سور القرآن الكريم

سُوَرِة الفَاتِحَة

هدف السورة: الاستخلاف في الأرض ومنهجه

سورة البقرة وآياتها (286 آية) هي أول سورة نزلت في المدينة  بعد هجرة الرسول r، ومع بداية تأسيس الامة الاسلامية (السور المدنية تُعنى بجانب التشريع)، وأطول سور القرآن، وأول سورة في الترتيب بعد الفاتحة.

وفضل سورة البقرة وثواب قراءتها ورد في عدد من الأحاديث الصحيحة منها: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما) وفي رواية (كأنهما غمامتان او ظلتان)

وعن رسول الله r أنه قال: “لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة” أخرجه مسلم والترمذي.

وقال رسول الله r : “اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة” أي السحرة، رواه مسلم في صحيحه.

هدف السورة: الاستخلاف في الأرض  (البشر هم المسؤولون عن الأرض)، ولذا جاء ترتيبها الأول في المصحف، فالأرض ملك لله عز وجل، وهو خلقها، وهو يريد أن تسير وفق إرادته، فلا بد أن يكون في الأرض من هو مسؤول عنها، وقد استخلف الله تعالى قبل آدم الكثير من الأمم، وبعد آدم أيضاً، فمنهم من فشل في مهمة الاستخلاف، ومنهم من نجح، لذا عندما نقرأ السورة يجب علينا أن نستشعر بالمسؤولية في خلافة الارض.

كما أسلفنا، فإن هدف السورة هو الاستخلاف في الأرض، وسورة البقرة هي أول سور المصحف ترتيباً، وهي أول ما نزل على الرسول rفي المدينة مع بداية تأسيس وتكوين دولة الإسلام الجديدة، فكان يجب أن يعرف المسلمون ماذا يفعلون ومم يحذرون، والمسؤولية معناها أن نعبد الله كما شاء، وأن نتبع أوامره وندع نواهيه.

والسورة مقسمة إلى أربعة أقسام: مقدمة – القسم الأول – القسم الثاني – خاتمة. وسنشرح هدف كل قسم على حدة.

·         المقدمة: وفيها وصف أصناف الناس وهي تقع في الربع الأول من السورة من الآية (1 – 29)

·         الربع الأول: أصناف الناس:

1.    المتقون (آية 1 – 5)

2.    الكافرون (آية 6 – 7)

3.    المنافقون (آية 8 – 20) والإطناب في ذكر صفات المنافقين للتنبيه الى عظيم خطرهم، وكبير ضررهم؛ لأنهم يظهرون الايمان، ويبطنون الكفر، وهم أشد من الكافرين.

·         ثم ننتقل إلى القسم الأول من السورة، وفيه هذه المحاور:

·         الربع الثاني:استخلاف آدم في الأرض (تجربة تمهيدية ) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (الآية 30)، واللطيف أنه سبحانه أتبع هذه الآية بـ (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (آية 31).

وهذه الآية محورية، فهي تعني أنك إذا أردت أن تكون مسؤولا عن الأرض يجب أن يكون عندك علم؛ لذا علّم الله تعالى الاسماء كلها، وعلّمه الحياة وكيف تسير، وعلّمه تكنولوجيا الحياة، وعلّمه أدوات الاستخلاف في الأرض: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)(آية 22). وهذا إرشاد لأمة الاسلام أنهم إن أرادوا ان يكونوا مسؤولين عن الأرض، فلا بد لهم من العلم مع العبادة، فكأن تجربة سيدنا آدم u هي تجربة تعليمية للبشرية في معنى وكيفية المسؤولية عن الأرض.

ثم جاءت الآية (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ( آية 36 ، ترشدنا إلى أن النعمة تزول بمعصية الله تعالى، وتختم قصة آدم بآية مهمة جداً (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) آية 38 ، وهي تؤكد ما ورد في أول سورة البقرة (هدى للمتقين)، وترتبط بسورة الفاتحة (إهدنا الصراط المستقيم).

·         الربع الثالث إلى الربع السابع: نموذج فاشل من الاستخلاف في الأرض: قصة بني اسرائيل الذين استخلفوا في الأرض فأفسدوا (الآية 40) (يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين).

وأول كلمة في قصة بني اسرائيل (أني فضلتكم على العالمين) اي أنهم مسؤولون عن الأرض، وأول كلمة في قصة آدم u (إني جاعل في الأرض خليفة) أي مسؤول عن الارض، وأول كلمة في قصة بني اسرائيل (واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)، وأول كلمة في الفاتحة (الحمد لله رب العالمين) والحمد يكون على النعم، فذكر نعم الله تعالى واستشعارها هي التي افتتح بها القرآن الكريم، والتي افتتحت بها قصة بني اسرائيل.

·         تعداد نعم الله تعالى على بني إسرائيل: الآيات 49 – 50 – 51 – 52

“وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ” (49)”وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ “(50)”وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ” (51)”ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ “(52)

·         عرض أخطاء بني إسرائيل (بهدف إصلاح الأمة الإسلامية) الآيات 55 – 61

وفي عرض أخطاء بني إسرائيل التي وقعوا فيها توجيه لأمة محمد r وإصلاح لها، ومن هذه الأخطاء: أن بني اسرائيل لم يرضوا بتنفيذ شرع الله تعالى – المادية – الجدل الشديد – عدم طاعة رسل الله – التحايل على شرع الله – عدم الإيمان بالغيب.

وقصة البقرة باختصار أن رجلا من بني إسرائيل قُتل، ولم يُعرف قاتله، فسألوا سيدنا موسى، فأوحى الله تعالى إليه أن يأمرهم بذبح بقرة لها صفات معينة، ويضربوا الميت بجزء من البقرة المذبوحة، فيحيا باذن الله تعالى، ويدل على قاتله :(الآيات 69 – 71)، وهذا برهان مادي لبني إسرائيل وغيرهم، على قدرة الله جلّ وعلا في إحياء الخلق بعد الموت، وذلك أن بني اسرائيل كانوا ماديين جدا، ويحتاجون الى دليل مادي ليصدقوا ويؤمنوا.

وهذه السورة تقول لأمة محمد r أنهم مسؤولون عن الأرض، وهذه أخطاء الأمم السابقة فلا يقعوا فيها حتى لا ينزل عليهم غضب الله تعالى، ويستبدلهم بأمم أخرى.

وتسمية السورة بهذا الاسم (البقرة) إحياء لهذه المعجزة الباهرة، وحتى تبقى قصة بني إسرائيل ومخالفتهم لأمر الله، وجدالهم لرسولهم، وعدم إيمانهم بالغيب وماديتهم، وما أصابهم جرّاء ذلك – تبقى حاضرة في أذهاننا فلا نقع فيما وقعوا فيه من أخطاء أدت الى غضب الله تعالى عليهم.

وهذه القصة تأكيد على عدم إيمان بني إسرائيل بالغيب، وهو مناسب ومرتبط بأول السورة (الذين يؤمنون بالغيب) وهي من صفات المتقين.

وفي قصة البقرة روايات لأخطاء كثيرة، لأنها تعرض نماذج من الذين أخطؤوا، وهي امتحان من الله تعالى لمدى إيماننا بالغيب.

وتتتابع أخطاء بني اسرائيل إلى الآية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(104)، وكان العرب يفهمون هذه الكلمة (راعنا)،على أنها عادية، ولكنها تعني السباب عند بني إسرائيل، فأراد الله تعالى أن يتميز المسلمون عن اليهود حتى في المصطلحات اللفظية، وأمرهم أن يقولوا (انظرنا).

·         الربع الثامن: نموذج ناجح للاستخلاف في الأرض (قصة سيدنا إبراهيم u) وهي آخر تجربة ورد ذكرها في السورة.

·          اولا ابتلى سبحانه آدم في أول الخلق (تجربة تمهيدية)، ثم بني اسرائيل فكانت تجربة فاشلة، ثم ابتلى إبراهيم u فنجح (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين)، وفي هذه الآية إثبات أن الاستخلاف في الأرض ليس فيه محاباة، فالذي يسير على منهج الله وطاعته يبقى مسؤولا عن الأرض، والذي يتخلى عن هذا المنهج لا ينال عهد الله (لا ينال عهدي الظالمين).

·         امتحن الله تعالى سيدنا ابراهيم u بكلمات، فلما أتمهن قال تعالى (إني جاعلك للناس إماما)، ثم دعا إبراهيم ربه أن يبعث في هذه الأمة رسولا منهم (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) آية 136، وفي نهاية قصة سيدنا ابراهيم الآية: (قولوا آمنا بما أنزل الينا وما أنزل الى إبراهيم ) جاء ذكر الأنبياء كلهم، وهذا مرتبط بآية سورة الفاتحة (صراط الذين أنعمت عليهم)، فكأنما كل هؤلاء المذكورين في آية سورة البقرة هم من الذين أنعم الله تعالى عليهم، والذين يجب أن نتبع هداهم، والصراط الذي اتبعوه.

وملخص القول في القسم الاول من السورة أن القصص الثلاث : قصة آدم :(إني جاعل في الارض خليفة)، وقصة بني اسرائيل :(وأني فضلتكم على العالمين)، وقصة سيدنا إبراهيم u :(إني جاعلك للناس إماما)، هذه القصص الثلاث بدايتها واحدة وهي الاستخلاف في الأرض، وعلينا نحن أمة المسلمين أن نتعلم من تجارب الذين سبقونا، وأن نستشعر الأخطاء التي وقعت فيها الأمم السابقة، ونعرضها على أنفسنا دائما لنرى إن كنا نرتكب مثل هذه الأخطاء فتوقف عن ذلك، ونحذو حذو الأمم السابقة الذين نجحوا في مهمة الاستخلاف في الأرض كسيدنا ابراهيم u.

وفي القصص الثلاث ايضاً اختبار نماذج مختلفة من الناس في طاعة الله تعالى، فاختبار سيدنا آدم u كان في طاعة الله (أكل من الشجرة أم لا)، واختبار بني اسرائيل في طاعتهم لأوامر الله من خلال رسوله، واختبار سيدنا إبراهيم u بذبح ابنه إسماعيل أيضا اختبار لطاعة لله تعالى: (واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات). وخلاصة أخرى هي أن الآمة مسؤولة عن الأرض، والفرد أيضا مسؤول، وللقيام بهذه المسؤولية فهو محتاج للعبادة وللأخذ بالعلم والتكنولوجيا.

·         القسم الثاني من السورة (الجزء الثاني): أوامر ونواهٍ للأمة المسؤولة عن الأرض

وفي هذا القسم توجيه للناس الذين رأوا المناهج السابقة، وتجارب الأمم الغابرة أنه يجب عليهم أن يتعلموا من الأخطاء، وسنعطيكم أوامر ونواه كي تكونوا مسؤولين عن الارض بحق وتكونوا نموذجا ناجحا في الاستخلاف في الارض. وينقسم هذا القسم إلى:

·         الربع الأول: تغيير القبلة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) آية (144-143)، لماذا جاءت الآية في تغيير القبلة من بيت المقدس الى بيت الله الحرام؟ المسلمون أمة أرادها الله تعالى أن تكون متميزة، وقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)، فبما أنكم ستكونون شهداء على الناس لا بد من أن تكونوا متميزين، فلا استخلاف بدون تميز؛ لذا كان لا بد من أن تتميزالأمة المسلمة:

بقبلتها (بدون تقليد أعمى لغيرها من الأمم السابقة) آية 144.

بمصطلحاتها (انظرنا بدلا من راعنا) آية 104.

بالمنهج (اهدنا الصراط المستقيم) سورة الفاتحة .

·         الربع الثاني: التوازن في التميز :

(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) آية 158. وسبب هذه الآية أن الصحابة لما نزلت آيات تغيير القبلة ليتميزوا عن الكفار اعتبروا أن الصفا والمروة من شعائر الكفار، وعليهم أن يدعوها أيضا حتى يكونوا متميزين، لكن جاءت الآية من الله تعالى أن ليس على المسلمين أن يتميزوا عن كل ما كان يفعله الكفار، فلا جناح عليهم أن يطوفوا بالصفا والمروة؛ لأنها من شعائر الله، وليس فيها تقليد للأمم السابقة. إذًا علينا أن نبتعد عن التقليد الأعمى لمن سبقنا، لكن مع الإبقاء على التوازن، أي أننا أمة متميزة لكن متوازنة.

o الربع الثالث:عملية إصلاح شامل

الآية (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) وفيها اشياء كثيرة: فبعد أن أطاعوا وتميزوا مع الحفاظ على التوازن كان لا بد لهم من منهج اصلاحي شامل: (الإيمان بالله، بالغيب، إيتاء المال، إقامة الصدقة، إيتاء الزكاة، الوفاء بالعهود، الصابرين ، الصادقين، المتقين)، وكأنما الربعان الأول والثاني كانا بمثابة تمهيد للأمة، طاعة وتميز بتوازن وإصلاح شامل، وتبدأ من هنا الآيات بالأوامر والنواهي المطلوبة.

o       أوامر ونواهٍ شاملة لنواحي الاصلاح:

o       التشريع الجنائي: آية 179(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

o       التركات والوصيات آية 180(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)

o       التشريع التعبدي آية 183 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) التعبد واحكام الصيام.

o       الجهاد والانفاق فيها دفاع عن المنهج، ولا دفاع بدون مال وإنفاق.( وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) آية 195.

آية 177 (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) مفصلة في هذه الأحكام، وكلما تأتي الآيات بتشريع تنتهي بذكر التقوى؛ لأنه لا يمكن تنفيذ قوانين إلا بالتقوى، وهي مناسبة ومرتبطة بهدى للمتقين في أول السورة، ونلاحظ كلمة التقوى والمتقين في الآيات السابقة، إذًا، فالإطار العام لتنفيذ المنهج هو : طاعة – تميز – تقوى،  ونستعرض هذا التدرج الرائع:

·         (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) آية183 .

·         (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) آية َ179 .

·         (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ )آية 144. (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)آية 158 .

وكل من هذه الآيات هي اول آية في الربع الذي ذكرت فيه.

·         الربع الرابع: باقي أجزاء منهج الاستخلاف

·         الجهاد والانفاق(وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ(190)وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ(191).

الحج وأحكامه (196 – 200).
لماذا جاء بآيات أحكام الحج بعد الجهاد؟ لأن الحج هو أعلى تدريب على القتال، وأعلى مجاهدة النفس. وأيات الحج بالتفصيل وردت في سورة البقرة استجابة لدعوة سيدنا إبراهيم في الربع الثامن من القسم الأول (وأرنا مناسكنا) آية 128. ونلاحظ أن سورة البقرة اشتملت على أركان الإسلام الخمسة : الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج، ولم تفصّل هذه الاركان في القرآن كما فصّلت في سورة البقرة.

الإسلام منهج متكامل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) آية 208 ، والسلم هو الإسلام، وهو توجيه للمسلمين أن لا يكونوا كبني إسرائيل الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) آية 85 ، وأن يأخذوا الدين كاملا غير مجتزأ، فكأنما يوجهنا الله تعالى في سياق السورة إلى الطاعة والتميز، ثم يعطينا بعض عناصر المنهج، ثم يأمرنا أن نأخذ الاسلام كافة، ولا نفعل كما فعل بنو إسرائيل، ثم يكمل لنا باقي المنهج، وهذ الآية (ادخلوا في السلم كافة) كان لا بد من وجودها في مكانها بعد الطاعة والتميز واتباع الأوامر والنواهي، والجهاد والانفاق للحفاظ على المنهج، ثم الأخذ بالدين كافة، ثم التقوى التي تجعل المسلمين ينفذون.

·         الربع الخامس : اكتمال المنهج (الآيات 219 – 242).

وفيه إكمال المنهج من أحكام الأسرة من زواج وطلاق ورضاعة وخطبة وخلع وعدة وغيرها، وسياق كل ذلك التقوى، ونلاحظ نهاية الآيات بكلمة تقوى أو مشتقاتها. وقد تأخرت آيات أحكام الاسرة عن أحكام الصيام؛ لأن الله تعالى بعدما أعد المسلمين بالتقوى وبطاعته جاءت أحكام الاسرة التي لا ينفذها إلا من اتقى وأطاع ربه، فالمنهج الأخلاقي والعملي متداخلان في الإسلام. لا ينفع أن يبدأ بأحكام الاسرة ما لم يكن هنالك تقوى في النفوس البشرية.

·         الربع السادس: قصة طالوت وجالوت (آية 246 – 251).

وهي قصة أناس تخاذلوا عن نصرة الدين، وجاء ذكرها في موضعها؛ لأن المنهج يجب أن يُحافظ عليه، ولا يتم ذلك إلا بوجود أناس يحافظون عليه.

·         آية الكرسي  (اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (آية 255)، موضعها في السورة مهم جدا، وتدلنا الى أنه إذا أردنا تطبيق المنهج يجب أن نستشعر قدرة الله وعظمته وجلاله (الله لا إله إلا هو الحي القيوم)، فالمنهج ثقيل، ويتطلب الكثير من الجهد، لكنه يستحق التطبيق؛ لأنه منهج الله تعالى (الله لا إله إلا هو)

ثم تأتي بعدها آية غاية في كرم الله وعدله (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، أمر من الله بأن لا نكره أحدا على الدين لماذا؟ لأن الدين واضح معناه بعد قوله (الله لا إله إلا هو) فالذي لا يعرف معنى (الله لاإله إلا هو) ولا يستشعر عظمة هذا المعنى، لا مجال لإكراهه على الدين. فالرشد بيٌن والغي بيٌن.

·         قدرة الله تعالى في الكون (دلائل احياء الموتى):من الآية (258 – 261) جاءت في ثلاث قصص:

·         قصة ابراهيم مع النمرود آية 258 (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

·         قصة عزير والقرية الخاوية آية 259 (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

·         قصة ابراهيم والطير آية 261 (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

وفي القصص الثلاث تأكيد على قدرة الله تعالى وأنه (لا إله إلا هو)، فكيف لا نقبل بتنفيذ المنهج أو نكون مسؤولين عن الأرض بعدما أرانا الله تعالى قدرته في الكون؟

·         الربع الأخير: الإنفاق (الآيات 261 – 283)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ )آية 278

وهو آخر جزء من المنهج، وفيه حملة شديدة على جريمة الربا التي تهدد كيان المحتمع، وتقوض بنيانه، وحملت على المرابين بإعلان الحرب من الله تعالى ورسوله على كل من يتعامل بالربا، أو يقدم عليه. وعرض للمنهج البديل، فالإسلام لا ينهى عن أمر بدون أن يقدم البديل الحلال، وقد جاءت آيات الربا بين آيات الإنفاق لتؤكد معنى وجود المنهج البديل للمال والرزق الحلال.

o   الخاتمة: وهذه أروع آيات السورة (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) آية 285. فالتكاليف كثيرة، والتعاليم والمنهج شاق وثقيل، فكان لا بد من أن تأتي آية الدعاء لله تعالى حتى يعيننا على أداء وتنفيذ هذا المنهج (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) آية 286 .

اي أعنا يا ربنا على تنفيذ المنهج؛ لأنه سيوجد أعداء يمنعوننا من ذلك، ولن نقدر على تطبيق المنهج بغير معونة الله. واشتملت الخاتمة على توجيه المؤمنين إلى التوبة والإنابة والتضرع إلى الله عزّ وجلّ برفع الأغلال والآصار، وطلب النصرة على الكفار، والدعاء لما فيه سعادة الدارين (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) وقد ختمت السورة بدعاء المؤمنين، كما بدأت بأوصاف المؤمنين، وبهذا يلتئم شمل السورة أفضل التئام، فسبحان الله العلي العظيم.

خلاصة: نحن مسؤولون عن الأرض والمنهج كاملا، وعلينا أن ندخل في السلم كافة، والمنهج له إطار: طاعة الله وتميز وتقوى. أما عناصر المنهج فهي: تشريع جنائي، مواريث، إنفاق، جهاد، حج، أحكام صيام، تكاليف وتعاليم كثيرة، فلا بد أن نستعين بالله تعالى على أدائها لنكون أهلا للاستخلاف في الارض، ولا نقع في أخطاء الأمم السابقة.

تبدأ سورة الفاتحة بقوله تعالى (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)) وتنتهي بقوله (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)) نلاحظ أنه في الخاتمة هو استوفى أنواع العالمين، العالمين من هم؟ إما منعم عليهم الذين أنعمت عليهم أو مغضوب عليهم الذين عرفوا الحق وحادوا عنه أو الضالين ليس هناك صنف آخر، هؤلاء هم العالمون المكلفون فلما قال رب العالمين ذكر من هم العالمين في آخر السورة إذن صار هناك تناسب بين مفتتح السورة وخاتمتها، (رَبِّ الْعَالَمِينَ) من هم العالمين؟ العالمين هم (الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) إذن هناك تناسب ظاهر بين مفتتح السورة وخاتمتها. العالمين هم العقلاء المكلفون لأنه جمع مذكر سالم وجمع المذكر السالم الأصل فيه أن يكون للعاقل إما علم عاقل أو صفة عاقل والعالمين ملحقة بها (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) الأنبياء) (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الفرقان) إذن العالمين هم المكلفون العقلاء، قسمهم هذا النقسيم وشمل هذا التقسيم العالمين ويدخل فيهم الجن لأنه يدخل فيهم كل المكلفين.

****تناسب خاتمة الفاتحة مع فاتحة البقرة****

تنتهي سورة الفاتحة بذكر المنعَم عليهم والمغضوب عليهم والضالين (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)) والبقرة تبدأ بذكر هؤلاء أجمعين، تبدأ بذكر المتقين (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (1)) وهؤلاء منعَم عليهم ثم تقول (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6)) تجمع الكافرين من المغضوب عليهم والضالين وتذكر المنافقين (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8)) إذن اتفقت خاتمة سورة الفاتحة مع افتتاح سورة البقرة. ذكر في خواتيم الفاتحة أصناف الخلق المكلفين (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)) وذكرهم في بداية البقرة.

المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق وحادوا عنه والضالون لم يعلموا الحق وإنما ضلوا الطريق ويضربون مثلاً اليهود والنصارى، المغضوب عليهم منهم اليهود والنصارى. وفواتح البقرة تحدثت عن هذه الأصناف المتقين والكفار والمنافقين جمعت المغضوب عليهم والضالين يجمعهم الكفار.

إن أعظم الكتب كتاب الله تبارك وتعالى ؛ وإن أعظم سورة في ذلك الكتاب هي سورة الفاتحة ؛ فهي بالنسبة للقرآن كالخطبة أو المقدمة بالنسبة للكتاب؛ والقرآن شرح لها؛ ومعلوم أنه كلما كان صاحب الكتاب أعلم وأبلغ كان تلخيصه لمقاصد كتابه في مقدمته أكمل؛ هذا بالنسبة لكلام المخلوقين الذين علَّمهم الله تبارك وتعالى من النطق والبيان بحسب حاجتهم وأهليتهم ؛ فكيف إذا كان الكتاب كتاب رب العالمين ؟!

فالفاتحة أعظم السور وأم القرآن ، جمعت جميع مقاصد القرآن ولذلك سميت أم القرآن‏ ، وارجع إلى التفاسير لترى كثرة أسمائها وفضائلها ، وحُق لمن قرأها بتدبر وامتثال أن يمتلىء قلبه يقيناً وإيماناً ، وأن يكون عالماً راسخاً أكرمه الله بنور العلم واليقين .

1- قال تعالى :{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } النحل : 98. ليست الاستعاذة من القرآن بالإجماع ، وإنما نذكرها طاعة لله تعالى ، واعتصاماً به ولجوءاً إليه أن يمنعنا من الشيطان الرجيم الذي يصرفنا عن تدبر ما نقرأ من كتاب الله .

2- إن أعظم غاية المؤمن في هذه الحياة أن يستقيم على أمر الله ، ولا يمكن أن يستقيم على أمر الله إلا أن يكون متحرزاً من شرور الشيطان وجنوده من الإنس والجن .

3- حين تقول الاستعاذة استشعر أنك تطلب التحرز من الله جل وعلا ، فإذا لجأت إلى الله أن يعيذك من الشيطان الرجيم ، ويعصمك منه ، كان هذا سبباً في حضور قلبك ، واستعداد نفسك ، فاعرف معنى هذه الكلمة ، واستشعر معناها .

4- { بسم الله الرحمن الرحيم } افتتاح القرآن بهذه الكلمة العظيمة التي هي من أعظم ما أنعم الله جل وعلا على عباده المؤمنين ، وهذا إقرار منك بأن الله عز وجل هو المعين لك في كل أمورك ، وأعظمها قراءة القرآن .

5- قولك { بسم الله } يعني : أتلو القرآن مستعيناً بكل اسم من أسماء الله ، لأن أسماء الله جل وعلا كلها لمسمى واحد ، هو الله سبحانه ، ولكن كل اسم منها يدل على صفة من صفاته تنـزهه وتقدسه ، فاسم الله هو أصل الأسماء ، والدال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى .

6- حين تستحضر عند قولك :{ بسم الله } بعض الأسماء ، يفتح الله على قلبك أنواعاً من العبودية ،كلٌ مما يناسب حالك ومقصودك ، فإذا قلت :{ بسم الله } وأنت في كرب استحضر أسماء الله التي فيها تفريج الكروب ، وإذا قلت :{ بسم الله } وأنت مغلوب استحضر أسماء الله التي فيها النصر والتأييد، وإذا قلت :{ بسم الله } وأنت مذنب استحضر أسماء الله التي فيها التوبة والعفو والغفران ، وإذا قلت : { بسم الله } وأنت محتاج استحضر أسماء الله التي فيها الرزق والغنى … .

7- في قوله تعالى : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } دلالة على سعة رحمته وتقوية الرجاء في قلوب عباده ، وقد اختار سبحانه هذين الوصفين في البسملة التي يرددها المسلم في مختلف شؤونه وحالاته ، فالإنسان في سير حياته تشمله العناية الإلهية بالرحمة الشاملة ، ومن حكمة تكرار هذه الكلمة أننا نحتاج هذه الرحمة في كل طرفة عين ، وفي كل حال ومجال .

8- لم تُذكر في البسملة صفات أخرى ، مثل التواب ، الغفور ، الشافي ، الكريم ، الرازق ، الرؤوف … ، لأن كل هذه الأمور وغيرها مآلها إلى صفة الرحمة ، فمن خلال الرحمة يصدر ذلك كله عنه سبحانه ، فيرزق ، ويشفي ، ويدبر ، ويتوب ، ويغفر .. فالدخول من باب الرحمة ، يوصلك إلى مضمون سائر الصفات ، فهو يشفيك لأنه الرحيم ، ويعطيك لأنه الرحيم ، ويتوب عليك لأنه الرحيم ، ويرزقك لأنه الرحيم ، وينصرك لأنه الرحيم …

9- البسملة آية من القرآن ولكنها منفصلة من السور ، ونزلت للفصل بين السور .

10- في قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } أمر من الله سبحانه وتعالى لعباده بالتوجه إليه بالحمد الكامل والثناء الشامل في كل صلاة ، فالحمد ثناء أثنى به الله تعالى على نفسه ، وقوله : { لله } اللام للاختصاص والاستحقاق ، فالمستحق لهذا الحمد الخالص الشامل هو الله تعالى ، وفي الحديث : ( اللهم لك الحمد كله ) البخاري 1 / 243 .

11- القائل : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } في هذا الموضع هو الله تبارك وتعالى ، ولا شيء من الكلام المجمل أكبر وأشمل وأعلى من هذه الكلمة ؛ فكل صفة عليا واسم حسن وثناء جميل، وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وإجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميع ما يوصف به ، ويذكر به، ويخبر عنه به ، فهو محامد له وثناء وتسبيح وتقديس .

12- كلمة الحمد معناها الإخبار بمحاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه ، فهو الواحد الذي لا شريك له في ربوبيته ، ولا في إلهيته، ولا مثيل له في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله، وليس له من يشركه في ذرة من ذرات ملكه، أو يخلفه في تدبير خلقه، أو يحجبه عن داعيه أو مؤمليه أو سائليه، أو يتوسط بينهم وبينه بتلبيس أو فرية أو كذب كما يكون بين الرعايا وبين الملوك، بل هو ملك الملوك الذي له القدرة التامة، والمشيئة النافذة، والحكمة البالغة، والعزة الغالبة ، والكلمات التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر .

13- أعظم كلمة ترددها في حياتك وتهنأ بها نفسك هي كلمة : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } ، وأحق كلمة قالها العباد هي كلمة : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } ، وكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة هو المستحق له سبحانه ، وجميع أنواع الحمد هي له لا لغيره ، فسبحانه وبحمده، لا نحصي ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه خلقه، فله الحمد أولاً وآخراً، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه .

14- قول : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } هو الشعور الذي يجب أن يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله ، بل إن وجود هذا الشعور في قلب المؤمن هو من فيوض النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء ، فتفاصيل حمده سبحانه وما يحمد عليه لا تحيط بها الأفكار ولا تحصيها الأقلام ، فهو المستحق للحمد كله في جميع الأوقات ، وبعدد اللحظات ، وكل حمد وقع من أهل السماوات والأرض ، الأولين والآخرين ، إخبار عن ما يستحقه من الحمد ، لا عما يقوله العبد من الحمد .

15- استحضار كلمة { الْحَمْدُ لِلَّهِ } أثناء قراءتها في الصلاة أو خارجها يفتح للعبد أبواباً من محبة الله وتمجيده وتعظيمه وحسن الثناء عليه ، ويفيض على قلبه أنواعاً من العلم ، والمحبة ، وحسن الظن بالله ، والتوكل على الله عز وجل ، ويفتح له من العبادات القلبيه التي لا يعلمها إلا من عاشها وعرفها ، فهو يستحضر حين يقرأ هذه الكلمة الأسماء العظيمة التي لله جل وعلا وآثارها على نفسه .

16- في قوله تعالى :{ الْحَمْدُ لِلَّهِ } جاء تقديم وصفه بالألوهية على وصفه بالربوبية ، فلم يقل جل وعلا : الحمد لرب العالمين ، بل قال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ } ، للتذكير بأعظم نعمة أنعمها عليك وهي نعمة العبودية ، فالله هو المألوه المعبود الذي تألهه الخلائق محبةً وتعظيماً وخضوعاً وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب .

17- إن من أعظم نعم الله عليك أن جعلك عبداً له خاصة ، ولم يجعلك منقسماً بين شركاء متشاكسين، ولم يجعلك عبداً لإله غيره ، لا يسمع صوتك ، ولا يبصر أفعالك، ولا يعلم أحوالك، ولا يملك لك ضراً ولا نفعاً ، ولا وموتاً ولا حياةً ، ولا نشوراً، ولا تُرفع إليه الأيدي ، ولا يصعد إليه الكلم الطيب، ولا يُرفع إليه العمل الصالح ، فله الحمد أعظم حمد وأتمه وأكمله على ما منَّ به من معرفته وتوحيده والإقرار بصفاته العليا وأسمائه الحسنى .

18- كلمة ( الحمد ) مفتاح المعارف الاعتقادية ، وتأتي كنتيجة قلبية بعد التعرف على الله من خلال تدبر الألفاظ التي نكررها ، فتكرار السورة في كل ركعة يجعل المتدبر قادراً على استشعار الحمد في مختلف الحالات والظروف التي تمر به في السراء والضراء ، في الغنى والفقر ، في القوة والضعف ، في إقبال الدنيا وإدبارها ، في العز والذل .

19- المؤمن يعيش حالة دائمة من الحمد لله عز وجل مردها اليقين والرضا بأمر الله ، بل يصل إلى شكر الخالق على قضائه وقدره ليقينه أن كل ما يقضي به خالقه هو خير له . عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ماأنعم الله على عبدٍ نعمة فقال : الحمدلله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ . سنن ابن ماجه 2/ 1250 . حسنه البوصيري ووافقه الألباني .

20- لا يكون حامداً من جهل صفات المحمود ، ولا يمكن أن يكون حامداً كل الحمد إذا لم يعرف نعم الله عليه ويعترف بها ، وإن قال ذلك بلسانه ، فكم هم الذين يرددون هذه الكلمة ولكن كما قال تعالى :{ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ }. فلفظ الحمد يلفظه كل أحد ، ولكن لفظ القلب لايتأتى إلا للقلب المعمور بحبه ومعرفته ، فمجرد الادعاء لايعبّر عن الحقيقة ، فالحمد كلمة يقولها القلب قبل اللسان لتنعكس على الجوارح ، فتخضع لله شكراً وسلوكاً وعملاً .

21- في قوله تعالى : { رَبِّ العَالَمِينَ } تأكيد لاستحقاقه كل الحمد ، فكل خير ونعمة في العالمين فهي من عنده ؛ وكل خلق وإبداع فهو راجع إليه ، فهو رب كل شيء وخالقه ، لا يخرج شيء عن ربوبيته ، المالك المتصرف في هذا الكون بأجمعه ، وكل من في السموات والأرض عبدٌ له في قبضته ، مربي جميع العالمين بخلقه إياهم ، وإنعامه عليهم ، وتدبير أمورهم ، وأخص من هذا تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم ، وقد جاء وصفه بالربوبيه بعد وصفه بالألوهية ، وذلك إقرار باستحقاقه جل وعلا كل أنواع وأجناس الحمد .

22- { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } الذي وسعت رحمته جميع الخلق ، فهو الموصوف بالرحمة مع كمال قوته وقهره وكمال غناه وعزته ، أرحم بعباده من الأم بولدها ، فرحمة والديك بك مهما بلغت فهي جزءٌ من المائة جزءٍ التي خلقها اللَّه فكيف برحمته الواسعة جل جلاله وتقدست أسماؤه ؟! فلو جُمعت رحمة الخلق كلهم لكانت رحمة الله أشد وأعظم.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : جاءت امرأة في السبي تبحث عن ولدها فلما وجدته أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة وَلَدَها في النار ؟ قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ ! فقال : إن اللَّه أرحم بعباده من هذه بولدها. صحيح البخاري _ الفتح 5999 ومسلم 2754.

23- إن الأم تهتم – عادة – بتربية طفلها ، وتلبية حاجاته، والحفاظ عليه ، وتتحمل الأذى في سبيل ذلك ، وذلك ليس نتيجة شعورها بالواجب ، بل لأنها تلاحظ عجزه عن الأكل والشرب، وعن الحركة ، وعن دفع الحر والبرد وسائر الأخطار عن نفسه ، فتندفع بدافع من الشعور بالرحمة والعطف لرفع هذا النقص فتحميه وترعاه وتسهر عليه ، فإذا كانت هذه رحمة الأم فكيف رحمة رب العالمين ! فما أحوجنا لتذكر هذا الأمر ، وما أشد غفلتنا عنه .

24- في مجيء { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } بعد { رَبِّ العَالَمِينَ } بيان أن شمول الربوبية لا يخرج شيء منها عن شمول الرحمة وسعتها ، فاستحضر وأنت تردد { رَبِّ العَالَمِينَ } معاني ربوبيته وآثارها في الخلق ، فإن استحضارها يجعل القلب يلين تعظيماً لله , وثناءً عليه وإجلالاً له ومحبة ، واستشعر وأنت تقرأ { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } أن الله أرحم بك من نفسك التي بين جنبيك ، وأن الرحمة الحقيقية هي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد ، وإن كرهتها نفسه .

25- كلما كنت أعرف بمعنى هذين الاسمين كنت أرضى بقضاء الرب سبحانه وتعالى وعلمت أن قضاء الله عز وجل دائر بين العدل ، والحكمة والرحمة ،كما قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور : ( اللهم اني عبدك وابن عبدك ، وابن أمتك ، ماضٍ فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك …. ) الحديث . رواه أحمد برقم 799 وصححه الألباني . فشهودك نعمة الله عليك في كل شيء حتى في المكروه يجعلك تتيقن أن كل ما في العالم من محنة وبلية وألم ومشقة فهو وإن كان عذاباً وألماً في الظاهر إلا أنه حكمة ورحمة في الحقيقة.

26- إن شعور العبد بمعية الله وصحبته وهو يردد تلك الكلمات في كل صلاة بل في كل ركعة يجعله في أنس دائم ، ونعيم موصول بقربه ، ويحس دائماً بالنور يغمر قلبه ، ولو أنه في ظلمة الليل البهيم ، ويشعر بالأنس يملأ عليه حياته وإن كان في وحشة من الخلطاء والمعاشرين ، كيف لا وهو يردد كلمة الحمد على من ربَّاه وأحسن إليه وصرَّف أحواله ، ودبر أموره ، فلا يقلق إذا تعسر أمر ، ولا يحزن إذا فاته شيء ، فهو أرحم الراحمين ، بيده الرحمة التي لا يستطيع أحدٌ من خلقه أن يحجبها عنه أو يمنعها .

27- إن أعمق درجات المعرفة هي المعرفة الوجدانية ، وإن وصول الإنسان إلى ربه ومعرفته إياه حق المعرفة تكون من خلال إحساسه بنعمته وفضله عليه ، لأن معرفته تعالى عن طريق الإحساس بالنعمة والاعتراف بها تكون أعمق وأدق وأكثر تأثيراً من معرفته عن طريق الاستدلال الفلسفي ، العقلي ، النظري ، لأن هذه المعرفة حسية ، وجدانية ، فطرية ، يتفاعل معها العبد بأعماقه ، وبكل أحاسيسه ومشاعره ، وفطرته .

28- يقينك بهذه الآيات سبب فوزك بنعيم الدنيا الذي هو سكينة القلب واطمئنان النفس ، لأن العبد عندما يفوز بهذه المعرفة يسكن جنة الدنيا قبل جنة الآخرة ، لأنه لا يزال راضياً عن ربه ، والرضا ، كما قال أحد السلف جنة الدنيا ومستراح العارفين ، أما الجاهل برب العالمين الرحمن الرحيم فتراه جاحداً لنعمه ، منكراً لفضله ، ساخطاً من قضائه ، لأن من لم يعرف ربه ومعبوده ، لايهنأ بعيش ، وكما قال ابن القيم : فقلب العبد لا يزال يهيم في أودية القلق وتعصف به رياح الاضطراب حتى يعرف ربه ومعبوده حق المعرفة . ا.هـ

29- في الآيات السابقة يريد جل وعلا أن يطرح قضية التوحيد من خلال التعريف بأسمائه وصفاته ، والإحساس المباشر بآثارها في الحياة ، فهي ليست مجرد أمر تصوري ، أو نظري ؛ بل بيّن جل وعلا ما يفهمه الإنسان ، ويتلمسه بوجدانه ، ويتحسسه بمشاعره ، من خلال إحساسه بالنعمة الغامرة ، وبالعطاء ، وبآثار الرحمة ، التي يتلمس الإنسان آثارها في كل آن على مدار اللحظات ، في نفسه ، وفي كل ما يحيط به .

30- من تعرف على أسماء الله وصفاته من خلال هذه السورة وغيرها من السور وجدها مدائح وثناء يعجز الوصف عنها والإحاطة بها، كما قال ابن القيم : فلله سبحانه محامد ومدائح وأنواع من الثناء لم تتحرك بها الخواطر، ولا هجست في الضمائر، ولا لاحت لمتوسم، ولا سنحت في فكر، ففي دعاء أعرف الخلق بربه، وأعلمهم بأسمائه وصفاته ومحامده صلى الله عليه وسلم قال : «أسأَلُك بكلِّ اسمٍ هو لكَ ، سَمَّيتَ به نفسك ، أو أنْزَلتَه في كتابك ، أَو استَأثَرْتَ به في علم الغيب عندَك : أن تجعلَ القرآن ربيعَ قلبي ، وجَلاءَ هَمِّي وذهاب غَمِّي» وفي الصحيح عنه في حديث الشفاعة لما يسجد بين يدي ربه قال: «ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَي وَيُلْهِمُنِى مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِى» .

31- كما أن { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } كلمة المؤمن يكررها في كل حال ومقال ، فإن الحمد يستمر مع المؤمن حتى بعد دخول الجنة ،كما قال تعالى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } يونس 10 .

32- في ذكر الربوبية ما يثير المهابة ، وفي ذكر الرحمة ما يثير الرجاء؛ وكلاهما أي : الربوبية والرحمة يؤدي إلى الحب ؛ فهو محبوب لكماله وعظمته فهو رب العالمين، ومحبوب لرحمته فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها ، فاستشعار تلك الكلمات وتدبرها ، يقوي العلاقة بينك وبين ربك، لأنه واقع حي، تتلمسه بأحاسيسك الظاهرة قبل الباطنة ، في كل حين ، وفي كل مجال .

33- إذا تأمل العبد هذه المعاني العظيمة أثناء قراءته أو حتى بعد خروجه من الصلاة ، تفجرت ينابيع الثناء والحمد من على لسانه وقلبه ، ولهج بالثناء على الله ثناء محبة وتعظيم وتذلل ، وطاعة وإنابة ، أما من جهل تلك المعاني فلا يتحقق منه ذلك .

34- من لم يباشر قلبه حلاوة هذه المعاني وجذبها للقلوب والأرواح ، فليعالج قلبه بالتقوى، وليخرج منه الأمراض التي حالت بينه وبين نصيبه من ذلك ، وأن يلجأ إلى الله الرحمن الرحيم أن يحيي قلبه ويزكيه ، ويجعل فيه الإيمان والحكمة، فالقلب الميت لا يذوق طعم الإيمان، ولا يجد حلاوته، ولا يتمتع بالحياة الطيبة التي هي من آثار تلك المعرفة .

35- في قوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر ، فكلمة { يَوْمِ الدِّينِ } تشير إلى الجزاء ، ثواباً على الإحسان، وعقاباً على الإساءة ، فأنت تكرر في كل ركعة هذه الآية التي تعني أن من أوصافه التي نثني عليه بها أنه مالك يوم الجزاء الذي يجازي فيه كل عامل بما عمل ، فيجازيك بحسب عملك ؛ فأنت السبب في كل ما يجري لك وعليك { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (8) } .

36- الاعتقاد بالحساب يجعلك تشعر بالمسؤولية عن التغيير في حياتك ، ولعل في تكرار هذه الآية في كل ركعة يجعل الإنسان يشعر بأنه مطالب ومحاسب ومسؤول عن كل ما يصدر عنه ، فإذا كان يعقل ما يقول فسيورثه ذلك خوفاً من ذلك اليوم الذي يحاسب الله عز وجل فيه الخلائق ، فهل استشعرنا أننا سنقف جميعاً في ذلك اليوم الذي يوفّي الله فيه كل نفس ما كسبت ؟! فكم نردد تلك الكلمات ولانشعر بالرهبة .

37- الله جل وعلا مالك كل الأيام ؛ وخص يوم الدين بإضافة الملك إليه لخطورته ، ولأنه ختام الأيام وثمرتها ولأنه يظهر فيه ملك الله كاملاً ، فكل الملكيات تزول وتتلاشى ، فلا يملك أحد لأحد ضراً ولا نفعاً، ولا يملك أن يدفع عن نفسه ، ولا عن غيره ، ولن يكون قادراً على التصرف بماله، ولا بقوته ، ولا بمنصبه ، ولا بموقعه الاجتماعي ، أو السياسي ، ولا بلسانه ، ولا بيده ، ولا بغير ذلك ، فيوم الدين هو اليوم الذي يتجرد العباد من مناصبهم الدنيوية ومكانتهم الاجتماعية، فالكل سواء ، يحاسبون على ما قدموا من أعمال في حياتهم الدنيوية.

38- { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } من أعظم النعم المستوجبة للحمد فملكيته سبحانه ليوم الدين هي التي حمت الضعفاء والمظلومين والمحزونين ، فلمَ الهم ؟ ولم َ الحزن ؟ وأنت تعلم أن الله تعالى سيعوضك خيراً، وسيحاسب كل شخص على ظلمه وجبروته ، ولا يظلم ربك أحداً.

39- بقوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } تُستكمل صفات العظمة والكمال ، فاستحقاق الحمد لصفاته جل وعلا كما هو لذاته ، فهو لأسمائه وصفاته ، فقد جاء الحمد والثناء له عز وجل في ذاته في كلمة : { لله} ثم جاء تأكيد الحمد له سبحانه في أوصاف عديدة له كقوله :{ رَبِّ العَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } فبعد أن جاء الوصف برب العالمين ، عقَّب بصفتي الرحمن الرحيم للتعريف بعظمة رحمته ثم جاء وصف مالك يوم الدين للتنبيه على عموم التصرف في المخلوقات يوم الجزاء .

40- جاءت تلك الأوصاف كاملة بعد لفظة الحمد إشارة إلى استحقاقه سبحانه لا شريك له لكل المحامد والتعظيم ، ومن خلال الآيات نعلم أن الربوبية والألوهية والملك لا تنفك الواحدة عن الأخرى والرحمة سبب واصل بين ذلك كله ، والأسماء المذكورة هي أصول الأسماء الحسنى ، فاسم الله متضمن لصفات الألوهية واسم الرب متضمن لصفات الربوبية ، واسم الرحمن متضمن لصفات الإحسان والجود والبر .

قال ابن القيم رحمه الله : فصفات الجلال والجمال أخص باسم الله ، وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخص باسم الرب ، وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف أخص باسم الرحمن ، ومعاني أسمائه تدور على هذا . ا.هـ

41- يقينك بعد استشعارك لأسمائه وصفاته التي حوتها السورة طريق السعادة في الدنيا والآخرة ، أما الجاهل بتلك المعاني التي يرددها كل يوم ، بل في كل صلاة ، بل في كل ركعة ، تراه ينازع الله في تدبيره ويقدح في حكمته والسبب أنه خفيت عليه معانيها فهو في شقاء دائم .

42- في هذه الآيات الثلاث مناجاة الله للعبد في الصلاة كما جاء في الحديث ، فإذا قرأ العبد : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } يقول الله : حمدني عبدي ، وإذا قرأ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } يقول الله : أثنى علي عبدي ، وإذا قرأ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } يقول الله : مجدني عبدي .. ، فهل نستشعر ذلك الحمد وذلك الثناء وذلك التمجيد حين نقرأ في صلواتنا ؟ وهل نستشعر ونستحضر جواب الله سبحانه لنا ؟

43- في هذه الآيات الثلاث ترغيب وترهيب : فالترغيب في قوله : { رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، والترهيب في قوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وهذا الذي يجب أن يسلكه كل طالب علم وكل داعية في الدعوة إلى الله .

44- ظهر من كل ما تقدم ، ابتداءً من بسم الله ، وإلى قوله : يوم الدين : أن ربك تعرف إليك بأسمائه وصفاته، وتحبب إليك بنعمه وآلائه . قيل لابن عباس رضي الله عنهما : بم عرفت ربك ؟ فقال: عرفته بما عرَّف به نفسه، ووصفته بما وصف به نفسه.فأنت تتعرف على الله كل يوم بل في كل صلاة ، بل في كل ركعة ، فمن انفتح له هذا الباب – باب الأسماء والصفات – انفتح له باب التوحيد الخالص بإذن الله .

45- إن مجرد الإقرار بوجود الله ، والاعتراف بنعمه ، من غير عبادة وإنابة ، وبالٌ على صاحبه، وإلا فما فائدة العلم إذا لم يكن طريقاً إلى الله ؟! وقد تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، فكان يقول في دعائه : ( … وأعوذ بك من علم لاينفع …) .

46- إن معرفة الخالق جل وعلا والإقرار بربوبيته أمر فطري ضروري يحسه في نفسه البر والفاجر، فهو شعور غامر يملأ على الإنسان أقطار نفسه، إقرارًا بخالقه، وتألهًا له، لا يستطيع دفعه ولا يملك رده ، وقد طابت نفوس العارفين بهذه المعرفة الضرورية الفطرية، وقرت بها عيونهم، وقنعوا بها عن أقيسة المناطقة والمتكلمين، حتى قيل لأحدهم يومًا: إن فلانًا من علماء الكلام قد أقام على وجود الله ألف دليل، فقال: لأن في نفسه ألف شبهة!!.

47- بدأ سبحانه وتعالى في السورة بذكر ما يورث في العبد المحبة لله وهو ربوبيته جل وعلا وتربيته للعالمين في قوله : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } ، وفي ذكر ما يبعث الرجاء في القلب في قوله : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، ثم ذكر ما يبعث الخوف في القلب بالتذكير بيوم الجزاء والحساب في قوله : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، ليُعبد الله بهذه الثلاث : بمحبته ورجائه وخوفه ، وهذه الثلاث هي أركان العبادة .

48- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } نتيجة حتمية لكل عبد تفهم كل ما سبق ، ولهذا جاءت الآية بعد تلك الأوصاف الجليلة التي وصف الله بها نفسه في أول السورة لتبعث في القلب المحبة والرجاء والخوف ، ولتكون أساساً عقائدياً متيناً ، يتلمسه الإنسان في واقعه ، ويحس به بفطرته .

49- مجيء { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } بعد ذكر الآيات التي تبعث في القلب المحبة والرجاء والخوف رد على الطوائف الثلاث التي كل طائفة تتعلق بواحدة منها ، كمن يعبد الله بالمحبة وحدها كالصوفية ، أو من يعبد الله بالرجاء وحده كالمرجئة ، وكذلك من يعبد الله بالخوف وحده كالخوارج .

50- في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قدم المفعول وهو إياك ، وكرره للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة ، فأنت تعاهد ربك في كل صلاة أن لا تشرك به في عبادته أحدا .

51- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } خطاب تخاطب به ربك ، فأنت أثنيت عليه في الآيات السابقة ، وبعد هذا الثناء كأنك اقتربت وحضرت بين يديه فقلت : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وهذه صورة بلاغيّة عظيمة من أساليب القرآن الكريم تسمى الالتفات .

52- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } مدرسة عملية تُذكِّرك يومياً بالتعرف على رسالة رب العالمين التي أرسلها إليك لترددها في كل ركعة ؛ وهي أن يقوم بقلبك من معرفته والمحبة له والرجاء له والخوف منه مايتحقق به العبودية الحقة .

