سورة العنكبوت مكيّة, وتدور آياتها حول الفتن وسنّة الابتلاء في هذه الحياة وقد نزلت في وقت كان المسلمون يتعرضون في مكة لأقسى أنواع المحنة والشدّة. فالإنسان معرّض لأن يفتن في كثير من الأمور كفتنة المال والبنين والدنيا والسلطة والشهوات والصحة والأهل وهذا من تدبير الله تعالى ليبلوا الناس أيهم أحسن عملا وليعلم صدق العباد وليختبرهم في إيمانهم وصدقهم.
تبدأ السورة الكريمة تتحدث بصراحة عن فريق من الناس يحسبون الإيمان كلمة تقال باللسان فإذا نزلت بهم محنة انتكسوا إلى جحيم الضلال وارتدوا عن الإسلام تخاصاً من عذاب الدنيا وكأن عذاب الآخرة أهون. (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) آية 2 وكذلك تأتي الآية الأخيرة في السورة (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) آية 69، تتحدث عن الفتن وكأن في ذلك إشارة إلى أن الفتن مستمرة في حياة الناس
عرض الفتن التي قد يمتحن الله تعالى بها الخلق وذكر كيفية مجاهدتها
استعراض قصص الأنبياء وكيف واجهوا الفتن وجاهدوها ابتداء من فتنة سيدنا نوح في قومه وقد ذكرت الآيات مدة لبث نوح في أهله لتأكيد استمرار الفتن على مرً العصور، ثم تتحدث الآيات عن فتنة سيدنا إبراهيم ثم لوط وشعيب وتحدثت الآيات عن بعض الأمم الطغاة المتجبرين كعاد وثمود وقارون وهامان وغيرهم مع ذكر ما حلّ بهم من الهلاك والدمار. وفي هذ القصص كلها دروس من المحن والابتلاء تتمثل في ضخامة الجهد الذي يبذله الأنبياء وضآلة الحصيلة فما آمن مع نوح إلا قليل.
تختم السورة (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) آية 69 ببيان جزاء الذين صبروا أمام المحن وجاهدوا بأنواع الجهاد النفسي والمالي ووقفوا في وجه المحنة والابتلاء.
لماذا سميّت السورة بـ (العنكبوت)؟: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) الآية 41 ضرب الله تعالى لنا هذا المثل ليدلنا على أن مثلما تتشابك وتتعدد خيوط العنكبوت التي ينسجها كذلك هي الفتن في هذه الحياة متعددة ومتشابكة لكن إذا استعان العبد بالله فإن هذه الفتن كلها تصبح واهية كبيت العنكبوت تماماً، كيف؟ لأن الدراسات العلمية أثبتت مؤخراً حقيقة علمية أن ذكر العنكبوت ما إن يلقّح الأنثى حتى تقضي عليه وتقطعه ثم إذا كبر صغار العنكبوت يقتلون أمهم فهو بحقّ من أوهن البيوت اجتماعياً. فسبحان الذي يضرب الأمثال وهو العليم الحكيم. ومثل العنكبوت هنا على عكس الأمثلة التي ضربها تعالى في النمل والنحل. فالنمل عبارة عن أمّة منظمة دقيقة رمز التفوق الحضاري، أما النحل فضربه الله تعالى لنا مثلاً أنها لما أطاعت خالقها أخرج من بطونها العسل، سبحانه ما أعظم خلقه وما أحكم تدبيره.
قال في أولها: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)) وفي آخرها قال (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)) يعني الفتنة من الجهاد. الجهاد هنا بمعناه العام وليس القتال وحتى في القرآن الجهاد معناه عام (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي (15) لقمان). هذا بحد ذاته نوع من الفتنة. يذكر (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) في مفتتح السورة ثم يفسر كيف تكون الفتنة في عملية الجهاد (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) اصبر اصبر (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
قال تعالى في أواخر القصص: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)) هذه نزلت في الهجرة والرسول r مهاجر، هو هاجر لأنه فُتِن هو وأصحابه، خرج مهاجراً من أثر الفتنة، وقال في آخرها (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)) وقال في أول العنكبوت (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)) الآن هو خرج مهاجراً من أثر الفتنة ولا يصدنك عن آيات الله من أثر الفتنة، (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)) كأن الخطاب كان موجهاً للنبي ثم عُمم على الجميع. في أول العنكبوت قال (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)) وذكر في أواخر القصص فتنة قارون إلى أن قال (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)) ذكر في القصص فتنة قارون وعاقبته وفي بداية العنكبوت قال (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)) كأنها إشارة إلى ما حدث قبل قليل في آخر سورة القصص.
قال في آخر العنكبوت: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)) وقال في أول الروم: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)) عاقبة المجاهدة النصر، المجاهِد يريد النصر وإن الله مع المحسنين (المعية) ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وعاقبة الجهاد النصر ينصر من يشاء هذه في بدر وإن ذكرنا (غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)) لأن انتصار الروم على الفرس حدث في وقت انتصار بدر، فذكر أمران، وعد بأمرين الروم هزموا الفرس (غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ) هذا الأمر الأول (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ). هو ذكر وعدين ودليلين علامتين من علامات النبوة في إشارة واحدة. قال في آخر العنكبوت (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)) وقال في الروم: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)) هو الذي خلق السموات والأرض وهو الذي ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض هو الخالق وهو المتصرف، هو خالقهما والمتصرف فيهما ينزّل ويحيي. قال في أواخر العنكبوت (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)) وفي الروم قال: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)) إحداهما في الروم والأخرى في العنكبوت. وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون – يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. في العنكبوت الخطاب لكل الناس وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ولكن أكثر الناس لا يعلمون كأنها إجابة على النقطة السابقة في سورة العنكبوت، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ولكن أكثر الناس لا يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
سؤال: هل لهذا الغرض وضعت الآيات والسور بهذا النسق في القرآن؟ لا نستطيع أن نقول إلا أنه توقيفي، توقيفي بمعنى أن جبريل هكذا قرأه على الرسول r و قرأه الرسول r على جبريل الذي كان يعارض الرسول r القرآن في كل رمضان مرة ومرتين في العام الذي توفي فيه ، قرأه الرسول r على جبريل مرتين بهذا النسق استفتح بالفاتحة ثم البقرة وآل عمران والنساء. فمن هذه الناحية الترتيب توقيفي يبقى الربط هذا اجتهاد يمكن أن يكون هنالك ما هو أفضل من هذا الاجتهاد والتعليل وأعمق مما نذكره نحن وأكرر أن هذا اجتهاد تعليل ولا شك أن هذا له حكمة قد يطلع عليها بعضهم أو لا يطلع (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ (83) النساء) ومما لا شك فيه أن الآيات القرآنية في ترتيبها وفي صياغتها وفي منطوقها فيها إعجاز بياني ظاهر كالقوانين الرياضية هذه حقيقة واضحة لمن له بصر في اللغة.
