القصصية ذكرت قصة موسى في تلقيه الوحي العظيم من الله. سورة الشعراء جاءت تسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقوام كذبوا رسلهم فحاق بهم العذاب ودمرهم الله تدميرا، هنا لا داعي للحديث عن إنزال الوحي ولا عن تربية موسى إنما أكملت المشوار (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بداية الدراما التي وردت في جميع قصص الأنبياء. إذن هذا التكامل بين هذه السور وثمة أسرار نرجئها إلى حين إظهار الإعجاز.

المقدم: (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) لماذا التعبير بـ(تلك)؟

د. المستغانمي: تلك في اللغة العربية اسم إشارة للبعيد ولكن عندما تُقرأ في القرآن (ذلك وتلك) تدل على بعد المنزلة لا بعد المكان و(تلك) تشير إلى الآيات والسور السابقة النزول، كل ما نزل تلك آيات الكتاب المبين وفي هذه سيأتيك الكثير يا محمد صلى الله عليه وسلم.

المقدم: استعمل لفظ المبين لمناسبته للسورة

د. المستغانمي: لمناسبته للسورة وتكرر في عدد من المشاهد وهو من الخصائص الفظية لسورة الشعراء.

المقدم: (لَعَلَّكَ بَٰخِع نَّفسَكَ أَلَّا يَكُونُواْ مُؤمِنِينَ (3)) كنت أعتقد أن باخع نفسك يعني مهلك نفسك لكنكم ذكرتم في الحلقة الماضية أن باخع نفسك أي ذابح نفسك إلى العِرق.

د. المستغانمي: إلى العرق الداخل المستبطن في الفقرات. (بَٰخِع نَّفسَكَ) البخع في اللغة العربية هو إعماق الذبح إلى أن يصل الذابح إلى عمق الفقار. وهذه (لعل) تفيد الترجي وقال العلماء اللغويون (لعل) هذا تفيد الإشفاق، لعلك يا محمد، أشفق على نفسك يا محمد ولا تبخع نفسك ولا تهلك نفسك أسفًا على أن لا يكونوا مؤمنين. لم يقل له لعلك باخع نفسك ألا يؤمنوا وإنما قال (أَلَّا يَكُونُواْ مُؤمِنِينَ) بمعنى وطّن نفسك سيكفرون فهناك عدد منهم سيستمر على الكفر بينما في سورة الكهف قال (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) الكهف) (لم يؤمنوا) بالماضي، لماذا في سورة الشعراء تكلم بصيغة المضارع  وفي سورة الكهف بالماضي؟ سورة الشعراء متقدمة في النزول 47 نزولًا وسورة الكهف 67 نزولًا فهي متأخرة بعدها، في سورة الشعراء وطّن الله محمدًا وثبت قلبه أنه لا زال عدد منهم سيكفر بك (أَلَّا يَكُونُواْ مُؤمِنِينَ) وسوف يستمر بعضهم، ولما قضى سنوات معهم جاءت سورة الكهف تثبته (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا) بالماضي كما وجدت.

المقدم: ما مناسبة هذه اللفظة (باخع نفسه) مع سياق السورة ومحورها؟ والمعنى قد ورد في صياغة أخرى (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ (8) فاطر) لكن ورود (باخع) في سورة الشعراء تحديدا هل له علاقة بمحور السورة؟

د. المستغانمي: (لعلك باخع) هذه اللفظة تحمل شدّة التأسف، لعلك قاتل نفسك، لعلك مهلك نفسك لبيان شدة حسرة محمد صلى الله عليه وسلم. محور سورة الشعراء هو تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم ولشدة أسف محمد صلى الله عليه وسلم على ضلال قومه في ذلك الوقت كانوا يضلون وكانوا يقولون ما لا يعلمون وكانوا يناصبونه العداء فقال (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ (8) فاطر) وفي قرآءة (فَلَا تَهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) فهنا اختار له المادة اللغوية (باخع) لتصوير شدة تأسفه.

المقدم: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)) نقف عند الآية (إن نشأ ننزل) أفعال مضارعة ثم (فظلّت) ماضي، فهل هناك سر في استعمال الأفعال؟

د. المستغانمي: لما طمأنه وثبت قلبه (لَعَلَّكَ بَٰخِعٌ نَّفسَكَ أَلَّا يَكُونُواْ مؤمِنِينَ (3)) قال له لست عليهم بمسيطر (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ) هنا فعل شاء مفعوله محذوف: إن نشأ تنزيل آية قاهرة ننزل عليهم، إن أداة شرط، إن نشأ تنزيل آية ننزل عليهم، المفعول به محذوف لا نقدّره (إن نشأ ننزل) لأن (ننزل) جواب الشرط. إن نشأ تنزيل آية قاهرة ننزل عليهم آية ملجئة قاسرة مكرهة. القياس اللغوي إن نشأ ننزّل فتظل أعناقهم (في المستقبل) جاء (ظل) هنا عدول من المضارع إلى الماضي لإفادة سرعة التحول سرعة الوقوع وسرعة الحصول. عوضًا عن أن يقول له: إن نشأ ننزل عليهم آية فتظل أعناقهم لها خاضعين قال (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ) تمّت وانقضت، صارت في حكم الواقع على شاكلة قول الله (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) سيأتي  أمر الله. الله في القرآن إذا أراد أن يصف أمرًا بأنه تم ووقع يستخدم صيغة الفعل الماضي. هنا إن نشأ ننزل عليهم آية تقهرهم تلجئهم إلجاء قسريًا لأنزلنا عليهم آية فظلت أعناقهم لها خاضعين. (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) في غير القرآن نقول الأعناق خاضعة لكن في الآية أتى بالأعناق وخاضعين والعلماء لهم شرحان: الأول: الأعناق مقحمة أصل الكلام: إن نشأ ننزل عليهم آية فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع، الخضوع يكون بالأعناق، الإنسان إما أن يكون متكبرًا رافعًا رأسه وهامته أو يكون خاضعًا متطامنًا يخضع برقبته والرقبة هي مكان الشموخ أو الانكسار والانقياد فأُقحمت كلمة الأعناق. بعضهم يقول (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) أصل الكلام ظلت أعناقهم خاضعة لكن بما أن الأعناق هي جزء من الإنسان عندما يأتي المضاف والمضاف إليه، المضاف جزء من المضاف إليه يجوز الوجهان في اللغو العربية، يجوز خاضعين وخاضعة واختيار خاضعين للإيقاع الصوتي للسورة كاملة. مفسرون آخرون يقولون: أعناقهم وجهاء القوم ورؤساؤهم كناية عن الرؤساء والوجهاء والملأ الذين يملأون العيون وهنا قال إن نشأ ننزل عليهم آية من السماء فظلت رؤساؤهم وأغنياؤهم لها خاضعين والقرآن حمّال ويشعّ بالمعاني.

المقدم: (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)) وفي سورة أخرى (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) الأنبياء) ما هو الذكر؟ وفي آية أخرى قال (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ (2) الأنبياء) لماذا قال الرحمن ولماذا قال في الآية الأخرى (يلعبون) وهنا (معرضين)؟

د. المستغانمي: الذكر هو القرآن الكريم (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) الحديث عن القرآن. (محدث) متجدد، كلما نزلت آيات من السماء من الله سبحانه وتعالى تجدد إيمانهم تبلّغهم أشياء جديدة إلا ازدادوا كفروا وأعرضوا عنها (إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ).

(الرحمن) (ربهم) – (إلا استمعوه وهم يلعبون) (معرضين)

هنا قال (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ(5)) يأتيهم في المستقبل تفيد التجدد، كلما أتاهم ذكر من الله ونزل على قلب محمد إلا كان هذا ديدنهم. (مِنَ الرَّحْمَنِ) قلنا أن السورة نزلت لتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ولهدايتهم وكررت فيها اللازمة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) العزيز يستطيع عقابهم، الرحيم يبسط الآمال ويبسط الفرصة لهم حتى يتوبوا فهنا (الرحمن) يتألف قلوبهم ما يأتيهم من ذكر من الرحمن الذي يريد رحمتهم، الذي يريد الخير لهم ويريد صلاحهم ونفعهم للأسف قابلوه بالإعراض! سورة الأنبياء سورة الوعيد (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) الأنبياء) ومع الوعيد يناسب الرب لا الرحمن لأن كلمة الرب جلّ جلاله تفيد الترغيب والترهيب، كلمة الرب جلّ جلاله بمفهومها اللغوي تعني الرازق، تعني المعطي المنفق المربي الرحيم، تعني عدد من المعاني، الذي يرزق، لذي يحفظ، الذي يرعى ويحفظ ويتكفل وهو المالك فسورة الأنبياء فيها وعيد شديد اللهجة (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) الأنبياء) هنا قال (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ (2) الأنبياء) كلمة الرب تحتمل الترغيب والترهيب أما كلمة الرحمن تحتمل الرحمة فقط. فهنا رحمة بالقرشيين المشركين أتى ما يأتيهم من ذكر من الرحمن

السؤال الثاني (يلعبون) (معرضين): سبق الإعراض في أول آية (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) الأنبياء) (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) الأنبياء) واللعب أيقونة في سورة الأنبياء. أما في سورة الشعراء ففيها الإعراض بدليل أعرض المشركون عن محمد صلى الله عليه وسلم وأعرض الأقوام عن رسلهم كما سيأتي في القصص.

المقدم: (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)) ما دلالة يستهزئون؟ ما قيل يكذبون لتتناسب مع (فقد كذبوا)

د. المستغانمي: تقصد رد العجز على الصدر وهذا كثير في القرآن (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) النحل) (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ (37) الأحزاب). هنا في غير القرآن: فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يكذبون لو قالها لكان الكلام صحيحا ويتسق مع الإيقاع لكن هنا قال يستهزئون فأضاف معنى لأنهم هم كانوا يكذبون وكانوا يستهزئون فجمع لهم صفة أخرى لكن القرآن وجيز إيجازا شديدا فجمع لهم الاستهزاء مع صفة الكذب وقبلها وصفهم بالإعراض. إذن المشركون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم بثلاث صفات: الإعراض والتكذيب والاستهزاء.

المقدم: في الآية التي قبلها قال (إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) ما قال يعرضون ثم هنا قال (يستهزئون) ما قال مستهزئين؟

د. المستغانمي: هنا (يستهزئون) الاستهزاء متجدد، في البداية لما وصفهم بالإعراض هم أعرضوا نهائيًا عن محمد صلى الله عليه وسلم لكن هنا الآية وصفت استهزاءهم بالتجدد. لو قال فسيأتيهم أنباء ما كانوا به مستهزئين يمكن أن يفهم أنهم استهزأوا مرة أو اثنتين لكن لما قال (يستهزئون) تفيد الاستمرارية هم دائمًا سيستهزئون فأنت وطّن قلبك يا محمد وتجلّد وما عليك إلا البلاغ.

المقدم: وقفنا عند الآية السادسة وسيكون حديثنا في الحلقة القادمة إن شاء الله عن الآية السابعة (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)) قال كريم ولم يقل بهيج كما ورد في سورة ق.

في رحاب سورة الشعراء – 3 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة الشعراء – 3

تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا

المقدم: بدأنا الحديث عن تفاصيل سورة الشعراء بعد مقدمة عامة عنها ووصلنا إلى الآية السابعة (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)) ما نوع الاستفهام هنا؟

د. المستغانمي: هو استفهام فيه معنى الإنكار، استفهام إنكاري ينكر عليهم أنهم لا يرون أنواع النباتات الكريمة التي أنبتها الله في الأرض، الخطاب والحديث عن المشركين (أولم يروا كم) هذه (كم) الخبرية تفيد الكثرة (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) حتى إن العلماء تساءلوا لماذا وردت (كم) التي تفيد الكثرة و(كل)؟ أجاب اللغويون: (كم) تفيد الكثرة و(كل) تفيد الإحاطة كأن الله تعالى يقول ألم ينظروا إلى كثرة أنواع النباتات التي تحيط بجميع أصناف النباتات، كم يوجد في الكرة الأرضية من أنواع النباتات؟! فالاستفهام استفهام ينكر عليهم. ألم يروا هم النباتات في الأرض؟ بلى ولكن الله تعالى أنزلهم منزلة من لم يراها لأنهم لم ينتفعوا بها، فأنكر عليهم عدم الانتفاع فقال (أولم يروا) أنزلهم منزلة من لم ير لأنهم لم ينتفعوا والمفترض عندما ترى أنواعًا من النباتات والورود والزهور تقول سبحان من خلق وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد. ونحن في سورة الشعراء ذكرنا أن أكثر من 180 آية فيها حول القصص وهذه الآية العلمية الوحيدة التي بدأ بها وأرشد إليها (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)

المقدم: ما علاقة هذه الآية العلمية بمحور السورة؟

د. المستغانمي: هذه الآية تفتّح الأذهان وتفتّق التفكير، كان الأولى بكم أن تستدلوا بما في الأرض من نباتات ومخلوقات على قدرة الخالق، أتى بآية علمية واحدة وفي آيات أخرى في سور أخرى (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ﴿٦﴾ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴿٧﴾ ق) تنبههم (قل انظروا) هنا اكتفى بآية علمية واحدة وأتى بثمان قصص: قصة إبراهيم وقصة موسى وهود ولوط، قال العلماء الآية العلمية مطردة لا تتخلف (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا) في جميع الكرة الأرضية، بينما لو ذكر لنا قصة واحدة قصة موسى عليه السلام كيف عاشوا وكيف كذبوا وكيف أغرقهم الله، يمكن أن يقرأها أحد في التاريخ ويقول أنها صدفة أو اتفاقًا أن هؤلاء القوم أغرقهم الله، فحتى تثبت النظرية الإسلامية بأن الأقوام الذين كذبوا هذا هو مصيرهم أتى بقصص لعدد من الأقوام لأن هذه النظرية إنسانية. عندما اطردت العملية وكثرت نستنتج منها نظرية علم الاجتماع ودراسة التاريخ نحن نستفيد من التاريخ نستخرج ونستخلص نحن العقلاء النظرية من الأقوام أما النظرية العلمية تقال مرة واحدة تكفي.

لماذا هنا بالذات (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا) الإنبات (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً) وفي السموات أليس هناك آيات؟ في آية أخرى (أفلم ينظروا في ملكوت السموات) المقصد هنا الإنبات بالدرجة الأولى، الأقوام الذين ذكرهم الله كلهم عندما لم يشكروا نعمة الله ولم يوحّدوه أخرجهم من جنات وعيون وزروع، قوم موسى عليه السلام (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿٥٧﴾ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴿٥٨﴾ الشعراء) فلذلك بدأ بالانبات، ثمة علاقة وإلا لا يوجد شيء في القرآن ليس له علاقة بالمحتوى وبمحور السورة. ولما تكلم عن قوم هود (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ﴿١٣٣﴾ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿١٣٤﴾ الشعراء) لما تكلم عن سيدنا صالح مع ثمود قال (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ﴿١٤٦﴾ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿١٤٧﴾ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ﴿١٤٨﴾ الشعراء) هنا كان الأليق والأوفق أن يذكر هذه الآية.

ثانيًا اجتهاد مني أنه لما تحدث موسى مع فرعون قال فرعون (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٣﴾ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴿٢٤﴾ الشعراء) (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿٢٨﴾ الشعراء) أتت آيات علمية في سياق قصة موسى فلا داعي للتكرار، والله أعلم.

المقدم: ما دلالة زوج كريم؟

د. المستغانمي: الكريم من كل شيء هو النفيس، هو أجود ما في ذلك الجنس، ذكرنا الحجارة الكريمة هي أجود أنواع الحجارة، القرآن الكريم يعني أجود ما قيل، أجود الكتاب.

المقدم: والنبي صلى الله عليه وسلم قال له أهل مكة عندما سألهم ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم،

د. المستغانمي: أخٌ جمع كل النفائس وكل الصفات والخصال العظيمة. هنا (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) ولو كان زوجا غير كريم كالحنظل والأشواك؟ هي أيضًا فيها فائدة وهي من خلق الله. لو قيل: وأنبتنا فيها من كل زوج لكان كافيًا، (كريم) في البلاغة ادماج، أتى بمعنى جديد.

لماذا لم يوصف بـ(بهيج) كما في آية سورة ق وسورة الحج (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)؟ البهجة هي الجمال وهي الحيوية (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) فيه حيوية ونضرة ورشاقة، يبدو النبات مشرقًا لأن سورة الحج فيها حديث عن الموت والموت يناقضه البهجة (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) وبعدها حديث عن الموت (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٦﴾ الحج) حديث عن الموت وفي سورة ق (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴿٨﴾) وبعدها الموت (إنا نحن نحيي ونميت  )، ففي سياق الحديث عن الموت حسُن (بهيج) وفي سورة الحج (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) إلى أن قال (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً) لم يقل خاشعة. إذن في سياق الحديث عن الموت كلمة (بهيج) أليق وهنا تحدث عن النوع الكريم.

المقدم: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿٨﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿٩﴾) هاتان الآيتان تكررتا في السورة ثماني مرات، لماذا هذا التكرار وما المقصود بهما؟

د. المستغانمي: قلنا سابقًا بأن سورة الشعراء أنزلها الله تبارك وتعالى تثبيتًا لقلب محمد صلى الله عليه وسلم ومواساة لقلبه وتسلية له وطمأنة له لأن المشركين كانوا يلاقونه بأشد أنواع الأذى والإزدراء والازدجار ازدجروه وآذوه فأعطاه أمثله للأقوام السابقين، دعوة للنظر في الإنبات وقلنا أن الإنبات هذه معجزة عجيبة تدل على المنبِت على الله الخالق ثم ضرب له أمثلة بالأقوام السابقين: قصة موسى مع فرعون، قصة إبراهيم مع قومه، قصة نوح مع قومه، قصة هود مع قومه عاد وكلهم كذبوا رسلهم وكيف دعاهم أنبياؤهم ورسلهم فكأني بهذه الآية تقول لست واحد يا محمد طريق الدعوة محفوف بالمصاعب وبالعوائق ولكن الله يثبت أنبياءه ويحتسبون الأجر عند الله هكذا هم الدعاة إلى الله. إن في ذلك لعبرة، إن في ذلك لآية للأسف ما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك يا محمد ربك الذي يحبك ويكرمك ويرزقك ويعتني بك (انظر هذه الكاف في ربك) إن ربك عزيز رحيم يستطيع أن يسوق إليهم العذاب: عزيز غالب لكنه رحيم يسوق إليهم الأدلة حتى يتبصروا ويعودوا وإن لم يعودوا في النهاية فسيكون مصيرهم مصير الأقوام السابقة.

المقدم: ثم يبدأ بقصة موسى، السؤال لماذا الابتداء بقصة موسى ولماذا قصة موسى تذكر كثيرًا؟ قلنا سابقا أنها أكثر القصص مشابهة لقصة النبي صلى الله عليه وسلم وللأحداث التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم؟ لماذا بدأ قصة موسى بهذا الموقف (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿١٠﴾) وذكرنا في حلقة ماضية أن قصة موسى ذكرت في أكثر القرآن في مواضع مختلفة منها ما هو متعلق بولادته، منها ما هو متعلق بالبعثة أو بالتكليف، إنزال التوراة لكن لماذا بدأ القصة هنا بهذه الحادثة بالتحديد؟

د. المستغانمي: الشبه بين قصة موسى عليه السلام مع فرعون وبني إسرائيل وبين قصة محمد صلى الله عليه وسلم مع المشركين ومع أهله شبه كبير لذلك هي أكثر القصص دورانًا في القرآن ابتداء من الأعراف، في يونس، في هود، في طه، في الشعراء في القصص في النمل. لكن أيضًا هناك ثمّة أسباب من هذه الأسباب أن المشركين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم – وذكرنا هذا في سورة الفرقان (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ﴿٧﴾ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ) كانوا يريدون آيات حسية يرونها – الله تبارك وتعالى قال لهم لو أن الآيات الحسية نفعت لكانت نفعت فرعون و قومه. موسى عليه السلام أكثر الأنبياء والرسل أعطي آيات حسية: العصا تصبح ثعبانا مبينا، اليد يدخلها في جيبه تخرج بيضاء، فرق بهم البحر، تسع آيات بينات الضفادع والقمّل والدم وكثير من الآيات ولو أن الآيات هي التي تجعلهم يؤمنون لكان فرعون هو أول المؤمنين وكان قومه. فالآيات الحسية ليست شرطًا أن تقود إلى الإيمان لذلك أتى بقصة موسى وضرب بها مثلًا لمحمد صلى الله عليه وسلم وقومه، العبرة بالتفكير، العبرة بالتدبر في هذا المعنى هل هو صحيح أم لا، الطريق التي يدعوكم إليها محمد طريق توحيد الله، طريق الاستدلال بخلقه على الخالق لذلك جاءت بعد ذلك قصة إبراهيم.

المقدم: هنا يقول الله سبحانه وتعالى (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿١٠﴾) القوم الظالمين هم قوم فرعون لماذا يقول (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ) ما قال مثلًا: وإذ نادى ربك موسى ائت القوم الظالمين؟

د. المستغانمي: هذه (أن) تسمى أنّ التفسيرية لأن الآية بدأت (وإذ نادى ربك) (وإذ) هنا ظرف زمان أي واذكر حين نادى، واذكر إذ نادى ربك موسى قائلًا له أن ائت القوم الظالمين، فعل (نادى) يتضمن فعل القول (قال) لما تنادي إنسانًا تناديه تقول له شيئا. (قال) أصرح في القول من نادى، لو قال: وإذ قال ربك لموسى ائت القوم الظالمين، صرّح بالقول أما (نادى) ليست صريحة في القول وتحتاج إلى تفسير لذلك دائمًا نجد (أن التفسيرية) مع نادى ومع أوحى (أوحينا إليه أن أسرِ ) أوحى، نادى، تحتاج إلى أن التفسيرية، لو قال: وإذ قال ربك لموسى ائت القوم، القول واضح صريح.

(وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿١٠﴾) القوم الظالمين هم قوم فرعون لكن لماذا قال (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بعد ذلك قوم فرعون؟ أيهما الأصل: الصفة أم الموصوف؟ الأصل ذكر الموصوف، بعد ذلك تصفه، قدّم صفة الظلم كأن القرآن يريد أن يقول أنهم عُرفوا بالظلم أكثر مما عرفوا بقوم فرعون. الظلم لأنفسهم والظلم للآخرين، ظلموا أنفسهم بكفرهم وبعدم اتباعهم شرع الله وبالشرك لأن الشرك لظلم عظيم وبظلمهم بني إسرائيل، فرعون هو أكبر الظالمين استعبد رجالهم واستحيا نساءهم وقتّل أطفالهم فالظلم ظلمان: ظلم الشرك والظلم الحقيقي. وانظر إلى العبارة (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) كأنهم عُرفوا بالظلم ثم جاءت (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) عطف بيان فإن شئت أن تناديهم بالقوم الظالمين فلك ذلك وإن شئت أن تسميهم قوم فرعون فلك ذلك، أصبحت كلمة الظالمين مقترنة بقوم فرعون وهذا تعبير عجيب لا يوجد إلا في القرآن. القياس اللغوي: أن ائت قوم فرعون القوم الظالمين.

وثمة نكتة قالها المفسرون (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) موسى يترقب: من هم؟ (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) يشتاق إلى الذهاب ودعوتهم ولنهيهم عن الظلم. ارتكزت واقترنت صفة الظلم بهم وأول ما يذهب موسى لفرعون يقول: استعبدت بني إسرائيل فأخرِجهم، اترك عباد الله يعبدون الله.

المقدم: (أَلَا يَتَّقُونَ) هنا الحديث عن قوم فرعون، ما هذه الصيغة؟

د. المستغانمي: قل لهم ألا يتقون؟! هنا طلب.

المقدم: هو الآن يتحدث عنهم فكيف يطلب منهم في ذات الوقت؟

د. المستغانمي: هو قال (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) قال اذهب إليهم وقل لهم ألا يتقون، بلّغهم ألا يخافون الله؟. التقوى هي الخوف من الجليل، هم كانوا لا يعتبرون الإلهية أبدًا، فرعون هو الإله ولأنه كان ينتسب إلى جنس الآلهة كما يقولون ويمثلهم كما كان يقول وهو القائل (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿٥١﴾ الزخرف) لم يكتف بطبقة الملك لم يكتف بقول أنا ملك مصر بل قال أنا إله مصر، وللأسف وجد من حاشيته من يعبده (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿٥٤﴾ الزخرف)

المقدم: ثم يقول الله سبحانه وتعالى على لسان موسى (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ﴿١٢﴾) هذه الآية كما وردت في آيات أخرى كأن موسى يخاف من شيء متردد في المسألة وهذا وضح في آيات أخرى فلماذا يخاف موسى أن ينطلق إلى قوم فرعون؟

د. المستغانمي: في سورة طه عندما قال (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ﴿٢٩﴾ هَارُونَ أَخِي ﴿٣٠﴾) يريد عضدًا يشد أزره. لأن اسم فرعون ارتبط بالظلم ارتبط بالقتل أيوجد إنسان في الدنيا أمر بتقتيل جميع المواليد؟! ارتبط اسمه بالتقتيل والتذبيح (يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم) وفي آية أخرى (يذبّح أبناءهم) يذبّح وليس يذبح للكثرة، العشرات، الآلآف ذبّحهم لأجل أن بعض الكهنوت قالوا له سيولد مولود ويكون على يده مقتلك فذهب فقتّل المواليد، هذا إنسان ظالم فمن الطبيعي أن يأتي هاجس لموسى وهو بشر والرسل بشر.

المقدم: هو لم يخف من ظلم فرعون ومن جبروته وإنما قال (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ)

د. المستغانمي: لأن رسالة التوحيد مظنة أن يكذبها فرعون الذي يدّعي الألوهية وبعد تكذيبه قد يقتص منه وقد يعاقبه وقد قال له فرعون ذلك (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴿٢٩﴾). قال موسى (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ﴿١٢﴾ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي) حللها المفسرون لماذا يضيق صدره؟ موسى كان فيه حُبسة في لسانه والذي فيه حبسة في لسانه ويريد أن يعبّر لا يستطيع أن يبين وأن يفصح يصبح صدره ضيقًا حرجًا (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي) كل هذا التمهيد (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ)

المقدم: هنا قال (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) وفي مواضع أخرى قال (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ﴿٢٩﴾ هَارُونَ أَخِي ﴿٣٠﴾ طه) الوزير هو المساعد المعين حتى يعينه في رسالته لكن هنا الذي أفهمه من الآية حين يقول الله تعالى على لسان موسى (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) كأنه يقول لا تجعل الرسالة عندي وإنما أرسل إلى هارون لكي يقوم بهذه الرسالة، هل هذا صحيح؟

د. المستغانمي: كلامك نصفه صحيح، طلب أن يرسل إلى هارون أن يجعله رسولا. أرسل إلى هارون أي أرسل جبريل إلى هارون ليكلفه بالرسالة معي لكن هذا ليس تنصّلًا من موسى من الرسالة، هو يعلم أن مقامه عالٍ وسامٍ عند الله وهو كليم الله  ناداه بالوادي المقدس طوى (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴿١٣﴾ طه) موسى علم مقامه عند الله وأنه سيطّلع برسالة عظيمة وهي أن يذهب إلى أكبر المكذبين إلى إنسان يدّعي الألوهية والربوبية ويدعوه إلى الله لكنه أراد أن يعضد نفسه بأخيه هارون لذلك قال العلماء لا يوجد إنسان في الدنيا قدّم خيرًا لأخيه أكثر من موسى لهارون، طلب له النبوة والرسالة، شيء عظيم، أنت يمكن أن تبني لأخيك بيتًا، أعطيته سيارة، لكن تجعله نبيًا؟! لذلك لا يوجد إنسان قدّم لأخيه مثل ما قدم موسى لهارون وكانت تلك المقدمات تمهيدية: أخاف أن يكذبون، أخاف أن يضيق صدري، ولا ينطلق لساني، ولهم عليّ ذنب وهو أنه في شبابه قبل أن يسافر إلى مدين خطأ وكز موسى القبطي فقضى عليه فخرج فرارًا لأنه يعلم أن الذي قُتل من الأقباط وفرعون ينتصر للأقباط على بني إسرائيل.

هنا (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي) الموقف محتدم، بنيت القصة هنا على شكل دراما شديدة، بينما في سورة طه التي فيها بيان عناية الله بموسى وهارون (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴿٤٦﴾) فيها العناية، هناك كان موسى في حالة نفسية مرتاحًا أكثر ودعا بالإيجاب (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴿٢٥﴾) أما هنا (وَيَضِيقُ صَدْرِي) أخاف أن يضيق صدري، في طه (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ﴿٢٧﴾) وهنا (و وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي) أخاف أن لا ينطلق لساني. في سورة الشعراء دعا بجملة منفية وفي طه دعا بجملة إيجابية مثبتة لأن الحالة النفسية لها دور حتى عندما قال (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) أرسل إلى جبريل يرسل إلى هارون يكلفه بالرسالة ويجعله عضدًا لي، هذا الكلام كله محذوف هنا لكن في سورة طه (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ﴿٢٩﴾ هَارُونَ أَخِي ﴿٣٠﴾ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ﴿٣١﴾ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴿٣٢﴾ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ﴿٣٣﴾ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ﴿٣٤﴾ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ﴿٣٥﴾ طه) فجاء بالتفصيل في سورة طه لأن فيها الرعاية وفيها العناية والحالة النفسية التي كان فيها موسى عكسها البيان القرآني.