53- { إيَّاكَ نَعْبُدُ } كمال الذل والخضوع والخوف والمحبة ، وكيف لا يشعر بالذل من يستحضر عظمة خالق كل شيء ؛ أو بالخوف من يستحضر شدة وعظمة يوم الدين والحساب ؛ وكيف لا يشعر بالحب من يسمع صفات الله تعالى ؛ ولا سيما الرحمن الرحيم المنبني عليهما الإحسان؛ وكذلك سائر صفات الكمال .

54- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } إعلان للتوحيد في مختلف أنواعه وتثبيت في النفس معنى لا إله إلا الله ، فهي القاعدة الأساسية لهذا الدين الذي لا يقوم بدونها ، وهي ملخص لرسالته صلى الله عليه وسلم ، ورسالات الرسل من قبله .

55- { إيَّاكَ نَعْبُدُ } حقيقة ضخمة غائبة عن الأذهان ، فأكثر من يقولها إنَّما يقولها تقليداً أو عادةً، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه ، وغالب من يُفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء؛ كما في الحديث: « سمعت الناس يقولون شيئا فقلته » .

56- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ليست مجرد مفاهيم عقائدية خاوية ، لا دور فيها للعقل ، ولا للمنطق ، ولا للفطرة ولا للشعور، ولا للوجدان ، بل هي من صميم ذلك كله ، بل هي حياة العقل ، وانطلاقة الروح ، ووهج الشعور ، إنها الحياة الحقيقية ، وسر الوجود.

57- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } انجذاب قلبك وروحك إلى خالقك ، وهذا ماخُلقت له ، فأنت خُلقت لهدف وغاية . قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } الذاريات : 56 . وهيأ الله لك جميع مافي الأرض لتحقق هذه الغاية .

58- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } اعتراف منك بأن تكون أعمالك كلها لله ، وأقوالك لله ، وعطاؤك لله ، ومنعك لله ، وحبك لله ، وبغضك لله ، فمعاملتك ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده ، لا تريد بذلك من الناس جزاءً ولا شكوراً .

59- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } تلك الكلمة التي يرددها من يستغيث بغير الله ، ويدعو غير الله ، ويستعين بغير الله ، ويرجو غير الله ، ويخاف غير الله ، يرددها وهو كاذب على نفسه ، كاذب على ربه .

60- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } تلك الكلمة التي أخطأ كثير من المسلمين اليوم في فهمها، فظنوا أن معنى ( إياك نعبد ) أن نركع ونسجد ونصلي ونصوم ونحج ونقرأ القرآن فقط ، وأن العبادة مقيدة بتلك العبادات فحسب .

61- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } عهد مع الله بأن تصرف العبادة كلها له لأنك عرفته ، وعرفت أن العمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ، وطلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم ، والهرب من ذمهم ، ورجائهم للضر والنفع ، لا يكون من مؤمن يعرف ربه حق المعرفة ، بل لايكون إلا من جاهل بربه ، جاهل بخلقه .

62- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } واقع نعيشه ونتعايش معه ، فقد أعظم الله تعالى المنة على هذه الأمة بأن بعث فيها أفضل رسول وأنزل إليها أكمل دين وأقوم شريعة ،فكانت الأمة التي استحقت أن تسمى المسلمـين لتحقيقها معاني :{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وهي : إسلام القلب والجوارح ، إسلام الفرد والمجتمع ،إسلام الحياة كلها لله تعالى وحده لا شريك له .

63- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هي الاستجابة لكل الأوامر ، والانقياد والاستسلام لمن بيده ملكوت كل شيء ، في كل حال من الأحوال ، في كل زمان وفي كل مكان .

64- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ليست كلمة مجردة كما يريد أعداء الله عز وجل ، ممن يروجون للضلال بكل لسان ، الذين يتساءلون في استنكار: ما للإسلام وسلوكنا الاجتماعي؟! وما للإسلام وزي المرأة ؟! وما للإسلام والمرأة وقيادتها للسيارة واختلاطها بالرجال وحريتها الشخصية في سفرها بدون محرم وتصرفها في شؤونها؟! وينكرون بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد، ويقولون: ما للدين والمعاملات الربوية؟! بل إنهم يتبجحون بأن الدين يفسد الاقتصاد ، فأي فرق بين هؤلاء وبين سؤال أهل الكفر في زمن نبي الله شعيب: { أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } هود:87 .

65- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هي الحرية الحقيقية من عبادة غير الله ، وليس من أطلق على أهوائه حرية ، كمن يحاول أن يسقط جدار الإسلام , عن طريق نشر الرذيلة والفسوق باسم الحرية الشخصية ومهاجمة الإسلام تحت شعار الحرية الفكرية وأهم وسائلهم وأقواها هي ما يسمونه بتحرير المرأة ، ولا نعلم ممن سيحررونها ، أو كيف سيحررونها, فالمرأة في الإسلام تنال حريتها الكاملة عبر صيانتها من الأيدي العابثة ، فهي مصونة الحقوق محفوظة الكرامة ، ولكن عندما تصاب أمة من الأمم بهذا المرض المدمر : ( فقدان الذات ) فإن أبرز أعراضه يتمثل في الانبهار القاتل بالأمم الأخرى والاستمداد غير الواعي من مناهجها ونظمها وقيمها .

66- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هي الإسلام الذي تضمنه تلك الكلمة العظيمة التي تعدل الكون كله ، بل ترجح به ، وما ظلت الأمة الإسلامية قروناً تقود البشرية ، وتتبوأ مركز الأمة الوسط بين العالمين ، إلا بفضل إدراكها لتلك الكلمة العظيمة والعمل بمضمونها وحقيقة مدلولها في واقع الحياة .

67- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } اعتراف منك بأنك عبد لله ، فالحرية الحقيقية في عبودية الله ، لا حرية لك بلباسك ولا بفعلك ولا ببيعك ولا بشرائك، ولا بذهابك ولا بمجيئك، إلا في هذه الحدود .

68- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هي الالتزام بالإسلام كله في شموله وسعته، وليس الأخذ بجانب من تعاليمه وأحكامه وطرح جانب آخر ، وإلا كيف تردد : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }.

69- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هي الرفض الجازم والتخلي الكامل عن كل المعبودات والطواغيت المختلفة، طاغوت الهوى ، وطاغوت الزعامة ، وطاغوت القبيلة ، وطاغوت الكهانة ، وطاغوت التقليد… ، والاستسلام الكامل لله ورد الأمر كله – جليله وحقيره وكبيره وصغيره- إلى الله تعالى وحده لا شريك له.

70- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } تستوعب الكيان البشري كله, فمن يردد { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لا يعبد الله بلسانه فحسب أو ببدنه فقط أو بقلبه أو بعقله, بل يعبد الله بهذا كله: بلسانه ذاكراً داعياً تالياً, وببدنه مصلياً صائماً مجاهدا ً, وبقلبه محباً خائفاً راجياً متوكلاً, وبعقله متفكراً متدبراً متأملاً . وهذا هو معنى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } .

71- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ترجع إليها معاني القرآن كلّها، التي حوت في طيّاتها تجريد التّوحيد لربّ العبيد، والتوكّل عليه، والثّناء عليه، والدّعاء بالإقبال إليه، والافتخار والاعتزاز بعبادته .

72- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هي البراءة من كل معبود من دونه ، فلا يتحاكم إلا إليه، ولا يتلقى الهدى إلا منه ولا يتوجه بالعمل إلا إليه، ولا يوالي ولا يعادي إلا فيه.

73- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هي فقط التي تكفل سعادة الإنسان في الدارين ، فإذا لم تتحقق معاني { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أو ضعف تحقيقها لم يحصل المرء على مايطلب ولو ملك الدنيا بأسرها، ولو حصل على علوم الدنيا كلها ، ومن المؤسف أن بعض أهل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } شُغلوا بفلسفات وأنظمة خدعت الكثيرين ببريقها، وانتشرت شعارات ومصطلحات أسرت عقول البعض واستحوذت على الأفكار ، كل ذلك من أجل تحقيق الراحة والسعادة التي يبحثون عنها !! ولن يجدوها إلا في ظل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } .

74- { إيَّاكَ نَعْبُدُ } معناها : أننا جميعاً لك عبيد ، فلم يقل: (أعبد) لأنك تخبر عن نفسك وغيرك من العباد ، وفي هذا إشارة إلى أن أهل الملة الواحدة هم يد واحدة ، فربهم واحد ، وكتابهم واحد ، ودينهم واحد ، ودعوتهم واحدة ، فلا مجال للشقاق ولا مجال للنزاع ، ولا مجال للفرقة .

75- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هدفك في الحياة الذي هو عبادة الله عز وجل ، وليس شيئاً نتحدث عنه ثم نقفله وننتهي إلى غيره ، بل هو معنى يرافقنا في كل وقت وفي كل حال ، وما جعلك الله ترددها في اليوم مراراً وتكراراً إلا لتفقه معناها وتعمل بمقتضاها ، لم يطلب منك تردادها إلا لأجل أن تقف مع نفسك وتتذكر هذه الكلمة التي هي حياتك ومصيرك !!

76- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } اعتراف منك بالعبودية ، فأنت تردد في كل ركعة هذا الاعتراف ، فهل وقفت مع نفسك وسألتها عن هذا الاعتراف ماهو ؟ وماحقيقته ؟

77- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أصلها عبادة القلب، فإن القلب هو الملك، والأعضاء جنوده ، فالله عز وجل خلق هذا القلب وركبه تركيباً خاصاً لا يصلح بحال من الأحوال إلا إذا تعلق بربه ومليكه ، فإذا تعلق القلب بالمخلوق ؛ عذب بهذا المخلوق أياً كان سواء كان رجلاً، أو امرأة، أو سيارة، أو عقارات، أو مالاً، أو غير ذلك.

78- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } على الحقيقة والتحقيق : الدين كله، ولما سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الإسلام والإيمان والإحسان قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه : ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) رواه مسلم .

79- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أصل الدين وقاعدته التي لا تصلح الحياة البشرية كلها إلا به ، فإذا عرفت الله ، وآمنت به ، ووحدته ، سهل عليك الانقياد لفعل الأوامر واجتناب النواهي رغبة في الثواب ، وخشية من العقاب والجزاء .

80- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } من أعظم الأدوية القلبية والبدنية ، وهاتان الكلمتان من أقوى أجزاء الدواء ، وسبب قوة هاتين الكلمتين لما فيها من عموم التفويض والتوكل والالتجاء والاستعانة والافتقار والطلب .

81- { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } كلمتان مقسومتان بين العبد وربه ، فالعبادة تجمع أصلين : غاية الحب بغاية الذل والخضوع ، والاستعانة تجمع أصلين : الثقة بالله والاعتماد عليه ، فالعبادة هي الغاية التي خلق الخلق من أجلها ، والاستعانة وسيلة إليها .

82- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } استحضارك عظم حاجتك إلى ربك عز وجل في أن يثبتك على توحيده ، فمادام اعترفت أنك لاتعبد غيره ولاتتعلق بسواه فأنت محتاج إلى من يعينك على ذلك ويثبتك عليه ، لأنه لا يمكن أن تثبت في توحيد الله إلا بعون منه ، وكلما كنت أتم عبودية كانت الإعانة لك من الله أعظم .

83- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } إعلان ضعفك لله ، وافتقارك إليه ، وانكسارك بين يديه ، فهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض ، أما المخلوق فليس عنده نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل .

84- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فيها الثقة برزق الله تعالى ونصره وعونه وحفظه ، فهناك من يعبد الله ولكنه يستعين بغير الله ، كالذين تخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم، ورزقهم، كالملوك والأغنياء والمشائخ .

85- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } اعتراف منك أنك لاتستعين غيره ، ليقينك أن الأمر كله بيده وحده لا يملك أحد منه مثقال ذرة ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك … الحديث ) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ، فمن استعان بغير الله وكله الله إليه ، فلا يستطيع نفعه ، بل يخذله ، وكما قال الشاعر :
من استعان بغير الله في طلب ***** فإنّ ناصره عجز وخذلان .

86- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } اعتراف يمنعك أن ترجو المخلوق أو تستعين به أو تطلب منه منفعة لك فيما لايقدر عليه إلا الله ، أما إذا استعنت بالمخلوق فيما يقدر عليه كبناء الدار وخياطة الثوب ونحو ذلك فلا بأس بذلك ، فالتعاون مطلوب فيما يرضي الله ، فلا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم ، بل أحسن إليهم لله ، وكن كما قال تعالى : { وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } الليل 19-20 .

87- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أن تخلص له وتتبع شرعه ، فمن أعظم ما تطلب الاستعانة به لتحقيق العبوديّة هو أن تكون خالصة لله ، وأن تكون بما شرعه الله على لسان رسوله ، لا بما تمليه عقول الرّجال، والعادات، والأعراف، وغير ذلك ، فإن الله لا يقبل من العمل إلاّ ما كان خالصاً لوجهه ، موافقاً لشرعه .

88- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أن تستعين بالله وتتوكل عليه في جميع أمور دينك ودنياك ، فإن كل عابد لله عبودية تامة فهو مستعين به ، ولا ينعكس ، فهناك من يستعين بالله في أمور دينه فقط وهذا نقص في الاستعانة ، ومنهم من يستعين به في أمور دنياه فقط ، وهذا أيضًا نقص في الاستعانة ، ومنهم من يستعين بالله في بعض أمور دينه أو في بعض أمور دنياه أو في حاجة واحدة فقط ، وهذا أيضاً نقص في الاستعانة ، والحق أن تستعين بالله في جميع أمور دينك ودنياك .

89- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أن تتبرّأ من حولك وقوّتك ، ولا يكن حالك حال من قال: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } القصص 78 ، بل عليك أن تفتقر إلى الله وحده ، وتسأله الإعانة في الأمور كلّها ، فإحساسك بالحاجة إلى معونة ربك ، معناه : أنك لا تملك لنفسك حولاً ولا قوة ، وهذا الشعور من شأنه أن يبعد الإنسان عن الشعور بالعجب الناشئ عن الإحساس بالقدرة التامة في تربية الذات وتنميتها ، كهذا الهراء الذي نسمعه يتردد على ألسنة الكثير ممن يرددون { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } في اليوم مراراً وتكراراً ، ويستشهدون بأعلام ليسوا على شريعتنا ويحاجون بحجج واهية تنافي الذل والافتقار إلى رب الأرباب .

90- { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } شعور غرسه الله في فطرة الإنسان بضرورته إلى ربه وخالقه ومالكه ؛ ثم أرسل إليه الرسل وأنزل إليه الكتب للتذكير بذلك ، رحمة منه للطائعين ، وقطعاً منه لحجة المعاندين ، فكل مخلوق مضطر إلى موجده ومنشئه ومدبر أمره ورازقه ، فهل فقهنا معنى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .
91- في قوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لجوءك إلى الله عزّ وجلّ أن يثبتك على دينه ، فالصراط المستقيم هو الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، فـ { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } التزام بما أوجبه الله عليك من العبادة ، و {َإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} طلب للإعانة على ذلك ، و{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } متضمن للتعريف بالأمرين على التفصيل ، والتوفيق للقيام بهما .
92- { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } سؤال عظيم لا يعرف قدره وحاجته إلا من وفقه الله وسدده وقليل ما هم ، فالهداية هي البيان والدلالة ثم التوفيق والإلهام ، فأنت تطلب من الله أن يبين لك طريق الحق ، وهذه هي هداية البيان ، وتطلب من الله أن يوفقك لهذا الطريق الذي لا اعوجاج فيه ، وأن يثبتك عليه ، وهذه هي هداية التوفيق ، ونحن في زمننا هذا ؛ أشد مانكون إلى هاتين الهدايتين ، فنسأل الله أن يرزقنا إياها ، بمنِّه وفضله وكرمه .

93- إن حقيقة الصراط المستقيم الذي يتصوره العبد وقت سؤاله هو طريق الله الذي نصبه لعباده عن طريق رسله ، فمن رحمة الله أن أوجب علينا تكرار هذا الدعاء ، فلنتأمل ضرورتنا إلى هذا الدعاء ، فالهداية إلى ذلك تتضمن العلم النافع ، والعمل الصالح ، والثبات على ذلك إلى أن نلقى الله .

94- إن الإيمان والعمل الصالح هو الصراط المستقيم في الدنيا الذي أمر الله العباد بسلوكه والاستقامة عليه , وأمرهم بسؤال الهداية إليه , ولو رجعت إلى كتاب الله وتدبرت الصراط المستقيم الذي وعد الله أهله بالتمكين والاستخلاف والأمن والعزة والنصرة والسعادة والحياة الطيبة والراحة والطمأنينة وغير ذلك من الثمرات التي وعد الله بها في كتابه لأهل الصراط المستقيم لوجدت ذلك أكثر مما يُحصى .

95- كل ما خالف هذا الصراط من طريق أو علم أو عبادة فليس بمستقيم، بل معوج ولذلك جعل الله هذا الدعاء ركناً قولياً نجهر به في الصلوات اليومية ، لأنه إذا حصل البيان والدلالة والتعريف ، أدى ذلك إلى هداية التوفيق وحُبِّب الإيمان في قلب صاحبه وزُين فيه ، وحصل الرشد والهداية . نسأل الله من فضله .

96- في هذا الدعاء ضمان السعادة في الدارين ، فنحن بحاجة ماسة إلى هذا الضمان ، وإلى السكون والاطمئنان ، فالأمر يتعلق بمصير الإنسان ، وبكل حياته ووجوده وحركته، فهذا الدعاء أعظم شيء نحتاجه ، فحاجتنا إلى الهدى في كل لحظة أعظم من حاجتنا إلى الأكل والشرب .

97- من هُدي في هذه الدار إلى الصراط المستقيم الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه ، هُدي في الآخرة إلى الصراط المستقيم المنصوب على متن جهنم ، فعلى قدر سير العبد على هذا الصراط في الدنيا ، يكون سيره على ذلك الصراط في الآخرة ، قال ابن تيمية رحمه الله : والصراط منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار ، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم ، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق ، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يزحف زحفا ، ومنهم من يُخطف ويلقى في جهنم ، فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم ، فمن مر على الصراط دخل الجنة .
فلينظر المرء إلى الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم ، فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط التي تخطفه وتعوقه عن المرور عليه ، فإن كثرت هنا وقويت ، فكذلك هي هناك ( وما ربك بظلام للعبيد .

98- في قوله تعالى : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } التفصيل بعد قوله الصراط المستقيم ، لبيان هذا الطريق الذي هو طريق الذين تكرّم الله عليهم بأعظم النعم ، وقد ذكرهم الله في سورة النساء بقوله : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً } .

99- في قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } رد على الشيعة الذين يرددون في صلاتهم هذه الآية ، ويقعون في أبي بكر وإمامته وهو من الصديقين رضي الله عنه وأرضاه ، نعوذ بالله من الضلال .

100- في قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } دليل على أن نعمة الدين أكبر من نعمة الدنيا ، وأن من سلك هذا الصراط فهو في نعمة ، وفي سرور وانشراح لقوله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً … } النحل 97 ، فهؤلاء في نعمة وإن كانوا في ضيق من العيش ، لأن النعمة بالدين أعظم نعمة ينعم الله بها على عبده .

101- كلمة { أَنْعَمْتَ } تفيد معنى ينطبق على جميع الأمور التي تعني الإنسان من هداية ، أو صحة أو مال ، أو جاه ، أو علم ، أو أمن ، أو أي شيء آخر يسهم في إسعاد الإنسان ، فهذه كلها نعم من رب العالمين ، ولكن المهم هو أن ندرك نحن هذه النعمة ، فهل النعمة نعمة المال ، أو السلطة ، أو الجاه ، أو المنصب، أو القوة الجسدية ، أو الجمال ، أو النسب ، هذا كله أو بعضه قد يشعرك بالطمأنينة ، والسعادة ، والراحة النفسية ، ولكنها طمأنينة وراحة وسعادة لاتلبث أن تزول ، فالمال والجمال والقوة وغير ذلك لن يستطيع أن يمنحك السعادة التي قد يجدها الفقير المعدم ، ويفقدها الغني بماله ، ولأجل ذلك جاء التعبير عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ، بـ { أنعمت عليهم } لأنهم في نعمة حقيقية ، وفي السعادة القلبية ، حتى وهم يتألمون ويواجهون المحن ، والبلايا، ويستشهدون .

102- إن في المغضوب عليهم والضالين من أنعم الله عليهم بنعم عظيمة في الدنيا لكن هذه النعم ليست بشيء بالنسبة إلى نعمة الدين ولهذا قال تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لبيان أن النعمة الحقيقية هي نعمة الهداية .
دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تأثر جنبه من الاضطجاع على سرير الليف الذي عنده ، فبكى رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا عمر ؟ قال عمر : ومالي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى ، فقال : يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ قال : بلى ، قال : هو كذلك .

103- في قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } استعطاف ، فإن من عادة المساكين أن يتوسلوا بقولهم : أعطنا كما أعطيت فلاناً وفلاناً، فهذا الدعاء توسل إلى الله بنعمه وإحسانه إلى من أنعم عليهم بالهداية كما يقول السائل للكريم : تصدق عليّ في جملة من تصدقت عليهم ، وعلمني في جملة من علمته ، وأحسن إليّ في جملة من شملته بإحسانك ، وهذا من الافتقار إلى الله في طلب الهداية التي هي أصلُ سعادة الدارين .

104- تكرار هذا الدعاء في كل ركعة دليل على أن هذا الدعاء ليس أمراً نظرياً تجريدياً لا واقع له ، أو فوق طاقة البشر ، أو غير قابل للتطبيق ، بل إنه تعالى في خصوص هذه السورة يريد أن يبين لنا أن الأسوة والقدوة واقعاً حياً يمكن أن نترسم خطاه ، ونهتدي بهديه ، وكل ذلك يفسر لنا السبب في أن ذلك قد ورد في سورة الفاتحة التي تتكرر في كل يوم سبع عشرة مرة ، ليصبح خلقاً ، وطريقة ، من خلال ارتكاز ذلك في نفس الإنسان وروحه .

105- في الآية دليل على أن الله تعالى له المنة الكبرى على من أنعم عليهم بهذه النعمة ، فليحمد العبد ربه على كل عمل صالح يعمله ، فإنه بنعمة الله ، وعونه وتوفيقه .

106- أنت متوسل إلى الله بإيمانك واعتقادك أن صراط الحق هو الصراط المستقيم ، وأنه صراط الذين اختصهم بنعمته وحباهم بكرامته ؛ فهل أنت مستشعر ذلك ؟

107- في قوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } الاستعاذة من طريق المغضوب عليهم والضالين ، والمغضوب عليهم هم اليهود ، الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه ، والضالون هم النصارى الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لايهتدون إلى الحق .

108- الاستعاذة من صراط المغضوب عليهم استعاذة من أسباب الغضب ، والاستعاذة من صراط الضالين استعاذة من أسباب الضلال ، فقد يظن البعض إذا رأى في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم ، وأن النصارى ضالون ، ظن أن ذلك مخصوص بهم ، بل كل من علم حكماً من أحكام الله تعالى وخالفه كان مستحقاً لغضب الله عز وجل وذلك بحسب ما خالف به من أمر الله تعالى .

109- هذا الدعاء الذي نكرره في كل ركعة يجعل كلاً منا يحاسب نفسه , ليسلم مما وقع فيه هذان الفريقان فيحذر طريقهما , فكم من المسلمين يعلم حكم تارك الصلاة ، ويتركها ، ويعلم حكم تحريف الكلم عن مواضعه ويحرف ، ويكتم دين الله تعالى ، ويتحايل على الدين ويعلم حرمة ذلك ، ويعلم تحريم قطيعة الرحم وهو قاطع ، ويعلم تحريم الكذب وهو كذاب ، ويعلم تحريم الربا ويرابي ، وغير هذا مما يخالف أمر الله ، وكم من المسلمين من يبتدع قاصداً الأجر والثواب ، ولهذا كان في قوله تعالى :{ وَلا الضَّالِّينَ } إشارة إلى أن الضلال صفة ممقوتة لأن المؤمن يسأل الله تعالى أن يعصمه عن طريق الضالين ، فعليه إذاً أن يتعلم مايجعله يؤدي عبادته على الوجه الصحيح .

110- كما سألت الله أن يعصمك من طريق هؤلاء فتبرأ منهم ، وتجنب ماهم عليه ، واحمد الله على أن هداك الصراط المستقيم ، فكم من مسلم يدعو ربه في كل ركعة بأن يجنبه الله طريق اليهود والنصارى ، وهو يشابههم ويقلدهم ويلبس لبسهم ، ويتمنى أن يكون مثلهم في هيئاتهم وأخلاقهم وطبيعة حياتهم ، بل ويتمنى أن يعيش طوال عمره في بلادهم بلا عذر ولاضرورة !! ولاحول ولا قوة إلا بالله ، وهذا من ضعف العقيدة الناتج عن عدم تدبر مانقرأ من كتاب الله .