مقاصد السور
د. محمد عبد العزيز الخضيري
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
سورة القصص والعنكبوت
إطلالة على هذه السورة الكريمة سورة القصص. وهذه السورة سورة القصص هي الأخيرة من سور الطواسين والطواسين هي ثلاث سور الشعراء والنمل والقصص وقد ذكر المفسرون أنها نزلت متوالية يعني الشعراء ثم النمل ثم القصص. وفي سورة القصص واضح جدًا أن فيها بيان نصرة الله للمستضعفين ومكر الله بالمتكبرين وكيف أن الله عز وجلّ يديل هؤلاء المستضعفين إذا كانوا من المؤمنين على أولئك المستكبرين إذا كانوا من الكافرين. في أولها (طسم ﴿١﴾ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿٢﴾ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٣﴾ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴿٤﴾) بهذا العمل الذي عمله كان من المفسدين في الأرض. ما الذي دعا فرعون إلى التذبيح؟ يقال إن كاهنًا قال له إنه سيخرج من أمة بني إسرائيل المقيمة عندكم والذين كانوا يستعملون في السخرة والأعمال التي يحتاجها القبط في مصر سيخرج من بينهم رجل يكون ذهاب ملكك على يديه فأمر فرعون بأن يقتل الأبناء، ما يأتي ابن إلا ويقتل، فاستحرّ القتل في بني إسرائيل فاشتكى القبط قالوا إذا قتلتهم من ليل الخدمة فيما بعد فتدبر الأمر مع وزرائه واهتدى أن يقتل في سنة ويبقي في سنة فكان هارون ممن ولد في السنة التي يبقي فيها الأولاد وكان موسى ولد في السنة التي يذبح فيها الأولاد ولذلك خشيت أم موسى على موسى خشية عظيمة خصوصًا وأن الله عز وجلّ جعل لموسى مزية (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه: 39] ما رآه أحد إلا أحبه فكانت أمه قد تعلقت تعلق الأم بوليدها إضافة إلى محبة زائدة جعلها الله عز وجلّ لموسى لم يجعلها لغيره فكانت تخفيه من الذباحين وكان من حيلها في إخفائه أنها جعلته في تابوت وجعلته في اليم فإذا جاء الذباحون يبحثون عن الصبيان الذين ولدوا وضعته في التابوت ومدته في اليمّ من خلف البيت وكانت تفعل هذا مرارًا حتى إذا جاءت إحدى المرات انطلق التابوت في البحر وانفلت من الحبل ويذهب للبيت الذي كان يبحث عنه ليقتله، إذا جاء أمر الله لا راد له لا غالب لأمره ولا معقّب لحكمه، يريد الله أن ينقض ملكك سينقضه، فيأتي موسى يتهادى في تابوته حتى وصل إلى قصر فرعون وكان قصر فرعون على شفير النيل فأخذته الجواري ونظروا فإذا طفل في تابوت فجاؤوا به إلى امرأة فرعون فألقى الله محبته في قلبها فقالت إني أريد أن أتخذه ابنا ولذلك قال الله عز وجلّ (وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) ويقال أنه قال أما لك فنعم وأما لي فلا، (لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) انظر كيف إذا أراد الله أمرا وقدّره هيأ له أسبابًا لا تدخل ضمن تصورات البشر، كيف هذا الابن الصغير ينفلت ويذهب إلى العدو الذي كان يذبح الناس كلهم لأجله وكأن الله عز وجلّ يقول له: لن يربى هذا الإبن إلا في بيتك وتحت عينك ومن مالك ثم يكون هلاكك على يده، طبعًا هذا قول في قصة الذبح هل هي بسبب كاهن، قيل بسبب رؤيا وقيل أنه سمع بها من بني إسرائيل عن إبراهيم عليه السلام مما نقلوه من صحف إبراهيم أن بني إسرائيل سيكون لهم هذا الأمر إذا ذهبوا إلى مصر، والله أعلم ما السبب الذي دعا فرعون لذبح الناس بهذه الطريقة لكنه طغى وبغى وفعل شيئا لم يفعله أحد قبله وهو ذبح الأطفال الصغار بحجة أنه يخشى منهم إذا كبروا. فالله عز وجلّ يقول معقبا (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴿٥﴾ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴿٦﴾) الله أكبر! كأن هذه رسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستضعف بمكة يا محمد أنت الآن في حال من الضعف والضيق والاضطهاد والقلة والذلة لكن التمكين قادم ويؤكد هذا المعنى أنه في آخر السورة قال (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) قوله لرادك إلى معاد قال المفسرون لرادك إلى مكة التي خرجت منها كما أن الله مكن لموسى سيحصل أن الله يمكن لك حتى إن هؤلاء الذين سيخرجونك ستعود إليهم فاتحا قويا منتصرا فاثبت على دينك ولا يغرنك هؤلاء ويدعونك إلى شيء مما يريدونه منك. وقصة موسى في هذه السورة جاءت بشيء لم تأتي به أي سورة أخرى من مشاهد قصة موسى عليه السلام فقضية ماذا فعلت أمه وكيف وصل إلى بيت فرعون وكيف رجع إلى بيت أم موسى هذه لم ترد إلا في هذه القصة، وردت إشارة يسيرة لها في سورة طه وهنا جاءت التفاصيل ومن عجائب هذه التفاصيل أن الله قال (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي) لا تتخوفي من أمر المستقبل ولا تحزني على أمر فائت، لا تقلقي فإنه في معية الله (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) سنرده إليك ونجعله رسولا (فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴿٨﴾) وليسوا مخطيئن لأن المخطئ من يفعل الذنب عن غير قصد. (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٠﴾ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) فارغا أي قد خلا من كل شيء إلا من ذكر موسى ما تفكر في شيء في هذه الدنيا كلها إلا في موسى: ماذا حصل له؟ اين هو؟ ماذا صنع الله به؟ قال الله عز وجلّ (إن كادت) من شدة تعلقها وتفكيرها به (لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٠﴾ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) قالت لأخته تتبعي أثره (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أي عن بعد (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) هم لا يرون أنها تبحث عنه. ومن عجيب صنع الله أنه حرّم عليه المراضع جاؤوا له بالمراضع وهو يبكي يريد الحليب قالوا اعرضوه على الناس ذهبوا به إلى السوق من عنده مرضع فليأت بها جاء الناس يريدون القرب من فرعون وخدمته، عشرين من المراضع أغلق الله فمه عنهن جميعا (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) فجاءت أخت موسى فقالت (فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) قالوا ما يدريك عن هذا؟ قالت إنهم يرغبون في خدمة الملك، فتخلصت منهم بحيلة فقالوا هات هذه المرضع فنادت أمها فجاءت فلما لقمته ثديها أخذ يرضع فقالوا انتقلي معنا إلى قصر فرعون فقالت عندي صبيان وزوج لا أستطيع أن أترك بيتي فلو أنكم جعلتم الصبي عندي لرعيته لكم وقمت بحقه وهذا من حق الملك علينا فقالوا يبقى عندك ويجري الأجر لك وأنت في بيتك. قبل ساعات كانت في أشد الخوف وما تدري ماذا سيكون مصير ابنها وفي هذه اللحظة أمان، ابنها عندها ورزق وجاه، الآن هي مرضعة ابن الملك كل من عنده مشكلة جاءها وقال يا فلانة توسطي لنا عند فرعون يصنعون لنا كذا. انظر تدبير المرأة أنها وضعته في تابوت تمده قليلا وترده وترضعه وهي خائفة عليها وتدبير الله مختلف تماما ينطلق إلى الخوف الذي يظن أنه هلاك يعود سالما ناجيا غانما مباركا على أهله وقد حصل له الأمن ولأهله المال والجاه، أيّ تدبير هذا؟! هذا ما يكون إلا عند الله سبحانه وتعالى جل في علاه. قال الله عز وجلّ (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿١٣﴾ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿١٤﴾) اكتمل. قال الله (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) هو أصلا يعيش في بيت فرعون وكان بيت فرعون على عادة الملوك في ناحية المدينة فدخل موسى وهو صاحب الجاه والمنزلة يتمشى في الشوارع فوجد رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من القبط (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) موسى كان قويًا جلدًا أضف إلى ما في قلبه من العداوة والبغض لهؤلاء القبط الذين كانوا كفارا بالله عز وجلّ (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ﴿١٥﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿١٦﴾) استغفر في نفس اللحظة وهذا ما يجب على الإنسان إذا وقع في الذنب والمعصية أن لا يؤجل الاستغفار إلى وقت آخر. (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴿١٧﴾) لن أعين مجرمًا وهذا العهد أُكد في آخر السورة لكن على لسان النبي صلى الله عليه وسلم (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ﴿٨٦﴾ القصص) لا تكن معينا لهم. (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) لأنه قتل قبطيا (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) الذي استعان به بالأمس استعان يقول يا موسى هذا آخر يريد أن يؤذيني (قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) قال القبطي يا موسى أتريد أن تقتلني أو قال الإسرائيلي الذي لما جاء موسى وهو غاضب عليه يقول ما لك أنت تريد أن تفتح علينا باب شر ظن الإسرائيلي أنه سيقتله كما قتلت القبطي بالأمس فهو الذي أفشى الشر وكشف المستور (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴿١٩﴾) بعد ذلك علم موسى أن القوم يخططون لقتله فخرج فارًّا من غير أن يكون مستعدا إلى جزيرة العرب فخرج من مصر ومشى وصل رأس العقبة سيناء إلى أرض مدين وهي منطقة حقل وما حولها وفيها بعث النبي شعيب وكان متقدما جدا وليس في عهد موسى عليه السلام. (عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) انظروا الاستعانة بالله أول ما خرج قال (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ولما توجه تلقاء مدين قال (عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ).