المقدم: (كلا) الذي أعلمه في اللغة من (كلا) أنها ردع لما سبق، فالله سبحانه وتعالى يقول (قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ﴿١٥﴾) موسى طلب والله تعالى قال (كلا) فما دلالتها؟

د. المستغانمي: هنا (كلا) نفي لقوله (فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ). الآية (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ﴿١٤﴾) قال (كلا) هذا لا يكون، هذا إله، الله عز وجلّ هو الذي يتكلم. (كلا) لن يقتلك، أعطاه الضمان. (كلا) أسلوب ردع لكن هنا نفى عنه أن تستطيع أيدي الاغتيال، أيدي الظلم أن تطاله بشيء قال (كلا) بمعنى: لن يقتلك. ثانيًا (فاذهبا) يعني استجبت لك وأيدتك بأخيك فاذهبا، موسى دعا أن يكون أخوه هارون عضدًا ووزيرًا ومؤيدًا قال تعالى (كَلَّا فَاذْهَبَا) انظر إلى الإيجاز! لأن السياق هنا سياق إيجاز واختصار، مشهد درامي لا يحتاج إلى كل هذه التفاصيل لأنها واضحة ونحتاج نحن المتلقين أن نُعمل عقولنا في القصة بين السورتين: في سورة طه (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ﴿٣٦﴾) يعني هو يثبته ويؤانسه.

المقدم: هنا ما قال له (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ﴿٣٦﴾) ولكن هنا قال قد أوتيت سؤلك بالتكليف (فَاذْهَبَا) فيها معنى قد أوتيت سؤلك.

المقدم: (فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) ما دلالة أن يكون الله سبحانه وتعالى مستمعًا معهما؟

د. المستغانمي: (فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا) هذه الباء تفيد المصاحبة، اذهبا مصاحبين لآياتنا (مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أي سامعون (معكم: الاثنان جماعة) في سورة طه قال (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) لأن سورة طه بنيت على التثنية وجاء بـ (أسمع وأرى) في الشعراء (إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) الله سميع عليم يسمع كل شيء ما يتلفظ به فرعون، ما يخطر بباله، ما يريد أن ينفذه، كأني أقرأ الآية تقول: العناية الإلهية معكم، لن يمسكم بسوء أبدًا. لذلك أحد الصالحين بعث إليه زميل له صالح رسالة أنه كان مستوحشًا وهو كان صالحًا قال: كيف يستوحش من كان الله معه؟ ردّ عليه جوابًا قال له اذكر فقط (إنني معكما أسمع وأرى) وأنت تذكر الله والله يقول: أنا جليس من ذكرني وحيثما التمسني عبدي وجدني. هذه المعية شيء عظيم لذلك (إن الله مع الذين اتقوا) (مع) إذا كان الله معك فمن ضدّك؟! وإذا كان الله يؤيدك فمن يستطيع أن يغلبك؟! فهنا فيها تثبيت وطمأنة لموسى وهارون.

المقدم: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦﴾) قال رسول ولم يقل (رسولا) كما ذكر في سورة طه وقلنا أن سورة طه مبنية على التثنية

د. المستغانمي: أولًا لأن سورة طه بنيت على التثنية ولأن في سورة طه أعطى الله تعالى دورًا كبيرًا لهارون، هارون موجود مع السامري وهارون تركه موسى خلفه واستخلفه على قومه (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) السورة كلها بنيت على الزوجية. هنا في سورة الشعراء المقصد توصيل الرسالة إلى فرعون الذي يهم البيان القرآني أن يوضح رسالة التوحيد لذلك رسالة موسى ورسالة هارون هي رسالة واحدة فقال (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ) أنتما الإثنان اذهبا فقولا إنا رسول، رسالة التوحيد فوحّدها (رسول) لو قال إنا رسولا قد يُفهم أن موسى أتى بشيء وهارون أتى بشيء، هذا المعنى لا يُفهم في طه لأنها بنيت على الزوجية وعلى خطابهما حتى فرعون عندما خاطبهما قال (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ﴿٤٩﴾ طه) بينما هنا قال (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) لأن السياق القرآني يركز على التوحيد.

ثانيًا كلمة رسول في اللغة العربية تنطبق على الجمع وعلى الإفراد وعلى التثنية: هو رسول ربه وهما رسول ربهما وهم رسول ربهم. بعض الكلمات مثل ضيف، تقول هذا ضيفي وفي القرآن (هؤلاء ضيفي)، بشر: أنا بشر وأنتم بشر. بعض الكلمات تحتمل في اللغة العربية تنطبق على الإفراد وعلى التثنية وعلى الجمع وكلمة رسول من هذا القبيل.

المقدم: في معظم الآيات التي تتحدث عن تكليف موسى بالرسالة والدعوة والتبليغ خاصة في هذه السورة قال الله تعالى له (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ) هل الدعوة لفرعون أم لقوم فرعون لمن كان فرعون هو ملكهم؟

د. المستغانمي: الأقباط الذين كانوا معه وبني إسرائيل. في مصر أيام حكم الفراعنة وهذا كلام حققه أصحاب التاريخ، الفراعنة كانوا يملكون مصر التي كان فيها الأقباط وكان فيها بنو إسرائيل واستعبدهم فرعون. فموسى عليه السلام أرسله الله إلى كليهما للأقباط ولفرعون وجنده وملئه لأن هنا قال له (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦﴾ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿١٧﴾) هنا خاطبه وطلب منه أن أطلق بني إسرائيل بدل أن تستعبدهم وتقتلهم وتذبحهم لكن هل أُرسل موسى إلى فرعون؟ نعم (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿٤٣﴾ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴿٤٤﴾ طه) الرسالة إلى فرعون وملئه وجنوده والرسالة إلى بني إسرائيل لتحريرهم من استعباد فرعون فموسى فأرسل إلى الإثنين.

المقدم: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴿١٨﴾) هنا تظهر الحبكة الدرامية بشكل واضح هنا، كأننا كنا قبل في مشهد حوار موسى مع الله سبحانه وتعالى (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦﴾ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿١٧﴾) هذا حديث من الله لموسى عليه السلام ليبلغه لفرعون، فجأة انتقل الحديث إلى فرعون

د. المستغانمي: هذا فن الاستقطاع يطوي الكلام المحذوف، دراما حقيقية، قصة محبوكة، الأحداث التاريخية وقعت بالتسلسل عندما كلمه الله تعالى عند الطور وقال له أرسل إلى هارون واستجاب له فجأة يجد نفسه أمام فرعون! غير معقول! إذن هنا اقتطع البيان القرآني المشاهد التي يفهمها العقل البشري أي فاستجاب موسى وهارون وذهبا إلى فرعون واستأذنا عليه ودخلا وتحدثا معه وبعد ذلك رد عليهما فرعون هذا الرد عندما قالا له (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦﴾ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿١٧﴾) فرعون مباشرة لم يجبهم قائلًا: كيف أرسل معكم بني إسرائيل؟ وإنما قال (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا) ذهب إلى معنى آخر، تمنّن عليه ويريد أن يقرره بذنبه (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴿١٨﴾ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿١٩﴾ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٢٠﴾) هو في الحقيقة حوّل سياق الحوار والحديث بدل أن يتكلم معه في الموضوع المهم الذي جاء به موسى وهارون قال (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا) يريد أن يمتن عليه ثم يقرره بذنبه وجرمه ليقول له أنت لست أهلًا لأن تتكلم ولهذه الرسالة لأنك فعلت فعلة شنعاء وضيعة وفظّعها الأسلوب القرآني (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) هذا أسلوب عجيب لا يوجد إلا في القرآن! (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) كان يمكن أن يقول قتلت، أو فعلت الجريمة، قال (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) هذا أسلوب تهويل وتفظيع، باختصار يقول له: أتذكر ماذا فعلت؟ أتذكر جريمتك الفظيعة الشنيعة التي لا تستطيع عباراتي أن تصفها؟! هذا هو أسلوب تهويل كما في قوله تعالى (فغشيهم من اليمّ ما غشيهم) حتى يترك العقل البشري يفكر.

المقدم: لو أن الله سبحانه وتعالى قال (وقتلت) لاتضح المعنى لكن التعبير بـ (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) فالمستمع يقول يا ترى ما الذي فعله موسى؟! فرعون يريد التضخيم والتهويل؟!

د. المستغانمي: هذا أسلوب التهويل. في سورة النجم (فأوحى إلى عبده ما أوحى) المعنى لا ينتهي كأن العبارة لا تحمل ذلك المعنى باختصار. (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿١٩﴾) قال (ألم نربك فينا وليدا) الكافرين تحتمل معنيين: الكافرين بنعمتي كفران نعمة، كافرين بنعمة الفراعنة الذين ربوك في قصورهم، كافر للجميل ويمكن أن تفهم كافر بألوهيتي (أنا ربكم الأعلى) (ما علمت لكم من إله غيري) وموسى يدعوه إلى رب العالمين.

(أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا) موسى لم ينكر هذه المسألة بعد لم يقل فرعون له: أنسيت أنك رُبّيت عندنا في بيوتنا وقصورنا، لم يأت بها بالطريقة الموجبة وإنما أتى بها بالطريقة المنفية وكأن فرعون يلقّن موسى عدم الاعتراض لأنه لما رأى أن موسى كبر وأتى بعقل وبشريعة وبعلم وبتوحيد وبرسالة فهم فرعون أن موسى أنكر كل شيء أنكر ألوهية فرعون وأنكر حتى النعمة فقال (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا) هذا أسلوب تقريري كأنه يلقنه إن كنت شجاعًا أنكر أنك رُبيت فينا ولبثت فينا من عمرك سنين ثم أتى له بالضربة القاضية (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) فردّ موسى عليه (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٢٠﴾) تقنية لغوية: قال فعلتها، شجاعة ورباطة جأش، كنت شابًا، لم أكن أقصد القتل وأنا من الضالين ولست من الكافرين، استبعد موسى عليه السلام أدبًا لفظ الكافرين وقال بلفظ أخفّ (وأنا من الضالين) فعلتها وأنا جاهل، الضلال كلمة واسعة تحمل معنى ضلال الشباب ضلال الرعونة فاستبعد موسى كلمة الكافرين واستبدلها بأخفّ منها (الضالين).

(فَعَلْتُهَا إِذًا) إذن في اللغة العربية حرف جزاء وجواب. تقول: أزورك، أقول: إذن أُكرمك. فيها جواب لأن كلام فرعون كان فيه معنى الجزاء عندما قال له (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴿١٨﴾ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) كأنك جازيتنا بتلك الفعلة وجئتنا الآن ترشدنا وتأمرنا؟! قال موسى (فَعَلْتُهَا إِذًا) فعلتها والآن سأجازيكم، لأنك عندما ربيتني في قصرك هل ربيتني بمحض إرادتك أم ظلمت العباد وقتلتهم؟! فكان ذلك جزاءً وفاقًا لما فعلت معي.

المقدم: ربما القارئ للوهلة الأولى يشاهد أن موسى تهرّب من من سؤال وأجاب عن سؤال، فرعون قال له (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴿١٨﴾) قضية التربية واللبث عنده، (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿١٩﴾) حاججه في قضيتين وموسى عليه السلام ترك الأولى وأجاب عن الثانية

د. المستغانمي: لأنه كان يعلم أن غرض فرعون هو إفحامه في الثانية وهي جريمة قتل وهو يستطيع عن طريق تلك الثانية أن يقتله. في البداية بدأ يحاججه ويمنّ عليه بالتربية (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) فرعون يريد أن يصل إلى هذا المعنى فقطع موسى عليه الطريق وأجابه عنها (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٢٠﴾) يومها، أما النعمة التي تمنّ بها عليّ. كان موسى جريئًا وشديدًا وشجاعًا (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٢٠﴾ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) كانت سببًا وأهدى الله إليّ بعدها خيرًا كبيرًا والفاء تفيد سرعة التعقيب (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا) النبوة (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) جعله نبيّا ورسولًا، ما قال فوهب لي حكمًا وجعلني رسولًا قال (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وهي من أيقونات السورة (من المرسلين).

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿٢٢﴾) تلك النعمة نعمة تمنّها علي؟! أهذا كلام تقوله؟! استفهام أصله: أوتلك نعمة تمنّها عليّ؟! أن عبّدت بني إسرائيل؟! لأن سبب ترتبيتي لديكم تعبيدك بني إسرائيل قتلت أطفالهم واستحييت نساءهم فقامت أم موسى بإلقائه في التابوت وألقته في اليم، مجيئي لديكم في القصر كان سببه الأول قتلكم لبني إسرائيل أتلك نعمة أم نقمة؟! هو أخّر له الجواب ليفحمه ويعطيه الخلاصة.

المقدم: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٣﴾)

د. المستغانمي: هنا أيقن فرعون أن موسى كان جريئا ولا يخاف وكان مؤيدا وعنده إجابات فغيّر الأسلوب: أنت دعوتني إلى رب العالمين، وما رب العالمين؟ هذا أسلوب عجيب. سؤال فيه شيء من التهكم والاحتقار وعدم اللياقة مع الله جلّ جلاله. في سورة طه صوّر البيان القرآني العملية بوضوح وطبيعية (فمن ربكما يا موسى) هنا لم يقل من ربكما وإنما قال (ما) (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٣﴾)  ما جنس رب العالمين؟ ما حقيقة رب العالمين؟ استفهام مشوب بالاستغراب والتهكم والتحقير، ما رب العالمين الذي تدعوني إليه؟!!

المقدم: (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴿٢٤﴾) الله سبحانه وتعالى رب كل شيء فما دلالة اختيار (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا)؟

د. المستغانمي: لو قال له رب الشمال والجنوب ورب الجبال والبحار لكن قال رب السموات والأرض أشمل، رب السموات والأرض يعني الكون، الكون الذي خلقه الله، الآن الكون المدرك فقط عن طريق التلسكوبات مئات ملايير من النجوم، هذا في السماء الدنيا فقط، أين باقي السموات؟! فسبحان الذي خلق فرب السموات والأرض وما بينهما من كواكب وشموس ونجوم أشياء عظيمة إن كنتم موقنون إن كان لديكم عملية رياضية تستنتجون بها وتصلون بها إلى اليقين، هو يريد أن يحرّك التفكير لديهم.

المقدم: في سورة طه قال (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴿٥٠﴾) لكن هنا تحدث عن السموات والأرض

د. المستغانمي: لله سبحانه وتعالى في القرآن أسرار وحكم نحن نحاول أن نسبر بعض الأغوار. هنا في سورة الشعراء عندما تكلم عن آية الأرض والإنبات شفعها هنا بآية السموات وبعد ذلك سيأتي رب المشرق والمغرب، أنت يا فرعون ماذا تملك؟ مصر؟ مصر دولة كبيرة واسعة، قال له هل أنت تملك الكرة الأرضية المشرق والمغرب؟ وما بينهما؟ ملكك يا فرعون بسيط وأنا أرسلني الذي يملك السموات والأرض وما بينهما، أنا أرسلني الذي يملك المشرق والمغرب وما بينهما هو يريد أن يعود به إلى جادة الصواب.

المقدم: (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ﴿٢٥﴾) من الذي قال؟ هل موسى قال لمن حوله ألا تستمعون إلى كلام فرعون؟ أم أن فرعون قال لمن حوله ألا تستمعون لكلام موسى البعيد عن المنطق؟ نرجئ الإجابة للحلقة القادمة إن شاء الله.

في رحاب سورة الشعراء – 4 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة الشعراء – 4

تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا

المقدم: في الحلقة الماضية كنا قد توقفنا عند الآية 26 من سورة الشعراء. (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ﴿٢٥﴾) هل القول لموسى مخاطبا من حوله ألا يستمعون لكلام فرعون وإنكاره؟ أم القول لفرعون للملأ من حوله: ألا يستمعون للكلام الغريب الذي أتى به موسى؟

د. المستغانمي: هذا أسلوب المحاورات وهو لا يتطلب حرف العطف، لو كانت هناك (واو) يفهم القارئ أن هناك شيئًا يُعطف، مغايرة، أما هنا (قال) هذا أسلوب المحاورات، إذن من الطبيعي أن يكون الجواب على لسان فرعون (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ﴿٢٥﴾) بعد أن كلمه موسى وقال (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴿٢٤﴾) هذا الجواب لم يعجب فرعون فقال لمن حوله (أَلَا تَسْتَمِعُونَ) هذا استفهام، هو يعرض عليهم (أَلَا تَسْتَمِعُونَ) كأنهم لا يستمعون، نزّلهم منزلة من لم يستمع لأنهم لم ينكروا، لو أنكم استمعتم مثل ما استمعت أنا لفحوى خطاب موسى لأنكرتم كما أنكرت أنا، هو يريد أن يهيّجهم، تهييج، البلاغيون يقولون يراد من وراء هذا الأسلوب التهييج فهو يحثهم أن يثوروا ضد موسى، ألا تستمعون؟! ألا تنكرون هذا الكلام الذي لا يقبله عقل؟

المقدم: لكن موسى عليه السلام يستكمل ويستمر يواصل الشرح (قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴿٢٦﴾) وفرعون يقاطعه لكي يثير القوم ضده

د. المستغانمي:  موسى عليه كان ينوع في أساليب المحاججة (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) هذا كلام كبير، السموات فيها أبعاد بالسنوات الضوئية الفلكية قرّب للمستمعين ممن لا يستطيع أن يتخيل هذا الشيء الكبير ولا يستطيع أن يستدل على الله بالسموات والأرض تستدلون عليه بآبائكم (قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أين آباؤكم؟! أين أجدادكم الذين ماتوا؟! من الذي يملك الموت والحياة؟! من الذي يتصرّف، في الوقت نفسه الحديث يتضمن أن فرعون من تصرّف في آبائه من الفراعنة؟! فالحديث للقوم ومبطّن لفرعون، هنا احتدّ فرعون كثيرًا فقال (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴿٢٧﴾) لأنه مسّه في آبائه، آباؤك يا فرعون ليست لهم قداسة هم بشر من البشر وأتى عليهم ما أتى على الجميع وتصرفت فيهم قدرة الله وأحياهم وأماهم (قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴿٢٦﴾) كلام أثّر على فرعون كثيرا فاحتدّ وقال (إن رسولكم) رسولكم أنتم ليس رسولي أنا الذي أُرسِل إليّ، أخرج نفسه من دائرة الخطاب (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ) يؤكد، كان يمكن أن يقول: إن رسولكم لمجنون، عرّف الرسول بـ(الذي أرسل) – كأنه كما يقولون: عرّف الماء بعد الجهد بالماء – هو قال (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ) لم يزد على وصفه بالنبي وبالرسالة، (لمجنون) هذه اللام المزحلقة تفيد التأكيد و(إنّ) تفيد التأكيد، لماذا أكّد فرعون كلامه؟ فرعون مطالب أن يؤكد كلامه لأنه ليست في موسى خصيصة واحدة تدل على الجنون موسى أبعد ما يكون عن الجنون ففرعون مضطر أن يؤكد ويقول (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴿٢٧﴾) حتى يصدّقه قومه.

المقدم: يستطرد موسى في دعوته فيقول: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿٢٨﴾) قبلها قال (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴿٢٤﴾)

د. المستغانمي: هذا جزاء يستحقه فرعون (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فرعون وصفه بالجنون فأجاب موسى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) إن كان لكم عقل، بما أنك يا فرعون وصل بك الحال ووصفتني بالجنون فموسى في البداية كما قال أحد المفسرين لاطفهم ثم عندما شدّوا في الكلام واشتدوا عليه خاشنهم بمعنى وسمهم بالجنون بأنهم لا يعقلون ولكن عبارة موسى فيها أدب (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أما فرعون فكان غير مؤدب مع رسول محترم أمين فقال له (لمجنون)

المقدم: هذا الحوار بين موسى وفرعون يبدأ تصاعديًا بدأه (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴿١٨﴾ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿١٩﴾) وموسى لاينه (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٢٠﴾) ثم قال (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) قال موسى (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴿٢٤﴾) فيشتد فرعون في الحوار ويصفه بالجنون (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴿٢٧﴾) ثم يرد موسى (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿٢٨﴾) ثم يأتي التهديد (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴿٢٩﴾)

د. المستغانمي: هذا الترقي في الأسلوب القرآني وليس من المعقول أن يهدده مباشرة بالسجن، بدأ يخاشنه ثم وسمه بالجنون ثم لما رأى أن موسى كان مُجدًّا وكان لديه من الأدلة ما يفحمه ويفحم الملأ هنا لجأ إلى التهديد وهذه عادة الظالم حينما لا يجد الدليل القاطع العلمي تأخذه العزة بالإثم فيلجأ إلى التهديد (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ) كأنه يقول: أقسم لئن اتخذت إلها غيري، (دائمًا لما نقرأ: لئن، تعني أقسم) هو موقن بأنه هو الإله، (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) لام التوكيد ونون التوكيد الثقيلة و(مِنَ الْمَسْجُونِينَ) لم يقل لأسجننك، هذا يسمى إطناب لكي يفرغ جامّ غضبه على موسى عليه السلام. لو قال: لئن اتخذت إلهًا غيري لأسجننك يكون التهديد بسيطًا نوعًا ما ولكن قال (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) أي لأجعلنك ممن عرفتهم في سجوني أنت تعرف من أكون وأنا الإله الطاغية وقال أصحاب التاريخ أن فرعون كانت له سجون تحت الأرض في آبار من دخل فيها لا يخرج والقتل أهون من سجون فرعون، لذلك هو هدده وأخافه. (مِنَ الْمَسْجُونِينَ) وهي من الأيقونات التي عرفت بها السورة تكرر 22 مرة (من الضالين، من المسجونين، من الكافرين…)

المقدم: قال موسى (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ﴿٣٠﴾) كأن ما ذكره سابقًا بالنسبة لفرعون ليس مبينًا، ليس مقنعًا كأن فرعون يريد شيئا حسيًا ماديًا يراه أمامه

د. المستغانمي: هنا موسى عليه السلام لجأ إلى المعجزات المادية التي أيّده الله عز وجلّ بها وهي مادية، ضرب العصا فإذا هي ثعبان ونزع يده فإذا هي بيضاء تتلألأ كالقمر ولا ننسى أنه في عهد فرعون كانوا يعيشون مع السحر ومع الأشياء الحسية المادية أكثر فتقنعهم وعندما ارتقت البشرية إلى رشدها وبلغت أوجها بعث الله عز وجلّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بالمعجزة العقلية العلمية الأدبية وهي القرآن الكريم.

(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ﴿٣٠﴾) كأن هنا كلام محذوف، كأن موسى يقول أتجعلني من المسجونين ولو جئتك بشيء مبين؟ هنا همزة استفهام لكن المستفهم عنه محذوف (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ﴿٣٠﴾) أتجعلني من المسجونين وقد جئتك بشيء مبين؟! فهم فرعون مباشرة فقال (قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿٣١﴾) يشكك فيه، (إن) أداة شرط لغير المجزوم فيه، لما نقول: إن تأتني أكرمك، إن أداة شرط لكن لغير المجزوم لكن لو كنت جازمًا أقول: إذا أتيتني أكرمتك. فهو هنا يرجّح فرعون فرضية عدم صدق موسى قال (قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿٣١﴾) أنا لا أظن أنك صادق!.

(فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ﴿٣٢﴾) هنا لم يتوانى موسى دقيقة ولا ثانية (فألقى) والذي أفادنا ذلك هو الفاء (فَأَلْقَى عَصَاهُ) الفاء تفيد الترتيب والتعقيب. (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) الثعبان هو الذكر من الحية يكون طويلًا وكبيرًا وغليظًا في سورة طه قال (فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴿٢٠﴾) هي حية كبيرة ولكل سورة جو ولكل سورة خصائص ولكل سورة ثوب لفظي، الثوب اللفظي لسورة الشعراء تتناسب معه الغلظة والشدة، قلنا أن سورة الشعراء هي سورة المواجهة بين الأنبياء والمرسلين والأقوام المكذبين والمواجهة بين المرسلين والمكذبين تحتاج إلى قوة ولذلك صيغت القصة بشكل قوي فيه حبكة درامية قوية، فقوة التحدي في سورة الشعراء واضحة حتى فرعون قال (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) وهدده وسيحتدم الأمر أكثر، هنا في المناظرات الموسوية الفرعونية الثعبان أقوى، هو أشد وهو الذكر من الحية يكون شديدا وقويا. في سورة طه سورة الطمأنة (طه ﴿١﴾ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ﴿٢﴾) حتى قصة موسى صيغت بهذا الأسلوب فجاءت كلمة (حية) لفظة فيها حياة والكلمة فيها لطافة وفيها الياء البسيطة وفيها حرف الحا مخرجه أسهل بكثير من الثاء في ثعبان، (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى) سورة طه فيها ليونة وفيها الألف المقصورة التي تدخل أقسى القلوب، عمر بن الخطاب كان قاسيًا جبارًا ولما سمع سورة طه لان قلبه وذرفت عيونه فلذلك يروى في الآثار أن الملائكة قالت: طوبى لمن تنزل عليهم سورة طه، إذن (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ) أنسب. بينما في سورة النمل والقصص أراد السياق القرآني أن يبين الخوف الذي اعترى موسى وسياق الخوف قال (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ ﴿٣١﴾ القصص) الجانّ هو القصير السريع من الحيّات ليس المقصود به الجانّ المناقض للإنس، الجان هو السريع القصير من الحيات وهو خطير ويراوغ ويقفز، فلما أراد البيان القرآني أن يصوّر الخوف الذي اعترى موسى (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴿١٠﴾ النمل) أراد أن يصور بشرية موسى (وَلَّى مُدْبِرًا) أما هنا في سورة الشعراء المناظرة تستدعي (ثعبان) وكذلك وردت في سورة الأعراف في المناظرة الموسوية الفرعونية.

المقدم: وصف الثعبان بالمبين فيه دلالة على نفي السحر عن هذا الثعبان لأنه قال في موضع آخر لما ألقوا حبالهم عصيهم (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) [طه: 66] أما هذا فثعبان حقيقي مبين واضح. (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴿٣٣﴾) هذه آية حسّية أخرى، من أين نزعها؟

د. المستغانمي: في السور الأخرى هي واضحة، نحن في سورة الشعراء سورة الاختصار بدليل أن آيات سورة الشعراء قصيرة 226 آية في حزب واحد، قصير. نزع يده من جيبه (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [النمل:12] أدخلها تخرج بيضاء، تفصيل. أما هنا نزعها مباشرة، تخرج بيضاء. في غير موضع قال (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى ﴿٢٢﴾ طه) حتى يدفع البرص والبهق والأمراض، بيضاء مشعة تتلألأ للناظرين، اللام حرف جر وبعض المفسرين قال: هنا تفيد الظرفية: فإذا هي بيضاء عند الناظرين، تفيد الظرفية وشبهها بقوله تعالى (وأقم الصلاة لدلوك الشمس) حين دلوك الشمس.

المقدم: هنا تحرّك فرعون (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴿٣٤﴾) حينما قال لمن حوله ألا تستمعون وفي آية أخرى في سورة الأعراف قال (قال الملأ حوله)

د. الستغانمي: في الأعراف الملأ كلموا فرعون بنفس الكلام (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴿١٠٩﴾) وفي سورة الشعراء فرعون تكلم (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴿٣٤﴾) قد يتساءل البعض: من الذي قال؟ الذي قال هو فرعون والملأ يرددون ما قال فهم لا يستطيعون أن يتحدثوا في وجه فرعون أو في حضرته، هو لقّنهم ما يقولون لذلك قال في سورة الشعراء (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) لما قالها فرعون رددها ملؤه.

سيصادفنا عدد من المواضع المتشابهة بين السورتين. في سورة الأعراف كان القصص تاريخيًا سورة الأعراف تناولت القصص لكن من منظار تاريخي بدأت بآدم عليه السلام ثم نوح ثم عاد ثم ثمود إلى أن وصلنا لموسى وفي الشعراء بدأت بموسى أقرب القصص إلى محمد صلى الله عليه وسلم ويراد منها تصوير المواجهة بين الأنبياء والأقوام. في سورة الأعراف كان السياق يحكي لنا القصة ذاتها لكن بهدوء وبوتيرة أخرى لذلك الذين تكلموا الملأ، ثانيًا كثير من الملأ من الأقوام الآخرين تكلموا في الأعراف (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴿٨٨﴾) فبالتالي الملأ أنسب في سورة الأعراف أن يتكلموا، في قصة شعيب في قصة هود (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿٦٦﴾) وفي قصة صالح (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴿٧٥﴾) (قال الملأ) كثر تكرارها في سورة الأعراف أما في سورة الشعراء خرج فرعون من طوره ومن صبره فهو الذي قال وخرج من كبريائه رأى المعجزات فمن المؤكد أن موسى سيقنع الآخرين فقال فرعون للملأ (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)

المقدم: وصفه ساحر وفي مواطن أخرى قال سحّار عليم

د. المستغانمي: الملأ دائمًا ينافقون، هم الذين قالوا (سحار عليم) صيغة مبالغة لساحر اسم فاعل وكلاهما صحيح وموسى بريء من هذا ومن ذاك.

المقدم: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴿٣٥﴾) لماذا أخاف الملأ من حوله بهذه المسألة بأن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم؟!

د. المستغانمي: (مِنْ أَرْضِكُمْ) كأن الأرض ليست لفرعون! هو مرة يقول (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿٥١﴾ الزخرف) فأجراها الله من فوقه كما قال أحد المفسرين. يعتد بملكه لكن هنا يريد أن يستثيرهم وأن يهيّجهم ضد موسى فقال (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) هذه أرضكم وليست أرضي، ثم قال (بِسِحْرِهِ). الملأ في الأعراف قالوا (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) لا يوجد كلمة (بسحره) فرعون دبلوماسي متكلم يريد أن يثيرهم قدر الإمكان، هذا الحديث كله في حضرة الملأ الذين هم في مجلس فرعون وزرائه وحاشيئته وليس القوم كلهم، هذا في مجلس فرعون الملأ كبار القوم وسمّوا بالملأ لأنهم يملأون العيون بهاء وصولجانًأ وأبهة وهو أراد أن يستثيرهم. أضاف فرعون كلمة (بسحره) هو يلقّنهم: هذا ساحر بالدرجة الأولى، ثانيًا ترددت كلمة السحر في سورة الشعراء كثيرًا.