111- من علامة اهتدائك للصراط المستقيم مخالفة المغضوب عليهم والضالين ومن سار على نهجهم , ولذلك لما ذكر الله الصراط المستقيم, ثم ذكر الذين أنعم عليهم، قال: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فمن شابههم في لبسهم أو كلامهم أو حركاتهم أو سكناتهم لم يهتد اهتداءً تاماً ، ففي الحديث الصحيح: {من تشبه بقوم فهو منهم } فيدخل في ذلك التشبه بهم في لباسهم ، فكم من مسلمة تدعو بهذا الدعاء في كل ركعة وهي تلبس لبس الضالين وتعجب به ، ويدخل في التشبه أيضاً من ينطق لغتهم دائماً بدون حاجة ويحبها ويقدمها على العربية وهذا كما قال ابن تيميه من علامة نفاقه ، وهذا واقع في المجتمع, فتجد بعض الناس يحب أن يتكلم الإنجليزية دون حاجة , ويؤرخ بالتقويم الميلادي ، ويعتقد أن ذلك تطور, ووالله إنه ليس تطوراً بل هو انهزامية .

112- إن العالم إذا علم قامت عليه الحجة ، ولا يقصد بالعالم واسع العلم ، بل يقصد بالعالم كل من علم مسألة من مسائل الدين فهو عالم بها حتى وإن كان وصفه عامياً كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، ففي الآية التحذير من عدم عمل العالم بما علم ، فاليهود تعلموا ولم يعملوا , والنصارى عملوا بلا علم, ولِمَ ضلوا؟ لأنهم لم يتعلموا، بل عبدوا الله بلا علم, وبعض الناس الآن يهون من شأن العلم الشرعي ، فهذا فيه شبه من النصارى .

113- كلمة : { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } جاءت في مقام الإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم ، وذلك بالإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والاقتصار عليها، أما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم ، ففي قوله : { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } إشارة إلى تعريفهم ، أما المغضوب عليهم فالمقصود في الآية التحذير من صفتهم .

114- في الآية يأمر الله عباده المؤمنين بمعاداة أهل الغضب والضلال ، فالمؤمن يغضب لغضب ربه ، ويرضى لرضا ربه ، فغضبك على هؤلاء موافقة لغضب ربك عليهم ، وهذه حقيقة العبودية ، فاليهود قد غضب الله عليهم ، فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم، وتأمل كيف حذف فاعل الغضب وقال : { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } لأن للمؤمنين نصيب من غضب الله عليهم ، أما الإنعام فإنه لله وحده؛ ولذلك قال : { أَنْعَمْتَ }.

115- انقسم الناس في السورة إلى ثلاثة أقسام : عالم بالحق عامل به ، وهو المنعم عليه ، وهذا الذي زكى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو المفلح؛ كما قال تعالى : (قد أفلح من زكاها) . وعالم بالحق مخالف له متبع هواه ، وهو المغضوب عليه ، وجاهل بالحق ، وهو الضال .

116- إن فساد القصد وسوء النية ، والحسد والتكبر عن قبول الحق سبب للحرمان من هداية التوفيق ، لأن هداية التوفيق لاتتحقق للعبد إلا بحسن القصد وصدق النية وطهارة القلب ، فاليهود حرموا هداية التوفيق بسبب إعراضهم عن الحق وسوء نواياهم وفساد قصدهم وحسدهم وتكبرهم ، وفي هذا تحذير من ذلك .

117- الجهل بالحق وترك العلم الواجب سبب الضلال والحرمان من هداية البيان والعلم ، لأن هداية البيان والعلم لاتتحقق إلا بالعلم النافع وبذل الجهد في تحصيله ، فالنصارى ضلوا لأنهم جهلوا الحق وعملوا خلافه ، وفي هذا التحذير من التهاون في طلب العلم ، والتعبد بما لم يشرعه الله .

118- في الآيات معانٍ لو استشعرناها وجدنا ما يلي : أننا نسأل الله الهداية في كل ركعة ، فهل بذلنا السبب ؟! ونسأل الله أن يحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في كل ركعة ، فهل تعرفنا على سيرهم ، واتبعنا نهجهم ، وحذونا حذوهم ؟! و نسأل الله أن يجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين في كل ركعة ، فهل تجنبنا طريقهم وتركنا التشبه بهم ، وكنا على حذر من التلبيسات الباطلة والشبه الباهتة ؟!

119- هذه السورة كما قال ابن القيم : هي المفتاح الأعظم لكنوز الأرض، كما أنها المفتاح لكنوز الجَنَّة، ولكن ليس كل واحد يُحسن الفتح بهذا المفتاح، ولو أنَّ طُلابَ الكنوز وقفوا على سر هذه السورة، وتحقَّقُوا بمعانيها، وركَّبوا لهذا المفتاح أسناناً، وأحسنُوا الفتح به، لوصلوا إلى تناول الكُنوزِ ، ولكنْ لله تعالى حكمةٌ بالغة في إخفاء هذا السر عن نفوس أكثر العالَمين، كما لَه حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم …. ا.هـ

120- الوسيلة القرآنية وسيلة فطرية قريبة، موصلة إلى عين المقصود، فالله جل وعلا لم يقتصر على مجرد الإقرار به ،كما في الطرق الكلامية ، بل أمر بعبادته التي هي كمال النفوس، وصلاحها، وغايتها ، فصلاح النفوس وطهارتها وسعادتها وراحتها واطمئنانها بعبادته .

121- افتتاح القرآن الكريم بالفاتحة وتكرار قراءتها في كل ركعة دليل على أهمية تواصل العقيدة في حياة المسلم ، لتكون سلوكاً وعملاً واقعياً مستمراً في الحياة .

122- ليس هناك علم على وجه الأرض يكرر يومياً بنفس الصيغة وبنفس الطريقة وبنفس الألفاظ إلا ويمله صاحبه وترفضه نفسه بل وتكرهه ، إلا علم يصلك برب العالمين ، والفاتحة أعظم العلوم .

123- تكرار السورة في كل ركعة تأكيد لوجوب التدبر في معانيها ، وذلك لتقوى الصلة بين العبد وربه .

124- العقيدة الصحيحة درس يعطى على الدوام ، ونحن بحاجة إلى بناء العقيدة من جديد وإلى تصحيح التصور الاعتقادي من خلال التدبر في هذه السورة العظيمة .

125- تكرار السورة في كل ركعة تزكية للنفس وطهارة للقلب ، فالعقيدة السليمة النقية من الشوائب أساس بناء النفس وتزكيتها .

126- قارن بين دور التدبر في هذه السورة التي نرددها يومياً في البناء النفسي للمسلم ، وبين مناهج أهل الغضب والضلال ؟.

127- بقدر صفاء العقيدة ونقائها والتخلص من شوائبها بقدر ترقي الإنسان في الحياة وبقدر سعادته في الدنيا ، لأن العبادة الصحيحة هي التي تحقق الهداية وتضمن سعادة الدارين .

128- تكرار السورة في كل ركعة إشارة إلى ضرورة فهم معانيها ، فإذا فات شيء من فهمها في ركعة ، فحاول أن تسترجع شيئاً من معانيها في الركعة الأخرى ، أو في الصلاة الأخرى ، وعوّد نفسك على هذا وجاهد ، وستصل بإذن الله .

129- من أعطى الفاتحة حقها بتدبر معانيها وتحقيق مضمونها ، عَلِمَ أنه لن يقرأها متعبداً بها العبادة الحقة إلا بالتوبة النصوح ، لأن الهداية التامة إلى الصراط المستقيم لاتكون مع الجهل بالذنوب ، ولا مع الإصرار عليها .

رسالة إلى طلبة العلم والدعاة والمربين رجالاً ونساء :

1- إن التنفيذ للأوامر واجتناب النواهي ناتجٌ عن الاعتقاد الصحيح ، لأن العقيدة كجذور الشجرة ، وإذا لم تكن الجذور ضاربة في أعماق الأرض ، فإنها لن تحمل فروع هذه الشجرة الضخمة الباسقة ، ولا يمكن أبداً أن نجمع أغصاناً نضرة مع بعضها في الهواء ، وعلى هذا فالعمل الصالح لا بد له من إيمان متمكن في جوانب النفس وأغوارها , وأعماق الفؤاد , ومسارب الضمير .

2- إن هذا الدين لا يكون ولن يكون إلا كما أراد الله، ولن يبنى إلا بنفس المنهج الذي رسمه رب العالمين ، فكما أن هذه الأوامر والنواهي فريضة من عند الله ، فكذلك اقتفاء المنهج الرباني في تعليم الناس ودعوتهم فرض كذلك .

3- كما أننا مأمورون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في العقيدة والعبادة والسلوك ، بل وفي قضايانا الاجتماعية ، كذلك يجب علينا متابعته صلى الله عليه وسلم في منهجه في الدعوة إلى الله تعالى ، وطريقته في التبليغ ، وأن نبدأ بما بدأ به ، وأن نركز على ما ركز عليه .

4- إن العقيدة هي الأساس المكين الذي ترتكز عليه فروع هذا الدين كله، فمن العبث محاولة إشادة بناء ضخم بلا أساس ، فالعقيدة هي الأساس للبناء، والعمارة الضخمة لا بد لها من أساس مكين وقاعدة صلبة حتى يستقر فوقها البناء .

5- هذه السورة منهج رباني في بناء النفس الإنسانية ، فبناء النفس الإنسانية يكون بترسيخ العقيدة في الأعماق .

6- إن تعليم الناس أمور دينهم من خلال القرآن ليس تجديداً في الخطاب الدعوي بل هو أمر إلزامي .

7- إن استقرار العقيدة في الأفئدة يتوقف عليه تنفيذ جميع التشريعات، ومن العبث تتبع فروع الشرع وطلبها من شخص لا ترسخ في قلبه حقيقة هذا الدين ، ولا تستقر في كيانه عظمة الله التي تهيمن على كل سكون وحركة في هذا الكون .

أخيراً أقول : إن النفوس التي تقدم الإسلام للناس لا بد لها أن تكون كالمرآة الصافية التي تعكس حقيقة هذا الدين .

هذا ماتيسر بيانه ، من بعض اللمحات والإشارات التي وفق الله لعرضها من سورة الفاتحة ، أقول هذا وأنا أدرك أنني حين أقف على شواطئ هذه البحار الغامرة ، أعجز أن أنال سوى القطرة أو القطرات

خواطر الشيخ الشعراوي في سورة الفاتحة 1

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)

القرآن الكريم منذ اللحظة التي نزل فيها .. نزل مقرونا بسم الله سبحانه وتعالى ـ ولذلك حينما نتلوه فإننا نبدأ نفس البداية التي أرادها الله تبارك وتعالى ـ وهي أن تكون البداية بسم الله. وأول الكلمات التى نطق بها الوحي لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت “اقرأ بسم ربك الذي خلق”. وهكذا كانت بداية نزول القرآن الكريم ليمارس مهمته في الكون .. هي بسم الله. ونحن الآن حينما نقرأ القرآن نبدأ نفس البداية. ولقد كان محمد عليه الصلاة والسلام في غار حراء حينما جاءه جبريل وكان أول لقاء بين الملك الذي يحمل الوحي بالقرآن .. وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الحق تبارك وتعالى: “اقرأ“.

واقرأ تتطلب أن يكون الإنسان .. إما حافظا لشيء يحفظه، أو أمامه شيء مكتوب ليقرأه .. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حافظا لشيء يقرؤه .. وما كان أمامه كتاب ليقرأ منه .. وحتى لو كان أمامه كتاب فهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.

وعندما قال جبريل: “اقرأ” .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ .. وكان الرسول r الله صلى الله عليه وسلم منطقيا مع قدراته. وتردد القول ثلاث مرات .. جبريل عليه السلام بوحي من الله سبحانه وتعالى يقول للرسول “اقرأ” ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما أنا بقارئ .. ولقد أخذ خصوم الإسلام هذه النقطة .. وقالوا كيف يقول الله لرسوله اقرأ ويرد الرسول r ما أنا بقارئ.

نقول إن الله تبارك وتعالى .. كان يتحدث بقدراته التي تقول للشيء كن فيكون، بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحدث ببشريته التي تقول أنه لا يستطيع أن يقرأ ولا يكتب لتجعله معلما للبشرية كلها إلي يوم القيامة .. لأن كل البشر يعلمهم بشر .. ولكن محمد صلى الله عليه وسلم سيعلمه الله سبحانه وتعالى. ليكون معلما لأكبر علماء البشر .. يأخذون عنه العلم والمعرفة. لذلك جاء الجواب من الله سبحانه وتعالى

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)

سورة العلق

أي أن الله سبحانه وتعالى. الذي خلق من عدم. سيجعلك تقرأ على الناس ما يعجز علماء الدنيا وحضارات الدنيا على أن يأتوا بمثله .. وسيكون ما تقرأه وأنت النبي الأمي إعجازا .. ليس لهؤلاء الذين سيسمعونه منك لحظة نزوله. ولكن للدنيا كلها وليس في الوقت الذي ينزل فيه فقط، ولكن حتى قيام الساعة، ولذلك قال جل جلاله

اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)

سورة العلق

أي أن الذي ستقرؤه يا محمد .. سيظل معلما للإنسانية كلها إلي نهاية الدنيا على الأرض .. ولأن المعلم هو الله سبحانه وتعالى قال: “اقرأ وربك الأكرم” مستخدما صيغة المبالغة. فهناك كريم وأكرم .. فأنت حين تتعلم من بشر فهذا دليل على كرم الله جل جلاله .. لأنه يسر لك العلم على يد بشر مثلك .. أما إذا كان الله هو الذي سيعلمك .. يكون “أكرم” .. لأن ربك قد رفعك درجة عالية ليعلمك هو سبحانه وتعالى ..

والحق يريد أن يلفتنا إلي أن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يقرأ القرآن لأنه تعلم القراءة، ولكنه يقرأه بسم الله، ومادام بسم الله .. فلا يهم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلم من بشر أو لم يتعلم. لأن الذي علمه هو الله .. وعلمه فوق مستوى البشرية كلها.

على أننا نبدأ أيضا تلاوة القرآن بسم الله .. لأن الله تبارك وتعالى هو الذي أنزله لنا .. ويسر لنا أن نعرفه ونتلوه .. فالأمر لله علما وقدرة ومعرفة .. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى

قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(16)

سورة يونس

لذلك أنت تقرأ القرآن بسم الله .. لأنه جل جلاله هو الذي يسره لك كلاما وتنزيلا وقراءة .. ولكن هل نحن مطالبون أن نبدأ فقط تلاوة القرآن بسم الله؟ إننا مطالبون أن نبدأ كل عمل بسم الله .. لأننا لابد أن نحترم عطاء الله في كونه. فحين نزع الأرض مثلا .. لابد أن نبدأ بسم الله .. لأننا لم نخلق الأرض التي نحرثها .. ولا خلقنا البذرة التي نبذرها. ولا أنزلنا الماء من السماء لينمو الزرع

أن الفلاح الذي يمسك الفأس ويرمي البذرة قد يكون أجهل الناس بعناصر الأرض ومحتويات البذرة وما يفعله الماء في التربة لينمو الزرع .. إن كل ما يفعله الإنسان هو أنه يعمل فكره المخلوق من الله في المادة المخلوقة من الله .. بالطاقة التي أوجدها الله في أجسادنا ليتم الزرع. والإنسان لا قدرة له على إرغام الأرض لتعطيه الثمار .. ولا قدرة له على خلق الحبة لتنمو وتصبح شجرة. ولا سلطان له على إنزال الماء من السماء .. فكأنه حين يبدأ العمل بسم الله، يبدؤه بسم الله الذي سخر له الأرض .. وسخر له الحب، وسخر له الماء، وكلها لا قدرة له عليها .. ولا تدخل في طاقته ولا في استطاعته .. فكأنه يعلن أنه يدخل على هذه الأشياء جميعا بسم من سخرها له ..

والله تبارك وتعالى سخر لنا الكون جميعا وأعطانا الدليل على ذلك. فلا تعتقد أن لك قدرة أو ذاتية في هذا الكون .. ولا تعتقد أن الأسباب والقوانين في الكون لها ذاتية. بل هي تعمل بقدرة خالقها. الذي إن شاء أجراها وإن شاء أوقفها.

الجمل الضخم والفيل الهائل المستأنس قد يقودهما طفل صغير فيطيعانه. ولكن الحية صغيرة الحجم لا يقوى أي إنسان على أن يستأنسها. ولو كنا نفعل ذلك بقدراتنا .. لكان استئناس الحية أو الثعبان سهلا لصغر حجمها .. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعلها مثلا لنعلم أنه بقدراته هو قد أخضع لنا ما شاء، ولم يخضع لنا ما شاء. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ(71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72)

سورة يسن

وهكذا نعرف أن خضوع هذه الأنعام لنا هو بتسخير الله لها وليس بقدرتنا.

يأتي الله سبحانه وتعالى إلي أرض ينزل عليها المطر بغزارة. والعلماء يقولون إن هذا يحدث بقوانين الكون. فيلفتنا الله تبارك وتعالى إلي خطأ هذا الكلام. بأن تأتي مواسم جفاف لا تسقط فيها حبة مطر واحدة لنعلم أن المطر لا يسقط بقوانين الكون ولكن بإرادة خالق الكون .. فإذا كانت القوانين وحدها تعمل فمن الذي عطلها؟ ولكن إرادة الخالق فوق القوانين أن شاءت جعلتها تعمل وإن شاءت جعلتها لا تعمل .. إذن فكل شيء في الكون بسم الله .. هو الذي سخر وأعطى .. وهو الذي يمنح ويمنع. حتى في الأمور التي للإنسان فيها نوع من الاختيار .. واقرأ قول الحق تبارك وتعالى:

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ(49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(50)

سورة الشورى

والأصل في الذرية أنها تأتي من اجتماع الذكر والأنثى .. هذا هو القانون .. ولكن القوانين لا تعمل إلا بأمر الله .. لذلك يتزوج الرجل والمرأة ولا تأتي الذرية لأنه ليس القانون هو الذي يخلق .. ولكنها إرادة خالق القانون .. إن شاء جعله يعمل .. وإن شاء يبطل عمله .. والله سبحانه وتعالى لا تحكمه القوانين ولكنه هو الذي يحكمها.

وكما أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل القوانين تفعل أو لا تفعل .. فهو قادر على أن يخرق القوانين .. خذ مثلا قصة زكريا عليه السلام .. كان يكفل مريم ويأتيها بكل ما تحتاجه .. ودخل عليها ليجد عندها ما لم يحضره لها .. وسألها وهي القديسة العابدة الملازمة لمحرابها

قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا(37)

سورة آل عمران

الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة .. مع أن مريم بسلوكها وعبادتها وتقواها فوق كل الشبهات .. ولكن لنعرف أن الذي يفسد الكون .. هو عدم السؤال عن مصدر الأشياء التي تتناسب مع قدرات من يحصل عليها.. الأم ترى الأب ينفق ما لا يتناسب مع مرتبه .. وترى الابنة ترتدي ما هو اكبر كثيرا من مرتبها أو مصروفها .. ولو سألت الأم أو الابنة من أين لك هذا؟ لما فسد المجتمع .. ولكن الفساد يأتي من أننا نغمض أعيننا عن المال الحرام. بماذا ردت مريم عليها السلام؟ قالت “قَالَتْ كما اخبرنا الله سبحانه وتعالى

هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(37)

سورة آل عمران

إذن فطلاقة قدرة الله لا يحكمها قانون .. لقد لفتت مريم زكريا عليهما السلام إلي طلاقة القدرة .. فدعا زكريا ربه في قضية لا تنفع فيها إلا طلاقة القدرة .. فهو رجل عجوز وامرأته عجوز وعاقر ويريد ولدا .. هذه قضية ضد قوانين الكون .. لأن الإنجاب لا يتم إلا وقت الشباب، فإذا كبر الرجل وكبرت المرأة لا ينجبان .. فما بالك إذا كانت الزوجة أساسا عاقرا .. لم تنجب وهي شابة وزوجها شاب .. فكيف تنجب وهي عجوز وزوجها عجوز .. هذه مسألة ضد القوانين التي تحكم البشر .. ولكن الله وحده القادر على أن يأتي بالقانون وضده .. ولذلك شاء أن يرزق زكريا بالولد وكان .. ورزق زكريا بابنه يحيى. إذن كل شيء في هذا الكون باسم الله .. يتم باسم الله وبإذن من الله .. الكون تحكمه الأسباب نعم ولكن إرادة الله فوق كل الأسباب.

أنت حين تبدأ كل شيء باسم الله .. كأنك تجعل الله في جانبك يعينك .. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا أن نبدأ كل شيء باسم الله .. لأن الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه وتعالى .. والفعل عادة يحتاج إلي صفات متعددة .. فأنت حين تبدأ عملا تحتاج إلي قدرة الله وإلي عونه وإلي رحمته .. فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات .. كان علينا أن نحدد الصفات التي نحتاج إليها .. كأن نقول باسم الله القوي وبسم الله الرزاق وبسم الله المجيب وبسم الله القادر وبسم الله النافع .. إلي غير ذلك من الأسماء والصفات التي نريد أن نستعين بها .. ولكن الله تبارك وتعالى جعلنا نقول بسم الله الجامع لكل هذه الصفات.

على أننا لابد أن نقف هنا عند الذين لا يبدأون أعمالهم بسم الله وإنما يريدون الجزاء المادي وحده .. إنسان غير مؤمن لا يبدأ عمله بسم الله .. وإنسان مؤمن يبدأ كل عمل وفي باله الله .. كلاهما يأخذ من الدنيا لأن الله رب للجميع .. له عطاء ربوبية لكل خلقه الذين استدعاهم للحياة .. ولكن الدنيا ليست هي الحياة الحقيقية للإنسان .. بل الحياة الحقيقية هي الآخرة .. الذي في باله الدنيا وحدها يأخذ بقدر عطاء البربوبية .. بقدر عطاء الله في الدنيا .. والذي في باله الله يأخذ بقده عطاء الله في الدنيا والآخرة .. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(1)

(سورة سبأ

) لأن المؤمن يحمد الله على نعمه في الدنيا .. ثم يحمده عندما ينجيه من النار والعذاب ويدخله الجنة في الآخرة .. فلله الحمد في الدنيا والآخرة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

“كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع“

رواه السيوطى فى الجامع الصغير ، وعزاه لعبدالقادر الرهاوى فى اول كتاب(الأربعين) عن ابى هريرة باسناد حسن ورواه ابن كثير فى تفسيره ” بلفظ “فهو اجذم”

ومعنى أقطع أي مقطوع الذنب أو الذيل .. أي عمل ناقص فيه شيء ضائع .. لأنك حين لا تبدأ العمل بسم الله قد يصادفك الغرور والطغيان بأنك أنت الذي سخرت ما في الكون ليخدمك وينفعل لك .. وحين لا تبدأ العمل ببسم الله .. فليس لك عليه جزاء في الآخرة فتكون قد أخذت عطاءه في الدنيا .. وبترت أو قطعت عطاءه في الآخرة .. فإذا كنت تريد عطاء الدنيا والآخرة. أقبل على كل عمل بسم الله .. قبل أن تأكل قل بسم الله لأنه هو الذي خلق لك هذا الطعام ورزقك به .. عندما تدخل الامتحان قل بسم الله فيعينك على النجاح .. عندما تدخل إلي بيتك قل بسم الله لأنه هو الذي يسر لك هذا البيت .. عندما تتزوج قل بسم الله لأنه هو الذي خلق هذه الزوجة وأباحها لك .. في كل عمل تفعله ابدأه بسم الله .. لأنها تمنعك من أي عمل يغضب الله سبحانه وتعالى .. فأنت لا تستطيع أن تبدأ عملا يغضب الله .. وتذكرت بسم الله .. فإنك ستمتنع عنه .. ستسحي أن تبدأ عملا بسم الله يغضب الله .. وهكذا ستكون أعمالك كلها فيما أباحه الله.

الله تبارك وتعالى حين نبدأ قراءة كلامه بسم الله .. فنحن نقرأ هذا الكلام لأنه من الله .. والله هو الإله المعبود في كونه .. ومعنى معبود أنه يطاع فيما يأمر به .. ولا نقدم على ما نهى عنه .. فكأنك تستقبل القرآن الكريم بعطاء الله في العبادة .. وبطاعته في افعل ولا تفعل .. وهذا هو المقصود أن تبدأ قراءة القرآن بسم الله الذي آمنت به ربا وإلها .. والذي عاهدته على أن تطيعه فيما أمر وفيما ينهى .. والذي بموجب عبادتك لله سبحانه وتعالى تقرأ كتابه لتعمل بما فيه .. والذي خلق وأوجد ويحيي ويميت وله الأمر في الدنيا والآخرة .. والذي ستقف أمامه يوم القيامة ليحاسبك أحسنت أم أسأت .. فالبداية من الله والنهاية إلي الله سبحانه وتعالى. بعض الناس يتساءل كيف أبدأ بسم الله .. وقد عصيت وقد خالفت .. نقول إياك أن تستحي أن تقرأ القرآن .. وأن تبدأ بسم الله إذا كنت قد عصيت .. ولذلك أعطانا الله سبحانه وتعالى الحيثية التي نبدأ بها قراءة القرآن فجعلنا نبدأه بسم الله الرحمن الرحيم .. فالله سبحانه وتعالى لا يتخلى عن العاصي .. بل يفتح له باب التوبة ويحثه عليها .. ويطلب منه أن يتوب وأن يعود إلي الله .. فيغفر له ذنبه، لأن الله رحمن رحيم .. فلا تقل أنني أستحي أن أبدأ بسم الله لأنني عصيته .. فالله سبحانه وتعالى يطلب من كل عاص أن يعود إلي حظيرة الإيمان وهو رحمن رحيم .. فإذا قلت كيف أقول بسم الله وقد وقعت في معصية أمس .. نقول لك قل بسم الله الرحمن الرحيم .. فرحمة الله تسع كل ذنوب خلقه .. وهو سبحانه وتعالى الذي يغفر الذنوب جميعا.