(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) جماعة من الناس (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ) تذودان أغنامهما لئلا تختلط بأغنام الناس قال ما شأنكما تنحيتما بعيدا؟ (قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) حتى يذهب الناس والرعاة لأنه لا طاقة لنا بمزاحمتهما كوننا ضعيفتين وكوننا امرأتين (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) الذي حملنا على أن نتولى هذه المهمة أن أبانا شيخ كبير وإلا فالأصل أننا لا نقوم بهذا الدور الذي يقوم به الرجال. ومن دون مقدمات قدم موسى الخير لهما مباشرة (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) وسأل الله ولم يسأل الفتاتين (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) فجاءت الإجابة من الله مباشرة (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) كأنها من شدة الاستحياء قد ركبت عليه. (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هذه المنطقة لا تقع تحت حكم فرعون. (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴿٢٦﴾) يقال أنه قيل لها كيف عرفت أنه القوي الأمين؟ قالت أما قوته فكونه كشف غطاء البئر وحده وسقى لهما وأما أمانته فلما ذهبت إليه وأردت أن أدله على البيت قال امشِ ورائي ولا تمشي أمامي فإني رجل عبراني لا أنظر إلى أدبار النساء فكانت تدله على بيت أهلها بالصوت (لف يمين، لف يسار) وما تقدمت عليه من أجل أن تدله على البيت، هو الآن في حال معذور لو لم يفعل شيئا من ذلك لكن هذه هي التقوى التي تلازم الإنسان وتصاحبه في كل أحواله. قال (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) يقول هذا الشيخ الكبير، من هو هذا الشيخ؟ كثير من الناس يقول هذا شعيب ، هذا غير صحيح ولا يمكن لأن شعيب متقدم جدا، شعيب جاء بعد لوط بعد إبراهيم عليه السلام والآن زمن موسى يعني بعد مئات السنين، لا يمكن أن يكون شعيب، إنما هو رجل صالح في مدين والذي جعل الناس يقولون أنه شعيب أنه من مدين لكن ليس كل صالح في مدين هو شعيب! مدين فيها أناس آخرين صالحين ولو كان شعيب لصرّح الله به لأن هذا شرف له وشرف لموسى أن يكون صهرا لنبي ولم يذكر أن موسى تزوج ابنة نبي وإنما تزوج ابنة هذا الرجل الصالح الذي قال ابن عباس أن اسمه يثرون وقيل يثرى ولم يروى أنه شعيب إلا عن الحسن ثم اشتهر عند المتأخرين والصحيح أنه ليس شعيبا ولا ينبغي أن يكون شعيبا. المهر ثمان سنوات قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿٢٧﴾) البعض قد يقول هذا مهر غالي يشتغل ثماني عشر سنوات فقط لأجل أن يتزوج ابنته! هذا ليس زواجًا فقط، هذا سكن، كفالة كاملة وموسى في خفارة شعيب وذمته فهو لا يستطيع البقاء في مدين وهو غريب عنهم، فقد يؤسر وقد يُسترق ولكن كونه في حمى هذا الرجل الصالح جعل هذا المهر أضف إلى ذلك أن النساء ترتفع مهورهن وتنخفض بحسب كثرتهن وقلتهن بحسب العرض والطلب، إذا قل عددهن ارتفعت مهورهن وإذا كثر النساء صار الناس يريدون تزويج بناتهن بأي ثمن. (قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴿٢٨﴾ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ) لا يليق بموسى إلا أن يقضي عشر سنوات لأنه كامل الأخلاق عظيم المروءة فلا يليق به إلا الفعل الطيب والإحسان الذي يحبه الله من عباده المحسنين.
ثم جاءت قصة تكليف موسى بالرسالة وما وراء ذلك إلى آخر السورة حيث ذكر الله فيها قصة أخرى في نفس الموضوع العلو في الأرض وذهاب هؤلاء المستكبرين (إِنَّ قَارُونَ) أولئك من القبط وقارون من بي إسرائيل ليس من القبط، وقارون آتاه الله مالًا عظيما حتى ذكر الله (وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) لو هناك عصبة من الرجال أصحاب قوة يثقل عليهم حمل مفاتيح خزائن قارون، المفاتيح فقط حملها يثقل على العصبة أولو القوة من كثرة ماله. هذا المال الكثير أصابه بالطغيان والجبروت حتى إنه قال (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) هذا بذكائي وتخطيطي وحسن تدبري (أ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴿٧٨﴾ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿٧٩﴾) يا أيها المسلمون المستضعفون في مكة لا يغرنّكم ما عليه الكفار من ملك ونعيم وتمكن وملك وسلطان فالله عز وجلّ قريبا ما يعذبهم ويسلبهم النعمة قال الله عز وجلّ (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴿٨٠﴾ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴿٨١﴾ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴿٨٢﴾ تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿٨٣﴾). السورة تدور حول تمكين المستضعفين من المؤمنين وإهلاك المستكبرين حتى ولو كانت أصولهم إسلامية يهلكهم الله، هذا ما تدور حوله سورة القصص ولذلك هي سورة عظيمة ومعبرة عن هذا المعنى بوضوح.
سورة العنكبوت
ننتقل إلى سورة العنكبوت. سورة العنكبوت سميت بذلك لأن الله عز وجلّ ذكر فيها هذه الحشرة وهي العنكبوت وافتتحت بقوله (الم ﴿١﴾ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴿٢﴾) هذه الافتتاحية مغايرة لافتتاحيات كل السور الـ 29 التي افتتحها الله بالحروف المقطعة، الغالب أنه إذا افتتحت سورة بالحروف المقطعة أن يُذكر بعدها القرآن (الم ذلك الكتاب) (ص والقرآن ذي الذكر) هنا ما جاء ذكر القرآن لا في هذه السورة ولا في سورة الروم فهما مستثنيتان من السور الـ 29 التي افتتحت بالحروف المقطعة من سور القرآن.
تتحدث هذه السورة أن هذا الدين بعقائده وشرائعه لا يأخذه إنسان إلا ولا بد أن يبتلى لينظر الله من هو الصادق في أخذه ومن هو الكاذب وأن المسألة ليست هينة لن يكون تمكين إلا بصبر ولا يكون صبر إلا أن يكون ببلاء. قال الله عز وجلّ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴿٢﴾) وذكر الله عز وجلّ أن (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) يرى أن العذاب الذي يأتيه أو الطرد والإبعاد أو الهجرة من بلده أو أخذ ماله أو حبسه مثل عذاب الله لذلك مستعد أن يضحي بهذا الدين قال الله عز وجلّ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴿١٠﴾ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴿١١﴾).
ثم ذكر قصة نوح وقصة إبراهيم وقصة لوط ثم عرّج على بعض الأمم التي ذكرت كيف أن الله ابتلاهم وفتنهم، في قصة نوح (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴿١٤﴾) وهو صابر يدعو ويجاهد ويرابط، اصبر أنت يا عبد الله، مهما صبرت لن تبلغ عشر معشار ما حصل لنوح من الأذى والشدّة وطول الزمان.
ثم ختمت السورة ببيان أن من صبر وصابر فإن الله لا بد أن يمكّنه ويهديه قال الله عز وجلّ (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴿٥٦﴾ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴿٥٧﴾ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴿٥٨﴾ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿٥٩﴾) ثم في آخر السورة قال الله عز وجلّ (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴿٦٩﴾) فعلينا أن نجاهد ونثبت ونصبر ليهدينا الله عز وجلّ الطريق الأقوم والسبيل الهادي وإن الله لمع المحسنين.
سورة العنكبوت مكية وموضوعها العقيدة في أصولها الكبرى الوحدانية الرسالة البعث والجزاء ومحور السورة الكريمة يدور حول الإيمان وسنّة الابتلاء في هذه الحياة لأن المسلمين في مكة كانوا في أقسى أنواع المحنة والشدة ولهذا جاء الحديث عن موضوع الفتنة والابتلاء في هذه السورة مطولا مفصلا وبوجه خاص عند ذكر قصص الأنبياء.