المقدم: كأنما فرعون يلقّم الملأ جواب سؤال سيسألهم إياه حينما قال (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)؟

د. المستغانمي: متى كان الفرعون والفراعنة يسألون القوم؟! لم يقل لهم بم تشيرون عليّ؟ بم ترشدونني؟ قال (ماذا تأمرون) صار فرعون مأمورًا بعدما كان إلهًا يدّعي الألوهية أصبح مأمورًا، تواضع كل التواضع ولكن هذا كله تلفيق وكله حثٌّ لهم على أن يكونوا ضد موسى عليه السلام.

المقدم: (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ﴿٣٦﴾)

د. المستغانمي: أرجه يعني أعطه مهلة وأعطنا مهلة أرجئه وهذه فيها قرآءات: أرجئه وأرجِه، يعني أخّره إلى زمن أعطيه مهلة. وهنا هارون اختفى من الحوار كله لأن نبي بني إسرائيل هو موسى عليه السلام وهارون ليس إلا عضدًا لأخيه.

هنا قال (وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ) وفي سورة الأعراف (وأرسل) (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ﴿١١١﴾ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴿١١٢﴾). كلمة بعث وأرسل من المترادفات، كلمات متقاربة لكن بعثنا إليهم رسولا أي أرسلنا لكن (وابعث) هنا فيها معنى إضافي، هيّج، أقِم من بينهم، البعث فيه نوع من اليقظة، الإرسال إرسال عام، البعث فيه إرسال وفيه إيقاظ، البعث يوم القيامة فيها إرسال وإيقاظ. لو انتظر فرعون أن يبعث نفس المرسلين إلى هنا وإلى هناك سيطول الأمر، لا، استنهض من الأقوام ومن المدائن حاشرين، هذا معنى ابعث، هيّج واستنهض وأقِم لهم دعاة حاشرين من بينهم. لو قلنا: وابعث في المدائن أناسًا حاشرين، شُرَطًا حاشرين يجوز ولو أعربناها مفعولا به فصحيح. أناسًا يحشرون السحرة، يحشرونهم وليس ينادونهم أو يجمعونهم، حاشرين يحشرون الناس والسحرة إلى ميقات معين لا يخلفه لا موسى ولا فرعون ثم نتبارز.

(يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ﴿٣٧﴾) الآن المواجهة تحتاج إلى سحّار نريد واحدًا عرّافًا ماهرًا سحّار صيغة مبالغة أن يكون مطّلعًا على فن السحر وهذا يتقربون به إلى الفرعون. سحّار صيغة مبالغة وعليم صيغة مبالغة فعّال وفعيل.

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) الفاء تدل على أنه تمت الأوامر فورًا في المدائن (جمع مدينة) المدن كثيرة التي كان يحكمها فرعون تمت الأوامر وجيء بالجميع، الفاء تفيد الترتيب والتعقيب فالمهلة كانت بسيطة جدًا.

المقدم: (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) وفي سورة طه قال (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴿٥٩﴾). هنا قال (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) لميقات يوم معلوم ترك الكل غامض، قلنا الدراما فيها الكثير من الأشياء الغامضة وصف اليوم بأنه معلوم وكذلك الميقات ليس معلومًا، أما في سورة طه حدد فقال (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) حدد يوم العيد الذي يحتفل به الأقباط وحدد الوقت (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) وقت الضحوة وقت البيان واجتماع الناس. الذي يلفتنا في هذه السورة التي فيها المواجهة جيء باللفظ باليوم والتوقيت مبهمًا غامضًا وجاء الإيضاح في سورة الإيضاح سورة طه.

المقدم: لماذا يسأل هذا السؤال (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ﴿٣٩﴾)؟

د . المستغانمي: هذا سؤال يثيرهم، يهيّجهم للحضور، هذا سؤال الغرض منه الحثّ والحضّ والاستنهاض (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) هم يحثّونهم ويستحثونهم على الاجتماع ودائمًا (هل أنتم) في القرآن (فهل أنتم منتهون) بمعنى انتهوا، سرعة يحثهم على الانتهاء وهنا يحثّ بعضهم بعضًا على الاجتماع (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) أي بادروا واجتمعوا.

المقدم: (لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ﴿٤٠﴾) كأنهم حددوا الفريق الغالب!

د. المستغانمي: الملأ والحاشرون والجميع هم يريدون أن يكونوا عضدًا ومشاهدين للفريق الغالب وهم السحرة (لعلنا) للترجي لم يقل ليت، لعلّ لأقرب الآجال، لعل الترجي يقع أما التمني: ليت الشباب يعود، لا يعود. فهم يترقبون أن تكون الغلبة للسحرة.

المقدم: بدأت المناظرة الفعلية بشكل يصورها القرآن بشكل درامي جميل جدًا. تبدأ المناظرة الفعلية والتحدي ما بين موسى وأخيه من جهة وبين فرعون والسحرة والملأ من جهة أخرى (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴿٤١﴾) هم يريدون أجرًا مقابل هذه المناظرة

د. المستغانمي: احتاج فرعون إلى السحرة، لما احتاج هذا الملك الذي ادّعى الألوهية دعاهم فهم يشترطون هذه فرصة بالنسبة لهم وهم ماديون وهذه فرصة لهم أن يشترطوا أجرًا فقالوا (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) همزة الاستفهام وإنّ التوكيدية ولام التوكيد المزحلقة، أسلوب عجيب! (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ). في سورة الأعراف الثوب اللفظي يختلف فقالوا (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴿١١٣﴾) لأن الوتيرة التي قصَّت بها القصة في سورة الأعراف كانت وتيرة عادية فيها مناظرة لكن بشيء من الهدوء أما هنا في سورة الشعراء فالمواجهة محتدمة فأتوا بالاستفهام (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ). في سورة الأعراف الاستفهام مقدّر وفي الشعراء الاستفهام مصرّح به، في الأعراف قالوا (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴿١١٣﴾) هنا (قالوا أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) لما صرّح بفرعون صرّح بالاستفهام ولما قالوا بدون التصريح لفرعون أضمر الاستفهام.

هم اشترطوا (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) قال فرعون (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿٤٢﴾) في الأعراف لم يقل (إذن) في الأعراف قال (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿١١٤﴾) وفي الشعراء فيها شرطية إنكم إذن لمن المقربين كأنه يقول إن غلبتم فعلًا وحقًا إنكم إذن لمن المقربين. (إذن) هنا حرف جزاء يعطينا معنى الشرط، حرف جزاء وجواب فهنا كأنه يقول: إن كنتم أنتم الغالبين إذن أنتم المقربين، أضيفت (إذن) لتعطي قوة في الأسلوب، أسلوب شرطي ولنا أن نقدّر، بينما هناك قال (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)

المقدم: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ﴿٤٣﴾) في سورة أخرى تشاوروا مع موسى وخيّروه تبدأ أنت أم نحن نبدأ

د. المستغانمي: خيّروه (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ﴿٦٥﴾) في طه لأن العملية فيها تخيير، أما هنا فالدراما محتدمة فصوّر البيان القرآني موسى مباشرة لا ينتظر (أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) أسلوب فيه عدم مبالاة بما سياتون به، ألقوا ما تستطيعون الإتيان به، (أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) أبهمها تحقيرًا لما سيأتون به.

حتى إن بعض المفسرين عندما قال لهم موسى (ألقوا) فعل أمر، وهل موسى يأمرهم بأن يفعلوا فعل السحر؟ لا، هنا موسى قال لهم (أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) لا أمرًا لهم وجثّا على أن يستعملوا السحر إنما قالها لهم بلغة الجدال والحجاج قرروا شبهتكم إئتوا بما تستطيعون الإتيان به حتى أدّ عليه وأدحضه فقط.

المقدم: (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ﴿٤٤﴾) هم متأكدون متيقنون من الغلبة أنها ستكون لهم!

د. المستغانمي: كانوا مستعجلين، عشرات ومئات من السحرة جاؤوا هل يستطيع واحد أن يغلب المئات إن كانت العملية بشرية؟! لكن العملية معجزة إلهية! ويقسمون بعزّة فرعون متأكدون من الغلبة، وأقسموا بعزّة فرعون لم يقولوا بإلهية فرعون والعزّة هي الغلبة والعزّة مرادة هنا، بعزته وبتأييده لنا يقسمون به. وانظر إلى النكتة التناسقية أقسموا بعزة فرعون لأن السورة كلها تقسم بعزّة الله (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) هم يستشعرون كأنهم يقولون بعزّة فرعون، يا محمد إن ربك هو العزيز الرحيم بدليل أنهم لم يقسموا في آية أخرى لا في الأعراف ولا في طه ولا في سورة أخرى أما هنا انظر إلى التناسق في بناء هذا القرآن، لما أقسموا بعزة فرعون قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ثمان مرات (إن ربك   الرحيم)

(وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) مؤكدات: إنّ واللام والمصدر (نحن) ضمير الفصل يؤكد لم يقولوا إنا غالبون، وتعريف الغالبون قصروا الغلبة عليهم.

المقدم: (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴿٤٥﴾)

د. المستغانمي: (تلقف) رواية حفص عن عاصم يقرأها مخففة (تلقّف) قرآءة الجمهور، تسع قرّاء قرأوها بالتضعيف الذي فيه مبالغة (تلقّف) تتلقّم وتزدرد تأكل بسرعة، تبتلع، فيه شدة الابتلاع (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴿٤٥﴾) مباشرة هذه تسمى الفاء الفجائية فجأة تلقف وتأطل وتبتلع كل ما يأفكون، إذن كل ما عملوه إفك والإفك هو قلب الباطل إلى حق والحق إلى الباطل يقلبون كل شيء والسحر هو نوع من الإفك لأنهم يسحرون أعين الناس ويأفكون ويأتون بعمل مزور مموه منسّق ولكنه في الحقيقة باطل. فلذلك (تلقف) تبتلع تزدرد تلتقم، اللقف واللقم كلاهما سيان لكن اللقف أبلغ. اللقم نحن نلتقم لقمة، لقم ولقف الفاء والميم شفويتان واللقف أشد.

المقدم: مباشرة حينما جاء موسى بهذه المعجزة التي أبهرت السحرة فضلًا عن الناس على اعتبار أن السحرة هم أعلم بمهنتهم فعلموا أن هذا ليس من السحر وإنما شيء من الإعجاز مباشرة (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴿٤٦﴾) لماذا استعمل ذات الفعل: ألقى – ألقي؟

د. المستغانمي: ألقي كأن أحدا ألقاهم، إيمانهم ألقاهم، الله سخّر لهم الإيمان ألقاهم لم يقل فسجدوا، لو أراد جلّ جلاله لقال فسجد السحرة، في ىية أخرى خروا ساجدين، (ألقوا) كأن شيئا ألقاهم وهذا دليل على شدة الاستجابة. لماذا استجابوا بسرعة (فألقي)؟ الفاء تفيد الترتيب والتعقيب لأنهم هم أعرف الناس بالسحر، أن تُبتلى بعالم خير من أن تبتلى بنصف عالم، هم كانوا علماء متقنين عرّافين فالعارف بالشيء يستجيب لك أكثر واسرع أما أن تبتلى بأصناف المجانين فهؤلاء يجادلون أكثر فأكثر (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) (ساجدين) حال.

(الإلقاء) أيقونة في قصة موسى عامة وفي سورة الشعراء

المقدم: (قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٤٧﴾ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴿٤٨﴾) ما دلالة ذكر رب موسى وهارون ألا تكفي رب العالمين؟

د. المستغانمي: فرعون كان يدّعي الإلهية لو قالوا (آمنا برب العالمين) لظنّ السذّج والبسطاء من الأقباط ومن بني إسرائيل أن السحرة يتحدثون عن فرعون لكنهم قالوا (قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٤٧﴾ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴿٤٨﴾) الذي أجرى على هذين الرسولين هذه المعجزة العظيمة، كفروا بربوبية فرعون وهذا كلام قاطع في إيمانهم وكفرهم بفرعون.

المقدم: (قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ)

د. المستغانمي: وفي الأعراف قال (آمنتم به) (قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ) آمنتم بموسى وبمعجزته، آمنتم بالله الذي يدعوكم إليه موسى؟ هنا (آمنتم له) كان مغتاظًا من موسى أكثر، كان شديد الغضب من موسى فقال (آمنت له) وهذا في البلاغة تضمين، والتضمين أن تضمّن فعلًا معنى فعل، كأنه يقول: أآمنتم به منقادين له مستجيبين له؟ فضمّن فعل آمن فعل استجاب وانقاد. (آمنتم به) مستجيبين منقادين له، هذا التضمين فيه إيجاز، في سورة الأعراف قال (قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ) أي بإلهه وبه كرسول؟ (قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ) هو ظنّ وما زال يموّه على البسطاء أنه لا بد أن يكون الإذن من فرعون الإله.

المقدم: وهنا بدأت قصة التلفيق مرة أخرى والكذب (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)

د. لمستغانمي: الإمام الشوكتني في فتح القدير يقول: اعترف بأن موسى هو كبيرهم، هو من مصلحته أن لا يعترف لموسى بأيّ شيء لكن أمام المشهد العجيب وأمام المعجزة العظيمة التي بهرت الناظرين اضطر أن يقول: إنه أستاذكم وكبيركم الذي علمكم السحر وإلا مصلحة فرعون تقتضي أن لا يعترف لموسى أنه كبيرهم. لم يقل إنه ساحر مثلكم وإنما قال (لكبيركم) لأن المعجزة كانت عظيمة. فلا يغتروا بشيء إنه أستاذهم الذي تعلموا منه صنعة السحر، يريد أن يموّه على البسطاء.

المقدم: (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ماذا؟

د. المستغانمي: فلسوف تعلمون نكالي، فلسوف تعلمون العذاب الذي سألحقه بكم جميعًا. هنا بدأ أسلوب التهديد فلسوف تعلمون مغبّة أمره وأمركم لكنه هو بدأ يهددهم بأسلوب شديد اللهجة، عندما حذف المفعول به جعلهم يفكرون بالعقوبة أيّة عقوبة سيوقعها فرعون بهؤلاء البسطاء الذين آمنوا (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). عندما تقول لابنك: فلسوف تعلم ماذا أفعل، سأريك، يعني الولد يفكر ما هي العقوبة؟! يذهب ذهنه أيّما مذهب لكن لو قال له سأمنعك من الخروج اليوم. (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تهديد إجمالي ثم بدأ يفصّل (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) ليس لأقطعن وإنما أقطعنّ فيها مبالغة في التضعيف وفي النون المشددة، هذا يسمى توكيد مشدد، اللام مؤكدة ونون التوكيد الثقيلة وقطّ‘ فعل مشدد، مبالغة بأسمى معانيها ولا يوجد في اللغة العربية أكثر من هذه المبالغة!

(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ) إذا قطع اليد اليمنى يقطع الرجل اليسرى وإذا قطع اليد اليسرى قطع الرجل اليمنى حتى يصلّبهم والتصليب يكون بدون هذه العملية، قال العلماء: حتى يكونوا نكالًا وعبرة للبقية فإذا قطّ‘ الأيدي والأرجل وصلّبهم في جذوع النخل يكون ذلك درسًا لبقية الشعب حتى لا يخرج النس عن طاعة فرعون.

في آية أخرى قال (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) وتحدثنا عنها في سورة طه ولم يقل على باعتبار الظرفية. بينما هنا (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) لم يجد الوقت حتى ليقول (في جذوع النخل) إنما قال (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) دون استثناء. في سورة الأعراف قال (ثم لأصلبنكم) وهنا قال (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) كأن هناك في سورة الأعراف أعطاهم مهلة للتفكير أما هنا فالواو تفيد مطلق الجمع ومنه الجمع السريع أيضًا.

المقدم: (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ﴿٥٠﴾)

د. المستغانمي: لا ضير أي لا ضرر، لا شيء فيما تخيفنا بمعنى لا يضرّنا تهديدك.

المقدم: هم الآن آمنوا هل إيمانهم بهذه الدرجة إلى أن يتحملوا هذه الأصناف من التهديد بالعذاب فيقولوا (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ)؟

د. المستغانمي: إذا قذف الله الإيمان في قلب المؤمن، عليّ بن أبي طالب عندما آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصغر فتى آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: اذهب واستشر أباك، – والله تعالى قد جعل الحكمة على لسان عليّ – قال: هل الله عندما خلقني استشار أبي؟! الإيمان عندما يدخل شغاف القلوب ويسكن فيها لا يستطيع إنسان أن يزحزح الإيمان من قلب  الآخر، هذه هي العقيدة. ما معنى العقيدة؟ أفكار نعقد عليها في قلوبنا. لذلك هم دخل الإيمان في قلوبهم وشربوه في أنفسهم وقلوبهم، استوى كل شيء. لا ضير أي لا يضيرنا ما تقول، اِففعل ما تشاء كما قالوا في سورة طه (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) لأنهم عرفوا أن موسى أتى بمعجزة إلهية.

المقدم: الحديث عن الدنيا والآخرة، هناك قال (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) وهنا قال (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) ربط هذه المسألة بقضية أنت تتحدث عن دنيا ونحن نطمع بالآخرة.

د. المستغانمي: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) هذه الجملة هي تعليل كأن أحدًا يقول: لماذا لا ضير؟ لماذا لا تخافون من تهديد فرعون؟ لأننا إلى ربنا منقلبون، هذا تعليل، إنا إلى ربنا منقلبون، لم يقولوا راجعون وإنما منقلبون، شدة الإنقلاب، الإنقلاب رجوع في شدة، يا ليتنا نموت الآن ونستشهد في سبيل الله! كأنهم يقول هكذا. والانقلاب من حال إلى حال انقلبنا في توبتنا إلى الله وإنا إليه منقلبون في آخرتنا وانظر إلى الجملة التي تفوهوا بها بعد ذلك (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿٥١﴾) هذه بيان لتلك، إنا إلى ربنا لمنقلبون، كأنما قائلًا قال لهم: ماذا تقصدون؟ قالوا (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)، نطمع لم يقولوا إنا نرغب، هذا طمع منا نحن لم نصلي لم نزكّي، عندنا طمع في الكرم الإلهي، إنا نطمع. (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا) هنا لام التعليل محذوفة (لأن كنا) لماذا تطمعون أن يغفر الله خطاياكم؟ – والخطايا أشد من الذنوب – لأن كنا أول المؤمنين، على الأقل لأننا كنا أول من استجاب لموسى عليه السلام يا رب إنا نطمع أن تغفر لنا خطايانا الكبيرة التي طالما اقترفناها في حياتنا السابقة.

المقدم: نبدأ بفصل جديد من الدراما يتحدث عن الوحي إلى موسى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ﴿٥٢﴾)

د. المستغانمي: (أن أسري) قرآءة ورش ونافع وهي قرآءة صحيحة، (أن أسر) قرآءة حفص.

المقدم: انتهت قصة السحرة وإيمانهم ودخولهم في دين موسى وهارون، الآن تبدأ قضية الملاحقة (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)

د. المستغانمي: لم تقع هذه العملية الوحي إلى موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلًا أن يسري بهم ليلًا مباشرة، هي قصة ثانية وفصل آخر لكن طوى القرآن ماذا فعل فرعون، قتل ما قتل، الآن يهمنا إنجاء بني إسرائيل. في سورة الأعراف عشر صفحات قصة موسى مع فرعون أرسل الله على قوم فرعون الجراد والضفادع والقمل والدم وآيات مفصلات وكل مرة موسى يقول له يا فرعون اترك بني إسرائيل يخرجون لعبادة الله وفرعون يمتنع إلى أن جا وقت الذروة التي وصلناها بسرعة في سورة الشعراء لأن القصة درامية هنا أكثر (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي) اسر بهم اي اذهب بهم ليلًا من السُرى (وأسر ولو أن الظلام جحافل) السرى بهم ليلًا أي امشِ بهم ليلًا إنكم متبعون سيتبعونكم فعلّمه وأعلمه الله أن فرعون وجنوده سيتبعونهم (فأوحى إليه (أن التفسيرية) أسرِ بعبادي) قرآءة ورش (أن اِسرِ) من سرى، سرى أمرها بهمزة الوصل أن اِسرِ، وسرى واسرى كلاهما له نفس المعنى مثل سقى واسقى. (أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) فرعون أرسل وراءهم (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ﴿٥٣﴾ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ﴿٥٤﴾ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ﴿٥٥﴾ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ﴿٥٦﴾) أخرج جميع الجند الذين كانوا في المدائن لم يكتفي بعدد لأن الروايات التفسيرية تقول خرج موسى بستمائة ألف من بني إسرائيل، فرعون حشد أكثر مليون مليون ونصف، عدد كبير، فأرسل حاشرين يجمعون كأنهم في يوم الحشر حشر عددًأ كبيرًا (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) الحاشرون يقولون وفرعون قال، أرسل فرعون في المدائن حاشرين يقولون إن هؤلاء لشرذمة قليلون، (هؤلاء) تحقير، (شرذمة) طائفة قليلة، نحن لدينا العدد والقوة والعتاد! (قليلون) صغّرهم واحتقرهم بثلاثة أشياء: (هؤلاء) للتحقير، (شرذمة) هي الطائفة القليلة وزاد فوصفها بجمع قلّة (قليلون). (وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ) (لنا) فرون يدّعي العظمة (لغائطون) أي أغضبونا كثيرًا، الغيظ هو شدة الغضب.

(وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) هذه استراتيجية حربية: أنا كملك وأحذر منهم فما بالكم أنتم؟!! وإنا لجميع ينبغي أن نحذر منهم فلذلك حرّض عددًا كبيرًا للخروج فخرجوا في أدبارهم ووراءهم.

بعد ذلك يبدأ فصل آخر (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿٥٧﴾ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴿٥٨﴾ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿٥٩﴾ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ﴿٦٠﴾) هذا تعليق إلهي ثم تأتي النهاية المأساوية.

في رحاب سورة الشعراء 5 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة الشعراء – 5

تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا

المقدم: في الحلقة الماضية أسدلنا الستار على مشهد من مشاهد موسى مع فرعون، لأن القصة كأنها دراما تمثيلية في هذه السورة من بداية تكليف موسى عليه السلام بالدعوة ثم دعوة فرعون ثم التحدي مع السحرة، انتهينا من تحدي السحرة وغلبة موسى لهم ودخول السحرة في الإسلام وتهديد فرعون للسحرة وبني إسرائيل  إلى أن قال الله تعالى (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿٥٧﴾ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴿٥٨﴾ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿٥٩﴾ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ﴿٦٠﴾) ثم نأتي إلى مشهد آخر. لما قال الله سبحانه وتعالى (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) من المقصود؟ هل أخرج بني إسرائيل أم أخرج فرعون؟

د. المستغانمي: قوله تعالى (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) هو تعليق عن القصة السابقة، لما غلبت المعجزة الإلهية الموسوية سحر السحرة انقلبوا ساجدين وآمنوا برب العالمين وأسدل الستار على هذا المشهد. بعد زمن طويل ومحاولات من موسى عليه السلام وهارون لكي يخرجا بني إسرائيل معهما من قبضة فرعون الحديدية لم يشأ وكان يتلكأ وكل مرة يأتيهم بأشياء وكل مرة يقول يا موسى ادع لنا ربك أن يفعل كذا، أن يفعل كذا إلى أن رأوا من الآيات ما رأوا حتى في سورة الأعراف (تسع آيات) القمل والضفادع والدم، لئن كشفت عنا كذا لنفعلن كذا، كل مرة ويخلفون عند كل موعد جديد بعدها بعد فترة (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي) فخرج موسى وخرج فرعون والحاشرون وجنوده خلفهم. هنا بعد ذلك الخروج لم يخبرنا الله ماذا حدث فأتى هذا التعليق المعترض، هذه جملة اعتراضية (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ). أين كان فرعون وجنوده وقومه؟ كانوا يعيشون في جنات ونعيم وعيون وأنهار، أما بنو إسرائيل فكانوا في ذل ذليل وكانوا مستعبَدين وتحت القهر وفرعون هو القائل (أليس لي ملك مصر) كان ذا ملك كبير في المدائن وسدنته وخدمه وجندوه كانوا يعيشون معه تلك العيشة.

المقدم: (وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) وهل يرث بني إسرائيل فرعون؟

د. المستغانمي: أورث لله بني إسرائيل ذلك المجد وتلك الحياة الرغيدة وليس شرطا أنها في مصر، هو فتح لهم في بلاد الشام وتاريخيا لم يثبت أن بني إسرائيل عادوا إلى مصر وملكوا مصر إنما أورثهم مشارق الأرض ومغاربها (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) [الأعراف: 137] ذهبوا إلى الشام وورثوا مجدا عظيما عندما آمنوا بموسى وعندما عادوا وكفروا عاقبهم.

قال (مشرقين) إلى البحر الأحمر لما ننظر إلى المدائن التي كانت في مصر، ذهبوا إلى الشرق. (مشرقين) تحتمل معنيين في اللغة العربية: أشرق ذهب إلى الشرق ولكن أيضًأ مشرقين عند شروق الشمس، تحتمل المعنيين. لكن موسى وبنو إسرائيل سروا ليلًا (أن أسر بعبادي) وكانت المسافية بينهم ساعات الليل، عند الشروق كان الحاشرون جاهزين، موسى ومن معه ذهبوا ليلًا بينما اتبعهم فرعون وجنوده في النهار بعد شروق الشمس عندما جمعوا جنودهم وقواهم.

(فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿٥٧﴾ وَكُنُوزٍ) الكنوز في اللغة العربية هي الأموال المدّخرة ولم يقل (وأموال) لأنهم كما قال أحد المفسرين لم يقوموا بتزكيتها، الكنز هو الذي لا يزكّى فإذا زكيته صار مالًا حلالًا، الكنز هو المال المدخر الذي لا يُزكّى وفي هذا إشارة إلى شحّهم، إشارة إلى بخل فرعون وجنوده لم يكونوا يزكّون أموالهم أما إذا أديت زكاة الكنز أصبح مالًا عاديًا. قارون كان يكتنز المال (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [القصص: 76]

(وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) هي المساكن الجميلة الهنية القصور التي كانوا يمتلكونها أخرجهم إلى الغرق جزاء وفاقًا بما عملوا.

المقدم: نأتي إلى مشهد التقاء الجمعين، الله سبحانه وتعالى يقول (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴿٦١﴾) هم لم يلتقوا ولكن ترآؤا

د. المستغانمي: الفريق الأول رأى الفريق الثاني والفريق الثاني رأى الفريق الأول، (تَرَاءَى الْجَمْعَانِ) تبادلوا الرؤية، الرؤية مشتركة (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ) وهذا من حكمة الله كأن موسى تباطأ نوعًأ ما هو ومن معه في الطريق إلى أن لقوا البحر من أمامهم والعدو من ورائهم فأدركهم فرعون وجنوده كانوا على مرأى العين.

المقدم: هل هذا الكلام تاريخيًا أو جغرافيًا حصل في البحر الأحمر؟

د. المستغانمي: نعم كانوا يسمونه تاريخيًا بحر القلزم، ثم عبروا إلى سيناء ثم إلى بلاد الشام. فلما ترآءى رأى كل فريق الآخر، قال أصحاب موسى (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) يقين، أيقنوا بأنهم مدركين من قبل فرعون وجنوده، انظر إلى الأسلوب قالوا (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) لم يقولوا أدركنا وإنما (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) بالجملة الإسمية وإنّ المشددة واللام المزحلقة، يعني البحر أمامنا وفرعون وراءنا إنا لمدركون، فقال لهم موسى (كلا) أداة إبطال نافية رادعة، لا تقولوا هذا الكلام ومردود عليكم هذا الكلام (كلا) أداة ردع قوية جدًا. (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴿٦٢﴾) هذه المعية تحدث عنها العلماء قال المفسرون قال: إن معي ولم يقل إنا معنا وقد كان معه ستمائة ألف، عدد كبير، قال (إن معي) بعض المفسرين قال: لم يكن بنو إسرائيل على علم بما وعده الله وهو وأخوه هارون كانا على علم (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴿٤٦﴾) وفي آية سورة الشعراء (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) الله تعالى ثبت قلب موسى وثبت قلب هارون فهو يدري أن الله معه. ثانيًا لما رأى البحر أمامه القضية لا تتطلب ذكاء ولا قوة بدنية وإنما تتطلب معجزة، وهو الرسول فقال (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) سيدلني على ما أفعل وسيوضح لي سبيلي.

بعض المفسرين وقف عند مقارنة جميلة: موسى عليه السلام قال (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) بينما محمد صلى الله عليه وسلم في الغار هو وأبو بكر قال (إن الله معنا) لم يقل معي وإنما قال معنا، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، إيمان أبي بكر وصل مرحلة الصديقية، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثاني رجل في الأمة، فالحفظ تناولهما والخطاب لهما (إن الله معنا) إيمان بني إسرائيل في تلك المرحلة لم يرق لإيمان أبي بكر الصديق، كان إيمان بني إسرائيل في تلك المرحلة متزعزعًا بدليل ما إن عبروا البحر الأحمر حتى رأوا أناسا يعبدون إلهًا فقالوا (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف: 138] لم تجف أقدامهم من البحر الأحمر طلبوا صنمًا وقالوا اجعل لنا إلهًا، فإيمانهم لا يرقى لإيمان أبي بكر فالمعية شيء عظيم ولذلك موسى عليه السلام أجابهم (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)

المقدم: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴿٦٣﴾) لماذا ذكر هنا (أن اضرب) ولم يقل فأوحينا إلى موسى اضرب؟

د. المستغانمي: ذكرنا سابقا (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿١٠﴾) الفعل نادى ليس صريحًا في القول والفعل أوحى ليس صريحًا في القول لذلك يحتاج إلى (أن التفسيرية) أوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك، لو قال له قلنا لموسى لقال (اضرب بعصاك). (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) الله أمره أن اضرب فانفلق هنا كلام محذوف تقديره (فضرب) وهذه تسمى الفاء الفصيحة، في اللغة العربية الفاء الفصيحة التي تعطف على أمر محذوف، هذا المحذوف يذكره كل عاقل لبيب متدبر لكلام الله وإلا لا يعقل (أن اضرب فانفلق)، أن اضرب فضرب فانفلق.

(فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) الطود هو الجبل العظيم الأشم، من خصائص الماء الاستطراق، الماء الذي ضربه موسى بمعجزة من الله أصبح كالجبل كالطود، وقف شامخا كالجبل أبطل الله خاصية الاستطراق للماء، الماء لا يكون كالجبل، هذه الخواص التي يبطلها الله معجزة لأنبيائه ورسله كما فعل مع إبراهيم عليه السلام (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69) الأنبياء) من خصائص النار الإحراق، إذن هذه هي المعجزة تفوق ما لدى البشر.

(كالطود) كافية لكن قال (كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) تخيّل البحر الأحمر أصبح جبلين اثنين، لكن بين كل سبط وسبط طريق لأن بني إسرائيل كانوا اثنا عشر سبطًا والسبط فريق والسبط هو ابن البنت، الحفيد ابن الولد والسبط ابن البنت (أسباطا أمما) تشكلت قبائل بنو إسرائيل فأصبحت تسمى أسباطًا. لكن في الجذر اللغوي ابن البنت يسمى السبط ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عن ابنا بنته الحسن والحسين “هما سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

هنا تقنية لغوية (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ) ما قال فأصبح كل فِلق، انفلق وانفرق كلمتان متشابهتان تختلفان في الراء واللام وهما من نفس المخرج مثل بكّة ومكّة تختلفان في الباء والميم وكلاهما من نفس المخرج، هذه تقنية لغوية.

(وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ ﴿٦٤﴾) من هم الآخرين؟ يعني بهم هنا بني إسرئايل، دخل موسى عليه السلام بعدما ضرب البحر فانفلق وصار يبسًا كما ورد في سورة طه (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ﴿٧٧﴾) فمشى موسى وبنو إسرائيل معه هنا تدخلت الحكمة الإلهية (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ) أزلفنا بمعنى قرّبنا أدنينا (وأزلفت الجنة للمتقين) قرّبت، وهنا قال (ثم أزلفنا) هذا التجاذب بين ألفاظ السورة ذاتها، من حكمته جلّ وعلا أن قدّم  بني إسرائيل حتى كادوا يلحقوا بموسى ومن معه، (أزلفنا) فرعون وجنوده، لدينا فرقة فرعون ومن معه ولدينا فرقة موسى ومن معه، موسى ومن معه هم المتقدمون الأولون وفرعون ومن معه (الآخرين). (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ) قرّبنا فرعون وجنده، لماذا قرّبهم الله؟ حتى يزدادوا انجذاباً لموسى ومن معه لأن موسى ومن معه لو اجتاوا البحر الأحمر وبقي فرعون وجنوده عند الشاطئ الثاني قد يدخل شيء من التواني والكسل بأن أولئك قد مروا وابتعدوا، لكن عندما اقتربوا منهم ازدادوا طمعًا في القضاء عليهم، مشهد عجيب لذلك جاءت جملة (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ) حتى ظنّ فرعون ومن معه بأن بني إسرائيل مدركون وفي قبضة يده، أصبح موسى ومن معه يقتربون من الشاطئ وفرعون ومن معه يتبعهم وهذا من جنونه وحمقه لأنه هو يعلم أن موسى رسول الله وقد شهد كل المعجزات وآخر معجزة أنه ضرب البحر فانفلق وهذه معجزة فقد كان بحرا قبل قليل وبما أن الله فتح له البحر وفلق له البحر فلماذا يتبعه فرعون؟! هنا الغطرسة وشدة الملوك كان يدّعي الألوهية فازداد طمعًا في إدراك موسى ومن معه مما سهل عملية خروج موسى ومن معه (وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ﴿٦٥﴾) أجمعين لم يتخلف أحد ممن خرج مع موسى (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ﴿٦٦﴾) كلهم دون استثناء. نهاية مأساوية درامية وحبكة كيف قاده غلوه وكفره وشركه وظلمه إلى هذه النهاية المأساوية.

في سورة يونس والأعراف يكمل الله عز وجلّ المشهد، وهذا جمال القرآن وجمال القصص، في سورة يونس لما أدركه الغرق قال (قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) حتى لم يستطع أن يقول من هو الإله وإنما قال الذي آمنت به بنو إسرائيل فأنا معهم! (آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴿٩١﴾) تكررت كلمة (الآن) في سورة يونس، ثمة مشهد رسم بلغة سورة يونس.

المقدم: كلمة (الآن) وردت في القرآن كثيرا لكنها في سورة يونس تُقرأ بمدّ البدل

د. المستغانمي: لأنه سبقها استفهام (آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) ولم يسبق (الآن) استفهام في القرآن إلا في سورة يونس في موضعين، وللقرآن أسرار. كنت أقرأ في سورة الشعراء لدى بعض المفسرين ووقفت عند صاحب تفسير المنار الأستاذ محمد رشيد رضا المفسر السلفي المعتدل عندما تحدث عن القصص القرآني كيف تكرر بصورة إعجازية، لو كان هذا القرآن من صنع محمد ما يستطيع كاتب بليغ مسقع مهما أوتي من بلاغة الكلام أن يروي لنا قصة موسى في سورة الشعراء بثوب لغوي وفي يونس بمشهد وبثوب لغوي آخر يناسب السورة وفي الأعراف في حوالي عشر صفحات وفي سورة القمر عندما ذكر قصة نوح عليه السلام عندما دعا ربه، مشاهد تختلف، فأيّ بليغ يعبّر عن قصة بعشرة أثواب؟! وكلها أبلغ ما تكون، هذا كلام رب العالمين.

المقدم: (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ) الآخرين يقصد بهم فرعون وجنوده وانسدل الستار على آية تتكرر في السورة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿٦٧﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿٦٨﴾) ما المقصود بالآية هنا في قصة موسى؟

د. المستغانمي: الآية عنا هي المعجزة، العبرة. هي كلها آيات، إما آيات القرآن أو آيات الكون أو آيات العبرة (إن في ذلك لعبرة) لعلامة قاطعة على قوة الله عز وجلّ. سورة الشعراء بنيت على آية (تلك آيات الكتاب) سواء كانت المقروءة أو المشهودة. العبرة أمة كانت ذات سؤدد وجاه ومال تعيش في جنات وعيون وكنوز ومقام كريم، كان له من الجنود ملايين، بين لحظة وأخرى غيّر الله الأمور وأنجى الله بني إسرائيل في صحبة موسى كليم الله وأغرق فرعون وجنوده الذين كانوا يملأون الأرض بطشا وظلما، أليس في ذلك آية؟! كيف زالت دولتهم؟ هل هذا محض صدفة؟!، لا، إن في ذلك لعبرة كيف ينجي الله أولياه ورسله ومن اتبعوهم وكيف يُهلك الظالمين أمثال فرعون وجنوده. هنا العبرة وإلا كيف تكون دولة متطورة تسقط بين عشية وضحاها، ثم قوانين تحكم المجتمعات لكن إذا قلب الله عز وجلّ عاليها سافلها بزلزال عظيم يخرق الله القوانين وهنا نفس الشيء فرعون كان آمنا هو وجنوده في المدائن ليس مدينة واحدة وملك، قارون فقط كان وزيرا وكان له من المال ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة، فتخيل قارون وتخيل هامان وبنوا من الصروح ما هو باق حتى يومنا هذا دلالة على عظمة تلك الحضارة التي بنيت في قرون توالت على مصر حسب التاريخ تسع عشرة عائلة فرعوني، تاريخ طويل في لحظة أغرقهم الله ولله في خلقه شؤون.

المقدم: نأتي إلى قصة جديدة وهي قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام، الله سبحانه وتعالى يقول (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ﴿٦٩﴾ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ﴿٧٠﴾) لماذا ذكر إبراهيم قبل نوح والأنبياء الآخرين مع أن نوحًا في الزمن قبل إبراهيم؟ وهناك اختلافات بين ورود القصة هنا ووردودها في سور أخرى.

قصة إبراهيم عليه السلام في سورة الشعراء

د. المستغانمي: قلنا في أول حلقة أن القصص الذي ورد في سورة الشعراء لم يُقصد به التأريخ الزمني كما ورد في سورة الأعراف مثلًا حتى إن بعض المفسرين يقولون الشعراء هي الأعراف الصغرى، الشعراء مصغّرة، الأعراف فيها حزبان ونصف والشعراء حزب واحد حوالي عشر صفحات ومع ذلك القصص فيها جاء يعالج قضية وهي بعثة الرسل إلى أقوامهم، مقابلة الأقوام الرسل بالكفر والتكذيب ثم جاء العذاب للأقوام الذين كذبوا إن في ذلك لعبرة لمشركي قريش الذين رفضوا وقاوموا الدعوة الإسلامية.

لماذا بدأ القصص القرآني فيها بقصة موسى لأن قريشًأ كانت دائمًا تطلب الآية الكونية، الآية الحسّية حتى إن أول آية قال (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴿٤﴾) لو شاء الله وشاءت حكمته لأنزل معجزة حسية ولكنه لم ينزل لأن قوم موسى طلبوا ذلك وأعطاهم الله من الآيات الحسية ما أعطى فلم يؤمنوا، فما تنفع الآيات الحسية؟! الذي ينفع الحوار والمحاججة، تنفع الأدلة العقلية ومن هنا جاءت قصة إبراهيم لأنها تقوم على الحجة العقلية، هذا سبب مجيء قصة إبراهيم بعد قصة موسى. الحجج الحسية واضحة في قصة موسى والحجج العقلية في قصة إبراهيم عليه السلام لأن قصته تشبه قصة محمد صلى الله عليه وسلم بل نستطيع أن نقول أن قصة محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه تشبه قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه وهو الأب الأكبر للأنبياء وأبو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. إبراهيم عليه السلام لم يأت قومه بمعجزة حسية، لم يدخل يده في جيبه ولم يأت بعصا لكن أتاهم بالحوار (ما تعبدون)؟ حوار عقلي يريد أن يوقظهم (مَا تَعْبُدُونَ ﴿٧٠﴾ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ﴿٧١﴾ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ﴿٧٢﴾ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴿٧٣﴾) في سورة الأنعام (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) حجّة (نرفع درجات  هذا ربي) نقاش قائم على الحوار العقلي. في سورة الصافات (أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ﴿٨٦﴾ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٨٧﴾) حاور إبراهيم قومه وحاول أن ينقذهم وهذا هو لبّ رسالة الإسلام. عباس محمود العقاد الكاتب الأديب الناقد كتب كتابًا عنوانه: التفكير ضرورة إسلامية، جمع في هذا الكتاب أكثر من 300 دليل على أن الإسلام دين العقل، دين التفكير (أفلا يتدبرون) (أفلا يتذكرون، أفلا يتفكرون، لا يوجد كتاب في الدنيا حثّ على العقل والمنطق السليم لذلك دعوة الإسلام دعوة محاججة ولذلك من يريد أن ينشر الإسلام بالسيف وبالقوة هذا خطأ وهذا يناقض كل مبادئ الإسلام.

المقدم: لماذا بدأ قصة إبراهيم عليه السلام (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ﴿٦٩﴾) بينما في قصة موسى قال (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى)؟

د. المستغانمي: لأنه في قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه رواها لنا قصة (واذكر إذ نادى) القرآن يذكرها كقصة يستفاد منها العبر أما قصة إبراهيم اتلوها عليهم تلاوة حتى يستنبطوا ما فيها من أحكام. نحن ومحمد صلى الله عليه وسلم والعلما والمسلمون مطالبون أن يتلوا قصة إبراهيم حتى يستنبطوا، عملية عقلية حججية. واستعمال كلمة (نبأ) وهو الخبر العظيم (هل أتاك نبأ الخصم) النبأ هو الخبر العظيم الجليل الذي فيه قصة.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ):

قصة محمد صلى الله عليه وسلم تشبه قصة إبراهيم بأنها عقلية.

قوم إبراهيم ادّعوا أن آباءهم كذلك يفعلون وقوم محمد صلى الله عليه وسلم قالوا (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴿٧٤﴾).

الأقوام السابقون كلهم أهلكهم الله بعدما جاءهم بالمعجزات الحسية، قوم إبراهيم لم يهلكهم الله، لم يسلط الله عليهم الهلاك لأنه لم يرسل عليهم معجزة حسية (النار معجزة أنجى الله عز وجلّ إبراهيم عليه السلام عندما ابتلي بها) لكن لم يطلبها القوم، لذلك لم يسلط عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم وقريش أيضًا والمشركون أمهلهم الله.

ثمة تشابه كبير إضافة إلى أن إبراهيم الخليل دعا (رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله ) واجعل فيهم الذرية الصالحة كما دعا محمد صلى الله عليه وسلم لقومه وكان محمد صلى الله عليه وسلم يقول أنا دعوة أبي إبراهيم.

المقدم: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ) استعمال (ما) هنا

د. المستغانمي: (ما) هنا استفهامية أي ما الذي تعبدون، ماذا تعبدون؟ القرآن ينطق على لسان إبراهيم. أولًا السياق هادء في سورة الشعراء (ما تعبدون) مثلما قال فرعون تمامًا (وما رب العالمين) وأجابه موسى، وهنا قال (ما تعبدون) ما جنس ما تعبدون؟ هو يعرف الجواب ويعرف أنهم يعبدون الأصنام، هو سؤال استنكاري يحرك المحاججة والمناظرة، بدأهم بالسؤال لأنهم يعبدون أصنامًا يعبدون باطلًا، هم يعرفون أنهم يعبدون الباطل والمحامي عندما يريد أن يدافع عن الباطل يتلكأ. لو عندك قضيتين أعط قضية حق لمحامي فصيح وأعطِ قضية باطل لمحامي فصيح، المحامي الفصيح مع قضية الحق سوف يحسن الإتيان بالأدلة القوية لأنه على حق، صاحب الباطل هو يدرك أنه على باطل فيتلكأ ويتمحّل. هنا بدأ المناظرة بسؤال لأن الذي يكتب أو الذي يرد أن يصوغ الباطل بشكل صحيح لا يستطيع. بينما في سورة الصافات قال (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ﴿٨٣﴾) هنا قال (ماذا) لأن الاحتدام والنقاش في سورة الصافات قوي (فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴿٩١﴾) وكسّر الأصنام لا يناسبه الهدو إنما في سورة الشعرا يناسبها الهدو فجاء بـ(ما الاستفهامية) لأن (ماذا) اقوى من (ما) هذا كلام النحويين، ماذا تعبد فيها قوة، (ذا) اسم إشارة، ما الذي تعبد؟ كأنني أحقّره.

المقدم: هم اعترفوا (نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ)

د. المستغانمي: اعترفوا (نعبد أصناما) كان القياس اللغوي عندما يقول لهم (ما تعبدون)؟ يقولون (أصناما) لأن الفعل ذُكر في السؤال لا داعي للإطناب في الإجابة لكن الإطناب في الآية سببه أنهم مبتهجون (نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) يفتخرون ولذلك كرروا (نَعْبُدُ) نفتخر أننا نعبدها ونبتهج بها، هذا أولًا وثانيًا ليحسن العطف (فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ)، لو قالوا (أَصْنَامًا) لا يستقيم (فنظل لها عاكفين) كما يستقيم (قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ﴿٧١﴾). اللغة العربية (ماذا قال ربكم قالوا خيرا) ما قال: قالوا قال خيرا، (يسألونك ماذا ينفقون قل العفو) ما قال ينفقون العفو. (نَعْبُدُ أَصْنَامًا) إبراهيم الخليل يعرف لكنهم ما قالوا نعبد الأصنام وإنما قالوا (نَعْبُدُ أَصْنَامًا) التنكير للتعظيم، نكّروها افتخارًا بها وعظّموها زيادة هم مفتخرون بها (فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) وهذا تعظيم أيضًا.

وهنا نكتة بلاغية ثانية (نظل لها) (نظل) في النهار، ما قالوا: نبيت لها، يعني هم لا يعبدونها في الليل خفية بل يجاهرون (فَنَظَلُّ) في النهار (لَهَا عَاكِفِينَ) ما قال نظل عليها عاكفين، يعكفون عليها، القرآن الكريم ضمّن الفعل عكف معنى الفعل عَبَدَ كأنهم قالوا: فنظل لها عابدين وعليها عاكفين، والتضمين تقنية لغوية رائعة جدًا والقرآن مليء، فعبّر عن حبهم وابتهاجهم.

(قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ﴿٧٢﴾ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴿٧٣﴾) بدأ يحرّك عقولهم، حوار عقلي، محاججة عقلية: أنتم تعبدونها، هل يسمعون لكم؟ يسمعونكم أصلها يسمعون دعاءكم بدليل ما بعدها (إذ تدعون) القرآن موجز وبخاصة القرآن المكي خاطب البلغاء (لا داعي لذكر يسمعون لكم وقد ذكر “إذ تدعون” بعدها) هل يسمعون دعاءكم حين تدعون؟!

(أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) لم يقل أو يضرونكم؟ الإنسان يطلب النفع لنفسه لكنه لا يريد الضرّ لنفسه فما قال أو يضرونكم. قال هل ينفعونكم أو يضرون أعداءكم أو يضرون من تريدون إنزال الضرر به، هنا المفعول به محذوف هم الذين يحددونه.

ثم (يضرون) تتوافق مع الإيقاع الصوتي للفاصلة، المعنى أولًا ثم الفاصلة.

المقدم: (بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) ما أجابوا على سؤال إبراهيم وكان المفترض أن يجيبوا بـ(نعم) أو بـ(لا)

د. المستغانمي: هم يعلمون أن جوابهم باطل وأن إبراهيم وضعهم في زاوية ضيقة، هذا الحِجاج، فهربوا إلى أمر آخر لما لم تجدي المناظرة العقلية العلمية قالوا لإبراهيم الخليل (بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) لسفاهة عقولهم شبّهوا آباءهم بهم، وجدنا آبانا يفعلون كفعلنا الذي نفعل، المفترض أن يقولوا: نحن نفعل كما فعل آباؤنا.

(قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿٧٥﴾) الفعل رأى والفاء التفريعية للاستفهام هذا السؤال يتفرع عما سبق، الفاء التفريعية يعني الكلام السابق يتفرع عنه (الذي خلقني فهو يهدين) شيء يتفرع عن شيء. علمونا في النحو أن الفاء حرف عطف ولكن لها معانٍ: السببية، التفريعية… هنا (أفرأيتم) أخبروني، هذا سؤال، استفهام، يسأله المتكلم للتعجيب (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) أخبروني بالله عليكم، هو يعجّب من شأنهم (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿٧٥﴾ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ﴿٧٦﴾) واستخدام الفعل (كنتم) يفيد تأصّلهم في الشرك هم وآباؤهم (أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) على الرغم من أن إبراهيم الخليل حاول أن ينير عقولهم وأن يهديهم وأن يشرح مسائل الاعتقاد، في النهاية تركوا المحاججة وقالوا (وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)

ووصف آباءهم بـ(الأقدمون) يتحدث عن آبائهم لو قال: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم، كان يكفي في إفحامهم لكن (الأقدمون) تفيد أنه مهما كان آباؤكم الأقدمون موغلين في القِدم فإني لا أعترف بهذه الوراثة، لا يدل على أحقية ما كانوا يفعلون وهذا في اللغة العربية في البلاغة يسمى الإيغال. والإيغال هو أن يصل المتكلم البليغ إلى هدفه قبل أن يصل إلى نهاية الكلام يصل إلى الهدف فيضيف كلمة تفحمهم أكثر، هو وصل حين قال (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿٧٥﴾ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ﴿٧٦﴾) مهما كانوا في القدم ليس لهم الحق أن يعبدون دون الله. مثال الإيغال في الشعر البلاغيون يأتون ببيت الخنساء:

وإن صخرًا لتأتم الهداة به  كأنه علم في رأسه نار

علم أي جبل، انتهى الكلام عند كلمة (علم) لا تحتاج (في رأسه نار) لأن العلم يُرى من بعيد، لكن (علم في رأسه نار) واضح للجميع فما بالك جبل وعلى رأسه نار؟ هذا إيغال.

في القرآن الكريم كثير، (ولا يسمع الصم الدعاء الصم) لا يسمعون الدعاء فما بالك إذا كانوا مدبرين (إذا ولوا مدبرين) هذه إيغال من أوغل، وهذا قمة البلاغة!.

(أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿٧٥﴾ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ﴿٧٦﴾ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿٧٧﴾) الفاء تفريعية على كلام مقدّر، إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم يناقشهم فكأني به قال لهم: فكّرت في هذه الأصنام وهذه الأوثان والحجارة فرأيت من السفاهة أن أعبد أصنامًا هي في الحقيقة عدو لي، كيف يعبد الإنسان عدوًا له؟! هو يعرّض بهم، في البلاغة هذا تعريض.

المقدم: العدو دائمًا يضر وهو قال لا يضرون، لماذا يصفهم إبراهيم عليه السلام بالعداوة؟

د. المستغانمي: يوم القيامة يضرّون، يوم القيامة يلقونهم في نار جهنم ويختصمون معهم أما في الدنيا لا يملكون شيئا. (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) ثمّة كلام مقدّر في ذهن إبراهيم قاله لهم وهم يفهمون اللغة وقريش تفهم هذا الكلام، (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) بمعنى أنا فكرت فيهم ورأيت أن عبادتي لهم كأنني اتخذ عدوًا إلهًا، هل أنت تتخذ عدوًا إلهًا تعبده وهو يضرك! هؤلاء يضرونهم. وعرّض بهم ولم يقل فإنهم عدو لكم، (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) أنا حاولت أن أكون مثلكم ولكن وجدت نفسي أنني لا يمكن أن أعبد عدوًا وقال لهم أنتم تعبدون أعداء لكم بدليل بعدها بآيات (قالوا وهم فيها يختصمون).

المقدم: (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿٧٥﴾ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ﴿٧٦﴾ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿٧٧﴾) ذكرتم سابقًا أن المستثنى جزء من المستثنى منه

د. المستغانمي: أستثني رب العالمين. هذا في المستثنى المتصل أما هنا في الآية فالمستثنى منقطع. يجوز الوجهان. المستثنى يكون جزء من المستثنى به، نقول جاء الطلاب إلا أحمد (أحمد من الطلاب)، قرأت كل الكتب إلا هذا الكتاب، هذا أسلوب الاستثناء المتصل أما الكلدانيون الذين بُعث إليهم إبراهيم الخليل كانوا يعبدون الشمس وكانوا يعبدون (بعل) الذي يمثل الآلهة، هذا يحتاج إلى تحقيق تاريخي كما قال المفسرون، لو كانوا لا يعدون الله الحقيقي من ضمن معبوداتهم لأنهم كانوا يؤمنون بآلهة تُرى مثل الشمس و(بعل)، إذن الاستثناء منقطع لأن رب العالمين ليس من معبوداتهم أما إذا كانوا مثل مشركي العرب يعبدون الله وآلهتهم إذن هنا الاستثناء وارد فإنهم أي المعبودات عدو لي إلا رب العالمين الذي تشركون به، فيجوز أن يكون الاستثناء منقطعا أو متصلًا حسب الكلدانيين تحتاج إلى تحقيق تاريخي.

المقدم: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿٧٧﴾) وهنا يأتي الحديث عن رب العالمين.

د. المستغانمي: هو يعرّف رب العالمين وأنا أقرأ هذه الآيات وجدت أن إبراهيم الخليل من بين أسباب مجيء قصة إبراهيم بعد قصة موسى وكأن إبراهيم عليه السلام يردّ على فرعون، ألم يقل فرعون (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٣﴾)؟ رد عليه موسى (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴿٢٤﴾) (قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴿٢٦﴾) (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿٢٨﴾) كأن هذا الكلام أكبر من فرعون، جاء إبراهيم يخاطب قومه. هو يرد على قومه كذلك، هو قرّب قال (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿٨٠﴾) إبراهيم الخليل ألم يقل أعبد الله الذي فطر السموات والأرض، في سورة الأنعام (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿٨٣﴾) في النهاية قال (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿٧٩﴾) في سورة الأنعام قال (فطر السموات والأرض) نستحضر دائما في التفسير وفي التدبر السياق العام وهذا ديدن البرنامج.

المقدم: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿٨٠﴾ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴿٨١﴾ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴿٨٢﴾) أحيانًا يستعمل الضمير (هو) وأحيانًا لا يستعمله هناك تنويع في العناصر الخمسة التي ذكرها فما السر؟

د. المستغانمي: السر في ذلك في اللغة العربية عندما نقول (هو) نقول ذهب المعلم هو نفسه (توكيد). (هو) ضمير فصل عندما يؤتى به أحيانًا ليؤكّد، القضايا التي ذكرها إبراهيم الخليل ليست كل لغة مسلّمة لدى المخاطبين فهنا احتاجوا التوكيد حسب الإنكار، عندما (الَّذِي خَلَقَنِي) لم يقل هو خلقني لأنهم لم يدّعوا أن الأصنام خلقت، (فَهُوَ يَهْدِينِ) الهداية الحقيقية من الله، لا يهديك عالم يشرح أو متكلم وإنما الذي يهدي هو الله. (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي) كثير من الناس يظنون أن آباهم يطعمونهم، أبوك لا يطعمك ولا وظيفتك وأنت لا تُطعم نفسك. هذا المزمار الذي يتحرك بين المرئ وبين القصبة الهوائية الذي يحرّكه هو الله ولو شا الله ما تحرّك (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ). (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) كثير من الناس يظنون أن الطبيب هو الذي يشفي أو أن الأدوية هي التي تشفي. (فهو يشفين) لأن القضية تحتاج إلى توكيد عقائدي. (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) لا أحد ادّعى أنه يميت ويحيي، ربما يدّعون الإماتة كما ادّعاها النمرود لكن الإحياء لا أحد ادعاه حتى لما قيل لهم لماذا تعبدون الأصنام؟ قالوا ليقربونا إلى الله زلفى لم يقولوا لأنها تحيي وتميت. في القضايا التي فيها لبس يأتي الضمير (هو) أما في القضايا المحسومة بأنها لله فلم يأت فيها تأكيد.

المقدم: لماذا ختم بهذا الدعاء (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿٨٣﴾ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ﴿٨٤﴾ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴿٨٥﴾ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٨٦﴾ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿٨٧﴾ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿٨٩﴾) وهو من الأدعية العظيمة التي ندب الإسلام للدعاء بها.

في رحاب سورة الشعراء – 6 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة الشعراء – 6

تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا

المقدم: الحديث في سورة الشعراء في نهاية قصة إبراهيم مع قومه شرح لهم من رب العالمين (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿٨٠﴾ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴿٨١﴾ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴿٨٢﴾) يذكر الضمير في بعض المواضع التي تحتاج إلى تأكيد التي قد تلتبس على الإنسان، هو الذي يهدي، هو الذي يُطعم وليس آباؤنا أو أرباب أعمالنا فالله هو الرزاق. حينما يقول الله سبحانه وتعالى (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾) ما قال والذي يمرضني، ما نسب المرض إلى الله سبحانه وتعالى

د. المستغانمي: هذا في البلاغة العربية يسمى التنكيت أن يعدل المتكلم البليغ من أسلوب إلى أسلوب لنكتة، هو أسند كل شيء لله وعرّف رب العالمين بما يفعل جلّ جلاله (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) خلقني بمعنى أوجدني وهو الذي يهدي العقول ويهدي القلوب ويهدي النفوس إليه جلّ جلاله والذي هو يطعمني ويسقين أي الذي أعطاني مقومات حياة الجسم الجسم لا يعيش بدون طعام وسقاء والذي إذا مرضت أيضًا فهو يشفين، هنا القياس اللغوي: الذي يمرضني، لأن المرض بيد الله والموت بيد الله والحياة بيد الله لكن تأدبًا مع الله أسند الضرر لنفسه، أسند الشر لنفسه المرض في النهاية يعدّ ضررا لذلك الإنسان لأنه قد يتأوه ويتألم ويعاني من المرض وإذا مرضت أنا بالأسباب التي ارتكبتها تحت قضاء الله وقدره فهو يشفين، أسند الشيء الجميل وهو الشفاء إلى الله تأدبًا مع الله وهذا ديدن القرآن، في سورة الجن قالوا (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴿١٠﴾) الرشد شيء جميل فأسندوه إلى الله، وفي قصة الكهف حينما قال (فأردت أن أعيبها) نسب العيب لذاته، هذه قضية مطردة في القرآن أما في الخير نسبه إلى الله (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما).

(الَّذِي خَلَقَنِي) بدأ تعريف الله (الذي) اسم موصوف إما يُعرب صفة لرب العالمين وهو قال (إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) من صفته (الذي خلقني). بدل أو صفة، بعض اللغويين يقول: (إلا رب العالمين). ثم جملة استئنافية، مبتدأ (الَّذِي خَلَقَنِي)، ليس فيها مشكلة، هذا ثراء. (الَّذِي خَلَقَنِي) مبتدأ (فَهُوَ يَهْدِينِ) خبر، قد يقول قائل هل الخبر يُبتدأ بالفاء؟ نقول: اسم الموصول تقوّى إلى درجة الشرط حمل وتضمن الموصول معنى الشرط كأنه يقول: الذي خلقني، فهو يهدين، هكذا يجيب النحويون تضمن معنى الشرط ولا يوجد شرط. (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾) ولم يقل بعدها والذي إذا مرضت فهو يشفين إنما قال (وإذا مرضت) لأن ثمة علاقة تلاحمية بين الطعام والشراب والمرض لا يفصلها بـ(الذي) لأن المرض هو نتيجة آلية من زيادة الطعام أو الشراب أو عدم وجود الاعتدال. زار علي بن أبي طالب رضي الله عنه المقبرة مع رفقائه فقال لو سألناهم ما سبب آجالكم؟ لو أجابوا لقالوا: التخمة. المعدة بيت الداء كل الأمراض من الطعام والشراب لذلك لم يأت بـ(الذي).