والرحمة والرحمن والرحيم .. مشتق منها الرحم الذي هو مكان الجنين في بطن أمه .. هذا المكان الذي يأتيه فيه الرزق .. بلا حول ولا قوة .. ويجد فيه كل ما يحتاجه لنموه ميسراً .. رزقا من الله سبحانه وتعالى بلا تعب ولا مقابل .. انظر إلي حنو الأم على ابنها وحنانها عليه .. وتجاوزها عن سيئاته وفرحته بعودته إليها .. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي.

“أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته”

رواه احمد والبخارى وابو داود والترمذى

الله سبحانه وتعالى يريد أن نتذكر دائما أنه يحنو ويرزقنا .. ويفتح لنا أبواب التوبة بابا بعد آخر .. ونعصى فلا يأخذنا بذنوبنا ولا يحرمنا من نعمة .. ولا يهلكنا بما فعلنا. ولذلك فنحن نبدأ تلاوة القرآن الكريم بسم الله الرحمن الرحيم .. لنتذكر دائما أبواب الرحمة المفتوحة لنا .. نرفع أيدينا إلي السماء .. ونقول يا رب رحمتك .. تجاوز عن ذنوبنا وسيئاتنا. وبذلك يظل قارئ القرآن متصلا بأبواب رحمة الله .. كلما ابتعد عن المنهج أسرع ليعود إليه .. فمادام الله رحمانا ورحيما لا تغلق أبواب الرحمة أبدا.

على أننا نلاحظ أن الرحمن الرحيم من صيغ المبالغة .. يقال راحم ورحمن ورحيم .. إذا قيل راحم فيه صفة الرحمة .. وإذا قيل رحمن تكون مبالغة في الصفة .. وإذا قيل رحيم تكون مبالغة في الصفة .. والله سبحانه وتعالى رحمن الدنيا ورحيم الآخرة.. صفات الله سبحانه وتعالى لا تتأرجح بين القوة والضعف .. وإياكم أن تفهموا أن الله تأتيه الصفات مرة قليلة ومرة كثيرة. بل هي صفات الكمال المطلق .. ولكن الذي يتغير هو متعلقات هذه الصفات .. اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:

إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ(40)

سورة النساء

هذه الآية الكريمة .. نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى، ثم تأتي الآية الكريمة بقول الله جل جلاله

وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ(46)

سورة فصلت

نلاحظ هنا استخدام صيغة المبالغة .. “ظلام” .. أي شديد الظلم .. وقول الحق سبحانه وتعالى: “ليس بظلام” .. لا تنفي الظلم ولكنها تنفي المبالغة في الظلم، تنفي أن يظلم ولو مثقال ذرة .. نقول أنك لم تفهم المعنى .. أن الله لا يظلم أحدا .. الآية الأولى نفت الظلم عن الحق تبارك وتعالى ولو مثقال ذرة بالنسبة للعبد .. والآية الثانية لم تقل للعبد ولكنها قالت للعبيد .. والعبيد هم كل خلق الله .. فلو أصاب كل واحدا منهم أقل من ذرة من الظلم مع هذه الأعداد الهائلة .. فإن الظلم يكون كثيراً جداً، ولو أنه قليل في كميته لأن عدد من سيصاب به هائل .. ولذلك فإن الآية الأولى نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى. والآية الثانية نفت الظلم أيضا عن الله تبارك وتعالى .. ولكن صيغة المبالغة استخدمت لكثرة عدد الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة.

نأتي بعد ذلك إلي رحمن ورحيم .. رحمن في الدنيا لكثرة عدد الذين يشملهم الله سبحانه وتعالى برحمته .. فرحمة الله في الدنيا تشمل المؤمن والعاصي والكافر .. يعطيهم الله مقومات حياتهم ولا يؤاخذهم بذنوبهم، يرزق من آمن به ومن لم يؤمن به، ويعفو عن كثير .. إذن عدد الذين تشملهم رحمة الله في الدنيا هم كل خلقه. بصرف النظر عن إيمانهم.

ولكن في الآخرة الله رحيم بالمؤمنين فقط .. فالكفار والمشركون مطرودون من رحمة الله .. إذن الذين تشملهم رحمة الله في الآخرة .. أقل عددا من الذين تشملهم رحمة الله في الدنيا .. فمن أين تأتي المبالغة؟ .. تأتي المبالغة في العطاء وفي الخلود في العطاء .. فنعم الله في الآخرة اكبر كثيراً منها في الدنيا .. المبالغة هنا بكثرة النعم وخلودها .. فكأن المبالغة في الدنيا بعمومية العطاء، والمبالغة في الآخرة بخصوصية العطاء للمؤمن وكثرة النعم والخلود فيها.

لقد اختلف عدد العلماء حول بسم الله الرحمن الرحيم .. وهي موجودة في 113 سورة من القرآن الكريم هل هي من آيات السور نفسها .. بمعنى أن كل سورة تبدأ “بسم الله الرحمن الرحيم” تحسب البداية على أنها الآية الأولى من السورة، أم أنها حسبت فقط في فاتحة الكتاب، ثم بعد ذلك تعتبر فواصل بين السور..

وقال العلماء أن “بسم الله الرحمن الرحيم” آية من آيات القرآن الكريم .. ولكنها ليست آية من كل سورة ما عدا فاتحة الكتاب فهي آية من الفاتحة .. وهناك سورة واحدة في القرآن الكريم لا تبدأ بـ”بسم الله الرحمن الرحيم” وهي سورة التوبة وتكررت بسم الله الرحمن الرحيم في الآية 30 من سورة النمل في قوله تعالى

إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(30)

سورة النمل

خواطر الشيخ الشعراوي في سورة الفاتحة 2

سورة الفاتحة

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2) الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ(3)

سورة الفاتحة

فاتحة الكتاب هي أم الكتاب، لا تصلح الصلاة بدونها، فأنت في كل ركعة تستطيع أن تقرأ آية من القرآن الكريم، تختلف عن الآية التي قرأتها في الركعة السابقة، وتختلف عن الآيات التي قرأتها في صلواتك .. ولكن إذا لم تقرأ الفاتحة فسدت الصلاة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

“من صلى صلاة لم يقرأ فيها أم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تام“

رواه مسلم فى صحيحه بسند ابى هريرة

أي غير صالحة. فالفاتحة أم الكتاب التي لا تصلح الصلاة بدونها، والله سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي: “قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل .. فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين. قال الله عز وجل حمدني عبدي. فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: أثنى علي عبدي، فإذا قال مالك يوم الدين، قال الله عز وجل مجدني عبدي .. فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله عز وجل هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل .. وإذا قال: “اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين” قال الله عز وجل

هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.

رواه احمد ومسلم وابو داود والترمذى والنسائى وابن ماجة وابن حبان عن ابى هريرية

وعلينا أن نتنبه ونحن نقرأ هذا الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، ولم يقل قسمت الفاتحة بيني وبين عبدي، ففاتحة الكتاب هي أساس الصلاة، وهي أم الكتاب. نلاحظ أن هناك ثلاثة أسماء لله قد تكررت في بسم الله الرحمن الرحيم، وفي فاتحة الكتاب، وهذه الأسماء هي: الله. والرحمن والرحيم. نقول أن ليس هناك تكرار في القرآن الكريم، وإذا تكرر اللفظ فيكون معناه في كل مرة مختلفا عن معناه في المرة السابقة، لأن المتكلم هو الله سبحانه وتعالى .. ولذلك فهو يضع اللفظ في مكانه الصحيح، وفي معناه الصحيح..

قولنا: “بسم الله الرحمن الرحيم” هو استعانة بقدرة الله حين نبدأ فعل الأشياء .. إذن فلفظ الجلالة “الله” في بسم الله، معناه الاستعانة بقدرات الله سبحانه وتعالى وصفاته. لتكون عونا لنا على ما نفعل. ولكن إذا قلنا: الحمد لله .. فهي شكر لله على ما فعل لنا. ذلك أننا لا نستطيع أن نقدم الشكر لله إلا إذا استخدمنا لفظ الجلالة. الجامع لكل صفات الله تعالى. لأننا نحمده على كل صفاته ورحمته بنا حتى لا نقول بسم القهار وبسم الوهاب وبسم الكريم، وبسم الرحمن .. نقول الحمد لله على كمال صفاته، فيشمل الحمد كمال الصفات كلها. وهناك فرق بين “بسم الله” الذي نستعين به على ما لا قدرة لنا عليه .. لأن الله هو الذي سخر كل ما في الكون، وجعله يخدمنا، وبين “الحمد لله” فإن لفظ الجلالة إنما جاء هنا لنحمد الله على ما فعل لنا. فكأن “بسم الله في البسملة” طلب العون من الله بكل كمال صفاته .. وكأن الحمد لله في الفاتحة تقديم الشكر لله بكل كمال صفاته. و“الرحمن الرحيم” في البسملة لها معنى غير “الرحمن الرحيم” في الفاتحة، ففي البسملة هي تذكرنا برحمة الله سبحانه وتعالى وغفرانه حتى لا نستحي ولا نهاب أن نستعين باسم الله أن كنا قد فعلنا معصية .. فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نستعين باسمه دائما في كل أعمالنا. فإذا سقط واحد منا في معصية، قال كيف استعين باسم الله، وقد عصيته؟ نقول له ادخل عليه سبحانك وتعالى من باب الرحمة .. فيغفر لك وتستعين به فيجيبك. وأنت حين تسقط في معصية تستعيذ برحمة الله من عدله، لأن عدل الله لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. واقرأ قول الله تعالى

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً(49)

سورة الكهف

ولولا رحمة الله التي سبقت عدله. ما بقى للناس نعمة وما عاش أحد على ظهر الأرض .. فالله جل جلاله يقول

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ(61)

سورة النحل

فالإنسان خلق ضعيفا، وخلق هلوعا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يدخل أحدكم الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته، قالوا: حتى أنت يا رسول الله قال: حتى أنا“. فذنوب الإنسان في الدنيا كثيرة .. إذا حكم فقد يظلم. وإذا ظن فقد يسئ .. وإذا تحدث فقد كذب .. وإذا شهد فقد يبتعد عن الحق .. وإذا تكلم فقد يغتاب. هذه ذنوب نرتكبها بدرجات متفاوتة. ولا يمكن لأحد منا أن ينسب الكمال لنفسه حتى الذين يبذلون أقصى جهدهم في الطاعة لا يصلون إلي الكمال، فالكمال لله وحده. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

“كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون“.

رواه احمد فى مسنده والترمذى وابن ماجة والحاكم عن انس رضى الله عنه

ويصف الله سبحانه وتعالى الإنسان في القرآن الكريم

وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ(34)

سورة ابراهيم

ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى ألا تمنعنا المعصية عن أن ندخل إلي كل عمل باسم الله .. فعلمنا أن نقول: “بسم الله الرحمن الرحيم” لكي نعرف أن الباب مفتوح للاستعانة بالله. وأن المعصية لا تمنعنا من الاستعانة في كل عمل باسم الله .. لأنه رحمن رحيم، فيكون الله قد أزال وحشتك من المعصية في الاستعانة به سبحانه وتعالى. ولكن الرحمن الرحيم في الفاتحة مقترنة برب العالمين، أوجدك من عدم .. وأمدك بنعم لا تعد ولا تحصى. أنت تحمده على هذه النعم التي أخذتها برحمة الله سبحانه وتعالى في ربوبيته، ذلك أن الربوبية ليس فيها من القسوة بقدر ما فيها من رحمة. والله سبحانه وتعالى رب للمؤمن والكافر، فهو الذي استدعاهم جميعا إلي الوجود. ولذلك فإنه يعطيهم من النعم برحمته .. وليس بما يستحقون .. فالشمس تشرق على المؤمن والكافر .. ولا تحجب أشعتها عن الكافر وتعطيها للمؤمن فقط، والمطر ينزل على من يعبدون الله. ومن يعبدون أوثانا من دون الله. والهواء يتنفسه من قال لا إله إلا الله ومن لم يقلها. وكل النعم التي هي من عطاء الربوبية لله يه في الدنيا لخلقه جميعا، وهذه رحمة .. فالله رب الجميع من أطاعه ومن عصاه. وهذه رحمة، والله قابل للتوبة، وهذه رحمة .. إذن ففي الفاتحة تأتي “الرحمن الرحيم” بمعنى رحمة الله في ربوبيته لخلقه، فهو يمهل العاصي ويفتح أبواب التوبة لكل من يلجأ إليه. وقد جعل الله رحمته تسبق غضبه. وهذه رحمة تستوجب الشكر. فمعنى “الرحمن الرحيم” في البسملة يختلف عنها في الفاتحة. فإذا انتقلنا بعد ذلك إلي قوله تعالى: “الحمد لله رب العالمين” فالله محمود لذاته ومحمود لصفاته، ومحمود لنعمه، ومحمود لرحمته، ومحمود لمنهجه، ومحمود لقضائه، الله محمود قبل أن يخلق من يحمده. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل الشكر له في كلمتين اثنتين هما الحمد لله.

والعجيب أنك حين تشكر بشرا على جميل فعله تظل ساعات وساعات .. تعد كلمات الشكر والثناء، وتحذف وتضيف وتأخذ رأي الناس. حتى تصل إلي قصيدة أو خطاب ملئ بالثناء والشكر. ولكن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته وعظمته نعمه لا تعد ولا تحصى، علمنا أن نشكره في كلمتين اثنتين هما: الحمد لله .. ولعلنا نفهم أن المبالغة في الشكر للبشر مكروهة لأنها تصيب الإنسان بالغرور والنفاق وتزيد العاصي في معاصيه .. فلنقلل من الشكر والثناء للبشر .. لأننا نشكر الله لعظيم نعمه علينا بكلمتين هما: الحمد لله، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا صيغة الحمد. فلو أنه تركها دون أن يحددها بكلمتين .. لكان من الصعب على البشر أن يجدوا الصيغة المناسبة ليحمدوا الله على هذا الكمال الإلهي .. فمهما أوتي الناس من بلاغة وقدرة على التعبير. فهم عاجزون على أن يصلوا إلي صيغة الحمد التي تليق بجلال المنعم .. فكيف نحمد الله والعقل عاجز أن يدرك قدرته أو يحصي نعمه أو يحيط برحمته؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعطانا صورة العجز البشري عن حمد كمال الألوهية لله، فقال: “لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك“. وكلمتا الحمد لله، ساوى الله بهما بين البشر جميعا، فلو أنه ترك الحمد بلا تحديد، لتفاوتت درجات الحمد بين الناس بتفاوت قدراتهم على التعبير. فهذا أمي لا يقرأ ولا يكتب لا يستطيع أن يجد الكلمات التي يحمد بها الله. وهذا عالم له قدرة على التعبير يستطيع أن يأتي بصيغة الحمد بما أوتي من علم وبلاغة. وهكذا تتفاوت درجات البشر في الحمد .. طبقا لقدرتهم في منازل الدنيا.

ولكن الحق تبارك وتعالى شاء عدله أن يسوي بين عباده جميعا في صيغة الحمد له .. فيعلمنا في أول كلماته في القرآن الكريم .. أن نقول “الحمد لله” ليعطي الفرصة المتساوية لكل عبيده بحيث يستوي المتعلم وغير المتعلم في عطاء الحمد ومن أوتي البلاغة ومن لا يحسن الكلام. ولذلك فإننا نحمد الله سبحانه وتعالى على أنه علمنا كيف نحمده وليظل العبد دائما حامدا. ويظل الله دائما محمودا .. فالله سبحانه وتعالى قبل أن يخلقنا خلق لنا موجبات الحمد من النعم، فخلق لنا السماوات والأرض وأجد لنا الماء والهواء. ووضع في الأرض أقواتها إلي يوم القيامة .. وهذه نعمة يستحق الحمد عليها لأنه جل جلاله جعل النعمة تسبق الوجود الإنساني، فعندما خلق الإنسان كانت النعمة موجودة تستقبله. بل أن الله جل جلاله قبل أن يخلق آدم أبا البشر جميعا سبقته الجنة التي عاش فيها لا يتعب ولا يشقى. فقد خلق فوجد ما يأكله وما يشربه وما يقيم حياته وما يتمتع به موجودا وجاهزا ومعدا قبل الخلق .. وحينما نزل آدم وحواء إلي الأرض كانت النعمة قد سبقتهما. فوجدا ما يأكلانه وما يشربانه، وما يقيم حياتهما .. ولو أن النعمة لم تسبق الوجود الإنساني وخلقت بعده لهلك الإنسان وهو ينتظر مجيء النعمة. بل أن العطاء الإلهي للإنسان يعطيه النعمة بمجرد أن يخلق في رحم أمه فيجد رحما مستعدا لاستقباله وغذاء يكفيه طول مدة الحمل. فإذا خرج إلي الدنيا يضع الله في صدر أمه لبنا ينزل وقت أن يجوع ويمتنع وقت أن يشبع. وينتهي تماما عندما تتوقف فترة الرضاعة. ويجد أبا وأما يوفران له مقومات حياته حتى يستطيع أن يعول نفسه .. وكل هذا يحدث قبل أن يصل الإنسان إلي مرحة التكليف وقبل أن يستطيع أن ينطق: “الحمد لله“. وهكذا نرى أن النعمة تسبق المنعم عليه دائما .. فالإنسان حيث يقول “الحمد لله” فلأن موجبات الحمد ـ وهي النعمة ـ موجودة في الكون قبل الوجود الإنساني.

والله سبحانه وتعالى خلق لنا في هذا الكون أشياء تعطي الإنسان بغير قدرة منه ودون خضوع له، والإنسان عاجز عن أن يقدم لنفسه هذه النعم التي يقدمها الحق تبارك وتعالى له بلا جهد. فالشمس تعطي الدفء والحياة للأرض بلا مقابل وبلا فعل من البشر، والمطر ينزل من السماء دون أن يكون لك جهد فيه أو قدرة على إنزاله. والهواء موجود حولك في كل مكان تتنفس منه دون جهد منك ولا قدرة. والأرض تعطيك الثمر بمجرد أن تبذر فيها الحب وتسقيه .. فالزرع ينبت بقدرة الله. والليل والنهار يتعاقبان حتى تستطيع أن تنام لترتاح، وأن تسعى لحياتك .. لا أنت أتيت بضوء النهار، ولا أنت الذي صنعت ظلمة الليل، ولكنك تأخذ الراحة في الليل والعمل في النهار بقدرة الله دون أن تفعل شيئاً. كل هذه الأشياء لم يخلقها الإنسان، ولكنه وجدها في الكون تعطيه بلا مقابل ولا جهد منه! ألا تستحق هذه النعم أن نقول: الحمد لله على نعمة تسخير الكون لخدمة الإنسان؟ وآيات الله سبحانه وتعالى في كونه تستوجب الحمد .. فالحياة التي وهبها الله لنا، والآيات التي أودعها في كونه تدلنا على أن لهذا الكون خالقاً عظيماً .. فالكون بشمسه وقمره ونجومه وأرضه وكل ما فيه مما يفوق قدرة الإنسان، ولا يستطيع أحد أن يدعيه لنفسه، فلا أحد مهما بلغ علمه يستطيع أن يدعي أنه خلق الشمس، أو أوجد النجوم، أو وضع الأرض، أو وضع قوانين الكون، أو أعطى غلافها الجوي، أو خلق نفسه، أو خلق غيره. هذه الآيات كلها أعطتنا الدليل على وجود قوة عظمى، وهي التي أوجدت وهي التي خلقت .. وهذه الآيات ليست ساكنة، لتجعلنا في سكونها ننساها، بل هي متحركة لتلفتنا إلي خالق هذا الكون العظيم. فالشمس تشرق في الصباح فتذكرنا بإعجاز الخالق، وتغيب في المساء لتذكرنا بعظمة الخالق .. وتعاقب الليل والنهار يحدث أمامنا كل يوم علمنا نلتفت ونفيق .. والمطر ينزل من السماء ليذكرنا بألوهية من أنزله .. والزرع يخرج من الأرض يسقي بماء واحد، ومع ذلك فإن كل نوع له لون وله شكل وله مذاق وله رائحة، وله تكوين يختلف عن الآخر، ويأتي الحصاد فيختفي الثمر والزرع .. ويأتي موسم الزراعة فيعود من جديد. كل شيء في هذا الكون متحرك ليذكرنا إذا نسينا، ويعلمنا أن هناك خالقاً عظيماً. ونستطيع أن نمضي في ذلك بلا نهاية، فنعم الله لا تعد ولا تحصى .. وكل واحدة منها تدلنا على وجود الحق سبحانه وتعالى، وتعطينا الدليل الإيماني على أن لهذا الكون خالقاً مبدعاً .. وأنه لا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق الكون أو خلق شيئاً مما فيه .. فالقضية محسومة لله. (والحمد لله) لأنه وضع في نفوسنا الإيمان الفطري، ثم أيده بإيمان عقلي بآياته في كونه. كل شيء في هذا الكون يقتضي الحمد، ومع ذلك فإن الإنسان يمتدح الموجود وينسى الموجد .. فأنت حين ترى زهرة جميلة مثلاً، أو زهرة غاية في الإبداع .. أو أي خلق من خلق الله، يشيع في نفسك الجمال تمتدح هذا الخلق .. فتقول: ما أجمل هذه الزهرة، أو هذه الجوهرة، أو هذا المخلوق!! ولكن المخلوق الذي امتدحته، لم يعط صفة الجمال لنفسه .. فالزهرة لا دخل لها أن تكون جميلة أو غير جميلة، والجوهرة لا دخل لها في عظمة خلقها .. وكل شيء في هذا الكون لم يضع الجمال لنفسه، وإنما الذي وضع الجمال فيه هو الله سبحانه وتعالى، فلا نخلط ونمدح المخلوق وننسى الخالق .. بل قل: الحمد لله الذي أوجد في الكون ما يذكرنا بعظمة الخالق ودقة الخلق. ومنهج الله سبحانه وتعالى يقتضي منا الحمد، فهو تبارك وتعالى أنزل منهجه ليرينا طريق الخير، ويبعدنا عن طريق الشر. فمنهج الله عز وجل الذي أنزله على رسله قد عرفنا أن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق لنا هذا الكون وخلقنا .. فدقة الخلق وعظمته تدلنا على عظمة خالقه، ولكنها لا تستطيع أن تقول لنا من هو، ولا ماذا يريد منا، ولذلك أرسل الله رسله، ليقول لنا: إن الذي خلق هذا الكون وخلقنا هو الله تبارك وتعالى، وهذا يستوجب الحمد.

ومنهج الله يبين لنا ماذا يريد الحق منا، وكيف نعبده .. وهذا يستوجب الحمد، ومنهج الله جل جلاله أعطانا الطريق وشرع لنا أسلوب حياتنا تشريعاً حقاً .. فالله تبارك وتعالى لا يفرق بين أحد منا .. ولا يفضل أحداً على أحد إلا بالتقوى، فكلنا خلق متساوون أمام الله جل جلاله.

إذن: فشريعة الحق، وقول الحق، وقضاء الحق هو من الله، أما تشريعات الناس فلها هوى، تميز بعضاً عن بعض .. وتأخذ حقوق بعض لتعطيها للآخرين، ولذلك نجد في كل منهج بشرى ظلماً بشرياً. فالدول الشيوعية أعضاء اللجنة المركزية فيها هم أصحاب النعمة والترف بينما الشعب كله في شقاء .. لأن هؤلاء الذي شرعوا اتبعوا هواهم. ووضعوا مصالحهم فوق كل مصلحة.. وكذلك الدول الرأسمالية. أصحاب رأس المال يأخذون كل الخير، ولكن الله سبحانه وتعالى حين نزل لنا المنهج قضى بالعدل بين الناس .. وأعطى كل ذي حق حقه. وعلمنا كيف تستقيم الحياة على الأرض عندما تكون بعيدة عن الهوى البشري خاضعة لعدل الله، وهذا يوجب الحمد. والحق سبحانه وتعالى، يستحق منا الحمد؛ لأنه لا يأخذ منا ولكنه يعطينا، فالبشر في كل عصر يحاولون استغلال البشر .. لأنهم يطمعون فيما بين أيديهم من ثروات وأموال، ولكن الله سبحانه وتعالى يعطينا ولا يأخذ منا، عنده خزائن كل شيء مصداقا لقوله جل جلاله:

وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ(21)

سورة الحجر

فالله سبحانه وتعالى دائم العطاء لخلقه، والخلق يأخذون دائماً من نعم الله، فالعبودية لله تعطيك ولا تأخذ منك شيئاً، وهذا يستوجب الحمد.. والله سبحانه وتعالى في عطائه يجب أن يطلب منه الإنسان، وأن يدعوه، وأن يستعين به، وهذا يستوجب الحمد؛ لأنه يقينا الذل في الدنيا. فأنت إن طلبت شيئاً من صاحب نفوذ، فلابد أن يحدد لك موعداً أو وقت الحديث ومدة المقابلة، وقد يضيق بك فيقف لينهي اللقاء .. ولكن الله سبحانه وتعالى بابه مفتوح دائماً .. فأنت بين يديه عندما تريد، وترفع يديك إلي السماء وتدعو وقتما تحب، وتسأل الله ما تشاء، فيعطيك ما تريده إن كان خيراً لك .. ويمنع عنك ما تريده إن كان شراً لك. والله سبحانه وتعالى يستوجب الحمد حينما يطلب منك أن تدعوه، وأن تسأله فيقول

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ(60)

سورة غافر

) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186)

سورة البقرة

والله سبحانه وتعالى يعف ما في نفسك، ولذلك فإنه يعطيك دون تسأل، واقرأ الحديث القدسي

: يقول رب العزة:

“من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين“.