يقول سيد قطب في الظلال: “والسورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام. إنها تبدأ بعد الحروف المقطعة بالحديث عن الإيمان والفتنة وعن تكاليف الإيمان الحقة التي تكشف عن معدنه في النفوس. فليس الإيمان كلمة تقال باللسان ، إنما هو الصبر على المكاره والتكاليف في طريق هذه الكلمة المحفوفة بالمكاره والتكاليف.”
ومن تأملي لآيات السورة سجّلت هذه الوقفات:
1. السورة من بدايته إلى نهايتها تتحدث عن أمور كلها تستدعي جهادًا فقد افتتحت بالحديث عن فتنة الناس في حياتهم الدنيا وهذه الحياة والفتن تستوجب جهادًا للنفس لجعلها طائعة لأوامر الله تعالى سائرة على شرعه متجنبة لنواهيه في كل أمور الحياة الدنيا (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴿٢﴾ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴿٣﴾) وتكرر في السورة ذكر (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) والإيمان والعمل الصالح لا يأتيان إلا بمجاهدة عظيمة للنفس على مدار العمر كله فلو فتر العبد في إيمانه وتوقف عن الاستزادة منه ومن الصالحات فقد يفتتن وينحرف عن الصراط المستقيم.
2. وذكرت السورة الوصية بالوالدين (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٨﴾) والإحسان للوالدين يحتاج جهادًا للنفس وصبرًا للقيام بحقوقهما والبر بهما حتى لو جاهداك على الإشراك بالله تعالى فيبقى حقهما البرّ والإحسان إليهما مع عدم طاعتهما فيما لا يرضي الله تعالى.
3. وخصّت هذه السورة تحديدًا بذكر تفصيل في قصة نوح لم يرد في القرآن إلا فيها وهو مدة لبثه في قومه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴿١٤﴾) وهذه المدة الطويلة إن لم تكن رمزًا للجهاد فماذا تكون؟ فما أعظم تناسب آيات القرآن مع مقصد السورة التي وردت فيها!
4. ولعل من تناسب تسمية السورة بالعنكبوت وذكر مثل العنكبوت فيها مع موضوع الجهاد والله أعلم أن حركة العنكبوت في نسخ بيتها هي حركة مستمرة تحتاج لجهد وصبر حتى تستكمله ولو تأملنا عنكبوتًا وهي تنسج بيتها لعرفنا معنى الجهد المبذل والحركة المستمرة للحصول على ما تريده في النهاية ولكن هذا الجهد والتعب كله يذهب بأدنى حركة فيصبح واهيًا وهذا لمثل الذي ضُرب في الآية ينبغي أن يكون تنبيهًا لكل من يجاهد طول عمره في الباطل فهو على رغم حركته وجهده الدائم إلا أنه في النهاية سيكون هذا جهده وجهاده في باطل واهي لا يثبت أمام عظمة الحق وسطوعه وثباته.
5. وذكر في السورة (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴿٤٥﴾) فتلاوة القرآن وإقامة الصلاة ما هي إلا جهاد للنفس وهي تحتاج للصبر خاصة أن هذه الصلاة ينبغي أن تنهى عن الفحشاء والمنكر ولهذا لا بد أن يكون جهاد النفس فيها أصعب والصبر أشدّ فهذه ليست صلاة تأدية حركات خالية من معانيها وخشوعها.
6. وورد في السورة أن أرض الله واسعة (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴿٥٦﴾) فكل من يؤذى في سبيل الله في مكان ما عيله أن يجاهد في سعيه لإعلاء كلمة الحق فإن ضاقت عليه أرض ما فأرض الله واسعة والهجرة هي من أكثر ما يظهر فيه الجهاد لأنه يحتاج إلى قوة إيمان وثبات وعقيدة وصبر على ما يلاقيه المجاهد في سبيل الله من عقبات. ولعله من التناسب في السورة مع مقصد الجهاد قوله تعالى (فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٢٦﴾) هذه الجزئية من قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام لم ترد إلا في هذه السورة (إني مهاجر).
7. وورد في السورة الدعوة لعدم مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴿٤٦﴾) وهذه أيضًا تحتاج لجهاد للنفس لتحمل أذى سماع افتراتهم وشبهاتهم ثم الصبر على مجادلتهم بالحق وبالتي هي أحسن وهذه أشق على النفس خاصة مع المعارضين.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
#رمضان_١٤٤٢
#وقفات_تدبرية
#الجزء_٢١
“لله الأمر من قبل ومن بعد، وعده صدق ونصره قادم، وتبديل الحال من سنن الله في الكون”
سورة العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة من أسرة (الم) ٤ سور مكية متتالية تليها سورة الأحزاب سورة مدنية يربطها موضوع واحد: لن يخلف الله وعده بالنصر فكن على يقين بتدبير الله العظيم واعرف قدرته واخضع له واصدق في طاعتك له لا تستعجل تدبيره وانتظر فالحكيم يدبر بلطف ليتحقق وعده في الأجل الذي حدده له تماما.
السورة المكية الأربعة تبني عقيدة اليقين بصدق وعد الله وسورة الأحزاب المدنية تمتحن الأمة،
والعبد أمام وعد الله على حالين:
إما واثق بصدق الوعد (هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما)
وإما مكذّب بصدق الوعد (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا)
🔸سورة العنكبوت: استعجال العذاب (يستعجلونك) واستعجال النجاة (دعوا الله مخلصين له الدين) وعدم استقرار العبد على حال
بيت المسلم و بيت العنكبوت معجزة علمية!!
– بيت المسلم بيت قوي العلاقات , فهو بيت أسس على كتاب الله عز وجل , وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , بيت تسوده تقوى الله عز وجل ورضوانه , والاحتكام الدائم والمستمر فيه عند الخلاف إلى شرع الله عز وجل مصداقاً لقوله تعالى: ( فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ) النساء 59.
– بيت المسلم بيت فيه الصغير مرحوم ومحاط بالرعاية والعنايه والحب والعطف , والكبير فيه موقر محترم , بيت يتردد في جنباته قوله تعالى : ( وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيرا ) الإسراء 24.
– بيت المسلم بيت كل فرد فيه يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) الحشر9.
– بيت المسلم بيت لاتقوم العلاقات فيه على المصالح الماديه الدنيويه فقط , فالعلاقات فيه علاقات قوية تسودها المودة والرحمه ولين الجانب والكلمة الطيبه .
– بيت المسلم للزوج فيه كل تقدير واحترام, سواء أكان غنياً أو فقيراً , صحيحاً أو مريضاً, شاباً أو شيخاً كبيرا, فالقوامه له طواعية وبرضى , وهو باني البيت ومؤسسه وحاميه, والمسئول عن وقاية زوجته وأبنائه من الهلاك في الدنيا والآخره ( يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجاره عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) التحريم 6.
– بيت المسلم للزوجه فيه مكانتها العالية التي لاتدانيها مكانة أخرى , والجنه تحت أقدامها قال تعالى: ( وعاشروهن بالمعروف ) النساء 19, وقال الرجل : ( يا رسول الله من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك, قال: ثم من ؟ قال أمك, قال ثم من ؟ قال أمك ) رواه البخاري ومسلم .
بيت المسلم للزوجة فيه من الحقوق الزوجية مثل حقوق الزوج قال تعالى : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) البقرة 228 , قال الدكتور وهبة الزحيلي حفظه الله في التفسير المنير : للنساء من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن , مثل حسن الصحبة , والمعاشرة بالمعروف , وترك المضارة , واتقاء كل منهما الله في الآخر , وتزيين كل منهما للآخر , قال ابن عباس : ( إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي ) رواه ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم .
– بيت المسلم بيت حمى الله سبحانه وتعالى فيه الآباء حتى من كلمات التأفف البسيطه قال تعالى ( فلاتقل لهما أفٌ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما ) الإسراء 23.
– بيت المسلم بيت كرم وضيافه وجيره حسنه مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه , ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ) رواه البخاري ومسلم.
– بيت المسلم بيت يحافظ أهله على الحيوان ويرفقون به , فالصحابه ( قالوا: يارسول الله إن لنا في البهائم أجراً ؟ قال: في كل كبد رطبة أجرا ) رواه البخاري ومسلم, ( عذبت امرأه في هره ( أي قطة ) حبستها حتى ماتت جوعاً فدخلت فيها النار ) رواه البخاري ومسلم.