(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴿٨١﴾) هنا مسألة أخرى، من الذي يملك الموت؟ الله، من الذي يملك الإحياء؟ الله. (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴿٨٢﴾) (أطمع) ما قال أرغب، أطمح، ألتمس، وإنما قال (أطمع) هو يصور عدم استحقاقه لهذه المغفرة، إبراهيم عليه السلام يهضم نفسه فما بالك أنت أتخذت عند الله عهدا؟!! أرغب فيها شدة رغبة، أطمع فيها نوع من الطمع  كأنه يقول يا رب أنا لا أستحق، فيها شيء من التذلل وما أحوجنا أن نحن أن نتذلل أمام الله سبحانه وتعالى!!

(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴿٨٢﴾) خطيئتي وليس ذنبي، هل للأنبياء خطايا؟! كلمة خطيئة وخطايا كلمة قوية لكن المفسرون قالوا الخطايا هي ما يتنافى مع مقام النبوة قال العلماء :حسنات الأبرار سيئات المقربين. وهؤلاء الأنبياء هم المقربين، اللمم بالنسبة لمقام النبوة خطايا فلذلك هو يقصد هذا، أطمع أن يغفر لي ما لا يتناسب مع مقام النبوة والخُلّة وصل إبراهيم إلى مقام الخُلّة فهو خليل الله. البعض يقول الخطايا هي الكذبات الثلاث البيضاء عندما قال (اقَالَ بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) الأنبياء) وعندما قال عن زوجه سارة أنها أخته وعندما قال إنه مريض لم يخرج في عيد قومه لكن رأيي أن إبراهيم الخليل معصوم كما الأنبياء معصومون، ومقام النبوة مقام عظيم وهنا كان إبراهيم يدعو كما دعا الأنبياء الصالحون.

المقدم: دعا إبراهيم عليه السلام (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿٨٣﴾ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ﴿٨٤﴾ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴿٨٥﴾ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٨٦﴾ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿٨٧﴾ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿٨٩﴾) لماذا هذه الأدعية بالتحديد؟ وما الحكمة من ورودها في ختام قصة إبراهيم عليه السلام؟.

د. المستغانمي: إبراهيم قبل أن يدعو كان يحاجج قومه ويدعوهم إلى الإسلام ووإلى التوحيد وهل أحسن ممن دعا إلى الله؟! (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) فصلت) الدعوة إلى الله عمل عظيم كالصلاة، هو عندما دعا قومه وحاججهم ثم عرّفهم من هو الله (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿٧٧﴾ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿٨٠﴾ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴿٨١﴾ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴿٨٢﴾) لما انتهى من دعوته ومن التعريف والثناء على الله هنا حسُن أن يدعو. دائما عندما ننتهي من عمل عظيم في الإسلام نحن الآن أثناء الصيام في رمضان للصائم دعوة عند فطره، الدعاء مقبول عند إفطار الصائم وأدبار الصلوات الدعاء مقبول ومستجاب، عند الزحف، في عرفات الدعاء مقبول، إبراهيم في سورة البقرة عندما بنى الكعبة وابنه إسماعيل (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿١٢٧﴾ البقرة) لما انتهى من البناء دعا الله (ربنا تقبل منا). الانتهاء من عمل ديني خيّر الدعاء يكون مستحبًا.

لماذا دعا بهذه الدعاء؟ لماذا طلب الحكم؟ الحكم بمعنى الحكمة بشكل عام. إبراهيم كان نبيًا ورسولا فالزيادة في الكمال، رب هب لي حكمة. الحكم ليس الملك والأنبياء لا يطلبون هذا. عندما قال الله (آتيناه حكما وعلما) أي آتيناه النبوة آتيناه الحكمة وفصل الخطاب. وإبراهيم عليه السلام كان بحاجة إلى الحكمة ليحاجج قومه يجادلهم ويقنعهم.

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿٨٣﴾ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ﴿٨٤﴾ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴿٨٥﴾ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٨٦﴾ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿٨٧﴾ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿٨٩﴾) هذه الخمسة التي دعا بها إبراهيم، هذه الأدعية هي في الحقيقة المقابل النفسي، الكمال النفسي في هذه الأدعية والتي أثنى بها على الله كانت في الكمال الجسمي الدنيوي كأنه قابل كل شي بدعاء:

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) الله تبارك وتعالى هو الذي يهدي وإذا ما هداك الله لا يهديك لا كاتب ولا عالم ولا أي أحد لذلك قال (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) كأني به يقول: يا رب زدني هداية وألحقني بالصالحين

(وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) الطعام والسقاء والشراب بهما قوام الجسم وإبراهيم يريد الثناء الذي يمشي عند ذريته فقال (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ) هذا غذاء الروح، غذاء الجسم الطعام والشراب أما غذاء الروح فهي الأخلاق واجعل لي من يذكرني ونحن في الصلاة الإبراهيمية نقول (اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) وجعل ذريته هم الباقين وترك له ذرية (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) [هود: 71] جعل الله له ذكرا حسنًا، هو حريص على هذا أكثر من الطعام والشراب فقال (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ)

(وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) المرض الجسمي الذي يشفيه هو الله وفي دعائه قال (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) الكمال النفسي أحسن من الكمال الجسمي. (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) تتعلق بالأمور المادية عرّف بها الله وأثنى عليه ثم دعا بالكمال النفسي كأنه يقول ما أحوجنا أن نعتقد الاعتقاد الصحيح ونأتي الله بقلب سليم لا السليم من الأمراض الدنيوية وإنما سلامة القلب من الاعتقاد السيء ونأتي إلى الله بقلب يؤمن به ويتوكل عليه.

ثم قال (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) فإذا أحييتني فاجعلني من ورثة جنة النعيم.

هذا تقابل عجيب! عرّف الله بما يفعل للخلق جميعًا ثم لم يطلب الأمور الجسمية والمادية وإنما طلب الأمور الكمالية. (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴿٨٢﴾)( رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿٨٣﴾ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ﴿٨٤﴾ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴿٨٥﴾ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٨٦﴾) قابل الدعاء بالدعاء، قال أطمع أن يغفر لي ثم فصّل بما يطمع فيه حقًا (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أنا أعلم أنه من الضالين كان مشركًا (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) استجاب الله له أدعيته ولكنه خشي إذا دخل الجنة وينادى على الضالين والعياذ بالله ويوقف أبوه آزر مع الفرقة الضالة إن كان ذلك يخز خاطره ويؤلمه فقال (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿٨٧﴾ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾)

إبراهيم دعا لأبيه في سور أخرى لكن الله سبحانه وتعالى ردّ عليه في دعائه لأبيه. إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له وإبراهيم كان صادق الوعد (وما كان استغفار إبراهيم   تبرأ منه) هنا القرآن يصف لنا مشهدًا من مشاهد إبراهيم وهو حيّ وأبوه حيّ فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وانتهى عند ما قال الله.

المقدم: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿٨٧﴾ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾) المال والبنون في ذلك اليوم أم هنا في الدنيا؟ وهل في الآخرة مال وبنون؟

د. المستغانمي: في القيامة. يوم لا ينفع مال كما في سورة البقرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿٢٥٤﴾ البقرة) لا مال ولا بنون يوم القيامة، هو يقصد يوم لا ينفع مال ولا بنون يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم. وهل يوم القيامة ثمة أموال؟ لا يوجد يوم القيامة أموال ولو كان ثمّة أموال فهي لا تنفع.

المقدم: ليست كما فهمتها أنه لا ينفع مال الدنيا ولا بنون الدنيا في يوم القيامة

د. المستغانمي: لو أنفقت كثيرا من مالي ألا ينفعني يوم القيامة؟ ألا تأتي الصدقة؟ المقصود كما في تفسير المفسرين: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم أي إلا من أتى الله بالاعتقاد السليم الصحيح، التوحيد، جاء موحّدا وبقلب سليم على البشرية لا حاقد ولا غيره. وهل ثمّة شي آخر ينفع؟ هل ينفع الإخوة؟ لا شيء ينفع وهذا يسمى أسلوب الاكتفاء يعني يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا شيء آخر، هو أعطانا مثالًا بما له به صله يوميًا، بعائلته وبماله، يوم القيامة هذان الإثنان يتخلفان واستثنى من النفع من أتى الله بقلب سليم. هنا النحويون تحدثوا كثيرا خلاصة قولهم: يوم لا ينفع مال ولا بنون أحدًا إلا واحدًا أتى الله بقلب سليم. لو قرأناها (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿٨٩﴾) بيان المستثنى والمستثنى منه صعب لكن نبسطها للمشاهد الكريم: يوم لا ينفع مال ولا بنون أحدًا من الناس إلا واحدًا أتى بقلب سليم.

دعا إبراهيم الخليل بدعائه، هل استجاب الله دعاء إبراهيم الخليل؟ ما ورد هنا في سورة الشعراء، نقرأ سورة الصافات (وإن من شيعته) يتحدث عن نوح (وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم) أجاب الله دعاءه هنا، القرآن يرد بعضه على بعض. وما ورد (قلب سليم) إلا في هذين الموضعين. وفي قصة إبراهيم (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ﴿٨٣﴾ الصافات) من صنف هذا الرجل نوح إبراهيم (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿٨٤﴾)) هو أجابه بطريقة حكيمة (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ﴿٧٠﴾) إبراهيم دعا (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ﴿٨٤﴾) قال الله تعالى عنه (وتركنا عليه في الآخرين  وبشرناه باسحق نبيا من الصالحين) (إنه من عباده المؤمنين) آتاه الله كل ما أراد (إنه من المحسنين) اقرأ مقطع سورة الصافات تجد دعا إبراهيم الخليل. القرآن متكامل ورحم الله من قال هو لوحة واحدة، لا ينفع أن تقرأ سورة البقرة وحدها، اقرأ كل القرآن تجد ردودًا، تجد هذا يكمّل ذاك.

——–فاصل————-

المقدم: نبدأ الحديث عن الجنة (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿٩٠﴾) ثم الجحيم (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿٩١﴾). (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) قال قبلها (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾) يتحدث عن يوم القيامة (إلا من أتى الله بقلب سليم) كأنه يقول: في ذلك اليوم (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿٩٠﴾ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿٩١﴾)

د. المستغانمي: هذا حسن التخلص بعد أن أثنى إبراهيم الخليل على الذات الإلهية (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿٨٠﴾ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴿٨١﴾) ثم دعا بتلك الأدعية العظيمة وجاء أوان ذكر (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴿٨٢﴾) دعا بتلك الأدعية (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾) جاء حسن التخلص لوصف مشهد من مشاهد يوم القيامة الكثيرة وهو مشهد يتعلق بما سبق (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أزلفت يعني قرّبت وقبلها (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ ﴿٦٤﴾) هذا ثوب السورة اللفظي، لم يقل أُدنيت، قُربت، غير بعيد وإنما قال هنا (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ). أزلفت الجنة فيها نكتة يعني لا يتجشّم المؤمنون والصالحون والمرسلون العناء للذهاب إليها، هي قُرّبت إليهم، أما جهنم والعياذ بالله فيساقون إليها سوقًا. وقال (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿٩١﴾) ما قال أبرزت أو برزت للإخافة الفعل مضعّف أبرزها الله وأبرزها حتى يراها الرآئي والذين يصلونها (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿٩١﴾). (الغاوون) الذين غووا وضلوا، في اللغة العربية عندنا ضلّ وغوى، الهداية يقابلها الضلال والغواية يقابلها الرشاد (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة: 256] الرشد والغيّ يتقابلان، (ووجدك ضالًا فهدى) الغاوي هو ضال لكنه لم يرشد. كما قال الشاعر العربي:

إن أنا إلا من غزيّة إن غـوت        غويت وإن ترشد غزيـّة أرشد

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ) الغاوون هم كل من ضل عن سواء السبيل ولم يرشدوا هذا الرشاد، وقال الغاوين ولم يقل الضالين لأن (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴿٢٢٤﴾) فهو قرّب المسافة للشعراء ثم قال (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴿٩٤﴾)

(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿٩٢﴾) الفعل مبني للمجهول لأن المهم السؤال لا السائل، يقول المفسرون الملائكة تسألهم لأن المشركين والغاوين في جهنم أحقر من أن يسألهم الله تعالى.

أمور كثيرة يُسأل عنها المشرطون يوم القيامة واختيار هذا السؤال تحديدًا لأن قصة إبراهيم مع قومه كانت (مَا تَعْبُدُونَ) قالوا (قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا) فلما أتى بمشهد أتى مشهد خصومة العابدين والمعبودين في جهنم وإلا يوم القيامة هناك أسئلة أخرى تُطرح. هذا مشهد يتبع قضية إبراهيم مع قومه، الآن الختام بمشهد يصف لنا يوم القيامة. (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) آية واحدة أما جهنم (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿٩١﴾ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿٩٢﴾ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ﴿٩٣﴾ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴿٩٤﴾ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴿٩٥﴾ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ﴿٩٦﴾ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٩٧﴾) الحديث طويل لأن القضية تتعلق بالمشركين أما المؤمنون فقال (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿٩٠﴾) طوي الستار. نحن الآن الذي يهمنا والقرآن الله عز وجلّ صاغه لنعيش في رحاب السورة: ما دام حوار إبراهيم كان مع المشركين وقالوا نعبد أصنامًا وكانوا متعصبين قال سوف ترون الأصنام كيف يؤول الأمر وكيف تصبح يوم القيامة! (فَكُبْكِبُوا فِيهَا) الأصنام، (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) هل الأصنام التي كنتم تعبدونها تنصركم أو ينتصرون لأنفسهم؟! لا، (فَكُبْكِبُوا فِيهَا) الأصنام تُكبّ. (كبكبوا) كبكب فعل مكرر، كبّه على وجهه، كبكبه أي تكرر الفعل لأنهم سيتكرر كبّهم على وجوههم إلى أن يصلوا إلى قعر جهنم، تتابع الكبّ ، يتدحرجون، مثل فعل زلزل لتتابع ردّات الأرض، وسوس الشيطان يوسوس ولا يتوقف، دمدم الفعل مكرر، الصيغة تصف المعنى (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴿٩٤﴾) الغاوون يكبكبون لكن لماذا تكبكب الأصنام وهي حجارة لا تنفع، لا تضر، لا تفقه؟ الله أكبّ الأصنام أمام العابدين حتى يروهم رأي العين فيزدادوا حسرة وتحسرًا: أنتم الذين أغويتمونا! كبكبوا يزدادون حسرة! (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) هؤلاء أتباع، الأصنام أخذوا حيّزًا وجنود إبليس الذين كانوا يوسوسون وكان يسوّلون لهم.

(قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ﴿٩٦﴾) الخصومة بين العابدين وبين جنود إبليس والأصنام.

(تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٩٧﴾) قسم، وحروف القسم الباء والواو والتاء لكن القسم بالتاء يكون لكل شيء عجيب غريب، للشيء الذي يكون فيه شيء من الأعجوبة يُقسم به كما قال (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ) [يوسف: 85] الآن بعد أربعين سنة تذكر يوسف؟! يقسمون على أمر فيه غرابة. هنا (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا) أصلها إنّا كنا في ضلال مبين، هذه (إن) إنّ المخففة من إنّ المؤكدة وإن المخففة لا تعمل فيما بعدها (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أصلها: إنّا كنا في ضلال مبين لكن أتوا بها مخففة والدليل على أنها إن المخففة اللام الفارقة التي تؤكد على أنها إن المخففة ولو كانت إنّ لا تأتي اللام. هم لاموا أنفسهم (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) عندما يقولون هذا فيما بينهم فهم يتحسرون، الخبر سيق مساق التحسّر.

(إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٩٨﴾) لأنهم سووهم في الدنيا، كان المقتضى أن يقال: إذ سويناكم برب العالمين لكن قال (نسويكم) رسم المشهد والفعل المضارع يرسم الصورة دائمًا، إذا أردت أن تصور المشهد فعليك بالمضارع وإذا أردت أن تحكي فعليك بالماضي.

(وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ﴿٩٩﴾) أمثال فرعون وأمثال الطغاة.

(فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ﴿١٠٠﴾) هم كانوا يعبدون الأصنام ليقرّبوهم إلى الله زلفى تشفع لهم عند الله، الأصنام التي كانوا يأملون ويتأملون أن تنفعهم وتشفع لهم (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ﴿١٠٠﴾) من الأصنام الباطلة لا تشفع فينا. قال (من شافعين) (من) تفيد الجنس، الواحد يتأمل أن فلان يشفع له، من عائلته، أبوه عالم جليل، أبوه رسول، (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ). (شافعين) بالجمع (ولا صديق) بالإفراد أحد المفسرين يقول لكثرة الشفعاء وقلة الصديق، في الدنيا تجد الشفعاء لكن أين الصديق الحميم؟ أين الصديق وقت الضيق الذي يؤلم نفسه والذي يضحي لينفعك، يصدقك المودة. حتى هذا الذي يصدقك المودة يوم القيامة لا ينفعك، هذا المعنى الأول. المعنى الآخر الذي أميل إليه أكثر: أصل الكلام: فما لنا من شافعين ولا أصدقاء لكن القرآن أن يصف الصديق بالحميم فلإرادة وصف الصديق بالحميم لو جمع وقال أصدقاء لقال أحمّاء لكن (أحمّاء) هذا جمع ثقيل، حميم على وزن طبيب أطباء، حميم أحماء تأتي حميمين على جمع المذكر السالم، الوزن ثقيل، لإرادة تصوير الصديق بالحميم أفرِد. ولا صديق قريب، الصديق القريب لا ينفع فما بالك بالصديق البعيد؟! الصديق الحميم لا ينفع فمن باب أولى الصديق البعيد لا ينفع.

هنا تزداد حسرتهم ويتمنون ما لن يحصل (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٠٢﴾) هذا أسلوب التمنى، في اللغة العربية (لو) حرف امتناع لامتناع تفيد الشرط، لو اجتهدت لنجحت، ما نجحت لأنك لم تجتهد. لكن هنا خرجت تنوسي فيها الشرط وأصبحت تفيد التمني (لو أن لنا كرة) كأنهم يقولون: نتمنى أن تكون لنا كرّة أخرى فنكون من المؤمنين، هم لا يرجون وإنما يتمنون الذي جعل النُحاة يجزمون أنها للتمني لفظ (فنكون) لأنها جواب التمني.

يختم الله سبحانه وتعالى هذه القصة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿١٠٣﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿١٠٤﴾) إن في ذلك لعبرة، لآية، حديث إبراهيم مع قومه، حديثه ومحاججته لهم وتعليمه لهم ومحاولته إيقاظ جذوة التوحيد في قلوبهم لم ينتفعوا بها وقالوا نعبد أصناما ويفتخرون بها، بين عشية وضحاها يوم القيامة سيندمون الندم الكبير ويتمنون أن تكون لهم كرة، لكن الكرة موجودة الآن ليتهم يتعظون إن في ذلك لآية يا محمد لكن ما كان أكثرهم مؤمنين. والحديث أيضًا عن القرشيين وللأسف كل هذه الأدلة لا تحرك نفوسهم (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿٨٠﴾ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴿٨١﴾) وكان يفترض أنهم يؤمنوا، العزيز القادر على تعذيبهم الرحيم الذي يبعث الرسل لهم حتى يعلموهم.

المقدم: يبدأ الحديث عن قوم نوح (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٠٥﴾) كذبوا المرسلين أو كذبوا رسولهم؟

د. المستغانمي: هم كذّبوا رسولهم ولكن لأنهم أنكروا البشرية  قالوا لا يمكن أن يكون الرسول بشرًا فكأنهم كذبوا جميع الرسل ومن كذب رسولا فكأنما كذب الرسل جميعًا ونحن كمسلمين نؤمن بجميع الرسل (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة: 285]

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٠٥﴾) قال كذبت ولم يقل كذّب، في اللغة العربية يجوز التذكير والتأنيث في الفعل ولكن اختار الفعل المؤنث (كذبت) والذي اطلعت عليه في كتب المفسرين قوم مذكر وقال الزمخشري قوم مؤنث بدليل أن تصغيرها قويمة لكن (كذبت) تم تأويلها بالجماعة، كذبت أمة نوح المرسلين، كذبت جماعة نوح. لو قلنا كذب قوم، موجود لأن قوم كلمة لا مفرد لها من جنسها.

قال (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٠٦﴾) لأنه منهم، من القوم. ومفردة (أخوهم) تكررت مع جميع الرسل إلا مع أصحاب الأيكة قوم شعيب قال (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٧٧﴾) لأن شعيبًا كان من مدين ولم يكن من أصحاب الأيكة، بُعث إلى القومين إلى قومه الذين ينتسب إليهم وإلى أصحاب الأيكة لأنهما اشتركا في تطفيف الميزان، نفس الذنب فبعث لهم نبيًا واحدًا. والعرب يقولون يا أخا العرب، يا أخا القبيلة، فهو من هذا القبيل.

(أَلَا تَتَّقُونَ) بداية الدعوة، فهو يسجل عليهم أنهم لا يتقون الله. هذه (ألا) في اللغة العربية نفسرها بطريقتين: همزة الاستفهام ولا النافية يستنكر عليهم عدم التقوى أو (لا التحضيضية). إذن (أَلَا تَتَّقُونَ) هو يستفهم ويستنكر لماذا لا يتقون أو ألا تتقون بمعنى يحضهم على التقوى (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) أي قاتِلوا.

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿١٠٧﴾) اختار من بين الأوصاف الأمانة لأنها تجعلهم يثقون فيما أتى به، صفتان ضروريتان لكل نبي: الصدق والأمانة، والأمانة تقتضي الصدق والذي عنده أمانة يكون صادقًا. هرقل عندما ذهب إليه أبو سفيان وقال له عن محمد صلى الله عليه وسلم هل جرّبتم عليه كذبًا؟ قال أبو سفيان: ما شهدنا عليه كذبًا قطّ، فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس ليكذب على الله. الصادق صادق، الأمانة صفة ضرورية لجميع الرسل.

القرآن موجه للمسلمين، نوح عندما قال لقومه قال (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿١٠٧﴾) تعرفون صدقي وأمانتي، إياك أعني واسمعي يا جارة! تعريض بقريش أنتم تعرفون صدق محمد فلماذا تكذبونه؟!

(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٠٨﴾) كررها وأكّدها من جديد. (وأطيعون) أطيعوني أنا نون الوقاية وحذفت ياء المتكلم للفاصلة (أطيعوني، يهديني) ياء المتكلم حذفت لرعاية الفاصلة لأن الإيقاع الصوتي للسورة كله بالنون. فاتقوا الله وأطيعوه ثم أطيعوني، التقوى الخوف من الله تؤدي إلى طاعة الله وطاعة رسوله ولذلك قدّم التقوى على الطاعة. (وأطيعون) يوقف عليها بالسكون في القرآءة المشهورة.

(وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٠٩﴾) هل كان يخاف مظنة أن يسألون الأجر؟ هو أتى بصفتين عظيمتين: الصفة الأولى تعرفون أمانتي وصدقي، ثانيًا هل طالبتكم بشيء من المال؟ المال هو الذي يطغي الناس، أنا ما طالبتكم بمال ولا أجر، دلالة عل النزاهة ، وهذه جملة رددها كل الأنبياء نوح وهود وصالح ولوط وشعيب قالوها لأقوامهم لأنه لو طلب أجرًا على ما يقدم لشك الناس أنه يريد دنيا يشتريها إنما الرسل نزهاء لا يطلبون مالًا، يطلبون المقابل من الله سبحانه وتعالى.

في سورة الشعراء تكرر (أجر) من الأجرة، العوض، لكن في سورة هود (ما أسألكم عليه مالا) لأنه بعدها بقليل قال (ولا أقول لكم إني ملك ولا أقول عندي خزائن الله) كلمة الخزائن تقتضي المال، أما في سياق آخر لا يوجد الخزائن فيأتي الأجر وهو مقابل العمل.

تكرار (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) لتثبيت فكرة أن كل الأنبياء في سورة الشعراء طلبوا من أقوامهم شيئين اثنين: التقوى والطاعة (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) إذا استثنينا موسى مع فرعون واستثنينا إبراهيم والطاعة لأن التقوى تورث الطاعة وأكّدها لأنهم كانوا في انحراف شديد، نوح لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا وهم كانوا منكرين المشهد يتناسب مع الإنكار الذي كان يلاقيه محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه.

(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴿١١١﴾) الأرذلون جمع أرذل وهم الطبقة الخسيسة الدنيئة أي اتبعك الناس الضعفاء الفقراء الذين لهم خسة ودناة، أنؤمن لك وندخل في حلفك واتبعك الناس الأراذل الضعفاء الذين لا قيمة لهم؟! في سورة هود قال (أراذلنا) الأرذلون جمع مذكر سالم جمع قلّة، سورة الشعراء فيها اتزان، في سورة هود الجدال الذي وقع بين نوح وقومه أشد، أراذلنا جمع تكسير.

قالوا (واتبعك) هذه الواو الحالية، أنؤمن لك والحال قد اتبعك الأرذلون؟! هذه الواو الحالية في مثل هذا تتبعها (قد) المفترض قياسًا لغويًا: أنؤمن لك وقد اتبعك الأرذلون، لكن حذفت (قد) وثمة قرآءة للإام يعقوب صحيحة: أنؤمن لك وأتباعك الأرذلون لأن الكتابة المصحفية تقتضيها: اتّبعك – أتباعك (أتباعك بمعنى ألف محذوفة فوق العين) أنؤمن لك وأنصارك وأتباعك الأرذلون؟! يُقرأ بالقرآءتين، لإفادة القرآءتين حذفت (قد)، هذه بلاغة القرآن العالية جدًا!

(قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١١٢﴾) هنا أتى بسؤال مع واو التلقين، هذه الواو العاطفة، على ماذا عُطفت؟ قال (وما علمي) هذه الواو تدل على أنهم قالوا كلاما طويلا: اتبعك الأرذلون الذين يعملون كذا وكذا والدليل (وما علمي) لما تأتي الواو في بداية الحوار تسمى عطف التلقين الذي يعطف على مقول سابق. ووضح (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ﴿١١٣﴾) (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴿١١١﴾ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١١٢﴾) الواو تدل على كلام محذوف. لما قال (إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي) في سورة البقرة قال إبراهيم قال (ومن ذريتي) أي واجعل من ذريتي أئمة، واو التلقين، عطف التلقين.

(إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ﴿١١٣﴾) هنا أسلوب قصر، ما حسابهم إلا على ربي، هذا أسلوب قصر وحصر، قصر موصوف على صفة من الناحية البلاغية إن حسابهم إلا على ربي لأن الجار والجرور (عَلَى رَبِّي) متعلق بشي محذوف: إن حسابهم إلا كائن على ربي، مقصور على ربي، قصر موصوف على صفة فهو يتبرأ يقول: أنا لا أستطيع حسابهم، وكيف بي أن أطردهم وأقول لهم لا تؤمنوا بي حسابهم على ربي لكن أتى بأسلوب القصر ليؤكد الكلام، ما حسابهم إلا على ربي كأنه يقول حسابهم مقصور على الله.

(لَوْ تَشْعُرُونَ) هذه لو الشرطية، جوابها محذوف: لو تشعرون لعلمتم أن حسابهم على ربي. وقال لو تشعرون، ما قال لهم لو كنتم تعقلون وما قال لو كنتم تعلمون، هو جرّدهم من العلماء وجرّدهم من الشعور وهذا يسمى في اللغة أسلوب تجهيل، (لَوْ تَشْعُرُونَ) أسلوب تجهيل، في سورة هود قال (إني أراكم قوما تجهلون) إذا وصل الحوار إلى هذه الدرجة فأنتم جاهلون. وهنا قال: لو تشعرون لعلمتم أن حساب هؤلاء الفقراء على الله فما دخلي أنا لا أستطيع أن أطردهم.

وأكّدها بالتفصيل (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١١٤﴾) (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ﴿١١٣﴾) ثم أتى بها جهارا نهارا (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١١٤﴾) ما قال لن أطرهم، وإنما (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) ينفي عن نفسه صفة الطرد، ما أنا بالذي يفعل ذلك لإذا أنتم تستطيعون فعل ذلك فافعلوا (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) وظيفتي (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴿١١٥﴾) ما أنا إلا نذير مبين، أسلوب الحصر والقصر والتأكيد.