رواه البخارى والبزار والبيهقى عن ابن عمر

والله سبحانه وتعالى عطاؤه لا ينفذ، وخزائنه لا تفرغ، فكلما سألته جل جلاله كان لديه المزيد، ومهما سألته فإنه لا شيء عزيز على الله سبحانه وتعالى، إذا أراد أن يحققه لك .. واقرأ قول الشاعر

: حسب نفسي عزا بأني عبد

يحتفي بي بلا مـواعيد رب

هو في قدسه الأعز ولكن

أنا ألقي متى وأين أحب

إذن: عطاء الله سبحانه وتعالى يستوجب الحمد .. ومنعه العطاء يستوجب الحمد.

ووجود الله سبحانه وتعالى الواجب الوجود يستوجب الحمد .. فالله سبحانه يستحق الحمد لذاته، ولولا عدل الله لبغى الناس في الأرض وظلموا، ولكن يد الله تبارك وتعالى حين تبطش بالظالم تجعله عبرة .. فيخاف الناس الظلم .. وكل من أفلت من عقاب الدنيا على معاصيه وظلمه واستبداده سيلقى الله في الآخرة ليوفيه حسابه .. وهذا يوجب الحمد .. أن يعرف المظلوم أنه سينال جزاءه فتهدأ نفسه ويطمئن قلبه أن هناك يوما سيرى فيه ظالمه وهو يعذب في النار .. فلا تصيبه الحسرة، ويخف إحساسه بمرارة الظلم حين يعرف أن الله قائم على كونه لن يفلت من عدله أحد. وعندما نقول: (الحمد لله) فنحن نعبر عن انفعالات متعددة .. وهي في مجموعها تحمل العبودية والثناء والشكر والعرفان .. وكثير من الانفعالات التي تملأ النفس عندما تقول: (الحمد لله) كلها تحمل الثناء العاجز عن الشكر لكمال الله وعطائه .. هذه الانفعالات تأتي وتستقر في القلب .. ثم تفيض من الجوارح على الكون كله. فالحمد ليس ألفاظاً تردد باللسان، ولكنها تمر أولاً على العقل الذي يعي معنى النعم .. ثم بعد ذلك تستقر في القلب فينفعل بها .. وتنتقل إلي الجوارح فأقوم وأصلي لله شاكراً ويهتز جسدي كله، وتفيض الدمعة من عيني، وينتقل هذا الانفعال كله إلي من حولي.

ونفسر ذلك قليلا .. هب أنني في أزمة أو كرب أو موقف سيؤدي إلي فضيحة .. وجاءني من يفرج كربي فيعطيني مالاً أو يفتح لي طريقاً .. أول شيء أنني سأعقل هذا الجميل، فأقول: إنه يستحق الشكر .. ثم ينزل هذا المعنى إلي قلبي فيهتز القلب إلي صانع هذا الجميل .. ثم تنفعل جوارحي لأترجم هذه العاطفة إلي عمل جميل يرضيه، ثم أحدث الناس عن جميله وكرمه فيسارعون إلي الالتجاء إليه، فتتسع دائرة الحمد وتنزل النعم على الناس .. فيمرون بنفس ما حدث لي فتتسع دائرة الشكر والحمد.. والحمد لله تعطينا المزيد من النعم مصداقاً لقوله تبارك وتعالى

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ(7)

سورة ابراهيم

وهكذا نعرف أن الشكر على النعمة يعطينا مزيداً من النعمة .. فنشكر عليها فتعطينا المزيد، وهكذا يظل الحمد دائماً والنعمة دائمة. إننا لو استعرضنا حياتنا كلها .. نجد أن كل حركة فيها تقتضي الحمد، عندما ننام ويأخذ الله سبحانه وتعالى أرواحنا، ثم يردها إلينا عندما نستيقظ، فإن هذا يوجب الحمد، فالله سبحانه وتعالى يقول

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(42)

سورة الزمر

وهكذا فإن مجرد أن نستيقظ من النوم، ليرد الله علينا أرواحنا يستوجب الحمد، فإذا قمنا من الفراش فالله سبحانه وتعالى هو الذي أعطانا القدرة على الحركة والنهوض، ولولا عطاؤه ما استطعنا أن نقوم .. وهذا يستوجب الحمد..

فإذا تناولنا إفطارنا، فالله هو الذي هيأ لنا من فضله هذا الطعام، فإذا نزلنا إلي الطريق يسر الله لنا ما ينقلنا إلي مقر أعمالنا، وإذا تحدثنا مع الناس فالله سبحانه وتعالى هو الذي أعطى ألسنتنا القدرة على النطق بما وهبه الله لنا من قدرة على التعبير والبيان، وهذا يستوجب الحمد. وإذا عدنا إلي بيوتنا، فالله سخر لنا زوجاتنا ورزقنا بأولادنا، وهذا يستوجب الحمد. إذن: فكل حركة في حياة في الدنيا من الإنسان تستوجب الحمد، ولهذا لابد أن يكون الإنسان حامداً دائماً، بل إن الإنسان يجب أن يحمد الله على أي مكروه أصابه؛ لأن الشيء الذي يعتبره شراً يكون عين الخير، فالله تعالى يقول

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً(19)

سورة النساء

) إذن فأنت تحمد الله لأن قضاءه خير .. سواء أحببت القضاء أو كرهته فإنه خير لك .. لأنك لا تعلم والله سبحانه وتعالى يعلم. وهكذا من موجبات الحمد أن تقول الحمد لله على كل ما يحدث لك في دنياك. فأنت بذلك ترد الأمر إلي الله الذي خلقك .. فهو أعلم بما هو خير لك.

فاتحة الكتاب تبدأ بالحمد لله رب العالمين .. لماذا قال الله سبحانه وتعالى رب العالمين؟ نقول إن “الحمد لله” تعني حمد الألوهية. فكلمة الله تعني المعبود بحق .. فالعبادة تكليف والتكليف يأتي من الله لعبيده .. فكأن الحمد أولا لله .. ثم يقتضي بعد ذلك أن يكون الحمد لربوبية الله على إيجادنا من عدم وإمدادنا من عدم .. لأن المتفضل بالنعم قد يكون محمودا عند كل الناس .. لكن التكليف يكون شاقا على بعض الناس .. ولو علم الناس قيمة التكليف في الحياة .. لحمدوا الله أن كلفهم بافعل ولا تفعل .. لأنه ضمن عدم تصادم حركة حياتهم .. فتمضي حركة الحياة متساندة منسجمة. إذن فالنعمة الأولى هي أن المعبود أبلغنا منهج عبادته، والنعمة الثانية أنه رب العالمين.

في الحياة الدنيا هناك المطيع والعاصي، والمؤمن وغير المؤمن .. والذين يدخلون في عطاء الألوهية هم المؤمنون .. أما عطاء الربوبية فيشمل الجميع .. ونحن نحمد الله على عطاء ألوهيته، ونحمد الله على عطاء ربوبيته، لأنه الذي خلق، ولأنه رب العالمين .. الكون كله لا يخرج عن حكمه .. فليطمئن الناس في الدنيا أن النعم مستمرة لهم بعطاء ربوبيه .. فلا الشمس تستطيع أن تغيب وتقول لن أشرق ولا النجوم تستطيع أن تصطدم ببعضها البعض في الكون، ولا الأرض تستطيع أن تمنع إنبات الزرع .. ولا الغلاف الجوي يستطيع أن يبتعد عن الأرض فيختنق الناس جميعا..

إذن فالله سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن عباده أنه رب لكل ما في الكون فلا مسيطر على كونه وعلى كل ما خلق .. أنه رب العالمين وهذه توجب الحمد .. أن يهيئ الله سبحانه وتعالى للإنسان ما يخدمه، بل جعله سيدا في كونه .. ولذلك فإن الإنسان المؤمن لا يخاف الغد .. وكيف يخافه والله رب العالمين. إذا لم يكن عنده طعام فهو واثق أن الله سيرزقه لأنه رب العالمين .. وإذا صادفته أزمة فقلبه مطمئن إلي أن الله سيفرج الأزمة ويزيل الكرب لأنه رب العالمين .. وإذا أصابته نعمة ذكر الله فشكر عليها لأنه رب العالمين الذي أنعم عليه. فالحق سبحانه وتعالى يحمد على أنه رب العالمين .. لا شيء في كونه يخرج عن مراده الفعلي .. أما عطاء الألوهية فجزاؤه في الآخرة .. فالدنيا دار اختيار للإيمان، والآخرة دار الجزاء .. ومن الناس من لا يعبد الله .. هؤلاء متساوون في عطاء الربوبية مع المؤمنين في الدنيا .. ولكن في الآخرة يكون عطاء الألوهية للمؤمنين وحدهم .. فنعم الله لأصحاب الجنة، وعطاءات الله لمن آمن .. واقرأ قوله تبارك وتعالى

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(32)

سورة الأعراف

على أن الحمد لله ليس في الدنيا فقط .. بل هو في الدنيا والآخرة .. الله محمود دائماً .. في الدنيا بعطاء ربوبيته لكل خلقه .. وعطاء ألوهيته لمن آمن به وفي الآخرة بعطائه للمؤمنين من عباده .. واقرأ قوله جل جلاله

وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(74)

سورة الزمر

وقوله تعالى

دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(10)

سورة يونس

فإذا انتقلنا إلي قوله تعالى: “الرحمن الرحيم” فمن موجبات الحمد أن الله سبحانه وتعالى رحمن رحيم .. يعطي نعمة في الدنيا لكل عباده عطاء ربوبيه، وعطاء الربوبيه للمؤمن والكافر .. وعطاء الربوبية لا ينقطع إلا عندما يموت الإنسان.. والله لا يحجب نعمه عن عبيده في الدنيا .. ونعم الله لا تعد ولا تحصى ومع كل التقدم في الآلات الحاسبة والعقول الإلكترونية وغير ذلك فإننا لم نجد أحدا يتقدم ويقول أنا سأحصي نعم الله .. لأن موجبات الإحصاء أن تكون قادرا عليه .. فأنت لا تقبل على عد شيء إلا إذا كان في قدرتك أن تحصيه .. ولكن مادام ذلك خارج قدرتك وطاقاتك فأنك لا تقبل عليه .. ولذلك لن يقبل أحد حتى يوم القيامة على إحصاء نعم الله تبارك وتعالى لأن أحدا لا يمكن أن يحصيها. ولابد أن نلتفت إلي أن الكون كله يضيق بالإنسان، وأن العالم المقهور الذي يخدمنا بحكم القهر والتسخير يضيق حين يرى العاصين .. لأن المقهور مستقيم على منهج الله قهرا .. فحين يرى كل مقهور الإنسان الذي هو خدمته عاصيا يضيق. وأقر الحديث القدسي لتعرف شيئا عن رحمة الله بعباده .. يقول الله عز وجل

: ما من يوم تطلع شمسه إلا وتنادي السماء تقول يا رب إ إذن لي أن اسقط كسفا على ابن آدم، فقد طعم خيرك ومنع شكرك. وتقول البحار يا رب إ إذن لي أن اغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. فيقول الله تعالى دعوهم دعوهم لو خلقتموهم لرحمتوهم أنهم عبادي فإن تابوا إلي فأنا حبيبهم، وأن لم يتوبوا فأنا طبيبهم” رواه الإمام احمد بن حنبل في مسنده

تلك تجليات صفة الرحمن وصفة الرحيم .. وكيف ضمنت لنا بقاء كل ما يخدمنا في هذا الكون مع معصية الإنسان .. أنها كلها تخدمنا بعطاء الربوبية وتبقى في خدمتنا بتسخير الله لها لأنه رحمن رحيم.. بعض الناس قد يتساءل هل تتكلم الأرض والسماء وغيرها من المخلوقات في عالم الجماد والنبات والحيوان؟ نقول نعم أن لها لغة لا نعرفها نحن وإنما يعرفها خالقها .. بدليل أنه منذ الخلق الأول أبلغنا الحق تبارك وتعالى أن هناك لغة لكل هذه المخلوقات .. واقرأ قوله جل جلاله

ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11)

سورة فصلت

إذن فالأرض والسماء فهمت عن الله .. وقالت له سبحانه وتعالى “أتينا طائعين” ألم يعلم الله سليمان منطق الطير ولغة النملة؟ ألم تسبح الجبال مع داود؟ إذن كل خلق الله له ادراكات مناسبة له .. بل له عواطف .. فعندما تكلم الله سبحانه وتعالى عن قوم فرعون .. قال

كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ(27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ(28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ(29)

سورة الدخان

إذن فالسماوات والأرض لهما انفعال .. انفعال يصل إلي مرحلة البكاء .. فهما لم تبكيا على فرعون وقومه .. ولكنهما تبكيان حزنا عندما يفارقهما الإنسان المؤمن المصلي المطبق لمنهج الله .. ولقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان .. موضع في الأرض وموضع في السماء .. أما الموضع في الأرض هو مكان مصلاه الذي أسعده وهو يصلي فيه. وأما الموضع في السماء فهو مصعد عمله الطيب.

خواطر الشيخ الشعراوي في سورة الفاتحة 3

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)

إذا كانت كل نعم الله تستحق الحمد .. فإن “مالك يوم الدين” تستحق الحمد الكبير .. لأنه لو لم يوجد يوم للحساب، لنجا الذي ملأ الدنيا شروراً. دون أن يجازى على ما فعل .. ولكان الذي التزم بالتكليف والعبادة وحرم نفسه من متع دنيوية كثيرة إرضاء لله قد شقي في الحياة الدنيا .. ولكن لأن الله تبارك وتعالى هو “مالك يوم الدين” .. فقد أعطى الاتزان للوجود كله .. هذه الملكية ليوم الدين هي التي حمت الضعيف والمظلوم وأبقت الحق في كون الله .. أن الذي منع الدنيا أن تتحول إلي غابة .. يفتك فيها القوي بالضعيف والظالم بالمظلوم .. أن هناك آخرة وحساباً، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيحاسب خلقه.. والإنسان المستقيم استقامته تنفع غيره .. لأنه يخشى الله ويعطي كل ذي حقه ويعفو ويسامح .. إذن كل من حوله قد استفاد من خلقه الكريم ومن وقوفه مع الحق والعدل.. أما الإنسان العاصي فيشقى به المجتمع لأنه لا أحد يسلم من شره ولا أحد إلا يصيبه ظلمه .. ولذلك فإن “مالك يوم الدين ” هي الميزان .. تعرف أنت أن الذي يفسد في الأرض تنتظره الآخرة .. لن يفلت مهما كانت قوته ونفوذه، فتطمئن اطمئنانا كاملاً إلي أن عدل الله سينال كل ظالم. على أن “مالك يوم الدين” لها قراءتان .. “مالك يوم الدين” .. وملك يوم الدين. والقراءتان صحيحتان .. والله تبارك وتعالى وصف نفسه في القرآن الكريم بأنه: “مالك يوم الدين” .. ومالك الشيء هو المتصرف فيه وحده .. ليس هناك دخل لأي فرد آخر .. أنا أملك عباءتي .. وأملك متاعي، وأملك منزلي، وأنا المتصرف في هذا كله أحكم فيه بما أراه.. فمالك يوم الدين .. معناها أن الله سبحانه وتعالى سيصرف أمور العباد في ذلك اليوم بدون أسباب .. وأن كل شيء سيأتي من الله مباشرة .. دون أن يستطيع أحد أن يتدخل ولو ظاهراً.. ففي الدنيا يعطى الله الملك ظاهرا لبعض الناس .. ولكن في يوم القيامة ليس هناك ظاهر .. فالأمر مباشر من الله سبحانه وتعالى .. ولذلك يقول الله في وصف يوم الدين: {

كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ(9)

سورة الانفطار

فكأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في الدنيا لتمضي بها الحياة .. ولكن في الآخرة لا توجد أسباب. الملك في ظاهر الدنيا من الله يهبه لمن يشاء .. واقرأ قوله تعالى

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26(

سورة آل عمران

ولعل قوله تعالى: “تنزع” تلفتنا إلي أن أحدا في الدنيا لا يريد أن يترك الملك .. ولكن الملك يجب أن ينتزع منه انتزاعا رغما عن إرادته .. والله هو الذي ينزع الملك ممن يشاء.. وهنا نتساءل هل الملك في الدنيا والآخرة ليس لله؟ .. نقول الأمر في كل وقت لله .. ولكن الله تبارك وتعالى استخلف بعض خلقه أو مكنهم من الملك في الأرض .. ولذلك نجد في القرآن الكريم قوله تعالى

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(258)

سورة البقرة

والذي حاج إبراهيم في ربه كافر منكر للألوهية .. ومع ذلك فإنه لم يأخذ الملك بذاته .. بل الله جل جلاله هو الذي أتاه الملك .. إذن الله تبارك وتعالى هو الذي استخلف بعض خلقه ومكنهم من ملك الأرض ظاهريا .. ومعنى ذلك أنه ملك ظاهر للناس فقط .. أن بشرا أصبح ملكا .. ولكن الملك ليس نابعا من ذات من يملك .. ولكنه نابع من أمر الله .. ولو كان نابعا من ذاتية من يملك لبقى له ولم ينزع منه .. والملك الظاهر يمتحن فيه العباد، فيحاسبهم الله يوم القيامة .. كيف تصرفوا؟ وماذا فعلوا؟ .. ويمتحن فيه الناس هل سكتوا على الحاكم الظالم؟ .. وهل استحبوا المعصية؟

أم أنهم وقفوا مع الحق ضد الظلم؟ .. والله سبحانه وتعالى لا يمتحن الناس ليعلم المصلح من المفسد .. ولكنه يمتحنهم ليكونوا شهداء على أنفسهم .. حتى لا يأتي واحد منهم يوم القيامة ويقول: يا رب لو أنك أعطيتني الملك لاتبعت طريق الحق وطبقت منهجك. وهنا يأتي سؤال .. إذا كان الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء فلماذا الامتحان؟ .. نقول أننا إذا أردنا أن نضرب مثلا يقرب ذلك إلي الأذهان .. ولله المثل الأعلى .. نجد أن الجامعات في كل أنحاء الدنيا تقيم الامتحانات لطلابها .. فهل أساتذة الجامعة الذي علموا هؤلاء الطلاب يجهلون ما يعرفه الطالب ويريدون أن يحصلوا منه على العلم؟ .. طبعا لا .. ولكن ذلك يحدث حتى إذا رسب الطالب في الامتحان .. وجاء يجادل واجهوه بإجابته فيسكت .. ولو لم يعقد الامتحان لادعي كل طالب أنه يستحق مرتبة الشرف. إذا قال الحق تبارك وتعالى: “مالك يوم الدين” .. أي الذي يملك هذا اليوم وحده يتصرف فيه كما يشاء .. وإذا قيل: “ملك يوم الدين” فتصرفه أعلى على المالكين لأن المالك لا يتصرف إلا في ملكه .. ولكن الملك يتصرف في ملكه وملك غيره .. فيستطيع أن يصدر قوانين بمصادرة أو تأميم ما يملكه غيره. الذين قالوا: “مالك يوم الدين” اثبتوا لله سبحانه وتعالى أنه مالك هذا اليوم يتصرف فيه كما يشاء دون تدخل من أحد ولو ظاهرا: والذين يقرأون ملك .. يقولون أن الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم يقضي في أمر خلقه حتى الذين ملكهم في الدنيا ظاهرا .. ونحن نقول عندما يأتي يوم القيامة لا مالك ولا ملك إلا الله. الله تبارك وتعالى يريد أن يطمئن عباده .. أنهم إذا كانوا قد ابتلوا بمالك أو ملك يطغى عليهم فيوم القيامة لا مالك ولا ملك إلا الله جل جلاله .. عندما تقول مالك أو ملك يوم الدين .. هناك يوم وهناك الدين .. اليوم عندنا من شروق الشمس إلي شروق الشمس .. هذا ما نسيمه فلكيا يوما .. واليوم في معناه ظرف زمان تقع فيه الأحداث .. والمفسرون يقولون: “مالك يوم الدين” أي مالك أمور الدين لأن ظرف الزمان لا يملك .. نقول أن هذا بمقاييس ملكية البشر، فنحن لا نملك الزمن .. الماضي لا نستطيع أن نعيده، والمستقبل لا نستطيع أن نأتي به .. ولكن الله تبارك وتعالى هو خالق الزمان .. والله جل جلاله لا يحده زمان ولا مكان .. كذلك قوله تعالى: “مالك يوم الدين” لا يحده زمان ولا مكان .. واقرأ قوله سبحانه

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ(47)

سورة الحج

وقوله تعالى

تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ(4)

سورة المعارج

وإذا تأملنا هاتين الآيتين نعرف معنى اليوم عند الله تبارك وتعالى .. ذلك أن الله جل جلاله هو خالق الزمن .. ولذلك فإنه يستطيع أن يخلق يوما مقداره ساعة .. ويوما كأيام الدنيا مقداره أربع وعشرون ساعة .. ويوم مقداره ألف سنة .. ويوما مقداره خمسون ألف سنة ويوما مقداره مليون سنة .. فذلك خاضع لمشيئة الله. ويوم الدين موجود في علم الله سبحانه وتعالى. بأحداثه كلها بجنته وناره .. وكل الخلق الذين سيحاسبون فيه .. وعندما يريد أن يكون ذلك اليوم ويخرج من علمه جل جلاله إلي علم خلقه .. سواء كانوا من الملائكة أو من البشر أو الجان يقول: كن .. فالله وحده هو خالق هذا اليوم .. وهو وحده الذي يحدد كل أبعاده .. واليوم نحن نحدده ظاهرا بأنه أربع وعشرون ساعة .. ونحدده بأنه الليل والنهار .. ولكن الحقيقة أن الليل والنهار موجودان دائما على الأرض .. فعندما تتحرك الأرض، كل حركة هي نهاية نهار في منطقة وبداية نهار في منطقة أخرى .. وبداية ليل في منطقة ونهاية ليل في منطقة أخرى .. ولذلك في كل لحظة ينتهي يوم ويبدأ يوم .. وهكذا فإن الكرة الأرضية لو أخذتها بنظرة شاملة لا ينتهي عليها نهار أبدا .. ولا ينتهي عنها ليل أبدا .. إذن فاليوم نسبي بالنسبة لكل بقعة في الأرض .. ولكنه في الحقيقة دائم الوجود على كل الكرة الأرضية. والله سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن عباده .. أنهم إذا أصابهم ظلم في الدنيا .. فإن هناك يوم لا ظلم فيه .. وهذا اليوم الأمر فيه لله وحده بدون أسباب .. فكل إنسان لو لم يدركه العدل والقصاص في الدنيا فإن الآخرة تنتظره .. والذي أتبع منهج الله وقيد حركته في الحياة يخبره الله سبحانه وتعالى أن هناك يوم سيأخذ فيه أجره وعظمة الآخرة أنها تعطيك الجنة .. نعيم لا يفوتك ولا تفوته. ولقد دخل أحد الأشخاص على رجل من الصالحين .. وقال له: أريد أن أعرف .. أأنا من أهل الدنيا أم من الآخرة؟ .. فقال له الرجل الصالح .. أن الله أرحم بعباده، فلم يجعل موازينهم في أيدي أمثالهم .. فميزان كل إنسان في يد نفسه .. لماذا؟ .. لأنك تستطيع أن تعرف أأنت من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة. قال الرجل كيف ذلك؟ فرد العبد الصالح: إذا دخل عليك من يعطيك مالا .. ودخل عليك من يأخذ منك صدقة .. فبأيهما تفرح؟ .. فسكت الرجل .. فقال العبد الصالح: إذا كنت تفرح بمن يعطيك مالا فأنت من أهل الدنيا .. وإذا كنت تفرح بمن يأخذ منك صدقة فأنت من أهل الآخرة .. فإن الإنسان يفرح بمن يقدم له ما يحبه .. فالذي يعطيني مالا يعطيني الدنيا .. والذي يأخذ مني صدقة يعطيني الآخرة .. فإن كنت من أهل الآخرة .. فأفرح بمن يأخذ منك صدقة .. أكثر من فرحك بمن يعطيك مالا. ولذلك كان بعض الصالحين إذا دخل عليه من يريد صدقة يقول مرحبا بمن جاء يحمل حسناتي إلي الآخرة بغير أجر .. ويستقبله بالفرحة والترحاب. قول الحق سبحانه وتعالى: “مالك يوم الدين” .. هي قضية ضخمة من قضايا العقائد .. لأنها تعطينا أن البداية من الله، والنهاية إلي الله جل جلاله .. وبما أننا جميعا سنلقى الله، فلابد أن نعمل لهذا اليوم .. ولذلك فإن المؤمن لا يفعل شيئا في حياته إلا وفي باله الله .. وأنه سيحاسبه يوم القيامة .. ولكن غير المؤمن يفعل ما يفعل وليس في باله الله .. وعن هؤلاء يقول الحق سبحانه

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(39)

سورة النور

) وهكذا من يفعل شيئا وليس في باله الله .. سيفاجأ يوم القيامة بأن الله تبارك وتعالى الذي لم يكن في باله موجود وأنه جل جلاله هو الذي سيحاسبه.