– بيت المسلم بيت لاظلم فيه ولا استغلال ولا وشايه ولا تجسس ( المسلم أخو المسلم لايظلمه ولايسلمه ) رواه البخاري ومسلم.
– بيت المسلم بيت متماسك متعاون ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) رواه البخاري ومسلم.
– بيت المسلم بيت يحرم على أهله الاغتصاب ( فمن ظلم قيد شبر من الأرض طوقه الله به سبع أرضين ) رواه البخاري ومسلم.
– بيت المسلم بيت لكل فرد فيه صغيراً كان أم كبيرا حقوقه الشرعيه في الميراث كما أمر الله , دون ظلم أو اجحاف أو طمع أو تبديل أو قسمة على غير ما أراد الله مصداقاً لقوله تعالى : ( للرجال نصيبٌ مما ترك الوالدآن والأقربون وللنساء نصيبٌ مما ترك الوالدآن والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضا ) النساء 7.
هذا يا أخي المسلم ويا أختي المسلمه بيت المسلم الذي نود أن تأسسا بيتكما على منواله ومنهاجه وسيرته العطره.
أما بيت العنكبوت:
فأضعف بيت , بيت غابت منه الموده والرحمه : فالأنثى تأكل الذكر عقب التلقيح والسفاد , والأبناء يأكلون أمهم بعد اشتداد عودهم, ويهرب منه الذكر خوفاً على حياته.
– بيت العنكبوت: بيت يقوم على المصالح والمنافع الماديه الدنيويه المؤقته , فإذا انتفت المصالح, وانتهت المنافع , فأسوأ علاقة فيه بعد ذلك , فالأنثى تغازل الذكر وتغريه وترحب به وتتزين له عندما تحتاج إلى سفاده فقط , وتحاول القضاء عليه بعد ذلك , فيهرب الذكر حفاظاً على حياته من افتراس الأنثى وفكوكها القاتله والسامه . وهذا مثال للمرأة التى تتزوج الرجل من أجل الشقه والفيلا والبيت والمال والسفاد , فإذا تمكنت منه, واستولت على أوراقه, وحصلت على توقيعاته , وثبتت مظالمها وأشبعت رغباتها أو حصلت على من يشبعها أكثر , طردت الرجل من البيت وأرهقته في المحاكم , وإذا مرض الرجل أو ضعف فلا مكان له على سريرها وبين أحضانها وفي كنفها وتحت رعايتها , إنها الأرملة السوداء ( نوع من إناث العناكب) في عالم العناكب العجيب.
إعداد موقع إسلاميات
قال الله تعالى (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا) [الكهف:24]
وقال تعالى في سورة القصص (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) [القصص:22]
بين الآيتين اختلافان:
كلمة (يهدين) رسمت في آية سورة الكهف بحذف ياء المتكلم ورسمت في آية سورة القصص بإثبات ياء المتكلم
تقديم وتأخير لفظة (ربي)
ذكر د. سامح القليني قاعدة في الذكر والحذف في الكلمة القرآنية:
في سورة الكهف (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَايْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ﴿٢٣﴾ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا) يهدين بالكسرة وحذفت الياء منها وتأخرت كلمة (ربي) عن فعل الهداية. الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم (ولا تقولن – وقُل)
في سورة القصص لما خرج موسى يترقب بعد قتل الرجل (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) كلمة يهديني رسمت بإثبات الياء وقدّمت كلمة (ربي) على فعل الهداية
ارتباط الرسم بإعجاز النظم:
آية سورة الكهف (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَايْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ﴿٢٣﴾ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) السياق في الحديث عن أمر غيبي
ومن قواعد حذف حرف الياء أو الألف أو الواو من الكلمة القرآنية:
– إذا كان الحدث خفيفًا
– إذا كان الحدث سريعًا
– لو كان الحدث غيبي غير مرئي، ملكوتي
آية سورة الكهف السياق في الحديث عن أمر غيبي (ولا تقولن لشايء) ففي الأمر الغيبي تحذف الياء، كل هداية غيبية تحذف الياء.
فالقاعدة: إذا كانت الكلمة تتعلق بأمر غيبي (غيبي ملكوتي لأنه قد يكون هناك غيب أرضي) أو ملكوتي (كما يطلق عليه العلماء في علم الملكوت، الوحي، الملائكة،..) أو تشريفي يطرأ حذف الألف أو الياء أو الواو من الفعل.
حذف وإثبات الياء في فعل الهداية
(وقل عسى ربي أن يهدينِ) أمر غيبي، يهديني علم الوحي فحذفت الياء من الفعل.
أما في آية سورة القصص موسى عليه السلام خرج خائفًا يترقب وهو لا يعلم الطريق فسأل الله عز وجلّ أن يهديه الطريق المادي الذي يوصله إلى مكان آمن فرسمت الكلمة بالياء (يهديني) فسواء السبيل هنا ليس مقصودًا بها طريق الطاعة وإنما الطريق الموصل إلى مدين. إذن في طلب الهداية المادية تثبت الياء وفي طلب الهداية الغيبية تحذف الياء.
تقديم وتأخير ربي بين الآيتين:
في آية سورة القصص موسى عليه السلام خرج من المدينة خائفًا يترقب والخائف يحتاج للسند فقدّم لفظ (ربي) على طلب الهداية ويثبت ضمير المتكلم الياء في فعل الهداية (يهديني) ليؤكد أنه هو الذي يحتاج للهداية من ربه حتى يصل إلى المكان الآمن. فإثبات الياء لأن الهداية التي طلبها من ربه هداية مادية ولإثبات خصوصيته أنه هو الذي يحتاج لهذه الهداية.
أما في سورة الكهف فالسياق في طلب هداية الوحي فقدّم الهداية على لفظ (ربي) .
التفسير المباشر – رمضان 1431 هـ – سورة العنكبوت
لحلقة 29
ضيف البرنامج في حلقته رقم (123) يوم الأربعاء 29 رمضان 1431هـ هو فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن يحيى صواب الأستاذ المشارك بكلية الآداب بجامعة صنعاء باليمن .
وموضوع الحلقة هو :
– علوم سورة العنكبوت .
– الإجابة عن أسئلة المشاهدين حول السورة وحول الجزء التاسع والعشرين من القرآن الكريم .
—————————-
سورة العنكبوت
إسم السورة
د. صالح: هذه هي سورة العنكبوت كما هو واضح، وهذا الإسم هو الإسم المشهور لهذه السورة ولا يكاد يعرف لها إسم غير هذا الإسم. بل حتى وقت نزول السورة كما جاء في بعض الروايات كما هو موي عن عكرمة رحمه الله أن المشركين كانوا يستهزئون فيقولون سورة النمل وسورة العنكبوت فكانوا يستهزئون بهذا الإسم وهذا في الحقيقة ليس بغريب عند العرب أن يضرب مثل بأي شيء من الأشياء ولكنه من باب الاستهزاء ومن باب الإنكار ولا يعرف لهذه السورة إسم آخر غير هذا الإسم وكما قلنا كان مشهورًأ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. غير أنه يمكن أن يقال لها “حم أحسب” كما يقال في سورة السجدة “الم تنزيل” تسمى بأولها ولكن هذا هو الإسم المشهور.