في رحاب سورة الشعراء – 7 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة الشعراء – 7

تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا

المقدم: بداية المواجهة ما بين نوح وقومه عندما هددوه والآية التي توقفنا عندها‎ ‎قوله تعالى: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ ‏تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) الشعراء، هنا بداية التهديد لنوح عليه السلام من قبل قومه.‏

د. المستغانمي: بعدما دعا نوح عليه السلام قومه وبيّن لهم وأنذرهم وطلب منهم أن يتقوا الله (أَلَا تَتَّقُونَ), ‏‏(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) هم جادلوه (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) لما ‏ما أفلح الجدال معهم ورأوا أن كفّة المحاججة قوية مع نوح عليه السلام هنا لجأوا إلى السلاح الذي يأوي ‏إليه الجبارون وهو سلاح التهديد كما لجأ إليه قوم إبراهيم وكما لجأ إليه فرعون حينما أُفحِم (لَئِنِ اتَّخَذْتَ ‏إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)) وهؤلاء قالوا: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ‏‏(116)) نفس الصيغة فرعون قال: (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) وهم قالوا: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ ‏يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116))، القالب اللغوي ذاته ولكن المعنى مختلف، فرعون أراد أن يسجن ‏موسى سجنًا مؤبدًا إلى أن يموت وهنا قال: ( لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) والمرجومين رجم أي رمى بالحجارة ‏كما في المعجم، ولكن الرجم هنا بمعنى القتل، هنا (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) أي: لنقتلنك غلبت كلمة ‏الرجم في القتل لكن في المعنى اللغوي الرجم هو الرمي بالحجارة. وقولهم (لَئِنْ) هم يُقسمون (اللام ‏الموطئة للقسم) لم يقولوا: لئن لم تنتهي ولم تتوقف عن دعوتنا لنرجمنّك وإنما قالوا: (لَتَكُونَنَّ مِنَ ‏الْمَرْجُومِينَ) نسق سورة الشعراء (َلتَكُونَنَّ مِنَ) وهذا الخبر أبلغ يعني لست وحدك لأنه كما رجمنا السابقين ‏نرجمك، اعتادوا على هذه القِتلة. فأجابهم نوح قائلًا: (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)) انظر لعظمة الأنبياء، ‏تمهيد للدعاء، هذا أسلوب خبري، عندما يُخبر الله تعالى، الله جل جلاله يعلم والغرض من هذا الكلام ‏الخبري أن يمهد ليدعو عليهم ويتحسّر (قومي كذبون)، لكن انظر إلى عظمة الأنبياء لم يتحدث عن نفسه، ‏هم توعدوه أن يرجموه لم يقل (رب إن قومي يريدون أن يرجموني) لم يتحدث عن ذاته وإنما تحدث عن ‏الدعوة (كذبون)، هو الذي يهمّه تبليغ الدعوة، كذبوني في الدعوة، أخرج حصة ذاته ودافع عن دعوة ‏التوحيد هذا الذي يقوله المفسرون (إن قومي كذبون) تمهيد (فافتح بيني وبينهم) الفتح هنا بمعنى الحكم، ‏لكن أيّ نوع من الحكم؟، حكمًا نهائيًا اِفصل بيني وبينهم وكأنه يقول يا رب أنزل بهم عذابا يستأصلهم، ‏الفتح هنا بمعنى إنزال عقوبة شديدة بدليل ما جاء في سورة نوح (رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏دَيَّارًا) وفي سورة القمر (فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (10) ‏فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ) (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا) الفتح هنا بمعنى احكم بيني وبينهم حكمًا قاطعًا ‏وأنزل العذاب عليهم (وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) دليل على أنه طلب عذابًا استئصاليًا عذابًا ‏يغرقهم، عذابًا يأخذهم (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فجاء الجواب من ‏الله (فأنجيناه) الفاء الفصيحة التي تطوي كلامًا يُفهم من خلال السياق، أجاب الله دعاءه وأنزل عليهم ‏العذاب بعد ذلك (فأنجيناه) أنجاه بعدما أغرقهم وأمر السماء بالإمطار وأمر الأرض بإخراج العيون، ‏سرعة الإنجاء (فأنجيناه) أما نوح عليه السلام طلب (نجني) ولم يقل أنجني – وإن كان فيها كلام طويل – ‏لكن أنجيناه فيها السرعة، نجّا (فعّل) فيها مبالغة (نجّني والجميع)، أما الله عز وجلّ فقال: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ ‏مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ) (نجني ومن معي) لم ينجي نوحًا وبعض المسلمين ‏معه وتخلّف واحد، لا، والأمر ذاته انطبق مع موسى وبني إسرائيل عندما قال: (وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ ‏أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)) سنة الله لا تتخلف عندما يؤمن بالأنبياء من يؤمن ينجي الله ‏الأنبياء والرسل ومن آمن معهم أجمعين ويخلّف المشركين الكافرين المتجبرين وينزل عليهم العذاب أيضًا ‏أجمعين، وذكر هذا في الأقوام التالية، سنّة مطّردة مع الجميع.‏

‏(‏‎ ‎فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) الفلك المشحون بمعنى المملوء، الفلك هو سفينة نوح، الفلك كلمة ‏يقصد بها الإفراد والجمع، (في الفلك) في سفينة (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ) لم يقل ترى السفينة ماخرة، ‏تأتي بالإفراد وتأتي بالجمع، المشحون دليل على أنه أخذ معه من آمن معه وأخذ من كل زوجين اثنين كما ‏ورد في سورة المؤمنون وسورة هود فامتلأ الفلك وكان مشحونًا بمعنى الكلمة فحفظ الله الإنسانية وأنواع ‏الحيوانات والطيور كما يقول علماء التفسير.‏

‏(يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا ‏بِالْمَرْحَمَةِ (17)) (ثم) حرف عطف يفيد التراخي، هل يقصد به التراخي الزمني أم التراخي الرُتَبي؟ ‏التراخي الزمني أنه جاء بعد فترة، التراخي الرتبي الكلام الذي يُذكر يكون أعظم وأهمّ مما قبله من حيث ‏المرتبة كما في سورة البلد (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) الإيمان له ‏رتبة أعلى مما سبقه (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ‏ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ‏وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17))، الإطعام أم الإيمان أيهما أعلى رتبة؟ (ثمّ) هنا تفيد التراخي الرُتبي.‏

‏(ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ) بعض العلماء يقول ترتيب زمني وبعضهم يقول ترتيب رتبي لأن الإغراق هو ‏الذي يهتم البيان القرآني لبيانه لأننا في سورة الإنبياء، ليس معنى ذلك أن إنجاء نوح ليس مهمًا إنما إلحاق ‏العذاب بالمشركين الكافرين 950 سنة أرادت السورة أن تبين إلحاق العذاب بهم فكان مهم جدا (ثُمَّ أَغْرَقْنَا ‏بَعْدُ الْبَاقِينَ).‏

(بعد) ظرف مبني على الضم لأنه منقطع ولو كان مضافًا لقلنا (بعدِهم) الإغراق حدث بعد أن ‏امتلأت الفلك المشحون، تأتي الفاصلة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)) فيما وقع لنوح ‏وقومه كذبوه لفتة طويلة إن في ذلك لعبرة وموعظة يا أيها الناس ويعلّق (وما كان أكثرهم مؤمنين) قضى ‏معهم 950 سنة فما آمن مع نوح إلا قليل وما كان أكثر المشركين بمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏على رغم ما رأوا من القصص وسمعوا من أحداث الأقوام السابقين. ‏

‏(كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) ‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)) هذه الآية ‏تكررت يريد القرآن بإعادة نفس اللازمة القولية التي نطق بها الأنبياء والمرسلون يبين وحدة الأنبياء كلهم ‏يصدرون من مشكاة واحدة يأمرون بالطاعة وتقوى الله ويبينون للأقوام أنهم نزهاء لم يأتوا ليقبضوا مالًا ‏منهم أو لينتفعوا وكلهم كانوا صادقين وذوو أمانة والرسالة تحتاج صدق وتحتاج أمانة (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ ‏أَمِينٌ)  (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لأن (رب العالمين) قضية جاءت السورة لتثبتها في القلوب.‏

‏(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ‏‏(130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)) هذه خصوصية عاد أنهم كانوا قوما جبارين أقوياء ليتهم استفادوا ‏بقوتهم التي مكنهم الله منها وآتاهم الله إياها ليتهم لما عمروا الأرض، العرب عندما يمثلون قبيلة أو إنسانًا ‏يقولون هو عاديّ أي ذو بطش أو قبيلة عاديّ بمعنى تشبه عاد، ولولا عقولهم القوية والنبيهة والذكية ما ‏بنوا الذي بنوه . الريع المرتفع من الأرض (ريع) جمع ريعة، أتبنون بكل شرف وبكل نوع من الهضبة ‏والجبل، آية في الجمال آية في العظمة (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) مكّنهم الله من علم البناء .‏

ووصف الآية (تعبثون) لماذا استنكر هود عليهم هذا البناء (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ)؟ القيد أنهم يعبثون، ‏ما أنكر عليهم أنهم يبنون بنايات عظيمة، ليس العيب في بناء البروج المشيدة، العيب أنهم نسوا الله ونسبوا ‏الفضل والقوة إليهم، قوم عاد بنوا العمران وخربوا العلاقة التي بين الإنسان والدين فلما نسوا الدين وهو ‏الجانب المهم في بناء الإنسان بعث الله إليهم نبي وهو هود عليه السلام (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آية) في العظمة ‏‏(تعبثون) هنا جملة حالية، حال كونكم تعبثون فالإنكار هنا على القيد، وبعض المفسرين قالوا (تعبثون) ‏أي تسخرون من المارة فهم بنوا في المرتفعات قصورا مشيدة وآثارهم واضحة إلى اليوم ما بين عُمان ‏وحضرموت هناك تقريبا، واكتشفوا أيضا إرم ذات العماد، فالشاهد أنهم بنوا صهاريج من الماء لمساعدة ‏المارة ثم أصبحوا يستهينون بالناس ويعذبونهم بدليل: (وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) يعني الذين يبنون شيئا ‏لفائدة الإنسانية من ناحية عملوا شيئا جميلا لكن كيف يبطشون بطش الجبارين؟ يذيقون غيرهم أصناف ‏العذاب (إذا بطشتم) جواب نداء (بطشتم جبارين) لكن القيد إذا قلت (إذا بطشتم بطشتم) لا فائدة منها لم يتم ‏المعنى، فهي وقعت في جواب ( إذا ) لكن الجواب بإذا عندما نأتي بالحال يكتمل المعنى بطشتم كيف؟ ‏جبارين، وأعادها وفي سورة الشعراء (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)) وفي سورة الفرقان (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) فعندما يعاد الفعل في الجواب معناه يهمنا القيد، القيد ‏هنا (جبارين)، فهنا وصفهم وإذا بطشتم كف حالكم ؟ جبارين غليظين تذيقون غيركم أصنافا من العذاب، ‏قبل ذلك قال: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)) المصانع يفسرونها كانوا يبنون صهاريج للمياه، ‏وقتادة قال: كانوا يصنعون بروجا مشيدة (لعلكم تخلدون) تتخذوا مصانع رجاء الخلود راجين خلودكم ‏وتنسون الله.   ‏

وبعدها ذكر الله بالتقوى فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)) تذكير، كان الأولى بكم عندما مكنكم الله  أن ‏تتقوه وتحذروه لا أن تخرجوا عن طاعته، بعد ذلك قال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) هنا نكتة بلاغية: اتقوا الله ‏لذاته  فأتى بلفظ الجلالة، يستحق أن يُخشى بغض النظر عما تعتقدون،  الثانية (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا ‏تَعْلَمُونَ ) اتقوه لأنه أمدكم، اتقوه فإنه يستحق أن يُشكر وهو الذي أمدكم ويستحق أن يُشكر فثمة نكتة في ‏الإعادة لو كانت ( التقوى) الثانية مجرد توكيد لما أتى بالواو ولكان قال: (فاتقوا الله وأطيعون – اتقوا الذي ‏أمدكم )، ربط التقوى الأولى بلفظ الجلالة وربط الثانية بالاسم الموصول وصلته.‏

سؤال: حينما قال (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)) مرة أخرى ( ‏أمدكم) فما فائدتها؟ هنا تفصيل لما سبق، البداية كانت مجملة: (الذي أمدكم بما تعلمون) كرر أمدكم لتوكيد ‏معنى الإمداد ولبيان التفصيل بعد الإجمال، لكن أراد أن يذكّرهم بنعم الله عليهم فجاء بالفعل بطريقة ‏الإطناب ليحثهم على شكر الله، ثم رتب تلك النعم.‏

المقدم: الدمج بين الأنعام والبنين والجنات، فالدمج بين الجنات والعيون متناسق لكن ما دلالة الدمج بين ‏الأنعام والبنين؟ ‏

د. المستغانمي: الأنعام تحتاج إلى البنين الذين يرعون الأنعام، من الذي يرعى الأنعام؟ من الذي يسقيها؟ ‏من الذي يحلب النوق؟ أبناء القبائل، أمدهم الله بنعمتين كبيرتين: الأنعام وهي بلغة العصر تعني المال، ‏قديمًا كانت حياتهم الرعوية أساسها الأنعام، فالأنعام بما فيها من إبل وبقر وأغنام يقوم عليها البنون، ثانيا‏: إذا أغارت عليهم القبائل من الذي ينصرهم؟ هم أبناؤهم البنون (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) الأنعام ‏تقابل الأموال بشكل عام وهو فصّل لهم النعم التي أمدهم الله بها .‏

‏(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)) هذا تعليل، لماذا نتقي الله؟ كأن واحدا من عاد يقول لماذا ‏تأمرنا أن نتقي الله؟ لما تأتي جملة مبتدأة بإنّ المؤكدة في الغالب هي للتعليل. (عذاب يوم عظيم) هل ‏العذاب عظيم أو اليوم عظيم؟ ‏

نحويًا اليوم على اعتبار أن عذاب صفة ليوم (عذاب يوم عظيم) ذكر الله تعالى اليوم بأنه عظيم لعظمة ما ‏سيقع فيه من العذاب إذن هنا مجاز عقلي نسبة إلى ما يحصل فيه من الهول العظيم والمجاز العقلي كما ‏يقول العرب: نهاره صائم وفلان يصوم النهارهذا مجاز عقلي، نسب الصيام إلى النهار وفي الحقيقة للذي ‏يقع فيه الصيام ونسب القيام للليل والقيام يقع في الليل, (عذاب يوم عظيم) ليس فقط لقوم نوح وإنما كلهم ‏ذكروا (عذاب يوم عظيم) بينما في سور أخرى (عذاب يوم أليم) (عذاب يوم قريب) بحسب السياق وهنا ‏يركز البيان القرآني على العذاب العظيم.‏

‏————–فاصل—————–‏

المقدم: بدأ الحوار كما مر بين موسى وفرعون ونوح مع قومه وإبراهيم مع قومه والآن حوار هود مع ‏قومه. توقفنا عند ردهم حينما (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)) أين جوابها؟

د. المستغانمي: سواء علينا أم لم تكن من الواعظين لن نأتمر ولن ننتهي عما قلت وهذه الهمزة في سواء ‏تسمى همزة التسوية يستوي لدينا وعظك وعدم وعظك هذا الجواب، لكن أتوا بها (سواء علينا) الجملة ‏الإسمية أقوى، أوعظت أم لم تكن من الواعظين، لو قالوا (سواء علينا أوعظت أو لم تعظ) لكانت هذه ‏المرة فقط،  لكن (أو لم تكن من الواعظين) كأنهم يقولون له لست من الوعظ شيئا ولست من الواعظين ‏الذين يمكن أن نصيغهم أسماعنا هكذا، يعني جردوا هودًا عليه السلام من الوعظ ومن لقب الواعظ. ‏‏(أوعظت) وما قالوا أنصحتنا لماذا ؟، لأنه قال: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) هذا وعظ فيه ترقيق ‏للقلوب وتخويف، بينما في سورة الأعراف يقول : (وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)) أما هنا الوعظ شديد ‏اللهجة.‏

المقدم: (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)) تكررت هذه الكلمة ‏

د. المستغانمي: تقرأ (خُلُق) وتقرأ (خَلْق) الأولين عند صحيح القرآءات ستة منهم قرأوها (إن هذا إلا خُلُق ‏الأولين) وخمسة قرأوها (خَلْق) بمعنى اختلاق، (إن هذا إلا خُلُق الأولين) يقصدون بها شيئين:

الأول أنت ‏تعظنا وتذكرنا وتريد أن تبلغنا أننا سوف نموت ونقف أمام الله، فنحن نقول لك إن هذا إلا خلق الأولين ‏السابقين قبلنا عاشت قرون وماتوا وما بعثوا، نحن نقول الحياة هكذا كما قالوا (أرحام تدفع وقبور تبلع)، ‏هذا المعنى الأول.

المعنى الثاني: يقولون له تصرفنا معك هو خُلُق آباؤنا ونحن نستمع لهم ونفخر بما ‏فعلوا ولا نبالي بما جئت به، والمعنى الثالث: (إن هذا إلا خلْق الأولين) إن هذا إلا افتراء وهذه أساطير كنا ‏نسمعها بمعنى أنت لست مبلّغا عن الله وهذه أساطير نسمعها، بمعنى أنت لست رسولا وإنما تكرر كلاما ‏جاء به السلف .‏

‏(وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)) يؤكدون في كل شيء ولكن كلامهم باطل.‏

‏(فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)) الفاء الفصيحة (فكذبوه) أي: فتبين لهم ‏وله صلى الله عليه وسلم بكلامهم أنهم كذبوه، كيف تبين لهم ذلك ؟ بكلامه. فكذبوه فأهلكناهم والفاء الثانية ‏للتعقيب مباشرة بعد التكذيب أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، هنا لم يشر القرآن في سورة الشعراء كيف أخذ ‏الله عادًا وإنما وردت في سورة القمر وفي سورة الحاقة (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) هنا ‏لم يشر إلى العذاب، لكن هنا لم يفصّل وإنما قال: (فأهلكناهم) وفي سورة القمر لما ترك سفينة نوح آية ‏وترك عدة أمور آية قال : (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)‏)

قصة ثمود:‏

‏(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)) نقول كذبت قوم وكذبت عاد وكذبت ثمود، هنا جاء التكذيب من قبل ثمود ‏القبيلة لم يقل كذبت قوم ثمود، ثمود اسم القبيلة وعاد اسم القبيلة, وقال (المرسلين) كذبوا الرسل بكونهم ‏بشرًا بما أنهم رفضوا بشرية الرسل، ويضاف إلى هذا أن عاد وثمود على وجه الخصوص عاد قال لهم ‏رسولهم هود (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٦٩﴾ الأعراف) تكذيبهم تكذيب لنوح استمرارية، القرآن يُقرأ متكاملا صالح ‏قال لقومه في الأعراف (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ) فعندما كذبوا صالحا فكأنهم كذبوا هودا ‏فحقيقة أن من كذب رسولا من الله مؤيدا بالوحي فكأنما كذبوا جميع المرسلين.‏

‏(إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا ‏أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)) هذا الكلام ذاته الذي أنطق الله به جميع ‏الرسل لبيان وحدة الأنبياء ووحدة الدين وهو ماجاؤوا به  تقوى الله وتوحيده عن الشريك.‏

‏(أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) خصوصية لقوم ثمود (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ ‏طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)) هناك تشابه بين قوم هود وقوم ثمود في ‏الأشياء التي كانوا يعملونها أولئك وهؤلاء ينحتون في الجبال إلا أن عادا كانوا أطغى وأبطش. ‏

‏(إذ قال لهم أخوهم) هو منهم، لما نقرأ (أخوهم) فهو من ذات القبيلة من نسبهم الأصيل، (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا ‏هَاهُنَا آَمِنِينَ (146)) قال لهم أبعدما منّ الله عليكم بهذه الجنات وهذه العيون وهذه القوى التي بها تنحتون ‏الجبال بيوتا ثم لا تشكرون الله ولا تعترفون بإلهيته أفترون أنه سيتركهم، أسلوب استفهامي إستنكاري، ‏أتظنون ذلك؟ (هاهنا) اسم إشارة للمكان جمعت كل الخيرات وكل النعيم الذي كانوا فيه جنات ونعيم ‏وزروع وقصور ثم قال (آمنين) وقف المفسرون هنا وقفة جميلة قالوا: ما دام هاهنا وصف للمكان الذي ‏يحوي جميع الخيرات، لماذا قال آمنين؟ لأن نعمة الأمن لا تظهر بالجنات ولا تظهر بالبيوت نعمة الأمن ‏هي نعمة داخلية لا تُرى وإنما يُشعر بها وهي عنصر أساسي في كل ما سبق، افترض أن ثمود كان لديهم ‏كل النعم والأمن غير موجود فلن يتنعموا بما لديهم ولن يتمتعوا بما لديهم.‏

أتتركون في كل هذه النعم حال كونهم آمنين ثم فصّل (في جنات وعيون) تكررت عند نوح وعند عاد وعند ‏ثمود، (ونخل طلعها هضيم) طلع النخل الذي يحمل الرطب أي مهضوم ،وعندما يقول هضيم يريد أن ‏يبين لينه وجماله وجودته، وبعض المفسرين سأل أليست النخل مشمولة في الجنات؟ بلى، فلم خصها ‏بالذكر؟ لأنهم يعرفون قيمة جودة النخل التي يكون طلعها هضيما والعرب يعرفونه فأبرز الشيء الذي ‏يخاطبهم فيه، كما أبرز الإبل (أفلا ينظرون إلى الإبل) لأنهم يعرفون قيمتها وروعتها وجمالها في ‏نفوسهم.‏

‏(وتنحتون) غيّر الأسلوب، بعدما قال (آمنين) (حال منصوبة)، وتنحتون جملة معطوفة منصوبة على ‏أنها حال، كان القياس أن يقول: آمنين وناحتين من الجبال بيوتًا، ولكن عَدَل عن الحال المفرد إلى الحال ‏الجملة؟ ليصوّر لأن الفعل المضارع يصور ويستحضر الصورة كأننا نراهم الآن ينحتون الجبال، وأنت ‏تقرؤها تدبر ، القرآن كلام يعطينا التفاعل ولذلك القرآن يعطينا التفاعل ولذلك في نهاية سورة الشعراء ‏‏(وإنه لتنزيل رب العالمين)  معجزة محمد عقلية تناقش وتحاجج وكأننا نراهم ينحتون الجبال بيوتا فارهين ‏باسم الفاعل وفرهين صيغة مبالغة، والفراهة هي الحذق والكياسة كانوا حاذقين عارفين متقنين، هل من ‏السهولة أن ينحت الجبل بيوتا؟ هذه تحتاج لمهارات، وهذه المهارة عبّر عنها قوله تعالى (فارهين) أي ‏عارفين متقنين.‏

‏(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)) الذين كانوا يدعونهم للإسراف كان من ‏بينهم مسرفون يأمرونهم بالشرور ويسرفون في إنكار الله ويسرفون، أما الكبراء فكانوا يدلونكم بغرور

‏(الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)) هذا تعريف للمسرفين، كأننا كنا نقول المفسدين ماذا ‏كانوا يفعلون ؟ كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وكأن فيها تكرار وتكرر لأن الذي يفسد في ‏الأرض لا يصلح وهذا إطناب بالعكس، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون الإفساد هو عدم الإصلاح ‏على شاكلة (وأضل فرعون قومه وما هدى) وعلى شاكلة (أموات غير أحياء) في اللغة العربية إذا أتي ‏بكلمة وأتي بعكسها من باب التأكيد يكون ذلك إطنابا يجردهم من كل حياة، فعندما قال: (أموات غير ‏أحياء) فيريد أنه لا يوجد مثقال ذرة من الحياة ولا خليّة، (يفسدون في الأرض ولا يصلحون) لا ينتظر ‏منهم الإصلاح أبدا عملهم متمحض خالص في الشرور والافساد.‏

‏(قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)) لم يقل (إنما أنت المسحورين) فالنبي صلى الله عليه وسلم قالوا(إن ‏تتبعون إلا رجلًا مسحورا)، لم يكتفوا باسم المفعول على وزن مفعول إنما أتوا باسم المفعول على وزن ‏سحّر فهو مسحّر لشدة المبالغة، (إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) العلماء وقفوا عندها لماذا قالوا ذلك؟  لأنهم كانوا ‏يرونه هذا دليل على أن صالحًا كيف كان فيهم ؟ كيف كانت رؤيتهم لصالح ؟ كان فيهم رجلا عظيما ذا ‏أخلاق (قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ۖ ) كنا نريد أن نبؤك مكانة عظيمة لخلقك ولأمانتك ‏ولصدقك كيف تغيرت علينا ؟ والله ما أنت إلا من المسحرين وليس من السحورين، ثمة شيئا غيرك رأسا ‏على عقب (إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أسلوب حصر، حصروا التسحير فيه فهو من المسحرين فقط لا شيء ‏آخر.‏

‏(مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)) هنا توكيد ثاني مفصول (ما أنت) ولا يوجد ‏حرف عطف ما قالوا كما سيأتي على لسان قوم شعيب (وما أنت) قالوا (ما أنت) كأنهم يقولون أنت لست ‏نبيًا ولا مرسلًا أنت مسحّر والدليل على ذلك (ما أنت إلا بشر) فجملة (ما أنت إلا بشر) تقوي وتؤكد جملة ‏‏(إنما أنت من المسحرين). ‏

‏(فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) (إن كنت) ما قالوا ( إذا) يشككون، قالوا (إن) يشككون في صدقه ‏بـ(إن) الشرطية التي يفترض فيها أن فعلها لا يقع، (فأتِ بآية) فأتِ  بمعجزة حسية إن كنت من الصادقين ‏أما إذا كنت من الصادقين ربما يقع.‏

‏(قَالَ هَٰذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (155)) أتى لهم بآية حسية، أخرج الله كما ذكر في سورة ‏الأعراف وسورة هود ناقة من الجبل، هم كانوا قوما جبليين فأخرج الله لهم ناقة من جبل، هل ثمة ناقة ‏تخرج من جبل؟! إعجاز عجيب من التراب ومن الحجارة ناقة عظيمة، لها شرب لا تزاحموها بأنعامكم ‏وإبلكم، الذين ينتظرون المعجزات الحسية هم أصلا ليسوا مستعدين للإيمان، هم طلبوها تعجيزا لا رغبة ‏في الإيمان.‏

‏(وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)) نبههم ونهاهم أن يمسهم بسوء وذكر ما ذكر سابقا ‏‏(عذاب يوم عظيم) هذا نمط ونسق تعبيري، فبعضهم عندما سمع محاضراتي يقول لماذا تقول أيقونات ؟ ‏فنحن نقول أيقونة أو لفظ  أو ثوب لفظي ونقول نسق تعبيري، نقول ما نقول بشرط أن يُفهم وألا ننال من ‏النص القرآني فنحن نعظّم النص القرآني والأيقونات يزّوق بها والله أعطانا هذه الأنماط التعبيرية حتى ‏تخلد في أذهاننا. ‏

تأتي الفاء الفصيحة (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)) سؤال :عقرها واحد أم المجوعة كلهم؟ هنا ذكرهم ‏بالجمع لكن في سورة الشمس قال: (إذ انبعث أشقاهم) الذي ذبحها واحد أشقاهم وليس شقيّهم، لكنهم كانوا ‏متفقين، استشارهم، متآمرين، حتى إن روايات التفسير قالوا: كلهم أذن له، لما وافق الجميع فعقرها واحد ‏لكنهم في الحقيقة عقروها، اشتركوا في ذنبها.‏

‏(فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ۗ (158)) ليتهم ندموا قبل العذاب، لو ندموا قبل العذاب الندم ‏توبة، العلماء قالوا: (فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب)، لما رأوا أمارات العذاب وعلاماته ‏ندموا، لا ينفع ولات حين مندم! وعندما يحل العذاب لا ينفع الندم.‏

‏(إنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)) (إن) في قصة ‏صالح مع قومه ثمود الجبارين لآية وموعظة لقريش ولمشركيها بالدرجة الأولى على أن المعجزة الحسية ‏لا تنفع كثيرا مع الذين أصرّوا على الكفران فخذوا العبرة أيها المشركون يا من تطالبون بالمعجزات ‏الحسية (فأتِ بآية).‏

المقدم: وبهذا انتهينا من قصة ثمود مع نبيهم صالح عليه السلام، ومن قصة عاد مع نبيهم هود عليه السلام، ‏وانتهينا من قصة نوح عليه السلام مع قومه، ومن قصة موسى عليه السلام مع قومه، ومن قصة إبراهيم ‏مع قومه. بقي لنا قصة لوط عليه السلام مع قومه وقصة شعيب عليه السلام مع أصحاب الأيكة ثم تعليق على قصة ‏محمد صلى الله عليه وسلم.‏

في رحاب سورة الشعراء – 8 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة الشعراء – 8

تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا

المقدم: توقفنا عند بداية قصة نبي الله لوط مع قومه في سورة الشعراء. نحن نعطي لمحات ولا نفصل كثيرًا في التفسير لأن البرنامج لتبيان ملامح السور.

د. المستغانمي: برنامجنا نعيش السورة القرآنية ونعطي خصائصها، عندما نجلّي خصائص السورة، ملامحها العامة، ملامحها اللفظية المضمونية، التناسق في السورة تتضح معالمها للقارئ وتتضح له معالم خصوصية وضع هذه السورة بعد هذه وقبل هذه ويسهل عليه الفهم ونقف عند بعض اللمسات واللفتات والوقفات البيانية إن استطعنا.