وقوله تعالى: “مالك يوم الدين” هي أساس الدين .. لأن الذي لا يؤمن بالآخرة يفعل ما يشاء .. فمادام يعتقد أنه ليس هناك آخره وليس هناك حساب .. فمم يخاف؟ .. ومن أجل من يقيد حركته في الحياة.. أن الدين كله بكل طاعاته ولك منهجه قائم على أن هناك حسابا في الآخرة .. وأن هناك يوما نقف فيه جميعا أمام الله سبحانه وتعالى .. ليحاسب المخطئ ويثيب الطائع .. هذا هو الحكم في كل تصرفاتنا الإيمانية .. فلو لم يكن هناك يوم نحاسب فيه .. فلماذا نصلي؟ .. ولماذا نصوم؟ .. ولماذا نتصدق؟.. أن كل حركات منهج السماء قائمة على أساس ذلك اليوم الذي لن يفلت منه أحد .. والذي يجب علينا جميعا أن نستعد له .. أن الله سبحانه وتعالى سمى هذا اليوم بالنسبة للمؤمنين يوم الفوز العظيم .. والذي يجعلنا نتحمل كل ما نكره ونجاهد في سبيل الله لنستشهد .. وننفق أموالنا لنعين الفقراء والمساكين .. كل هذا أساسه أن هناك يوما سنقف فيه بين يدي الله .. والله تبارك وتعالى سماه يوم الدين .. لأنه اليوم الذي سيحاسب فيه كل إنسان على دينه عمل به أم ضيعه .. فمن آمن واتبع الدين سيكافأ بالخلود في الجنة .. ومن أنكر الدين وأنكر منهج الله سيجازى بالخلود في النار.. ومن عدل الله سبحانه وتعالى أن هناك يوما للحساب .. لأن بعض الناس الذين ظلموا وبغوا في الأرض ربما يفلتون من عقاب الدنيا .. هل هؤلاء الذين افلتوا في الدنيا من العقاب هل يفلتون من عدل الله؟ .. أبدا لن يفلتوا .. بل أنهم انتقلوا من عقاب محدود إلي عقاب خالد .. وافلتوا من العقاب بقدرة البشر في الدنيا .. إلي عقاب بقدرة الله تبارك وتعالى في الآخرة .. ولذلك لابد من وجود يوم يعيد الميزان .. فيعاقب فيه كل من أفسد في الأرض وأفلت من العقاب .. بل إن الله سبحانه وتعالى يجعل إنسانا يفلت من عقاب الدنيا .. فلا تعتقد أن هذا خير له بل أنه شر له .. لأنه أفلت من عقاب محدود إلي عقاب أبدي. والحمد الكبير لله بأنه “مالك يوم الدين” .. وهو وحده الذي سيقضي بين خلقه. فالله سبحانه وتعالى يعامل خلقه جميعا معاملة متساوية .. وأساس التقوى هو يوم الدين.

وقبل أن نتكلم عن قول الحق تبارك وتعالى: “إياك نعبد وإياك نستعين” .. لابد أن نتحدث عن قضية هامة .. فهناك نوعان من الرؤية .. الرؤية العينية أي بالعين .. والرؤية الإيمانية أي بالقلب .. وكلاهما مختلف عن الآخر .. رؤية العين هي أن يكون الشيء أمامك تراه بعينيك، وهذه ليس فيها قضية إيمان .. فلا تقول أنني أومن أنني أراك أمامي لأنك تراني فعلا .. مادمت تراني فهذا يقين .. ولكن الرؤية الإيمانية هي أن تؤمن كأنك ترى ما هو غيب أمامك .. وتكون هذه الرؤية أكثر يقينا من رؤية العين .. لأنها رؤية إيمان ورؤية بصيرة .. وهذه قضية هامة

وقد روي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر. لا يرى عليه أثر السفر. ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلي النبي صلى الله عليه وسلم. فأسند ركبتيه إلي ركبتيه. ووضع كفيه على فخذيه قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله. وأن محمدا رسول الله. وتقيم الصلاة. وتؤتي الزكاة. وتصوم رمضان. وتحج البيت أن استطعت إليه سبيلا قال:صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فاخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وتؤمن القدر؛ خيره وشره قال: صدقت. قال: فاخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فأنه يراك. قال: فاخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فاخبرني عن أماراتها قال: أن تلد الأمة ربتها. وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق فلبثت مليا .. ثم قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم رواه مسلم

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: <أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك هو بيان للرؤية الإيمانية في النفس المؤمنة .. فالإنسان حينما يؤمن، لابد أن يأخذ كل قضاياه برؤية إيمانية .. حتى إذا قرأ آية عن الجنة فكأنه يرى أهل الجنة وهم ينعمون .. وإذا قرأ آية عن أهل النار اقشعر بدنه .. وكأنه يرى أهل النار وهم يعذبون. ذات يوم شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد صحابته وكان اسمه الحارث .. فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا

قال الرسول r: فانظر ما تقول. فإن لكل قول حقيقة. فما حقيقة إيمانك؟ قال الحارث: عزفت نفسي عن الدنيا. فأسهرت ليلي. وأظمأت نهاري. وكأني انظر عرش ربي بارزا. وكأني انظر إلي أهل الجنة يتزاورون فيها. وكأني انظر إلي أهل النار يتضاغون فيهايتصايحون فيها قال النبي “يا حارث عرفت فالزم”

رواه الطبرانى فى الكبير، وابو نعيم فى الحلية ورواه بنحوه الالبيهقى وابو هلال العسكرى فى الأمثال، وابن النجار فى التاريخ وللحديث شواهد ترقى به الى درجة الحسن وقد رواه البيهقى فى الزهد عن الحارث بن مالك قال اتيت نبى الله صلى الله عليه وسلم وقد اخذ ردائه فلييه فوضعه تحت رأسه فسلمت عليه فقال لى:كيف انت يا حارث؟فقلت رجل من المؤمنين فقال انظر ماذا تقول؟ قال:قلت نعم رجل من المؤمنين حقا.

فاستوى صلى الله عليه وسلم جالسا وقال لكل شىء حقيقة..فما حقيقة ذلك؟قال قلت عزفت نفسى عن الدنيا فأسهرت ليلى، واخصمت نهارىوكأنى انظر الى عرش ربى كأنى رأيت اهل الجنة يتزاورون فيها، وكأنى اسمع عواء اهل النار فيها..فقال عرفت فالزم، عبدا نور الله قلبه بالإيمان

ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى وهو يخاطب الرسول r صلى الله عليه وسلم .. يقول

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1)

سورة الفيل

يأخذ بعض المستشرقين هذه الآية في محاولة للطعن في القرآن الكريم .. فقوله تعالى: “ألم تر” .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولد في عام الفيل .. أنه لم ير لأنه كان طفلا عمره أياما أو شهورا .. لو قال الله سبحانه وتعالى ألم تعلم .. لقلنا علم من غيره .. فالعلم تحصل عليه أنت أو يعطيه لك من علمه .. أي يعلمك غيرك من البشر .. ولكن الله سبحانه وتعالى قال: “ألم تر“..

نقول أن هذه قضية من قضايا الإيمان .. فما يقوله الله سبحانه وتعالى هو رؤية صادقة بالنسبة للإنسان المؤمن .. فالقرآن هو كلام متعبد بتلاوته حتى قيام الساعة .. وقول الله: “ألم تر” .. معناها أن الرؤية مستمرة لكل مؤمن بالله يقرأ هذه الآية .. فمادام الله تبارك وتعالى قال: “ألم تر” .. فأنت ترى بإيمانك ما تعجز عينك عن أن تراه .. هذه هي الرؤية الإيمانية، وهي أصدق من رؤية العين .. لأن العين قد تخدع صاحبها ولكن القلب المؤمن لا يخدع صاحبه أبدا..

على أن هناك ما يسمونه ضمير الغائب .. إذا قلت زيد حضر .. فهو موجود أمامك .. ولكن إذا قلت قابلت زيدا .. فكأن زيداً غائب عنك ساعة قلت هذه الجملة .. قابلته ولكنه ليس موجوداً معك ساعة الحديث..

إذن فهناك حاضر وغائب ومتكلم .. الغائب هو من ليس موجوداً أو لا نراه وقت الحديث .. والحاضر هو الموجود وقت الحديث .. والمتكلم هو الذي يتحدث. وقضايا العقيدة كلها ليس فيها مشاهدة، ولكن الإيمان بما هو غيب عنا يعطينا الرؤية الإيمانية التي هي كما قلنا أقوى من رؤية البصر.

فالله سبحانه وتعالى حين يقول “الحمد لله رب العالمين” .. “الله” غيب “ورب العالمين” غيب .. “والرحمن الرحيم” .. “غيب” .. و”مالك يوم الدين” غيب .. وكان السياق اللغوي يقتضي أن يقال إياه نعبد. ولكن الله سبحانه وتعالى غير السياق ونقله من الغائب إلي الحاضر .. وقال: “إياك نعبد” فانتقل الغيب إلي حضور المخاطب .. فلم يقل إياه نعبد .. ولكنه قال: “إياك نعبد” .. فأصبحت رؤية يقين إيماني.

فأنت في حضرة الله سبحانه وتعالى الذي غمرك بالنعم، وهذه تراها وتحيط بك لأنه “رب العالمين” .. وجعلك تطمئن إلي قضائه لأنه “الرحمن الرحيم” أي أن ربوبيته جل جلاله ليست ربوبية جبروت بل هي ربوبية “الرحمن الرحيم” فإذا لم تحمده وتؤمن به بفضل نعمه التي تحسها وتعيش فيها. فأحذر من مخالفة منهجه لأنه “مالك يوم الدين“.

حين يستحضر الحق سبحانه وتعالى ذاته بكل هذه الصفات .. التي فيها فضائل الألوهية، ونعم الربوبية .. والرحمة التي تمحو الذنوب والرهبة من لقائه يوم القيامة تكون قد انتقلت من صفات الغيب إلي محضر الشهود .. استحضرت جلال الألوهية لله وفيوضات رحمته .. ونعمه التي لا تحد وقيوميته يوم القيامة..

عندما تقرأ قوله تعالى: “إياك نعبد” فالعبارة هنا تفيد الخصوصية .. بمعنى أنني إذا قلت لإنسان أنني سأقابلك، قد أقابله وحده، وقد أقابله مع جمع من الناس. ولكن إذا قلت إياك سأقابل .. فمعنى ذلك أن المقابلة ستكون خاصة..

الحق سبحانه وتعالى حين قال: “إياك نعبد” قصر العبادة على ذاته الكريمة .. لأنه لو قال نعبدك وحدك فهي لا تؤدي نفس المعنى .. لأنك قد تقول نعبدك وحدك ومعك كذا وكذا. ولكن إذا قلت “إياك نعبد” وقدمت إياك .. تكون قد حسمت الأمر بأن العبادة لله وحده .. فلا يجوز العطف عليها .. فالعبادة خضوع لله سبحانه و تعالى بمنهجه افعل ولا تفعل .. ولذلك جعل الصلاة أساس العبادة، والسجود هو منتهى الخضوع لله .. لأنك تأتي بوجهك الذي هو أكرم شيء فيك وتضعه على الأرض عند موضع القدم. فيكون هذا هو منتهى الخضوع لله .. ويتم هذا أمام الناس جميعا في الصلاة. لإعلان خضوعك لله أمام البشر جميعا.

ويستوي في العبودية الغني والفقير والكبير والصغير .. حتى يطرد كل منا الكبر والاستعلاء من قلبه أمام الناس جميعا فيساوى الحق جل جلاله بين عباده في الخضوع له وفي إعلان هذا الخضوع.

وقول الحق سبحانه وتعالى: “إياك نعبد” تنفي العبودية لغير الله .. أي لا نعبد غير الله ولا يعطف عليها أبدا .. إذن “إياك نعبد” أعطت تخصيص العبادة لله وحده لا إله غيره ولا معبود سواه .. وعلينا أن نلتفت إلي قوله تبارك وتعالى

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(22)

سورة الأنبياء

وهكذا فإننا عندما نقول “الحمد لله” فإننا نستحضر موجبات الحمد وهي نعم الله ظاهرة وباطنة .. وحين نقول “رب العالمين” نستحضر نعم الربوبية في خلقه وإخضاع كونه .. وحين نستحضر “الرحمن الرحيم” فإننا نستحضر الرحمة والمغفرة ومقابلة الإساءة بالإحسان وفتح باب التوبة .. وحين نستحضر: “مالك يوم الدين” نستحضر يوم الحساب وكيف أن الله تبارك وتعالى سيجازيك على أعمالك .. فإذا استحضرنا هذا كله نقول: “إياك نعبد” أي أننا نعبد الله وحده .. إذن عرفنا المطلوب منا وهو العبادة.

وهنا نتوقف قليلا لنتحدث عما يطلقون عليه في اللغة “العلة والمعلول” إذا أراد ابنك أن ينجح في الامتحان فإنه لابد أن يذاكر .. وعلة المذاكرة هي النجاح .. فكأن النجاح ولد في ذهني أولا. بكل ما يحققه لي من مميزات ومستقبل مضمون وغير ذلك مما أريده وأسعى إليه.

إذن فالدافع قبل الواقع .. أي أنك استحضرت النجاح في ذهنك .. ثم بعد ذلك ذاكرت لتجعل النجاح حقيقة واقعة. وأنت إذا أردت مثلا أن تسافر إلي مكان ما .. فالسيارة سبب يحقق لك ما تريد وقطع الطريق سبب آخر. ولكن الدافع الذي جعلني أنزل من بيتي واركب السيارة وأقطع الطريق .. هو أنني أريد أن أسافر إلي الإسكندرية مثلا .. الدافع هنا وهو الوصول إلي الإسكندرية .. هو الذي وجد والله سبحانه وتعالى خلقنا في الحياة لنعبده .. مصداقا لقوله تبارك وتعالى

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)

سورة الذاريات

إذن فعلة الخلق هي العبادة .. ولقد تم الخلق لتتحقق العبادة وتصبح واقعا .. ولكن “العلة والمعلول” لا تنطبق على أفعال الله سبحانه وتعالى .. نقول ليس هناك علة تعود على الله جل جلاله بالفائدة. لأن الله تبارك وتعالى غني عن العالمين .. ولكن العلة تعود على الخلق بالفائدة .. فالله سبحانه وتعالى خلقنا لنعبده. ولكن علة الخلق ليس لأن هذه العبادة ستزيد شيئا في ملكه .. وإنما عبادتنا تعود علينا نحن بالخير في الدنيا والآخرة..

أن أفعال الله لا تعلل، والمأمور بالعبادة هو الذي سينتفع بها.

ولكن هل العبادة هي الجلوس في المساجد والتسبيح أم أنها منهج يشمل الحياة كلها .. في بيتك وفي عملك وفي السعي في الأرض؟ .. ولو أراد الله سبحانه وتعالى من عباده الصلاة والتسبيح فقط .. لما خلقهم مختارين بل خلقهم مقهورين لعبادته ككل ما خلق ما عدا الإنس والجن .. والله تبارك وتعالى له صفة القهر .. من هنا فإنه يستطيع أن يجعل من يشاء مقهورا على عبادته .. مصداقا لقوله جل جلاله

لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ﴿3﴾

سورة الشعراء

فلو أراد الله أن يخضعنا لمنهجه قهراً .. لا يستطيع أحد أن يشذ عن طاعته .. وقد أعطانا الله الدليل على ذلك بأن في أجسادنا وفي أحداث الدنيا .. ما نحن مقهورون عليه .. فالجسد مقهور لله في أشياء كثيرة. القلب ينبض ويتوقف بأمر الله دون إرادة منا .. والمعدة تهضم الطعام ونحن لا ندري عنها شيئا .. والدورة الدموية في أجسادنا لا إرادة لنا فيها .. وأشياء كثيرة في الجسد البشري كلها مقهورة لله سبحانه وتعالى .. وليس لإرادتنا دخل في عملها .. وما يقع على في الحياة من أحداث أنا مقهور فيه .. لا أستطيع أن أمنعه من الحدوث .. فلا أستطيع أن أمنع سيارة أن تصدمني .. ولا طائرة أن تحترق بي .. ولا كل ما يقع علي من أقدار الله في الدنيا..

إذن فمنطقة الاختيار في حياتي محددة .. لا أستطيع أن أتحكم في يوم مولدي .. ولا فيمن هو أبي ومن هي أمي .. ولا في شكلي هل أنا طويل أم قصير؟ جميل أم قبيح أو غير ذلك. إذن فمنطقة الاختيار في الحياة هي المنهج أن أفعل أو لا أفعل. الله سبحانه وتعالى له من كل خلقه عبادة القهر .. ولكنه يريد من الإنس والجن عبادة المحبوبية .. ولذلك خلقنا ولنا اختيار في أن نأتيه أو لا نأتيه .. في أن نطيعه أو نعصاه. في أن نؤمن به أو لا نؤمن.

فإذا كنت تحب الله فأنت تأتيه عن اختيار. تنازل عما يغضبه حبا فيه، وتفعل ما يطلبه حبا فيه وليس قهرا .. فإذا تخليت عن اختيارك إلي مرادات الله في منهجه .. تكون قد حققت عبادة المحبوبية لله تبارك وتعالى .. وتكون قد أصبحت من عباد الله وليس من عبيد الله .. فكلنا عبيد لله سبحانه وتعالى، والعبيد متساوون فيما يقهرون عليه. ولكن العباد الذين يتنازلون عن منطقة الاختيار لمراد الله في التكليف .. ولذلك فإن الحق جل جلاله .. يفرق في القرآن الكريم بين العباد والعبيد .. يقول تعالى:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186)

سورة البقرة

ويقول سبحانه وتعالى:

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً(63)

سورة الفرقان

وهكذا نرى أن الله سبحانه وتعالى أعطى أوصاف المؤمنين وسماهم عبادا .. ولكن عندما يتحدث عن البشر جميعا يقول عبيد .. مصداقا لقوله تعالى:

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ(182)

سورة آل عمران

ولكن قد يقول قائل: أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز:

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ(17)

سورة الفرقان

الحديث هنا عن العاصين والضالين. ولكن الله سبحانه وتعالى قال عنهم عباد. نقول إن هذا في الآخرة .. وفي الآخرة كلنا عباد لأننا مقهورون لطاعة الله الواحد المعبود تبارك وتعالى .. لأن الاختيار البشري ينتهي ساعة الاحتضار .. ونصبح جميعا عباداً لله مقهورين على طاعته لا اختيار لنا في شيء.

والله سبحانه وتعالى قد أعطى الإنسان اختياره في الحياة الدنيا في العبودية فلم يقهره في شيء ولا يلزم غير المؤمن به بأي تكليف .. بل إن المؤمن هو الذي يلزم نفسه بالتكليف وبمنهج الله فيدخل في عقد إيماني مع الله تبارك وتعالى .. ولذلك نجد أن الله جل جلاله لا يخاطب الناس جميعا في التكليف .. وإنما يخاطب الذين آمنوا فقط فيقول:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)

سورة البقرة

ويقول سبحانه:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(153)

سورة البقرة

أي أن الله جل جلاله لا يكلف إلا المؤمن الذي يدخل في عقد إيماني مع الله.

وسيد المرسلين محمد صلى اله عليه وسلم عندما نضعه في معيار العبادية يكون القمة .. فهو صلى الله عليه وسلم الذي حقق العبادية المرادة لله من خلق الله كما يحبها الله..

إذن فالذي يقول غاية الخلق كله محمد عليه الصلاة والسلام .. نقول أن هذا صحيح، لأنه صلى الله عليه وسلم حقق العبادية المثلى المطلوبة من الله تبارك وتعالى .. والتي هي علة الخلق .. وهكذا نعرف المقامات العالية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند خالقه.

والله تبارك وتعالى قرن العبادة له وحده بالاستعانة به سبحانه .. فقال جل جلاله: “إياك نعبد وإياك نستعين” أي لا نعبد سواك ولا نستعين إلا بك. والاستعانة بالله سبحانه وتعالى تخرجك عن ذل الدنيا. فأنت حين تستعين بغير الله فإنك تستعين ببشر مهما بلغ نفوذه وقوته فكلها في حدود بشريته..

ولأننا نعيش في عالم أغيار .. فإن القوى يمكن أن يصبح ضعيفا .. وصاحب النفوذ يمكن أن يصبح في لحظة واحدة طريداً شريداً لا نفوذ له .. ولو لم يحدث هذا. فقد يموت ذلك الذي تستعين به فلا تجد أحد يعينك.

ويريد الله تبارك وتعالى أن يحرر المؤمن من ذل الدنيا .. فيطلب منه أن يستعين بالحي الذي لا يموت .. وبالقوي الذي لا يضعف، وبالقاهر الذي لا يخرج عن أمره أحد .. وإذا استعنت بالله سبحانه وتعالى. كان الله جل جلاله بجانبك. وهو وحده الذي يستطيع أن يحول ضعفك إلي قوة وذلك إلي عز .. والمؤمن دائما يواجه قوي اكبر منه .. ذلك أن الذين يحاربون منهج الله يكونون من الأقوياء ذوي النفوذ الذي يحبون أن يستعبدوا غيرهم .. فالمؤمن سيدخل معهم في صراع .. ولذلك فإن الحق يحض عباده المؤمنين بأنه معهم في الصراع بين الحق والباطل .. وقوله تعالى: “وإياك نستعين” مثل: “إياك نعبد” .. أي نستعين بك وحدك وهي دستور الحركة في الحياة .. لأن استعان معناها طلب المعونة، أي أن الإنسان استنفد أسبابه ولكنها خذلته .. حينئذ لابد أن يتذكر أن له ربا لا يعبد سواه. لن يتخلى عنه بل يستعين به .. وحين تتخلى الأسباب فهناك رب الأسباب وهو موجود دائما .. السماء .. والله سبحانه وتعالى يكون معه

خواطر الشيخ الشعراوي في سورة الفاتحة 4

اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)

بعد أن آمنت بالله سبحانه وتعالى إلها وربا .. واستحضرت عطاء الألوهية ونعم الربوبية وفيوضات رحمة الله على خلقه. وأعلنت أنه لا إله إلا الله. وقولك: “إياك نعبد” أي أن العبادة لله تبارك وتعالى لا نشرك به شيئا ولا نعبد إلا إياه .. وأعلنت أنك ستستعين بالله وحده بقولك: “إياك نستعين”. فأنك قد أصبحت من عباد الله. ويعلمك الله سبحانه وتعالى الدعاء الذي يتمناه كل مؤمن .. ومادامت من عباد الله، فإن الله جل جلاله سيستجيب لك .. مصداقا لقوله سبحانه:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186)

سورة البقرة

والمؤمن لا يطلب الدنيا أبدا .. لماذا؟ .. لأن الحياة الحقيقية للإنسان في الآخرة. فيها الحياة الأبدية والنعيم الذي لا يفارقك ولا تفارقه. فالمؤمن لا يطلب مثلا أن يرزقه الله مالا كثيراً ولا أن يمتلك عمارة مثلا .. لأنه يعلم أن كل هذا وقتي وزائل .. ولكنه يطلب ما ينجيه من النار ويوصله إلي الجنة..

ومن رحمة الله تبارك وتعالى أنه علمنا ما نطلب .. وهذا يستوجب الحمد لله .. وأول ما يطلب المؤمن هو الهداية والصراط المستقيم: “إهدنا الصراط المستقيم“.

والهداية نوعان: هداية دلالة وهداية معونة. هداية الدلالة هي للناس جميعا .. وهداية المعونة هي للمؤمنين فقط المتبعين لمنهج الله. والله سبحانه وتعالى هدى كل عباده هداية دلالة أي دلهم على طريق الخير وبينه لهم .. فمن أراد أن يتبع طريق الخير اتبعه .. ومن أراد ألا يتبعه تركه الله لما أراد..