وقت نزول السورة:
د. صالح: هذه السورة هي من السور المكية عند جمهور العلماء وإن كان هناك قول يروى عن ابن عباس أنها مدنية ولكن الصحيح أنها مكية لكن يلاحظ أن هذه السورة ربما ظهر فيها طابع السور المدنية وذلك أنها كانت من أواخر ما نزل بمكة حتى أن بعض العلماء يقول أن ترتيبها 84 من ضمن 85 سورة نزلت في مكة ولم ينزل بعدها إلا سورة المطففين. هي من السور المكية على الصحيح والحديث فيها عن الأصنام وعبادة الأصنام وحديث عن المشركين وعن أوليائهم وطبعًا وكان هذا الإسم بارز في قول الله عز وجل (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)). والإشارة إلى بيت العنكبوت هنا مهم جدًا فهو تشبيه للأويلاء الذي اتُخذوا من دون الله عز وجل فهناك عنكبوت اتخذت بيتًا واهنًا وهناك مشركون اتخذوا آلهة فمنفعة هذه الآلهة لهؤلاء المشركين كمنفعة هذا البيت الذي لا يمكن أن يقيه فهو مجرد خيوط وإن كانت حقيقة كما يقول بعض العلماء أنها خطوط قوية ولذلك أشير إلى مسألة ربما تجرأ بعض الناس وقال إن البيت هنا ليس المراد به البيت الذي هو خيوط العنكبوت وإنما المراد به البيت الاجتماعي لبيئة العنكبوت ذلك لأن خيوط العنكبوت خيوط قوية ونحن نقول حتى وإن كانت قوية فالبيت يبقى هشًّا ولا تحميها من أن يدهشسها إنسان أو يصبيها حجر أو نحو ذلك. ثم إن قوله إتخذت بيتًا لا يعني أنه بيت اجتماعي وإنما بيت للسكنى بنته هذا هو مثل المشركين وقد جاء التشنيع على المشركين في هذه السورة في مواطن كثيرة كما في قول الله عز وجل (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا (17)) بيّن أن هذه الأصنام التي كان قوم إبراهيم يعظمونها أنها مجرد أوثان وهذا فيه تهوين لأمرها وهكاذ أيضًا ما اتخذه المشركين أولياء لا يعتمد عليها إلا كما يعتمد على بيت العنكبوت وهو أوهن البيوت.
د. عبد الرحمن: هذه فيها عدة تساؤلات في قضية العنكبوت أولًا، ما هي العنكبوت؟
د. صالح: هي حشرة من الحشرات المعروفة
د. عبد الرحمن: ماذا تسمونها عندكم في اليمن؟
د. صالح: العنكبوت
د. عبد الرحمن: ما لها إسم آخر؟ تسمى عندنا في اللهجة الشعبية “البشبشانة” لكنها معروفة عند الناس أنها تبني بيوتها وأنا قرأت البحث الذي ذكرته وهو يتحدث عن الإعجاز العلمي في بيت العنكبوت قال إن البيت الذي تبنيه العنكبوت هو بيت قوي ولكن الواقع يخالف ذلك ولكن أنت تستطيع بإصبعك أن تهدم بيت العنكبوت بسهولة
د. صواب: هو يتحدث عن الخيوط التي تنتجها وقال أنها قوية ولكن كما قلت كبيت هو في غاية الوهن.
د. عبد الرحمن: ذكر أن أنثى العنكبوت تقتل الذكر
د. صواب: نعم وهذا يدل على أن البيت بيت غير متماسك متفكك ولكن كما قلت وهذا مهم في الدراسات القرآنية والإعجاز العلمي أن ننظر إلى الآية بجميع جوانبها وجميع ألفاظها فقوله (كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا) هذا يدل على أنها بنت هذا البيت وهذا الذي فهمه السلف رحمهم الله تعالى.
د. عبد الرحمن: في سورة النمل كنت رجعت إلى كتاب “الجواهر في تفسير القرآن” للطنطاوي جوهري رحمه الله وكان مولعًا بتتبع التفسير العلمي في ذلك الوقت وهو كان قبل 98 سنة رحمه الله، في سورة العنكبوت وسورة النمل تحدث وأطال في خصائص العنكبوت وكيف تبني بيتها وأنواع العنكبوت لكن من الأشياء الأساسية في الموضوع الفرق بين النمل والعنكبوت أن النمل لا يعيش إلا في قرى وفي جماعات منظمة ومثله مثل النحل أما العنكبوت فليس لها هذا أبدًا بل هي فعلًا بيتها هو أوهن البيوت وهي لا تعيش إلا مفردة وبيتها من حيث البناء ضعيف وحتى من الناحية الاجتماعية ثبت عندهم أنه ضعيف. أما تفسير الآية فالمقصود به البيت الذي تبنيه. نأتي عند نقطة أخرى وهي وقت نزولها ذكرت أنها في أواخر العهد المكي لفت نظري هنا في سورة العنكبوت قصة نوح آخر سورة أشير فيها إلى قصة نوح هي في سورة العنكبوت وردت فيها هذه الآيتين في قوله سبحانه وتعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (15)) ربطت بين أن كون سورة العنكبوت من آخر السور نزولًا في مكة وبين هذه المعلومة المهمة التي ما ذكرها الله عن نوح في أي موضع من القرآن الكريم
موضوع السورة
د. صالح: هذه المعلومة التي هي لبث نوح في قومه لها علاقة جدًا بموضوع سورة العنكبوت. موضوع سورة العنكبوت هو موضوع الابتلاء (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)) ودعني قبل ذلك أشير إلى ما قبلها من سورة القصص وهي الآية الأخيرة من سورة القصص (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)) ولا تدعو مع الله إلهًا آخر إذا أنت سرت على هذا المبدأ وتمسكت بهذا المنهج فإنه لا بد أن تبتلى ولا بد لك من الصبر فجاءت هذه السورة لتتحدث عن الابتلاء وهذا هو الموضوع البارز في هذه السورة ولذلك افتتحت بقول الله عز وجل (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)). تعال إلى نماذج الابتلاء، هذا نوح عليه السلام لبث في قومه 950 عام (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)) فهناك علاقة بين موضوع السورة وبين هذه المعلومة التي ذكرت عن نوح عليه السلام. إذن تكذيب دام لمدة 950 سنة لا شك هذا نوع من الابتلاء. ثم لاحظ تقدم قصة إبراهيم وتأخر الإشارة إلى قصة عاد وثمود مع أن إبراهيم كان متأخرًا عنهم في الزمن وكثيرًا ما يأتي في القرآن قصة نوح عليه السلام ثم قصة هود عليه السلام ثم قصة صالح فلماذا قدّمت قصة إبراهيم هنا؟ لأن أيضًا الابتلاء كان ظاهرًا في قصة إبراهيم (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ (24)) وهذا غاية الابتلاء أن يرمى به في النار فهذا هو غاية الابتلاء. ثم جاءت الإشارات بعد ذلك. قبل الحديث عن نوح عليه السلام هناك ابتلاء من نوع آخر ابتلاء من الوالدين ولذلك لاحظ أنه قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8))، ما علاقة (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ (3)) و (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ)؟ لأن فيها (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فذكر الابتلاء (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) إذن هناك ابتلاء من قبل الوالدين وهذه الآية نزلت في عدد من الصحابة وكان منهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أمه امتنعت عن الطعام والشراب وصممت على أن تموت حتى يعود إلى دينه الذي كان عليه لكنه صمم ونزلت الآية لتقول لا، طاعة الوالدين واجبة ومصاحبتهما بالمعروف واجبة حتى وإن كانا مشركين ولكن لا طاعة لهما في معصية الله عز وجل وفي الشرك بالله سبحانه وتعالى فتجد أن السورة تتحدث عن الابتلاء، والحقيقة لا بد أن نشير إلى هذه القاعدة وهذه المسألة المهمة وهي أن الابتلاء في طريق الدعوة إلى الله وفي طريق الإيمان بالله هو سُنة من سنن الله عز وجل يقول الله سبحانه وتعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (214) البقرة) – وفي قرآءة نافع حتى يقولُ الرسول- فتصور ابتلاء وزلزلة حتى أن الرسول من الرسل يقول متى نصر الله؟ هو ومن معه ينتظرون وهذا يدل على الشدة التي وصلوا إليها فلا يمكن أن تدخلوا الجنة إلا بمثل هذا (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) آل عمران) وهذا ما كان للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهذا ما كان لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أنت تصور النبي صلى الله عليه وسلم سيد البشرية على الإطلاق ومع ذلك يؤذى ويتآمر على قتله ويوضع السلا على ظهره وهو يصلي ويوضع الشوك في طريقه وتشج وجنته وتكسر رباعيته ويعاني كل هذه المعاناة! ولما خرج صلى الله عليه وآله وسلم تصور قائد الأمة قائد البشرية لما خرج إلى الطائف ماذا يصنع به؟ يؤمر السفهاء من الأطفال بأن يرمى بالحجارة حتى تدمى عقباه ويسيل الدم منه صلى الله عليه وسلم! كثير من الناس اليوم تغير عنده مفهوم الابتلاء وأصبح الابتلاء مسألة طارئة في حياة المؤمن وليس هذا بصحيح إنظر إلى سلف الأمة من بعض الصحابة رضي الله عنهم وقد ابتلي صهيب وعمار وبلال وسلمان وغيرهم وبعضهم قتل وسمية رضي الله عنها أول شهيدة في الإسلام من أجل دينها. لكن حتى العلماء البارزون المصلحون في هذه الأمة لو أن عالمًا من أعلام الأمة أُخذ إلى السجن لأصبحت مسألة غريبة! لكن الإمام أبو حنيفة ونبدأ به من حيث الزمن والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد كل واحد من هؤلاء الأربعة ابتلي، الإمام أحمد عُذِّب وكان يُجلَد حتى سالت الدماء وتقرّح جسده من أجل أنه لم يقل كما قال المعتزلة في مسألة خلق القرآن، إمام مثل الإمام أحمد، أين الأمة؟! البعض يقول هذا لا يكون وهذا لا يزال في القرن الثالث الهجري. وكذلك مالك ضُرِب وجُلِد حتى خُلِعت يداه وكذلك أبو حنيفة مات في السجن.