المقدم: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٦٠﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٦١﴾ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿١٦٢﴾ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٦٣﴾ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٤﴾) هذه الديباجة المتكررة ثم تأتي الخصيصة التي تخصّ قوم لوط (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٥﴾ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴿١٦٦﴾)

د. المستغانمي: قبل أن نتحدث عما خصصه الله لقوم لوط وعن الفعلة الشنعاء التي كانوا يرتكبونها نتحدث عن الديباجة المكررة أو اللازمة القولية التي رددها كل نبي ورسول لقومه (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿١٦٢﴾ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٦٣﴾ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٤﴾) كلهم قالوا هذا الكلام. نقف عند (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ) هذه اللازمة وهذه الجملة كررت لأن أخو القبيلة هو منهم ينتسب لهم، عندما قال جلّ جلاله (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٠٥﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٠٦﴾) نوح من القبيلة ينتسب إليهم، (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٢٣﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٢٤﴾) هود من عاد، (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٤١﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٤٢﴾) صالح من ثمود، لوط لم يكن في الحقيقة نسبًا من قوم لوط، تاريخيًا هو أخوهم بالمصاهرة، لوط عليه السلام كان من العبرانيين هو ابن أخ إبراهيم وهو من العبرانيين وقوم لوط كانوا من الكنعانيين – هكذا يقول علماء التاريخ – فلم يكن منهم نسبًا وإنما بالمصاهرة تزوج منهم وعاش فيهم فأصبح أخًا لهم، وهذه المعلومة تفسر شيئا في سورة ق فيها شيء لافت للنظر عندما يقول (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٦٠﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٦١﴾) لماذا سمى قوم لوط إخوان لوط في سورة ق فقط؟ إنما هو أخوهم من المصاهرة وليس من النسب هذا يفسر قوله تعالى (وإخوان لوط) لم يسمهم قوم لوط في سورة ق. أنا لست ممن يتشجع كثيرًا للإعجاز العددي وله أصحابه وله متخصصوه لكن فيه حكم عديدة، في سورة ق يقولون حرف القاف تكرر 57 مرة ولافت للانتباه والعدد 57 يقبل القسمة على 19 (عليها تسعة عشر) كل رقم في القرآن له حكمة – أحببنا أم كرهنا وبضاعتي قليلة في هذا المجال ولم أتخصص فيه – عندما جاء الحديث عن قوم لوط سماهم إخوان لوط  لو سماهم قوم لوط يزيد العدد ويخرب التناسق. السؤال لماذا تم التضحية بقوم لوط ولم يضحى بقوم نوح مثلا؟ لأن لوط لم يكن من قومه نسبًا وإنما كان منهم مصاهرة، ليس فقط للعدد وإنما لأنه كان أخًا لهم بالمصاهرة، تزوج منهم. وعندما نجا الله عائلة لوط قال (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ﴿١٦٩﴾) قال (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ﴿١٧٠﴾ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ﴿١٧١﴾) امرأته كانت من الكنعانيين ولم تكن من العبرانيين كانت موافقة لما يقوم به أهلها.

المقدم: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٥﴾ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴿١٦٦﴾)

د. المستغانمي: هذا سؤال استنكاري وينكر عليهم أن يفعلوا تلك الفعلة الشنعاء (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٥﴾) والذكران جمع ذكر ولم يقل ذكور، لماذا لم يقل ذكور؟ ذكور على وزن فعول وهو الجمع الشائع، ذكران هو جمع نادر الاستعمال على وزن “فُعلان” كما رأينا في سورة الفرقان (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴿٧٣﴾) عميانا جمع أعمى وعمٍ على وزن فعلان هذا الجمع نادر، ذكر هنا ذكران لأنه جمع غريب قليل الاستعمال فعبّر الله سبحانه وتعالى به عن فعلة غريبة شنعاء لا تستعملها البشرية (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٥﴾) من دون العالمين، أتأتون الذكران مخالفين جميع العالمين؟! هذه الفعلة لا يفعلها العالمون وليس فقط البشر، أصناف الحيوانات، فلأن هذا الفعل شاذّ أتى بجمع غريب غير مستخدم. ورد في القرآن في قصة قوم لوط وورد في قوله تعالى في سورة الشورى (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴿٤٩﴾ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) هنا أتى بها، في سياق سورة الشورى في نهايتها الله جلّ جلاله (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا) قابلها (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) واحد يعطيه بنات وواحد يعطيه ذكور (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) التزويج أن يعطي لإنسان ذكر- أنثى، ذكر- أنثى، هذه غريبة جدًا أن يرزق إنسانًا مثلًا سبعة أولاد وسبع بنات يتزاوجون، العملية غريبة قليلة نادرة فأتى بـ(ذكران)، هذا ما قاله المفسرون. ذكران هو جمع غريب قليل الاستعمال وفعلتهم فعلة شنعاء تخالف جميع الإنسانية.

(مِنَ الْعَالَمِينَ) (من) حرف جر، لكن من معاني (من) في النحو أنها تفيد ابتداء الغاية ذهبت من البيت إلى المدرسة أو (من) تفيد التجزئة، أو من السببية (مما خطيئاتهم) بسبب خطيئاتهم أو لبيان الجنس وهنا سماها ابن مالك صاحب الأفية: “من الفصلية” التي تفصل: أتأتون الذكران مفصولين عن العالمين، أتأتون الذكران مخالفين جميع الخلائق؟! هي قصل بينهم وبين العالمين. لماذا فسّرت (من) هنا الفصلية وفي غيرها من الآيات فسرت على أنها لبيان الجنس (إنما أنت من المسحرين) أنت تنتمي إلى هذه الطائفة،  أنت جزء من المسحّرين. (لِيَمِيزَ اللَّه الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال: 37] يميز الخبيث مفصولًا عن الطيب، هي قريبة ولكنه معنى رشيق دقيق (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة: 220] والله يعلم المفسد مفصولًا عن المصلح. ابن مالك صاحب الألفية قال هي (من الفصلية) وهو معنى دقيق فكأن المعنى: أتأتون الذكران من دون العالمين مخالفين جميع الخلائق؟!

(وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴿١٦٦﴾) هنا قال لهم (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم) دلّهم إلى الفطرة السليمة، (بل أنتم) بل انتقالية، أولا ذمّهم ذمّا شديدا ثم بالغ في ذمّهم وانتقل في ذمهم إلى طريقة أخرى، في البداية استنكر عليهم بسؤال وهذا السؤال يتضمن ذمّهم. (بل) عادة للإبطال، (بل) نوعان: إضراب إبطالي وإضراب انتقالي، هكذا قال النحاة: جاء عمر بل أحمد، أبطلت كلامي الأول، أضربت عن كلامي الأول عن عمر وقلت (بل أحمد). هنا (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) لا يبطل الكلام الأول، هو ذمّهم في الأول ثم أضاف إلى الكلام جملة أخرى.

المقدم: هل يمكن أن يكون التفسير: وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم كأن هذا الأمر هيّن بسيط بل أنتم قوم عادون، كأنني أضربت عن هذا الأمر البسيط وذهبت إلى شيء أكثر!

د. المستغانمي: الأمر الذي فعلوه ليس بسيطًا، أتأتون الذكران من دون العالمين ومخالفين العالمين ذمّهم بل أنتم قوم عادون هذا ما قاله النحاة والمفسرون أنت موغلون في العدوان ولم يقل بل أنتم عادون وإنما قال (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) هذا أصبح سجيّة مكونة لقوميتكم، القومية تتكون من الأخلاق من الخصال التي اشتهر بها القوم وأنتم قوم اشتهرتم بهذه الفعلة الشنعاء.

المقدم: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ﴿١٦٧﴾ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ﴿١٦٨﴾ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ﴿١٦٩﴾ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ﴿١٧٠﴾ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ﴿١٧١﴾) في آيات أخرى قيل (لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين)

د. المستغانمي: نوح عليه السلام قيل له ذلك وهنا قال (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) وهذا يؤكد الكلام الذي ذكرته في البداية أن لوط ليس منهم، لوط من العبرانيين وهم كانوا من الكنعانيين فهددوه وهذا دليل على أنهم كانوا يستبقون الذين كانوا معهم ويعمدون إلى عزل من يشاؤون. لم يقولوا له: لئن لم تنته يا لوط لنخرجنّك، أيضًا كلام صحيح، لكننا ذكرنا أن من أيقونات السورة اللفظية (لتكونن من) مكررة 22 مرة في الشعراء لإفادة أن لديهم مخرَجين آخرين أخرجوهم وأنت سوف تكون من المخرجين هذا ديدنهم. و(مِنَ الْمُخْرَجِينَ) ليس من المرجومين أو المضروبين هم يريدون أن يتخلصوا منه لأنه لم يكن أصلًا منهم جئت وسكنت لدينا وناسبتنا لنخرجنّك. قوم شعيب قالوا له (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) [الأعراف: 88] مدين هددوه بالإخراج قالوا (لَنُخْرِجَنَّكَ) ما كان الإخراج ديدنهم أما قوم لوط فقالوا (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ﴿١٦٧﴾) هم معتادون على هذا الأمر. وفي سورة النمل قالوا (أخرجوا) هم مصرّون على الإخراج لأنه لم يكن منهم تاريخيًا.

(قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ﴿١٦٨﴾) من المبغضين (ما ودعك ربك وما قلى) وما أبغضك ربك أبدًا يا محمد. (من القالين) تصب في نفس المعنى ما قال إني لعملكم لقالٍ أو لمبغض وإنما (من القالين) أولًا لإفادة تمكّن الوصف فأنا شديد البغض لكم لما تعملون، ثانيا ليتناسق مع النسق التعبيري، ثالثًا ليتناسق مع علم البديع (قال) – (من القالين) هذا يسمى جناس مطرّف مذيّل، هذا جناس تام (ويوم تقوم الساعة   يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة) وهنا يسمى جناس مطرف مذيل لأنه أضيفت الياء والنون في نهاية (القالين).

ثم دعا ربه (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ﴿١٦٩﴾) لكن الله سبحانه وتعالى نجاه وأهله أجمعين (إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ﴿١٧١﴾) لما نقرأ (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ﴿١٦٩﴾) هل كان لوط يخاف أن يقع في عملهم؟ لا، ليس هذا هو المعنى وإنما هو يخاف من العقاب الذي سيقع نتيجة هذا العمل لذلك قال: رب نجني وأهلي من عذاب ما يعملون (المضاف محذوف) ما الدليل؟ (فأنجيناه) أنجاه من العذاب الذي حاق بهم.

(فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ﴿١٧٠﴾) لما قال أهله أجمعين (إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ﴿١٧١﴾) لو لم يذكرها لظنّ السامع أن زوجته كانت من أهله، لما ذكر أهله أجمعين لا بد من الاستثناء لأنها كانت توافقهم فيما يفعلون وكانت منهم في الغابرين في الباقين في الهلاك، غبر: بقي ومكث في الهلاك.

ثم يأتي نوعية العذاب (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ﴿١٧٢﴾ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ﴿١٧٣﴾) التدمير كلمة عامة، ما نوع التدمير؟ خسف بهم الأرض فجعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل وهنا أمطر عليهم مطرًا من الحجارة، (مطرا) مفعول به ولو قال إمطارًا لكان مفعولًا مطلقًا، مصدر هنا أمطرنا عليهم مطرًا من نوع خاص عوض أن يقول أمطرنا عليهم حجارة كثيفة الصبّ عليهم أتى بكلمة المطر لبيان كثرة سقوط الحجارة عليهم وكانت كل واحدة تذهب إلى صاحبها (حجارة من سجيل منضود).

(فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) لم يقل وساء مطر قوم لوط، وساء مطرهم وإنما قال ساء مطر المنذَرين الذين أُنذروا ولم ينتذروا ووعِظوا ولم يتعظوا أتى بالمنذرين حتى لا يقول أحدهم أو أحد المتستشرقين: عذاب شديد أوقعه الله بقوم لوط! ساء مطر الذين أُنذروا، كم مرة أنذرهم؟! استحقوا العذاب عن جدارة (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) [القصص: 59]

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿١٧٤﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿١٧٥﴾) خصوصًا لتجار قريش الذين اعتادوا السفر والتجارة من مكة (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ﴿١٣٧﴾ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿١٣٨﴾ الصافات) إن كنتم ذوي عقول فأعمِلوا عقولكم في الاتعاظ بما سبق لقرى قوم لوط.

قصة شعيب

(كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٧٦﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٧٧﴾ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿١٧٨﴾ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٧٩﴾ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٨٠﴾) ما قال أخوهم لأنه ثابت تاريخيًا أن شعيب عليه السلام كان من قبيلة مدين وقبيلة مدين تنتمي إلى الأب وهو مدين أبن أخ إبراهيم ولوط ابن أخ إبراهيم لكن قبيلة مدين كانت متأخرة في الزمن فهم أبناء ذرية ينتمون إلى مدين ويقولون بلدهم إلى الآن من ناحية الخليل في فلسطين، أصحاب الأيكة بعد تبوك فصاعدًا إلى بلاد الشام هناك تاريخيًا أثبتوا أنهم كانوا هناك فمدين غير أصحاب الأيكة لذلك هنا قال (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) تُقرأ الأيكة وتُقرأ أصحاب الايكة في قرآءات أخرى أما حفص عن عاصم نقرؤها (الأيكة) بالهمزة (عندما تصبح علَما على قبيلة لا تنصرف نقول أيكةٌ وهنا (أصحاب الأيكةِ) مضافة تنصرف) كانوا يسكنون بجانب مدينة الخليل ولم يكن شعيب منهم فقال (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٧٧﴾) شعيب أُرسل للقومين وللقبيلتين: لمدين ولأصحاب الأيكة لاجتماعهما في تطفيف الميزان.

الأيكة هي الشجر الملتفّ الكثيف، الأيكة تطلق على الدوحة العظيمة الشجرة الكثيفة الملتفة وتطلق أيضًا على الغيضة عندما يتجمع الماء وينبت الشجر الكثيف، الماء عندما يتجمع في بعض البلاد المخضرّة تجد القصب ينتشر وأيضًا في أدغال آسيا تجد الأيلك الملتف هنا شجرهم يسمى شجر المُقل والدَوب وهو مثل النخيل كثير الالتفاف فهذه غيضتهم كانت في بلاد الشام كانت كثيرة الاخضرار فسمّوا بها.

مدين وأصحاب الأيكة اتفقوا على تطفيف الناس وكانوا ينقصون المكيال وكانوا يبخسون الناس أشياءهم فأرسل الله عز وجلّ لهم شعيبا لأنه عُني بتصحيح هذه الآفة. آفة قوم لوط في الشذوذ والإنحراف، وآفة قوم مدين وأصحاب الأيكة في التطفيف في الميزان، آفة فرعون في العلو والتجبر في الأرض، آفة قوم إبرهيم في عبادة الأصنام، هذه كلها آفات كانت منتشرة عند العرب وعند غيرهم ذكرها الله عز وجلّ ليتعظ القارئون والمشركون المخاطَبون بالقرآن (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً) لقريش لأن كثيرًا من قريش كانوا يستوون مع أهل الأيكة في الإشراك وفي التطفيف وأنزل الله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴿١﴾ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴿٢﴾ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴿٣﴾ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ﴿٤﴾ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿٥﴾ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٦﴾ المطففين) جمع بين الإشراك والتطفيف كما جمع أصحاب الأيكة بين الإشراك والتطفيف إذن كلها دروس للمخاطبين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ﴿١٨١﴾) أوفوا من الإيفاء، وفّوا الناس حقوقهم إيفاءً أي عندما تزنون أعطوا للناس حقوقهم ولا تُخسروا، هنا أكّد المعنى الأول أكد الأمر بالإيفاء بعدم الإخسار (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) لو قال لا تكونوا مخسرين قد نظن أن هذا الخطاب موجه من شعيب إلى أولئك فقط، (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ﴿١٨١﴾) من زمرة المخسرين، كأنه يقول لا تكونوا من أهل هذا الصنيع، من أهل هذه الحِرفة الشنعاء التي يبخس الناس المشترين أشياءهم، واحد يشتري منك شيئا يعطيك مالا وأنت تنقصه حقوقه! يوم القيامة ستقف أمام الله وعلى التجار أن يقرأوا هذه الآية (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ﴿٤﴾ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿٥﴾ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٦﴾ المطففين)

المقدم: بعد ذلك الله سبحانه وتعالى يقول على لسان شعيب (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴿١٨٢﴾) ماذا تعني لفظة القسطاس؟ وهل هي عربية على اعتبار أنها مفردة غريبة مثل استبرق؟ ما هو أصلها؟

د. المستغانمي: القسطاس هي كلمة ليست عربية الأصل، هي كلمة رومية غرّبها القرآن وعرّبها العرب في استعمالاتهم وكثير من الكلمات ليست عربية، حبشية، رومية، فارسية لكن إذا ما استعملها العرب وأخضعوها لقوانين اللغة العربية للنحو العربي وقواعده وصرفه أصبحت عربية. القسطاس له معنيان: المعنى الأول هو العدل والمعنى الثاني هو الميزان في اللغة الرومية والأولى أن نحمل عليه المعنى هنا. لو فكرنا (وزنوا) بالآلة أما لو قلنا القسطاس هو العدل أيضًا صحيح. أقسط وقسط، أقسط بمعنى عدل وقسط بمعنى جار وظلم، لذلك لما تكلم أحدهم مع الحجاج قال له: أنت من القاسطين ثم تذكر الحجاج (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) بينما أقسط عدَل.

بحكم كون الكلمة رومية فعرّبت لا نستطيع إلا أن نقول هي من غير الكلام العربي، من الممكن أن العرب استنبطوا منها كلمة أقسط كما قلنا عندما قلنا شيطان وتشيطن، كلمات العرب يستنبطون ويخضعون لقواعدهم.

(وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴿١٨٢﴾) أي زنوا بالميزان كأداة تناسب (المستقيم)، قسطاس أتت على وزن فِعلال وفُعلال، قِسطاس وقُسطاس في قرآءة أخرى صحيحة.

(وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿١٨٣﴾) لا تنقصوا الناس أشياءهم التي هي لهم، لا تطففوا، لا تُخسروا، ولا تعثوا في الأرض مفسدين لم يقل ولا تفسدوا أي لا تصبحوا في الأرض تمشون يمينا وشمالا وتفسدون كأنه يقول لا يكن الإفساد ديدنكم، حالكم، الصفّة المتأصلة والمتجذرة فيكم. عندما تقول لأناس لا تفسدوا غير أن تقول لا تعثوا في الأرض مفسدين وأتى بحالتهم لأن (مفسدين) حال فقرّب لنا الصورة كأننا نراها.

(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ﴿١٨٤﴾) الجبلّة هي الخلق، على وزن فعلّة لما نقول جبله الله على كذا أي خلقه على هذه الصفات، فطره، خلقه، ذرأه، هذه كلها مترادفات، الجبلّة هي الخِلقة الأولى، وانظر إلى الجملة (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ) وفي البداية قال لهم (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٧٩﴾) هو نفسه، في البداية قال اتقوا الله لذاته العلية وهنا قال اتقوا الذي خلقكم وخلق أسلافكم وآباءكم الأقدمين وكان حريًا بكم أن تشكروه جلّ جلاله لأنه هو الذي خلقكم من عدم وأحياكم من موات وأيقظكم من همود، خلقكم وخلق آباءكم من قبلكم فيها نعمة فيها امتنان فكانت كلمة (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ) هي توكيد لكن أتى بالواو لتفيد المغايرة فذلك معنى وهذا معنى جديد بينما لو لم يأت بالواو لكانت: اتقوا الله وأطيعون، اتقوا الذي خلقكم، نقول توكيد لكن (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ) أعطى معنى جديدًا، كما ذكرنا في قصة قوم عاد (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٣١﴾ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ﴿١٣٢﴾) وبدأ يفصّل (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ﴿١٣٣﴾ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿١٣٤﴾)، لما كرر الواو فيها مغايرة.

(قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٨٥﴾) أتوا بنفس الكلام الذي ذكرته ثمود لنبي الله صالح (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٥٣﴾ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) لا يوجد واو (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)، أصحاب الأيكة قالوا (وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا). أولًا قالوا له (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٨٥﴾) أصابك سحر وأيّ سحر! لم يقل إنما أنت مسحّر، أنت من زمرة المسحّرين الذين اعتراهم سحر كبير ولم يقولوا من المسحورين لأن المسحرين أقوى، فعّل أقوى وتفيد المبالغة. عندما قالوا له (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٨٥﴾) هم لا يعترفون بنبوته ورسالته وإلا لما وصفوه ووسموه بأنه مسحّر. إذن وسموه بأنه من المسحّرين هذا إبطال لرسالته ثم أبطلوها بطريقة أخرى (وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ) واو المغايرة أدّت إلى أنهم يستشهدون بطريقتين، بينما كلام ثمود عندما تحدثوا مع صالح (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٥٣﴾) (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) الكلام الثاني أكّد الكلام الأول يعني الدليل على أنك من المسحرين أنك أنت بشر وأنت لا تنطق عن الإله ولست رسولًا من إله. أصحاب الأيكة كانوا حاقدين أكثر فأتوا بأدلة أكثر قالوا له (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٨٥﴾) وهذا كفيل بأن لا نطيعك، ثانيًا لإبطال رسالته قالوا: (وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) هذا دليل آخر لإبطال رسالته ساقوه بين يديه.

(وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) هذا سبب آخر، هذا الترقّي: أولًا إنك من المسحرين، ثانيًا أنت بشر مثلنا، ثالثًا أعطوا الحجة الدامغة في رأيهم (إن نظنك) هي في الحقيقة: إننا نظنك، هذه إن المؤكِّدة المخفَّفة وليست النافية والدليل (لمن الكاذبين) اللام الفارقة التي تأتي مع إنّ المؤكدة، لو لم تأت تلك اللام لأمكن أن نقول (إن النافية). هي إن المؤكِّدة المخفّفة والمعنى: إننا نظنك لمن الكاذبين، هم لا يظنون، هم مستيقنون، لو ظنّوا لخففوا الكلام، لكنهم قالوا: إننا متأكدون إنك لمن الكاذبين فالظن هنا بمعنى اليقين وهذا كثير في استعمال القرآن (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم) يوقنون ويستيقنون أنهم ملاقو ربهم، هنا الدليل على أن الظن بمعنى اليقين هو اللام الفارقة لأنهم لو ظنوا لما أكدوا الكلام.

(وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿١٨٦﴾) أصل الكلام: نظن إنّك لمن الكاذبين، (إنّ) لها الصدارة في الكلام فلما قدّمها ما يستقيم أن يقال: إنّ نظن، فتخفف إن نظنّ.

المقدم: الغريب أنهم طلبوا أن يسقط الله عليهم كسفًا من السماء كبيان على صدقه، في الأقوام الآخرين طلبوا جنات، طلبوا زروع، طلبوا دليلًا ماديًا فيه نفع: مائدة من السماء، هؤلاء يريدون العذاب!!

د. المستغانمي: هم طلبوا العذاب وحددوا نوعيته، ثمود أيضًا قالوا (فإتنا بما تعدنا) لكن ما حددوا. أما أصحاب الأيكة وقف عنده المفسرون هم طلبوا نوع العذاب للأسف الشديد. وهل القرشيون لم يحددوا؟! ألم يقولوا في سورة الأنفال (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿٣٢﴾) أحد العلماء قال: عوَض أن يقولوا يا رب إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، ثبت قلوبنا عليه، لكنهم قالوا (فأمطر   أليم) كانوا شديدي الكفر والجحود. وهنا أصحاب الأيكة قالوا له (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿١٨٧﴾) الكِسَف جمع قطعة قرئت كِسْفًا بمعنى القطعة الواحدة وكِسَفًا بالجمع، أسقِط علينا كسَفًا تعذبنا، تحرقنا، افعل ما تشاء! ووردت (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ﴿٤٤﴾ الطور). هذه قرئت كِسْفا ونحن نقرؤها على رواية حفص عن عاصم (كِسَفا). (فأسقط علينا كسفا من السماء) العلماء قالوا: لماذا حددوا؟ لدينا تقسيران: إما كانوا كثيري التبجح وشديدي العنجهية والقوة والشدة إلى درجة أنهم كانوا لا يبالون، أسقِط علينا ما تشاء! وإما أن شعيبًا هددهم بهذا النوع من العذاب كسفًا من السماء فقالوا ائتنا به كما تدّعي كما قال كثيرون (ائتنا بما تعدنا). كثير من مشركو قريش كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد إلى متى تعدنا بالعذاب فإتنا به!

(إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لم يقولوا (إذا) لأنهم يفترضون أنه غير صادق، لأن (إن) أداة شرط لغير المجزوم به، فهم يفترضون صدقه افتراضًا بسيطًا. (إذا) فيها أن الواقع سيقع، أما (إن) فهم يظنون أنه كاذب.

(قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿١٨٨﴾) أسند الأمر لصاحب الأمر

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿١٨٩﴾) هذا عذاب خاص بأصحاب الأيكة حتى إن سورة الشعراء تسمى سورة الظُلّة المفسرون وأهل التاريخ يذكرون أنهم عندما تحدوا سيدنا شعيب تحديا كبيرا (فأسقط علينا) الأمرهنا للتعجيز هم لا يطلبونه ولا يستميلونه وإنما يعجّزونه ويعاجزونه فعندما رأى الله عز وجلّ شدة نفورهم وجحودهم وإعراضهم هنا سلط عليهم شمسًا حامية وسمومًا وحميمًا وعاشوا سبعة أيام وسبع ليالي في سخونة وحرّ شديد فعاشوا في حرارة شديدة يقول المفسرون كانت مياههم تغلي في الأنهار خرجوا إلى البرية، لما ساقهم إلى البرية أتى الله لهم بغمامة بسحابة هي الظلة فوجدوا بردها ولكن كيد الله عظيم لأنهم هم كفروا وجحدوا وهم طلبوا الكسف يريدون أن يعجزوا الله سبحانه وتعالى فأتاهم بسحابة وجدوا ظلّها وبردها فتجمعوا كلهم تحتها فأحرقتهم وأنزلت عليهم صاعقة أحرقتهم، ذلك عذاب يوم الظلة، عذاب لم يصب الله به إلا أصحاب الأيكة الذين أُرسل إليهم شعيب عليه السلام.

المقدم: دائما يقولون الجزاء من جنس العمل، ما علاقة هذا العذاب بما كانوا يطففون به في الميزان؟

د. المستغانمي: هم لما قالوا (فأسقط علينا) وحددوا سواء كان التحديد منهم أو من سيدنا شعيب، استكبروا وتحدوا فجاءهم الله بعذاب جاءهم بقطع من السحاب وأنزلت عليهم صواعق ملتهبة ملهبة موقدة فأحرقتهم عن بكرة أبيهم. ويمكن أن نقول أنهم هم في البداية كانوا يعيشون في غيضة في شجر ملتف لم يشكروا وجزاؤهم ضد ما كانوا يعيشون فيه لكن لا أستطيع أن أعطي سببًا وقنعًا.

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿١٩٠﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿١٩١﴾) لا زال الخطاب موجهًا لمشركي قريش ومشركي العرب الذين خاطبهم القرآن إن في ذلك لآية لكم أيها المخاطبون. والذي يؤيد أن أصحاب الأيكة هم غير قوم مدين وأُرسل شعيب إليهما ما ذكره الله عز وجلّ في سورة الحجر (وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ﴿٧٨﴾ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ﴿٧٩﴾ الحجر) (إنهما) أي القبيلتان: مدين وأصحاب الأيكة، كانوا في الطريق على طريق الخليل، قرى قوم لوط سدوم والمؤتفكات، ثن تأتي مدينة الخليل، كانوا بإمام مبين، الدليل على ذلك لما تحدث عم قوم لوط قبلهم قال عن قرية لوط (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ﴿٧٦﴾ الحجر) واضحة ولما تحدث عن أصحاب الأيكة ومدين (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) (إنهما) تدل على القريتين هكذا يقول أهل التفسير.

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٩٢﴾ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿١٩٣﴾ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴿١٩٤﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴿١٩٥﴾ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ﴿١٩٦﴾) تعليق نهائي حول القصص الحديث كله عن القرآن، ولماذا بداية الحديث عن القرآن بضمير الغائب؟ ولماذا تحدث عن الروح الأمين؟ ولماذا قال (عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)؟ والحديث عن اللسان العربي المبين؟

في رحاب سورة الشعراء – 9 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة الشعراء – 9

تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا

المقدم: توقفنا عند انتهاء القصص القرآني في سورة الشعراء وآخر قصة كانت قصة شعيب عليه السلام مع قومه. وتختتم كل قصة بقول الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)) ثم دخلنا في موضوع جديد له ارتباط بالسورة (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192))

د. المستغانمي: لما انتهى القصص القرآني الذي جاء في سورة الشعراء وهو قصص موسى عليه السلام وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب بعد أن ذكرت سورة الشعراء قصص هؤلاء مع أقوامهم الذين كذّبوهم هنا عاد السياق إلى أصل السورة , قد تقول ما العلاقة بين قوله (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) بالقصص؟ هنا عودة لموضوع السورة ، موضوع السورة الأول (طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) تلك المعجزة اللفظية البلاغية المعجزة البيانية العقلية الخالدة (إنه) الضمير الهاء يعود على القرآن بدأ الله تبارك وتعالى يفصّل في معجزة محمد صلى الله عليه وسلم كأن قائلا يقول: إذا كان الله رزق موسى عليه السلام العصا واليد البيضاء ورزق صالحًا الناقة فما المعجزة التي أيد بها محمدًا صلى الله عليه وسلم؟ قال: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (وإنه) ترفع شأن القرآن، الهاء تعود على غير مذكور لكنه معهود في الأذهان، الكل كل المخاطبين يعلم أن القضية قضية القرآن.

هنا قال (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)) وقال (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر) وقال (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) تتنزل في ليلة القدر وهنا قال (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) أنزل الله القرآن وكلّف جبريل أمين السماء أن ينزله على قلب محمد أمين أهل الأرض صلى الله عليه وسلم , من البداية ما قال (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) ، وإنما قال (وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لأننا في سورة الشعراء تعرّفنا على من هو رب العالمين ، نوح سأل واستنكر (وما رب العالمين) وأجابه موسى وأجاب باقي الأنبياء والله عز وجلّ يجيب في سورة الشعراء (و وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ). في سور أخرى في فصلت (تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) في غافر(تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ما يضاف من أسماء مقصود لأنه يتردد في السورة وبنيت عليه السورة وهنا السورة بنيت على (رب العالمين)، حتى الأنبياء والمرسلون كانوا يقولون (إن أجري إلا على رب العالمين) في سور أخرى قالوا (إن أجري إلا على الله) في سورة هود (إن أجري إلا على الذي فطرني) لكن هنا (إن أجري إلا على رب العالمين).

(تنزيل) مصدر، نزّل تنزيلا، فعّل تفعيلا، (تنزيل) هو يتحدث عن المنزَّل، القرآن منزّل، اسم مفعول، أشار إليه بـ(تنزيل) لمبالغة وصفه بالتنزيل، هو أوقع المصدر بدل اسم المفعول كأنه يقول: وإنه منزّل تنزيلًا من رب العالمين للمبالغة منزّل تنزيلا ولا دخل لمحمد في كلمة لا بل في حرف، كله تنزيل، عبّر عن المنزّل بالتنزيل: إنه منزّل تنزيلا من رب العالمين، فيه مبالغة.