د. عبد الرحمن: لعلنا نواصل الحديث عن علامات الابتلاء التي ذكرها الله في السورة بعد الفاصل.
د. عبد الرحمن: محور سورة العنكبوت الذي هو الابتلاء وأنه سنة ماضية في الأنبياء وفي أتابع الأنبياء إلى أن تقوم الساعة ثم ذكرت من علاماته الابتلاء بوالديه في أولها (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)
د. صالح: سبق ذلك التأصيل لمسألة الابتلاء (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)) هذه تأصيل ثم (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) هذا خبر (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)) هذه كلها حقيقة لبيان أن الابتلاء كائن
د. عبد الرحمن: سبحان الله الآية الرابعة فيها إشارة إلى ما يعتقده كثير من الناس أن مسألة الدين ليس فيها ابتلاء ولا تمحيص فقال (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ)
د. صالح: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ (10)) هذه ابتلاء فبعض الناس يفهم أن هذا عذاب، لا، هذا ابتلاء. والابتلاء في الحقيقة هو نعمة يرفع الله عز وجل بها العبد درجات سواء كان هذا الابتلاء في المال أو الولد أو في الصحة أو بسبب الدين من عدو وهذا هو من اشد أنواع الابتلاء. واذكر ذلك الحديث الجميل الذي ذكره خباب بن الأرت لما جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكون “شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا ؟ فقال: (قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) الراوي: خباب بن الأرت المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – لصفحة أو الرقم: 6943 -خلاصة حكم المحدث: [صحيح]. إبن مسعود رضي الله عنه يقول وكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحكي نبيًا من الأنبياء ضربه قومه حتى أسالوا الدم وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. بل قتل أنبياء قتلهم بنو إسرائيل، اليوم الخوف من عدم الابتلاء لكن الابتلاء ليس خارجًا عن سُنة الله عز وجل بل هي مسألة طبيعية. بالمناسبة أذكر أن ابن تيمية لما دخل السجن كان بسبب نصراني سبّ النبي صلى الله عليه وسلم فألّب عليه القوم فلما رجموا ذلك النصراني سُجِن من أجل النصراني، أريد أن اقول للناس أن ما يجري في زماننا اليوم من ابتلاء للمؤمنين ليس جديدًا ليس غريبًا كان موجودًا من قبل فلا تستغرب أن يقدّم الكافر أحيانًا عليك وأن يكّرم وأن يهان المسلم لدينه فهي سُنة ومن أراد أن يغير هذه السُنة فقد أخطأ، هي سنة ثابتة ولا بد من الابتلاء
د. عبد الرحمن: بل إنها علامة من علامات الإيمان إن شاء الله، إذا ابتلي الإنسان في عرضه أو دينه أو ماله
د. صالح: وبخاصة إذا كان من الكفار لأن الذي يحارب الكفار لا شك أن هذا دليل على إيمانه في الغالب وبخاصة إذا كان هذا من أجل الإيمان، نحن اليوم نستنكر أن يحاصر إخواننا في فلسطين ألم يحاصر النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل كانت سياسته خاطئة عندما واجه الكفار ولم يتنازل لهم فأدى ذلك إلى حصار؟ كلا، لم تكن خاطئة. والله عز وجل يقول (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ (120) البقرة) فهذه سُنّة من سنن الله سبحانه وتعالى.
د. عبد الرحمن: من اللفتات المهمة التي لا نريد أن ننساها قول النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. ونلاحظ في قصص الأنبياء هنا أنهم ابتلوا في معظم شؤون الحياة ابتلي بقصة الإفك وابتلي في الدنيا بالحاجة وكان عليه الصلاة والسلام ربما يبيت الليالي وهو طاوٍ عليه الصلاة والسلام لا يجد ما يأكله وابتلي في أصحابه فقتوا من حوله وابتلي في أقاربه أبو لهب كذبه وابتلي بزوجته خديجة نلاحظ أنه شمل الابتلاء معظم حياته عليه الصلاة والسلام ومثله موسى وعيسى واتهمت مريم واتهمت عائشة فتلاحظ أنها سنة ماضية في أفاضل الأمم
د. صالح: هذه نريد أن نقولها للدعاة والمصلحين وللمؤمنين عمومًا أنه ليس شرط الابتلاء أن يعذّب الإنسان ويدخل السجن إنما قد تكون في وظيفتك وتبتلى أو يضيق عليك إما أن تكون لصًا إما أن تكون مرتشيًا إما أن تكون كذابًا أو يضيق عليك أحيانًا هذا نوع من الابتلاء والدين لا يأتي بالمجان ولو لم يكن هناك ابتلاء لكان الناس كلهم ما شاء الله ملتزمون وصالحون لكن الابتلاء مهم جدًا حتى يتميز ويمحص الله الناس.
د. عبد الرحمن: في قضية (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا (14)) النبي صلى الله عليه وسلم نزلت عليه هذه السورة في أواخر العهد المكي وقبيل هجرته إلى المدينة فكأن لسان الحال قد يقول أنا الآن ثلاثة عشر سنة وأنا في مكة ولم يستجب لي هؤلاء ولم يؤمن بي هؤلاء فجاءت هذه المعلومة مهمة جدًا للنبي صلى الله عليه وسلم عن نوح أنت الآن جلست 13 سنة واستجاب لك عدد انظر إلى نوح جلس 950 سنة فكذبه قومه، أنا أقول ذكر المدة هنا لأن في سورة نوح وفي سورة هود وفي غير مواضع لم تذكر المدة أما (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) فلم تذكر إلا في هذا الموطن، فقد يكون هذا إشارة إلى ما تفضلتم به. أيضًا نأتي إلى في قصة ابراهيم ما وجه الابتلاء في هذه السورة؟
د. صالح: وجه الابتلاء واضح جدًا في إبراهيم عليه السلام وحواره مع قومه ولكن الشاهد هنا في قول الله عز وجل (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ (24)) ولا شك أن التحريق قتل لكنه قتل بأبشع أنواع القتل، فرق بين أن يقضى عليه هم لم يريدوا قتله فقط ولا شك أنهم أرادوا قتله ولكنهم أرادوا أن يقتلوه بنوع من القتل وهو قتل يشتمل على العذاب وهو الإحراق بالنار ومعلوم ما صنعوا لإبراهيم عليه السلام من جمع الحطب ورميه بالمنجنيق إلى النار ولكن الله سبحانه وتعالى أنجاه ونحن إذ ننظر إلى ما كان من الابتلاء لهؤلاء الأنبياء والرسل والمؤمنين السابقين فلا بد أن ننظر إلى جانب آخر وهو جانب النتيجة والعاقبة، (اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) فكانت النتيجة أن أنجاه الله من النار (فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ) وهكذا ينجي الله عز وجل المؤمنين وتكون العاقبة للمؤمنين. ولها علاقة باسم السورة لأن إسم السورة دلّ على أن أولياء المشركين هم كبيت العنكبوت وأما المؤمنون فإن وليّهم هو الله سبحانه وتعالى.
د. عبد الرحمن: حتى في جواب إبرهيم عليه السلام عندما يشير إلى هذا الوهاء في العلاقة بينهم وبين ما يعبدون (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا (25)). قصة لوط أشار إليها إشارة فقال (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)) وهذه إشارة إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
د. صالح: المهاجر هنا إبراهيم عليه السلام وليس لوط. ولذلك لعل القارئ يلاحظ أن الوقف هنا وقف لازم (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) وقف لازم (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي) فهاجر إبراهيم عليه السلام بعد ذلك. الحديث هنا عن إبراهيم عليه السلام ثم جاءت قصة لوط فيما بعد. لكن لوط عليه السلام كان هناك ابتلاء وهناك أنواع من الابتلاء منها التكذيب وهو نوع من الابتلاء لكن في حياة لوط عليه السلام التهديد بالإخراج وكذلك أيضًا الإعتداء على الضيوف ولا شك أن هذا نبي يدعو قومه إلى ترك الفاحشة ثم يأتيه أضياف فيأتي هؤلاء القوم ويتجرأون عليه وهو يحاول أن يصدهم (قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ (78) قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) هود) فإذا به عليه السلام (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)) تصور نبي يريد أن يدافع عن أضيافه وهؤلاء الأضياف ليسوا من هؤلاء القوم وهؤلاء القوم لا يريدون أن يعتدوا عليهم وإنما يريدون أن يسيئؤا إليهم بارتكاب أبشع الفواحش مع هؤلاء الأضياف. ثم الجانب الآخر إذا بالنصر يأتي (قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ (81)) وهنا أشار الله عز وجل إلى أنه أنجى لوطا وأنجى المؤمنين من أهله
د. عبد الرحمن: (وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33))
د. صالح: هنا (وَلَمَّا أَن جَاءتْ) لماذا استاء من مجيء أضيافه؟ خوفًا عليهم ولاحظ هنا لفتة جميلة البعض قد يقول (وَلَمَّا أَن جَاءتْ) ما فائدة (أن) هنا؟ لماذا لم يقل “ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم”؟ قال العلماء الفائدة هي شدة العلاقة بين المجيء وبين الجواب وهو الاستياء من مجيئهم فبمجرد أن جاؤوا استاء منهم (وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ) بمجرد المجيء وهذه لم تأت بعد (لمّا) دائمًا ما جاءت إلا في هذا الموضع وفي قول الله عز وجل (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)) فهذه فائدة مجيء (أن)
د. عبد الرحمن: نأتي إلى مدين (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37))
د. صالح: هذه ابتلاءات لكنها ابتلاء عام مع الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وأن يأتي رسول مشهور بالصدق والكل يقولون له (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) ومع ذلك يتحول هذا الرسول الأمين إلى كاذب وخائن ولا يستجيب له أحد فهذا نوع من الابتلاء
د. عبد الرحمن: إذن هي كما تقول وكأن الله سبحانه وتعالى يسرد قصص الابتلاء
د. صالح: الابتلاء هذا يظهر من بداية السورة إلى آخر آية في السورة، آخر آية في السورة قول الله عز وجل (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)) وكأنها خلاصة لما سبق.
د. عبد الرحمن: نريد أن نتوقف مع القرآن الكريم في السورة. دائمًا يقول المفسرون أنه إذا وردت الحروف المقطعة في أول السور فهو من أقرب الآراء فيها أنها تحدي وأنها كأنه يقول الله سبحانه وتعالى أن هذا القرآن الذي تقرأونه هو مكون من هذه الحروف بدليل أنه لا يذكر حرفًا من الأحرف المقطعة إلا ويذكر بعدها القرآن، سورة العنكبوت لم يأتي بعدها القرآن مباشرة.
د. صالح: ولا شك أن الراجح من أقوال العلماء في الحروف المقطعة أنها إشارة إلى القرآن. ولذلك نجد غالبًا نجد أن الإشارة إلى القرآن تأتي مباشرة بعد هذه الحروف المقطعة: في سورة آل عمران (الم (1) اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3)) وفي الأعراف (المص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ (2)) ولا نطيل بذكر الأمثلة لكن هذه السورة وسورة القصص وسورة الروم لم يأت فيها الإشارة إلى القرآن بعد الحروف المقطعة ولكنها تضمنت الحديث عن القرآن. هذه السورة ابتدأت بـ (الم) ولم تأت الإشارة بعدها إلى القرآن مباشرة إلا أن في هذه السورة إثبات أن القرآن معجزة بل لم ينص القرآن على أن القرآن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم كما نصت عليه هذه السورة. يقول سبحانه وتعالى (وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)) المشركون يقولون لماذا لم تنزل آيات؟ نريد آية، نريد إحياء موتى، نريد أن يحول لنا جبالًا من ذهب نريد أن يفجر الأرض أنهارا وينابيع ونريد ونريد (وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) ثم قال (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)) يطلبون آية وهذا القرآن بين ايديهم! ألا يكفي أن يكون هذا القرآن آية عظيمة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). إذن هذا دليل على أن المعجزة القرآنية هي المعجزة العظمى لمحمد صلى الله عليه وسلم بل إن على المسلم أن يتذوق إعجاز القرآن. البعض عندما يسمع عن معجزة موسى عليه السلام ومنها اليد والعصا أو معجزة عيسى كإحياء الموتى أو معجزة صالح عليه السلام وهي إخراج الناقة من صخرة صماء ثم ينظر إلى القرآن فيقول هذا كلام وتلك معجزات حسية باهرة! نقول لا، أين تلك المعجزات اليوم؟ لا نستطيع أن نشاهدها اليوم، لولا أنا مؤمنون بها لا نستطيع أن نشاهد لا معجزة موسى ولا معجزة عيسى ولا معجزة صالح ولا نبي من الأنبياء أما معجزة محمد صلى الله عليه وسلم ولأن رسالته خالدة إلى يوم القيامة فها هي موجودة بين أيدينا بل إن هذا الاعجاز يتجدد يومًا بعد يوم وكل يوم سواء في المجال البياني أو في المجال العلمي أو المجال الغيبي أو غير ذلك كل يوم تكتشف إعجازا من إعجاز القرآن الكريم فهو معجزة نراها حتى ولو لم يكن هناك اكتشافات جديدة فإن هذا القرآن بهذا الأسلوب وبهذه الأخبار وبهذه الكيفية لا شك أنه معجزة كبرى باقية إلى هذا اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فهذا فيه دليل. وهذه السورة أيضًا أشارت إشارات مهمة جدًا إلى أن هذا القرآن معجزة ليس فقط هنا وإنما بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يقرأ وما كان يكتب (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)) إذن بمعنى لو كنت ممن يكتب أو ممن يقرأ لارتاب المبطلون قالوا إذن نعرف أنه متعلم أو أنه يكتب وأنه يقرأ في قصص الأولين فجاءنا مما قراه أو مما كتبه، لكن لا قراءة ولا كتابة فهو صلى الله عليه وسلم أميٌّ ومع ذلك يأتي بهذا هذا القرآن بهذا الكلام الفصيح بهذه العلوم بهذه الأخبار الغيبية يقص عليك قصص الأنبياء وكأنك تشاهدها دون أن يستطيع أحد أن يعترض أحد اعتراضًا ولو يسيرًا أو أ، يثير شكوكًا حول القرآن وحول هذه القصة، أهل الكتاب موجودون وعندهم كتبهم ومع ذلك ما استطاعوا أن يطعنوا في القرآن أو يقولون أنت أخطأت عندما جئت لنا بقصة يوسف هذه القصة الطويلة أخطأت في هذه التفاصيل أو قصة موسى نبيهم، أبدًا، من علّم محمدًا؟ من أين أتى بذلك؟ لا شك أنه الوحي يدل على أنه من عند الله عز وجل
د. عبد الرحمن: فائدة في قوله (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)) ذكر الله فيها القرآن في سورة العنكبوت وفيها إشارة لارتباط القرآن بالصلاة.
سؤال الحلقة
وصف الله تعالى الريح التي عاقب بها عاد بالصرصر فما معنى صرصر؟