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) هذا شرحٌ للتنزيل، نتساءل: كيف نزل؟ نزل به أمين السماء على أمين الأرض فوصف أمين السماء (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ). في سورة القدر (تنزل الملائكة والروح) لم يقل هنا الروح الأمين لأن الأمر لا يتعلق بالأمين، ليلة القدر يتنزّل الروح لم يصفه في ليلة القدر، بينما في سورة البقرة والمائدة يصفه (روح القدس) هنا وصفه بالأمين لأن الأمر يتعلق بالرسالة والرسالة تقتضي الأمانة والصدق وهو أأمن من أن يعبث بالرسالة أو يزيد أو ينقص في القرآن، كلّفه الله بالرسالة وبتبليغها لمحمد صلى الله عليه وسلم وتبلغيها للأنبياء والرسل السابقين وكان أمينًا فوصفه جبريل بالروح الأمين هو إشارة إلى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمين أيضًا لأنه في سورة الشعراء كل الأنبياء قالوا لأقوامهم (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) فيتناسب وصف جبريل بالأمين. بينما في سورة البقرة تحدثت عن التقديس (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) فناسب وصف جبريل بروح القدس وسورة البقرة فيها حديث عن التطهير (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ) الطهارة في سورة البقرة كثيرة فيناسبها روح القدس، لا بد أن تقرأ السورة حتى تعرف اللفظة الدقيقة التي تناسبها والله عز وجلّ أعطانا كل الألفاظ الدقيقة. إذن الأمين هو وصف الروح والروح هو جبريل عليه السلام.

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) على قلبك ليوضح القلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، القلب هو الذي يستقبل، القلب هو الذي يعقل وهو الذي يفهم (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) القلب هو الذي يدرك، صحيح العقل فيه الخلايا وفيه المخ وهناك علاقة وطيدة بين العقل والقلب، العقل يعي والقلب يدرك ويتحكم في كل الجسم، هو ملك الجسم لذلك (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) هو يتحكم حتى في الدماغ. (عَلَىٰ قَلْبِكَ) أي لم ننزله على خيالك وإنما على قلبك الحقيقي والرسول صلى الله عليه وسلم عندما وصف كيف كان يتلقى الوحي في الحديث الذي رواه الشيخان ورواه عدد من مخرجي الحديث ، عندما سأله الصحابي هشام بن حزام كيف كان يأتيك الوحي يا رسول الله؟ قال: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانًا كان يغطه غطًا كما قال له اقرأ فقال ما أنا بقارئ، وفي حديث صحيح آخر قال: إن روح القدس نفث في روعي “في عقلي وفي وجداني” بأن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها. طريقة نزول الوحي كثيرة هنا قال: (على قلبك) لأن القلب هو الذي يعي فكان محمد صلى الله عليه وسلم يعي الوحي ولا ينساه ولا ننسَ قوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ).

قال (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) الإنذار، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المرسلين واختص الإنذار للتعبير عن الرسالة لأن خصوصية السورة من أولها إلى آخرها إنذار وبيان ما لحق الأقوام من العذاب لأنهم كذبوا وأعرضوا واستهزأوا برسل الله فخصّ من أوصاف رسول الله الإنذار. هناك سور كثيرة فيها التبشير (بشيرا ونذيرا) وفيها ذكر للجنات وفيها وعظ للقلوب وفيها استمالة بوصف الجنات مثل سورة الواقعة (وأصحاب اليمين).

وقال (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) ما قال لتكون منذرًا، (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴿١٩٥﴾) لو قال لتكون منذرا بلسان عربي تكلم عنه وحده لكن قوله (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بلسان عربي) أي شعيب وصالح واسماعيل هؤلاء الرسل الذين تحدثوا باللغة العربية (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴿١٩٤﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴿١٩٥﴾) كما فعل شعيب الذي سبقت قصته وقصة صالح، الرسل الذين نطقوا باللسان العربي هم شعيب وصالح وإسماعيل وهود ومحمد صلى الله عليه وسلم فناسب (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴿١٩٤﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴿١٩٥﴾)

(بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) مبين يعني واضح وهذا سر الإعجاز في القرآن. الله سبحانه وتعالى وصف القرآن بأنه لسان بأنه لغة عربية واضحة فصيحة بليغة لم يستطيعوا ولن يستطيعوا مهما حاولوا أن ينسجوا على منوال القرآن! فإن كان صالح قد أوتى الناقة وإن كان موسى قد أوتي العصا واليد فأنت يا محمد صلى الله عليه وسلم قد أوتيت معجزة عقلية بلاغية خالدة. أين ناقة صالح الآن؟! رآها من رآها وذهبت، ونحن نؤمن بها لأنها ذُكرت، أين يد موسى عليه السلام؟ أين العصا؟ كل المعجزات انتهت لكن معجزة محمد مستمرة فهي معجزة عقلية لغوية فلذلك من أراد أن يعقل معاني القرآن ودلالاته وأن يفهم عن الله تعالى ماذا يريد فعليه أن يقرأ هذه اللغة التي من طريقها يُفهم كلام الله.

لا زال الحديث عن القرآن (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)) هذا تنويه ورفع آخر للقرآن, (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) لها معنيان: أنه عندما بشّرت الكتب السابقة بمحيء محمد صلى الله عليه وسلم قال بشروا بمجيء نبي اسمه أحمد اسمه محمد ويؤيده الله بكتاب، هذا ذكر قولًا واحدًا. أيضًا من حيث المعاني معانيه هي ذات المعاني التي في الكتب السابقة وهو التوحيد فما دعا إليه موسى هو التوحيد، ما دعا إليه إبراهيم هو التوحيد ما دعا إليه عيسى هو التوحيد ونبذ الشركاء، كل الكتب دعت إلى العقيدة الصحيحة وإلى نبذ الشرك ونبذ الشركاء وتوحيد الله وعبادة الله وإلى التقوى كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة الشورى (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) شرع لكم ما شرع لهم، إذن مضمون القرآن هو من نفس مضامين الكتب السابقة من مشكاة واحدة إلا أن القرآن معجز ببنائه، بنظمه، ببلاغته، الكتب السابقة كانت معجزة بمعانيها ومضامينها لا بألفاظها والدليل على أنها حرّفت وتغيّرت أما القرآن فباق خالد إلى يوم القيامة.

(أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)) حدد بني إسرائيل لأن بني إسرائيل كانت لهم هيمنة وكان لهم حضور قوي في الجزيرة العربية وخصوصًا في المدينة المنورة، في خيبر وتبوك، كانوا من أهل كتاب موسى عليه السلام، هم دائمًا كانوا يقتدون بهم حتى إنهم بعثوا نفرًا من قريش إلى المدينة ليسألوا أحبار اليهود وسألوهم عن الرجل الذي بُعث فيهم فقالوا لهم: اسألوه عن الفتية، اسألوه عن الروح، اسألوه عن ذي القرنين فإن أجابكم فهو مرسل وإن لم يجبكم فهو رجل متقوّل، كانوا دائمًا يستشهدون باليهود، بأهل الكتاب، ببني إسرائيل، هم يعرفونهم. (أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً) عندما أسلم عبد الله بن سلام وإن كان العلماء متفقون على أن سورة الشعراء مكية لكن هو يخاطبهم والقرآن ينطبق، عندما أسلم كثير من اليهود كانوا يعلمون أن محمد مرسل ووحدوا في الأدلة من التوراة في كتبهم ما يؤيد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

(أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً) (آية) خبر كان (أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) هذا المصدر المأوّل اسم كان، من هم علماء بني إسرائيل؟ يسميهم القرآن عادة (الأحبار) لكن ما قال هنا الأحبار لأن السورة ركزت من البداية (أرسل معنا بني إسرائيل) حتى يتناسق التعبير عبّر عنهم بعلماء بني إسرائيل ولم يذكرهم باسم الأحبار.

الله عز وجلّ يقول (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ﴿١٩٨﴾ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ﴿١٩٩﴾) هنا الترقي في المحاججة،  يترقى في محاججتهم قال لهم في البداية (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٩٢﴾) ثم (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ﴿١٩٦﴾) ثم (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿١٩٧﴾)، لماذا كل هذا الإنكار؟! (ول وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) أعطاهم دليلًا آخر (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) هل أنتم تريدون إعجازا؟َ قالوا: محمد لغوي وفصيح وعربي وجاء القرآن على يده. لو نزلناه على رجل أعجمي وهو لا يحسن اللغة ما كانوا به مؤمنين كانوا مصرّين على عدم الإيمان، أنت تأتيهم بآية أم لا تأتيهم هم مصرّون على عدم الإيمان.

قريش كانوا يقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه بعض الأعاجم (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) القرآن كلام الله أنزله على رجل عربي فصيح من قريش “أنا أفصح العرب بيد أني من قريش” لكن هو يجاريهم في المحاججة (لو نزّلناه) (لو) تفتح باب الجدال، (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) ألا يكون ذلك معجزاً؟! لو أن أحدًا من غير العرب ويأتي بكلام من نوع هذا الكلام العظيم يكون معجزة كان الأولى بهم أن يؤمنوا، قال (مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) دليل على إصرارهم فلا تحاول يا محمد.

قال (الأعجمين) ما قال أعاجم، أعجم – أعاجم، أعاجم وأعجمي هنا (أعجمي) أخضع على وزن أفعل لإيقاع السورة (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)) كل السورة فاصلتها (النون) وثانيا يمكن أن يكون نسق تعبيري تتميز به السورة (واتبعك الأرذلون) وفي سورة هود قال (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) هنا خضّع أرذلين، وهذا يسمى جمع السلامة للإيقاع العام للسورة والأعجم هو الذي لا يحسن اللغة العربية.

لا يزال الحديث عن القرآن (كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)) كذلك السلوك، كذلك الفعل سلكناه، شبّه إدخال القرآن في قلوب القرشيين وبيان القرآن في هذه الفصاحة الراقية العجيبة ومع ذلك لم يؤمنوا فقال (كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) مثل ذلك السَلْك أدخلناه في قلوبهم نظرًا لغرابة ما أتوا ونظرًا لغرابة استجابتهم كان الأوْلى بهم وهم الفصحاء البلغاء أن يعلموا أن هذا الكلام منزّل من الله، كذلك السلوك الغريب سلكناه في قلوب المجرمين، المجرمون هم المشركون عبّر عنهم بالمجرمين هنا لم يقل كذلك سلكناه في قلوب المشركين، المشركون الذين يعرفون اللغة العربية وهم أرباب اللغة العربية ولا يؤمنون بأن هذا القرآن إعجاز عجيب من الله هم في الحقيقة أجرموا في حق أنفسهم وفي حق ذريتهم.

في سورة الشعراء عبّر عن الفعل بصيغة الماضي (كذلك سلكناه) وعبّر عنه بصيغة المضارع في سورة الحجر (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴿١٢﴾) لأنها أتت بعد قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ﴿١٠﴾ الحجر) لو قال كذلك سلكناه في الماضي وأرسلنا في شيع الأولين تنطبق عليهم فحوّلها إلى المضارع لتنطبق على المشركين (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ) أما هنا لم يتحدث عن مجرمين معينين وإنما قال (وإنه لتنزيل رب العالمين) ثم قال (كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)) (حتى) لانتهاء الغاية، لا يؤمنون به حتى يروا العذاب، الآية تصور إنكارهم الشديد وإصرارهم على الشرك والكفر وعدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿٢٠٢﴾ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ﴿٢٠٣﴾) بعد وصول العذاب يندمون الندم الأسود ويقولون هل نحن منظرون؟ هذا استفهام يراد منه التمني والتمني لا يقع، هل نحن منظرون؟ يا رب أعطنا وقتًا من الزمان مليّا طويلًا حتى نعود إلى الدنيا ونؤمن من جديد. فهو سؤال حيث لا ينفع الندم!

(أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴿٢٠٤﴾) هنا الله عز وجلّ يتكلم عندما جاءهم العذاب يستعجلون؟ السؤال هنا مبني بطريقة عجيبة: أفيستعجلون بعذابنا؟ بناء الجملة أصلها: أفيستعجلون الفاء عاطفة وهمزة الاستفهام، يستعجلون بعذابنا، والله عز وجلّ قال (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ) للاهتمام بهذا العذاب، هم لإنكارهم الشديد في السيرة كان أحد المشركين يقول يا محمد إلى متى وأنت تقول لنا سيأتيكم العذاب؟! فائتنا به! فالله عز وجلّ يقول (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ) وعندما يقولون فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، السؤال إنكاري تعجيبي، أفبالعذاب يُستعجل؟! والله العذاب ليس من شأنه أن يُستعجل، الإنسان يستعجل على شيء يسرّه، على شيء يفرحه، أفبالعذاب يستعجلون؟!! وأضافه إلى ذاته العلية (أفبعذابنا) العظيم يستعجلون؟! هم لا يعرفون ماذا يفعلون.

الفاء هنا في (أفبعذابنا) (أفرأيت) الفاء عاطفة وأيضًا تفرّع ما بعدها على ما قبلها، لما يأتيهم العذاب يقولون (هل نحن منظرون) يقول لهم أفبالعذاب كنتم تستعجلون؟! فهي عاطفة وفي الوقت نفسه يعجّب من أمره الذين يستعجلون العذاب وكان الأحرى أن يستعجلوا بشيء يسرّهم ويفرحهم.

(أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)) (أفرأيت) بلغة القرآن أخبرني، أفرأيتم أخبروني هل تستطيعون أن تفعلوا كذا وكذا؟ فالله تبارك وتعالى يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)) إن متعناهم سنين عددًا ثم جاءهم العذاب هل يغني عنهم ما كانوا يمتعون؟! هنا (ما) تفهم بالوجهين: إما استفهامية، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون؟! استفهام استنكاري أو ما أغنى عنهم ما كانوا يمتّعون شيئا، نافية، إما أن نقول: ما يغني عنهم الذي كانوا يمتعون لا يغني عنهم شيئا (شيئا مفعول به محذوف) أو ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون؟! هل أغنى عنهم شيئا؟! (ما) استفهامية أو نافية تأتي على الوجهين.

————-فاصل————–

(وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)) فيه تأويل، عندما نقول ما أهلكنا من قرية إلا لها منذورن، ما أهلكنا من قرية في حال من الأحوال إلا في حال أن لها منذرين، استثنى، يريد جلّ جلاله أن يقول ما سلّط الله العذاب على قوم إلا وقد جاءهم رسول، المعنى واضح، ما أهلكنا من قرية في حال من الأحوال إلا في حال لها منذرون الله سبحانه وتعالى لا يهلك القرى إلا بعد أن يرسل لها رسولا يعلمهم ويرشدهم، هكذا يكون استثناء حقيقيًا.

إذا جاء الإنذار ولم يتعظ الناس فيكون سببًا للعذاب خصوصًا إذا جاءتهم المعجزة الحسية الكونية. المسلمون وغير المسلمين المخاطبون بالقرآن الله سبحانه وتعالى لم يرسل معجزة حسية بيد محمد صلى الله عليه وسلم وبالتالي أمهلهم، لكن القرى السابقة عندما طلبوا المعجزة الحسية وأتاهم موسى بكذا وأتاهم هود بكذا ولوط استأصلهم.

(ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)) ذكرى بمعنى مذكّرين، تذكرة. (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)) هذا خبر لمبتدأ محذوف. لها معنيان في النحو: إما هذه ذكرى وما كنا ظالمين على شاكلة (هذا بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) أصلها هذا بلاغ، هنا: هذه ذكرى وما كنا ظالمين أحدًا. أين المفعول به للظالمين؟ ولا يظلم ربك أحدا (وما كنا ظالمين)

المعنى الثاني: تكذيرا، الذكرى هو اسم للذكرى كأنه يقصد الاسم ويقصد المصدر، نقرأ: وما أهلكنا من قرية إلا ولها منذرون يذكرونها تذكيرا وما كنا لنظلمهم, يذكرونهم ذكرى لا تذكيرا (اسم ذكرى) لكن أنا أميل إلى أنه خبر لمبتدأ محذوف، نقرأها [وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون- هذه ذكرى- وما كنا ظالمين]. لما تقرأ أن الله عذّب قوم عاد وقوم ثمود وعذّب قوم لوط، أنذرهم كثيرا فلم يتعظوا فلا تقل العذاب كان قاسيًا، لا، هم استحقوه عن جدارة. (وما كنا ظالمين) معطوفة على (ذكرى) كأنه يقول: نذكّركم ولا نظلمكم.

(وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)) عودة إلى القرآن. القرشيون المشركون قالوا في سورة القلم اتهموه بأنه كاهن وشاعر ومجنون (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) هم وصفوه بأنه كاهن، الكاهن هو الذي يقول عادة أنا آتي بخبر السماء والشياطين تتنزله، سورة الشعراء ذكرنا لماذا سماها الله سورة الشعراء، صحيح ورد فيها ذكر الشعراء في آية في النهاية لكن الشعر كان البضاعة الرائجة في عهد العرب وفي عهد نزول القرآن، حتى لا يلتبس القرآن بالشعر قال (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون) وهنا قال (والشعراء يتبعهم الغاوون) عندما فنّد أن يكون القرآن من الشعر وأبطل أن يكون القرآن شعرا وأبطل أن يكون كهنوتًا فقال (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ). ثمة اقتران بين الكهانة والشعر، الكهان يدّعون أن الشياطين تنزل إليهم بالأخبار والشعراء يقولون لهم شيطان شعر فقبل أن يأتي بالضربة القاضية لينفي الشعر نفى عنه الكهنوت، هم يعلمون أنه ليس بكاهن والدليل (وما تنزلت به الشياطين) هذا كلام نوراني وما يستقيم وما يصح وما يستطيعونه لو أرادوه هذا كلام منزّل، وما ينبغي لهم أن يأتوا بمثله، وما يستطيعونه، نفى عنهم نفيًا قاطعًا، الشياطين تنزّل على كل أفاك أثيم (إنهم عن السمع لمعزولون) الشياطين في عهد النبوة محمد صلى الله عليه وسلم منعت منعًا قاطعا، من استرق السمع يتبعه شهاب ثاقب الكاهن يكذب مائة كذبة ويكون أفاكًا دجالًا ثم يغري الناس. محمد صلى الله عليه وسلم تعرفون أخلاقه فلا يصدر هذا منه.

(فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)) هذا صلب رسالة الإسلام ، طبعًا محمد صلى الله عليه وسلم لا يدعو مع الله إلهًا آخر، جاء بالتوحيد فكيف يدعوهم إلى إله آخر؟! إنما الخطاب له ولأمته جميعًا وللمشركين فكأنه لا تدعُ فتكون من المعذبين وأنتم أيها المشركون لا تدعوا مع الله فتكونوا معذّبين حقًا وصدقًا فهو يعرّض بالمشركين ويدعو أهل الإيمان إلى التوحيد.

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)) أنت منذر لجميع البشر بلسان عربي مبين ولكن خصّ أهلك بالموعظة أيضًا، عندما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت فإني لا أغني عنك من الله شيئا وإنما هي رحم أبلّها ببلاها أو كما قال صلى الله عليه وسلم. (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) الأقربين ثم الذين يلونهم ثم توسع لكن هو رسول إلى العالمين.

(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)) عامل المؤمنين معاملة حسنة وتواضع مع المؤمنين واخفض لهم جناجك هذه  كناية عن التواضع وعن حسن المعاملة مع المؤمنين كما قال مع الوالدين (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) عاملهم معاملة حسنة، الوالدان يستحقان المعاملة الحسنة والمؤمنون يستحقون المعاملة الحسنة.

(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216))عليك البلاغ كما فعل الأنبياء السابقون وقل إني بريء مما تشركون، لا تشترك معهم بشيء.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)) لم يقل وتوكل على الله وإنما على العزيز الرحيم، هذه اللازمة (العزيز الرحيم) تكررت 9 مرات، 8 مرات (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أتى بها مؤكّدة وإن ربّك يا محمد لهو العزيز الرحيم فتؤكد في العقل في الوجدان في النفس ثم قال له (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) هو عزيز ينصره، رحيم يسوق لك من الأدلة لكي يؤمن قومك لكن إن لم يؤمنوا فأنت توكل عليه فهو كافيك بإذن الله.

(الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)) هذه رؤية عناية، لما تقرأ (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴿٢١٧﴾ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ﴿٢١٨﴾) هل الله تعالى لا يرى الناس الآخرين؟! بلى، هو يرى جميع الخلق لكن هذه رؤية خاصة كأنه يقول: الذي يراك بعناية خاصة وتقلبك في الساجدين، توكل عليه كما قال لموسى (إنا معكم مستمعون) (إنني معكما أسمع وأرى) وقال في سورة الطور (فإنك بأعيننا) فقال له هنا: توكل على الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين ذكر أحسن مقامين: مقام القيام (وقوموا لله قانتين) ومقام السجود وأقرب ما يكون العبد لربه وهو ساجد.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)) سميع لأقوالك عليم بما في قلبك وفي خواطرك فتوكل عليه وأسند الأمر إليه تجد أقرب إليك.

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)) هذا مواصلة الحديث في البداية قال (وما تنزلت به الشياطين) ثم قال (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ) الشياطين لا تتنزل على مثل محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين ذي الأخلاق العظيمة (تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) كثير الكذب كثير الإثم، هذا النوع لا على مثل محمد، وكلها صيغ مبالغة: أفّاك من فعّال، أثيم فعيل من الإثم. (تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) لكن هنا أتى في صيغة سؤال (هل أنبئكم) بما معناه في غير القرآن هو طلب الإذن، أنا الآن أشرح لك شيئا وأنت لا تريد أن تفهم هذا الكلام، أقول لك هل تسمح لي بأن اشرح لك؟ هذا كلام سيكون فيه ما يضرّك، (هل أنبئكم) هو لا يسألهم، سؤال يفخّم المستفهَم عنه يقول لهم من شأنه أن يسوءكم، وأن يضركم لو كان سؤالًا حقيقيًا لا يجيب، هو سأل وأجاب (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ﴿٢٢١﴾ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴿٢٢٢﴾) إذن السؤال صوري يريد أن يبين لهم بأن الجواب سيسوؤهم (تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴿٢٢٢﴾ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴿٢٢٣﴾).

(يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴿٢٢٣﴾) هم في الحقيقة يسمعون لكن فرق بين يسمعون ويلقون السمع، عندما تسمع تلقي السمع تقرّب أذنك ناحية السمع لتصوير شدة حرصهم، الكهّان يدّعون أنهم يسمعون الشياطين، هذا كلام فارغ وكذب (يل يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴿٢٢٣﴾).

(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)) انتقل الآن إلى نفي الصفة الثانية ، نفى عنه الكهنوت ونفى عنه الشعر. (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) وفي قرآءة يتبعهم الغاوون. الغاوون هم الذين يكونون في ضلال شديد، إذا كان الذين يتبعونهم غاوين فما بالك بالمتبوعين؟! لا شك أنهم أشد غواية فهو من باب أولى الشعراء، لكن أيّ شعراء؟ الشعراء المشركون الذين كانوا يهجون الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ابن الزبعرة، النضر بن الحارث، الذين هجوا الإسلام فهؤلاء يتبعهم الغاوون ثم وصفهم وصفًا يزري بهم (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)) هنا شبههم -والعياذ بالله- بالإبل الحائرة التي تهيم في الأودية على وجهها تتردد بين العدوة والأخرى في الوديان، الإبل عندما لا تجد الكلأ في الرُبا وفي السهول تذهب إلى الأودية ضالة متحيّرة (ألم تر) سؤال تقريري (أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ) (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)) كاذبون (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)) (إلا المؤمنين) الشعراء صنفان: المشركون الذين كانوا يدافعون عن الشر وعن الباطل وعن الشرك هؤلاء تنطبق عليهم (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) لهم شياطين تدعوهم إلى الشرور، أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات مؤمنون الإمام الشافعي كان شاعرًا، علي بن أبي طالب كان شاعرًا، حسان بن ثابت كان شاعرًا كان يقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: اهجهم ومعك روح القدس، وقع كلامك أشد من وقع النبال. فإذا كان الشاعر مسلمًا يدافع عن الحق والعدل والإسلام فهذا شاعر عظيم.

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) سيعلم الذين ظلموا لما قال (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) أتى هذا التذييل النهائي هذا آخر إنذار في السورة وسيعلم المشركون الظالمون أيّ منقلب ينقلبون، سينقلبون منقلبًا سيئًا، ما ذكره وإنما فخّمه وأبهمه (أيّ منقلب) مُبهم لتذهب النفس كلّ مذهب في توقعه، كيف يكون مصيرهم؟! سيكون أسوأ مصير بدليل أن القرآن لم يعبّر عنه وجعله مبهمًا.

تلخيص سورة الشعراء

سورة الشعراء هي سورة الإنذار أنزلها الله تثبيتًا لقلب محمد صلى الله عليه وسلم من أول آية (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿٣﴾) وثبت قلبه وأتاه بقصص السابقين سبعة أنبياء ورسل كل نبي ماذا لاقى من قومه وكيف كان التكذيب وكيف ألحق الله بهم عذابًا استأصلهم، هذا المحور العام. ورأينا قصص الأنبياء ورأينا التعليق الأخير عن القرآن (وإنه لتنزيل رب العالمين) الحديث عن القرآن

لماذا قصّ الله على محمد صلى الله عليه وسلم قصص هؤلاء الأنبياء بالذات في هذه السورة؟ يوجد أنبياء آخرون، لماذا هؤلاء بالذات ومن هذه الزاوية زاوية التكذيب وزاوية إلحاق العذاب؟ سورة الشعراء في الحقيقة أنزلت لنا نحن المسلمين لنتعظ نحن، فكل ما ورد في القصص في حق الأقوام هي انعكاس للسيرة  له ما يماثله في قصة محمد صلى الله عليه وسلم، فيه انعكاس للسيرة: الأقوام السابقين قال (كذبت عاد المرسلين) (كذبت ثمود المرسلين) (كذب قوم لوط المرسلين) من أول آية (طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (6)) المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كذبوا لما قال (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) قصّ عليه القصص ليرى عاقبة المكذبين , هذا هو سبب قصّ هذه القصص.

الأقوام كلهم قالوا لكل نبي ائتنا بآية والله تعالى يقول لا تنفع الأدلة الحسية ولو كانت تنفع لنفعت فرعون وقال في البداية (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴿٤﴾) لا تنفع الآية وإنما ينفع الحوار والعقل والمحاججة وأتاه بالأدلة مع الأقوام.

عندما إبراهيم الخليل حاججهم (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ﴿٧٠﴾ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ﴿٧١﴾) أيضًا القرآن حاججهم (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ﴿١٩٨﴾) المحاججة في قصة محمد صلى الله عليه وسلم.

كل رسول دعا قومه وحرص البيان القرآني أن يقول (أخوهم) وعندما جاء لمحمد قال (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴿٢١٤﴾) أنت أخو هؤلاء فادعهم ولا تبخل عليهم (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴿٢١٤﴾) كما دعا كل نبي قبيلته، انعكاس عجيب!

نوح عليه السلام قال له قومه (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴿١١١﴾) لن نؤمن حتى تطردهم قال (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١١٤﴾) قال الله لمحمد (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿٢١٥﴾) هكذا ينبغي أن يُقرأ القرآن، كل ما في القصص يخاطبنا ويخاطب محمد صلى الله عليه وسلم وأتى من قصة محمد بما يناسبه (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ) اخفض جناحك يا محمد لمن اتبعك كأنه يقول قل لهم كما قال نوح وما أنا بطارد المؤمنين وأنت اخفض جناحك يا محمد.

وعندما قالوا هذه ناقة، هذه العصا، هذه اليد، قال (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٩٢﴾) أنت حجتك عقلية يا محمد وأعطاه الحجة العقلية.

عندما تكلم عن متاع عاد (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ﴿١٢٨﴾) عندما تكلم (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴿١٢٩﴾) وعندما تكلم عن فرعون (وأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم) تكلم عن ثمود (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ﴿١٤٦﴾ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿١٤٧﴾ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ﴿١٤٨﴾) كل هذا المتاع قال الله لمحمد عن قريش (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ﴿٢٠٥﴾ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ﴿٢٠٦﴾ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴿٢٠٧﴾) ذكر تمتيع الأقوام ثم خاطبه مع قريش قال له (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ) والله العاقبة ستكون مثل عاقبة هؤلاء، كلام حكيم!

عندما كانت الأقوام تستعجل بالعذاب (فائتنا بما تعدنا) هو ما أتى بكلام قريش وإنما علّق (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴿٢٠٤﴾) أولئك الأقوام يستعجلون وهو يوجه الخطاب لمحمد وقومه (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴿٢٠٤﴾) دلالة على أنهم استعجلوا العذاب فسيكون مصيرهم مصير الآخرين.

لما قالوا لصالح (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٥٣﴾) وقالوها لشعيب، الآخرون قالوا لمحمد كاهن قال الله (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ﴿٢١٠﴾) قالوا شاعر، قال (وما هو بشاعر) تجد مقارنة عجيبة بين جميع الأقوام وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم! خطاب دقيق!

كل رسول قال (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) قال (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿١٩٣﴾)

لما كل نبي قال (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴿١١٥﴾) قال (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)

فاقرأ سورة الشعراء هذه خلاصتها من البداية وأتى بالقصص ثم أتى بالتعليق، التعليق يلخّص كل القصص ويسقط ما فعل الأقوام مع رسلهم وما بين محمد صلى الله عليه وسلم وعلاقته بقريش وبالمخاطبين فما أحرانا أن نقرأ القرآن بهذه الرؤية!