هذه الهداية العامة هي أساس البلاغ عن الله. فقد بين لنا الله تبارك وتعالى في منهجه بافعل ولا تفعل ما يرضيه وما يغضبه .. وأوضح لنا الطريق الذي نتبعه لنهتدي. والطريق الذي لو سلكناه حق علينا غضب الله وسخطه .. ولكن هل كل من بين له الله سبحانه وتعالى طريق الهداية اهتدى؟ .. نقول لا .. واقرأ قوله جل جلاله

وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(17)

سورة فصلت

إذن هناك من لا يأخذ طريق الهداية بالاختيار الذي أعطاه الله له .. فلو أن الله سبحانه وتعالى أرادنا جميعا مهديين .. ما استطاع واحد من خلقه أن يخرج على مشيئته. ولكنه جل جلاله خلقنا مختارين لنأتيه عن حب ورغبة بدلا من أن يقهرنا على الطاعة .. وما الذي يحدث للذين اتبعوا طريق الهداية والذين لم يتبعوه وخالفوا مراد الله الشرعي في كونه؟

وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ(17)

سورة محمد

أي أن كل من يتخذ طريق الهداية يعينه الله عليه .. ويزيده تقوى وحبا في الدين .. أما الذين إذا جاءهم الهدى ابتعدوا عن منهج الله وخالفوه .. فإن الله تبارك وتعالى يتخلى عنهم ويتركهم في ضلالهم. واقرأ قوله تعالى:

وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ(36)

سورة الزخرف

والله سبحانه وتعالى قد يبين لنا المحرومين من هداية المعونة على الإيمان وهم ثلاثة كما بينهم لنا في القرآن الكريم:

ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(107)

سورة النحل

ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(108)

سورة المائدة

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(258)

سورة البقرة

إذن فالمطرودون من هداية الله في المعونة على الإيمان .. هم الكافرون والفاسقون والظالمون .. الحق سبحانه وتعالى يقول: “اهدنا الصراط المستقيم” ما هو الصراط؟ .. إنه الطريق الموصلة إلي الغاية. ولماذا نص على أنه الصراط المستقيم. لأن الله سبحانه وتعالى وضع لنا في منهجه الطريق المستقيم .. وهو أقصر الطرق إلي تحقيق الغاية .. فأقصر طريق بين نقطتين هو الطريق المستقيم. ولذلك إذا كنت تقصد مكانا فأقصر طريق تسلكه .. هو الطريق الذي لا اعوجاج فيه ولكنه مستقيم تماما..

ولا تحسب أن البعد عن الطريق المستقيم يبدأ باعوجاج كبير. بل باعوجاج صغير جدا ولكنه ينتهي إلي بعد كبير..

ويكفي أن تراقب قضبان السكة الحديد .. عندما يبدأ القطار في اتخاذ طريق غير الذي كان يسلكه فهو لا ينحرف في أول الأمر إلا بضعة ملليمترات .. أي أن أول التحويلة ضيق جدا وكلما مشيت اتسع الفرق وازداد اتساعا. بحيث عند النهاية تجد أن الطريق الذي مشيت فيه .. يبعد عن الطريق الأول عشرات الكيلو مترات وربما مئات الكيلو مترات .. إذن فأي انحراف مهما كان بسيطا يبعدك عن الطريق المستقيم بعدا كبيرا .. ولذلك فإن الدعاء: “اهدنا الصراط المستقيم” أي الطريق الذي ليس فيه اعوجاج ولو بضعة ملليمترات .. الطريق الذي ليس فيه مخالفة تبعدنا عن طريق الله المستقيم.

لذلك فإن الإنسان المؤمن يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يهديه إلي أقصر الطرق للوصول إلي الغاية .. وما هي الغاية؟ أنها الجنة والنعيم في الآخرة .. ولذلك نقول يا رب اهدنا وأعنا على أن نسلك الطريق المستقيم وهو طريق المنهج .. ليوصلنا إلي الجنة دون أن يكون فيه أي اعوجاج يبعدنا عنها.

ولقد قال الله سبحانه وتعالى في حديث قدسي. أنه إذا قال العبد: “اهدنا الصراط المستقيم” يقول جل جلاله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.

يقول الحق تبارك وتعالى: “صراط الذين أنعمت عليهم” ما معنى “الذين أنعمت عليهم”؟ .. اقرأ الآية الكريمة:

وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً(69)

سورة النساء

وأنت حين تقرأ الآية الكريمة فأنت تطلب من الله تبارك وتعالى أن تكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .. أي أنك تطلب من الله جل جلاله .. أن يجعلك تسلك نفس الطريق الذي سلكه هؤلاء لتكون معهم في الآخرة .. فكأنك تطلب الدرجة العالية في الجنة .. لأن كل من ذكرناهم لهم مقام عال في جنة النعيم .. وهكذا فإن الطلب من الله سبحانه وتعالى هو أن يجعلك تسلك الطريق الذي لا اعوجاج فيه. والذي يوصلك في أسرع وقت إلي الدرجة العالية في الآخرة.

وعندما نعرف أن الله سبحانه وتعالى قال: (هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) .. تعرف أن الاستجابة تعطيك الحياة العالية في الآخرة وتمتعك بنعيم الله. ليس بقدرات البشر كما يحدث في الدنيا .. ولكن بقدرة الله تبارك وتعالى .. وإذا كانت نعم الدنيا لا تعد ولا تحصى .. فكيف بنعم الآخرة؟ لقد قال الله سبحانه وتعالى عنها

لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ(35)

سورة ق

أي أنه ليس كل ما تطلبه فقط ستجده أمامك بمجرد وروده على خاطرك ـ ولكن مهما طلبت من النعم ومهما تمنيت فالله جل جلاله عنده مزيد .. ولذلك فإنه يعطيك كل ما تشاء ويزيد عليه بما لم تطلب ولا تعرف من النعم .. وهذا تشبيه فقط ليقرب الله تبارك وتعالى صورة النعيم إلي أذهاننا، ولكن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وبما أن المعاني لابد أن توجد أولا في العقل ثم يأتي اللفظ المعبر عنها .. فكل شيء لا نعرفه لا توجد في لغتنا ألفاظ تعبر عنه. فنحن لم نعرف اسم التليفزيون مثلا إلا بعد أن اخترع وصار له مفهوم محدد. تماما كما لم نعرف اسم الطائرة قبل أن يتم اختراعها .. فالشيء يوجد أولا ثم بعد ذلك يوضع اللفظ المعبر عنه. ولذلك فإن مجامع اللغات في العالم تجتمع بين فترة وأخرى. لتضع أسماء لأشياء جديدة اخترعت وعرفت مهمتها..

ومادام ذلك هو القاعدة اللغوية، فإنه لا توجد ألفاظ في لغة البشر تعبر عن النعيم الذي سيعيشه أهل الجنة لأنه لم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على القلب .. ولذلك فإن كل ما نقرؤه في القرآن الكريم يقرب لنا الصورة فقط. ولكنه لا يعطينا حقيقة ما هو موجود. ولذلك نجد الله سبحانه وتعالى حين يتحدث عن الجنة في القرآن الكريم يقول:

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ(15)

سورة محمد

أي أن هذا ليس حقيقة الجنة ولكنها مثل فقط يقرب ذلك إلي الأذهان .. لأنه لا توجد ألفاظ في لغات البشر يمكن أن تعطينا حقيقة ما في الجنة.

وقوله تعالى: “غير المغضوب عليهم” .. أي غير الذين غضبت عليهم يا رب من الذين عصوا. ومنعت عنهم هداية الإعانة .. الذين عرفوا المنهج فخالفوه وارتكبوا كل ما حرمه الله فاستحقوا غضبه.

ومعنى غير “المغضوب عليهم” أي يا رب لا تيسر لن الطريق الذي نستحق به غضبك. كما استحقه أولئك الذين غيروا وبدلوا في منهج الله ليأخذوا سلطة زمنية في الحياة الدنيا وليأكلوا أموال الناس بالباطل..

وقد وردت كلمة “المغضوب عليهم” في القرآن الكريم في قوله تعالى:

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ(60)

سورة المائدة

وهذه الآيات نزلت في بني إسرائيل.

وقول الله تعالى: “ولا الضالين” هناك الضال والمضل .. الضال هو الذي ضل الطريق فاتخذ منهجا غير منهج الله .. ومشى في الضلالة بعيدا عن الهدى وعن دين الله .. ويقال ضل الطريق أي مشي فيه وهو لا يعرف السبيل إلي ما يريد أن يصل إليه .. أي أنه تاه في الدنيا فأصبح وليا للشيطان وابتعد عن طريق الله المستقيم .. هذا هو الضال .. ولكن المضل هو من لم يكتف بأنه ابتعد عن منهج الله وسار في الحياة على غير هدى .. بل يحاول أن يأخذ غيره إلي الضلالة .. يغري الناس بالكفر وعدم اتباع المنهج والبعد عن طريق الله .. وكل واحد من العاصين يأتي يوم القيامة يحمل ذنوبه .. إلا المضل فإنه يحمل ذنوبه وذنوب من أضلهم. مصداقا لقوله سبحانه:

لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ(25)

سورة النحل

أي أنك وأنت تقرأ الفاتحة .. فأنك تستعيذ بالله أن تكون من الذين ضلوا .. ولكن الحق سبحانه وتعالى لم يأتي هنا بالمضلين. نقول أنك لكي تكون مضلا لابد أن تكون ضالا أولا .. فالاستعاذة من الضلال هنا تشمل الاثنين. لأنك مادمت قد استعذت من أن تكون ضالا فلن تكون مضلا أبدا.

بقى أن نتكلم عن ختم فاتحة الكتاب. بقولنا آمين أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمه جبريل عليه السلام أن يقول بعد قراءة الفاتحة آمين، فهي من كلام جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليست كلمة من القرآن.

وكلمة آمين معناها استجب يا رب فيما دعوناك به من قولنا: “اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم” أي أن الدعاء هنا له شيء مطلوب تحقيقه. وآمين دعاء لتحقيق المطلوب .. وكلمة آمين اختلف العلماء فيها .. أهي عربية أم غير عربية.

وهنا يثور سؤال .. كيف تدخل كلمة غير عربية في قرآن حكم الله بأنه عربي..؟ نقول أن ورود كلمة ليست من أصل عربي في القرآن الكريم. لا ينفي أن القرآن كله عربي. بمعنى أنه إذا خوطب به العرب فهموه .. وهناك ألفاظ دخلت في لغة العرب قبل أن ينزل القرآن .. ولكنها دارت على الألسن بحيث أصبحت عربية وألفتها الأذان العربية..

فليس المراد بالعربي هو أصل اللغة العربية وحدها .. وإنما المراد أن القرآن نزل باللغة التي لها شيوع على ألسنة العرب. وما دام اللفظ قد شاع على اللسان قولا وفي الآذان سمعها. فإن الأجيال التي تستقبله لا تفرق بينه وبين غيره من الكلمات التي هي من أصل عربي .. فاللفظ الجديد أصبح عربيا بالاستعمال وعند نزول القرآن كانت الكلمة شائعة شيوع الكلمة العربية.

واللغة ألفاظ يصطلح على معانيها. بحيث إذا أطلق اللفظ فهم المعنى. واللغة التي نتكلمها لا تخرج عن اسم وفعل وحرف .. الاسم كلمة والفعل كلمة والحرف كلمة .. والكلمة لها معنى في ذاتها ولكن هل هذا المعنى مستقل في الفهم أو غير مستقل .. إذا قلت محمد مثلا فهمت الشخص الذي سمى بهذا الاسم فصار له معنى مستقل .. وإذا قلت كتب فهمت أنه قد جمع الحروف لتقرأ على هيئة كتابة .. ولكن إذا قلت ماذا وهي حرف ليس هناك معنى مستقل .. وإذا قلت “في” دلت على الظرفية ولكنها لم تدلنا على معنى مستقل. بل لابد أن تقول الماء في الكوب .. أو فلان على الفرس .. غير المستقل في الفهم نسميه حرفا لا يظهر معناه إلا بضم شيء له .. والفعل يحتاج إلي زمن، ولكن الاسم لا يحتاج إلي زمن..

إذن الاسم هو ما دل على معنى مستقل بالفهم وليس الزمن جزءا منه .. والفعل ما دل على فعل مستقل بالفهم والزمن جزء منه .. والحرف دل على معنى غير مستقل .. ما هي علامة الفعل هي أنك تستطيع أن تسند إليه تاء الفاعل .. أي تقول كتبت والفاعل هو المتكلم .. ولكن الاسم لا يضاف إليه تاء الفاعل فلا تقول محمدت .. إذا رأيت شيئا يدل على الفعل أي يحتاج إلي زمن .. ولكنه لا يقبل تاء الفاعل فإنه يكون اسم على فعل.

آمين من هذا النوع ليست فعلا فهي اسم مدلولة مدلول الفعل .. معناه استجب .. فأنت حين تسمع كلمة “آه” أنها اسم لفعل بمعنى أتوجع .. وساعة تقول “أف” اسم فعل بمعنى أتضجر .. وآمين اسم فعل بمعنى استجب .. ولكنك تقولها مرة وأنت القارئ، وتقولها مرة وأنت السامع. فساعة تقرأ الفاتحة تقول آمين .. أي أنا دعوت يا رب فاستجب دعائي .. لأنك لشدة تعلقك بما دعوت من الهداية فأنك لا تكتفي بقول اهدنا ولكن تطلب من الله الاستجابة. وإذا كنت تصلي في جماعة فأنت تسمع الإمام، وعندما قلت آمين فأنت شريك في الدعاء .. ولذلك فعندما دعا موسى عليه السلام أن يطمس الله على أموال قوم فرعون ويهلكهم قال الله لموسى:

قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ(89)

سورة يونس

أي الخطاب من الله سبحانه وتعالى موجه إلي موسى وهارون. ولكن موسى عليه السلام هو الذي دعا .. وهارون أمن على دعوة موسى فأصبح مشاركا في الدعاء.

سيد قطب (في ظلال القرآن)

مكيـة وآيـاتهـا سبـع
﴿ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ ﴾ يردد المسلم هذه السورة القصيرة ذات الآيات السبع , سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى ; وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن ; وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلا , غير الفرائض والسنن . ولا تقوم صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من حديث عبادة بن الصامت: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ). إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية , وكليات التصور الإسلامي , وكليات المشاعر والتوجيهات , ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة , وحكمة بطلان كل صلاة لا تذكر فيها .. ﴿ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ ﴿1﴾ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿2﴾ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ ﴿3﴾ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴿4﴾ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴿5﴾ اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴿6﴾ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴿7﴾‏ ﴾
﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾.. [الفاتحة :1]
تبدأ السورة: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ .. ومع الخلاف حول البسملة: أهي آية من كل سورة أم هي آية من القرآن تفتتح بها عند القراءة كل سورة, فإن الأرجح أنها آية من سورة الفاتحة, وبها تحتسب آياتها سبعا . وهناك قول بأن المقصود بقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ .. [الحجر:87] هو سورة الفاتحة بوصفها سبع آيات ﴿ مِنَ الْمَثَانِي ﴾ لأنها يثنى بها وتكرر في الصلاة . والبدء باسم الله هو الأدب الذي أوحى الله لنبيه [صلى الله عليه وسلم] في أول ما نزل من القرآن باتفاق, وهو قوله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ … ﴾.. [العلق:1] وهو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أن الله ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ .. ﴾ .. [الحديد:3] فهو ـ سبحانه ـ الموجود الحق الذي يستمد منه كل موجود وجوده , ويبدأ منه كل مبدوء بدأه . فباسمه إذن يكون كل ابتداء . وباسمه إذن تكون كل حركة وكل اتجاه . ووصفه ـ سبحانه ـ في البدء بالرحمن الرحيم , يستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها .. وهو المختص ﴿ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ وحده باجتماع هاتين الصفتين , كما أنه المختص وحده بصفة الرحمن . فمن الجائز أن يوصف عبد من عباده بأنه رحيم ; ولكن من الممتنع من الناحية الإيمانية أن يوصف عبد من عباده بأنه رحمن . ومن باب أولى أن تجتمع له الصفتان . . ومهما يختلف في معنى الصفتين: أيتهما تدل على مدى أوسع من الرحمة , فهذا الاختلاف ليس مما يعنينا تقصيه في هذه الظلال ; إنما نخلص منه إلى استغراق هاتين الصفتين مجتمعتين لكل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها . وإذا كان البدء باسم الله وما ينطوي عليه من توحيد الله وأدب معه يمثل الكلية الأولى في التصور الإسلامي . . فإن استغراق معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها في صفتي الرحمن الرحيم يمثل الكلية الثانية في هذا التصور , ويقرر حقيقة العلاقة بين الله والعباد .
﴿ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ .. [الفاتحة :2]
وعقب البدء باسم الله الرحمن الرحيم يجيء التوجه إلى الله بالحمد ووصفه بالربوبية المطلقة للعالمين: ﴿ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ والحمد لله هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله . . فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضا من فيوضات النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء . وفي كل لمحة وفي كل لحظة وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع , وتغمر خلائقه كلها وبخاصة هذا الإنسان . . ومن ثم كان الحمد لله ابتداء , وكان الحمد لله ختاما قاعدة من قواعد التصور الإسلامي المباشر: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ .. ﴾ .. [القصص:70]، ومع هذا يبلغ من فضل الله ـ سبحانه ـ وفيضه على عبده المؤمن , أنه إذا قال: الحمد لله كتبها له حسنة ترجح كل الموازين . . في سنن ابن ماجه عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حدثهم أن عبدا من عباد الله قال: ( يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ) . فعضلت الملكين فلم يدريا كيف يكتبانها . فصعدا إلى الله فقالا: يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها . قال الله ـ وهو أعلم بما قال عبده ـ : ( وما الذي قال عبدي ? ) قالا:يا رب , إنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك . فقال الله لهما: ( اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها ) . . والتوجه إلى الله بالحمد يمثل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله ـ كما أسلفنا ـ أما شطر الآية الأخير: ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ فهو يمثل قاعدة التصور الإسلامي , فالربوبية المطلقة الشاملة هي إحدى كليات العقيدة الإسلامية . . والرب هو المالك المتصرف , ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح والتربية . . والتصرف للإصلاح والتربية يشمل العالمين ـ أي جميع الخلائق ـ والله ـ سبحانه ـ لم يخلق الكون ثم يتركه هملا . إنما هو يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربيه . وكل العوالم والخلائق تحفظ وتتعهد برعاية الله رب العالمين . والصلة بين الخالق والخلائق دائمة ممتدة قائمة في كل وقت وفي كل حالة . والربوبية المطلقة هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل , والغبش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة بصورتها القاطعة . وكثيرا ما كان الناس يجمعون بين الاعتراف بالله بوصفه الموجد الواحد للكون , والاعتقاد بتعدد الأرباب الذين يتحكمون في الحياة . ولقد يبدو هذا غريبا مضحكا . ولكنه كان وما يزال . ولقد حكى لنا القرآن الكريم عن جماعة من المشركين كانوا يقولون عن أربابهم المتفرقة: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ .. [الزمر:3]. . كما قال عن جماعة من أهل الكتاب: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ .. [التوبة:31]. . وكانت عقائد الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام , تعج بالأرباب المختلفة , بوصفها أربابا صغارا تقوم إلى جانب كبير الآلهة كما يزعمون ! فإطلاق الربوبية في هذه السورة , وشمول هذه الربوبية للعالمين جميعاً , هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة . لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد , تقر له بالسيادة المطلقة , وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة , وعنت الحيرة كذلك بين شتى الأرباب . . ثم ليطمئن ضمير هذه العوالم إلى رعاية الله الدائمة وربوبيته القائمة . وإلى أن هذه الرعاية لا تنقطع أبداً ولا تفتر ولا تغيب , لا كما كان أرقى تصور فلسفي لأرسطو مثلا يقول بأن الله أوجد هذا الكون ثم لم يعد يهتم به , لأن الله أرقى من أن يفكر فيما هو دونه ! فهو لا يفكر إلا في ذاته ! وأرسطو ـ وهذا تصوره ـ هو أكبر الفلاسفة , وعقله هو أكبر العقول ! لقد جاء الإسلام وفي العالم ركام من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار . . يختلط فيها الحق بالباطل , والصحيح بالزائف , والدين بالخرافة , والفلسفة بالأسطورة . . والضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يتخبط في ظلمات وظنون , ولا يستقر منها على يقين . وكان التيه الذي لا قرار فيه ولا يقين ولا نور , هو ذلك الذي يحيط بتصور البشرية لإلاهها , وصفاته وعلاقته بخلائقه , ونوع الصلة بين الله والإنسان على وجه الخصوص . ولم يكن مستطاعاً أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون , وفي أمر نفسه وفي منهج حياته , قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدته وتصوره لإلهه وصفاته , وقبل أن ينتهي إلى يقين واضح مستقيم في وسط هذا العماء وهذا التيه وهذا الركام الثقيل . ولا يدرك الإنسان ضرورة هذا الاستقرار حتى يطلع على ضخامة هذا الركام , وحتى يرود هذا التيه من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري , والتي أشرنا إلى طرف منها فيما تقدم صغير . وسيجيء في استعراض سور القرآن الكثير منها , مما عالجه القرآن علاجاً وافياً شاملاً كاملاً . ومن ثم كانت عناية الإسلام الأولى موجهه إلى تحرير أمر العقيدة , وتحديد التصور الذي يستقر عليه الضمير في أمر الله وصفاته , وعلاقته بالخلائق , وعلاقة الخلائق به على وجه القطع واليقين . ومن ثم كان التوحيد الكامل الخالص المجرد الشامل , الذي لا تشوبه شائبة من قريبٍ ولا من بعيدٍ . . هو قاعدة التصور التي جاء بها الإسلام , وظل يجلوها في الضمير , ويتتبع فيه كل هاجسة وكل شائبة حول حقيقة التوحيد , حتى يخلصها من كل غبش . ويدعها مكينة راكزة لا يتطرق إليها وهم في صورة من الصور . . كذلك قال الإسلام كلمة الفصل بمثل هذا الوضوح في صفات الله وبخاصة ما يتعلق منها بالربوبية المطلقة . فقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه الفلسفات والعقائد كما تخبط فيه الأوهام والأساطير . . مما يتعلق بهذا الأمر الخطير , العظيم الأثر في الضمير الإنساني . وفي السلوك البشري سواء . والذي يراجع الجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات الله وصفاته وعلاقته بمخلوقاته , هذا الجهد الذي تمثله النصوص القرآنية الكثيرة . . الذي يراجع هذا الجهد المتطاول دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل في ذلك التيه الشامل الذي كانت البشرية كلها تهيم فيه . . قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر , وإلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير . . ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف ﴿ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ ﴿3﴾ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول , كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة ـ وتقوم في تحرير الضمير البشري وإعتاقه ; وإطلاقه من عناء التخبط بين شتى الأرباب وشتى الأوهام والأساطير ! وإن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها . . كل هذا لا يتجلى للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد والتصورات , والأساطير والفلسفات ! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم . . عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة . رحمة حقيقية للقلب والعقل , رحمة بما فيها من جمال وبساطة , ووضوح وتناسق , وقرب وأنس , وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق .
﴿ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ ﴿3﴾ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ .. [الفاتحة:3 ـ 4]
﴿ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ ﴾. هذه الصفة التي تستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها تتكرر هنا في صلب السورة , في آية مستقلة , لتؤكد السمة البارزة في تلك الربوبية الشاملة ; ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الرب ومربوبيه . وبين الخالق ومخلوقاته . . إنها صلة الرحمة والرعاية التي تستجيش الحمد والثناء . إنها الصلة التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة , فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية . إن الرب الإله في الإسلام لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها كما تصورها أساطير الإغريق . ولا يدبر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزورة في “العهد القديم” كالذي جاء في أسطورة برج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين . ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ . . وهذه تمثل الكلية الضخمة العميقة التأثير في الحياة البشرية كلها كلية الاعتقاد بالآخرة . . والملك أقصى درجات الاستيلاء والسيطرة . ويوم الدين هو يوم الجزاء في الآخرة . . وكثيرا ما اعتقد الناس بألوهية الله , وخلقه للكون أول مرة ; ولكنهم مع هذا لم يعتقدوا بيوم الجزاء . . والقرآن يقول عن بعض هؤلاء: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ .. ﴾ .. [لقمان:25]. . ثم يحكي عنهم في موضع آخر: بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون:هذا شيء عجيب . أئذا متنا وكنا ترابا ? ذلك رجع بعيد ! والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض ; فلا تستبد بهم ضرورات الأرض . وعندئذ يملكون الاستعلاء على هذه الضرورات . ولا يستبد بهم القلق على تحقيق جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود , وفي مجال الأرض المحصور . وعندئذ يملكون العمل لوجه الله وانتظار الجزاء حيث يقدره الله , في الأرض أو في الدار الآخرة سواء , في طمأنينة لله , وفي ثقة بالخير , وفي إصرار على الحق , وفي سعة وسماحة ويقين . . ومن ثم فإن هذه الكلية تعد مفرق الطريق بين العبودية للنزوات والرغائب , والطلاقة الإنسانية اللائقة ببني الإنسان . بين الخضوع لتصورات الأرض وقيمها وموازينها والتعلق بالقيم الربانية والاستعلاء على منطق الجاهلية . مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا التي أرادها الله الرب لعباده , والصور المشوهة المنحرفة التي لم يقدر لها الكمال . ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع ما لم تتحقق هذه الكلية في تصور البشر . وما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير . وما لم يثق الفرد المحدود العمر بأن له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها , وأن يضحي لنصرة الحق والخير معتمدا على العوض الذي يلقاه فيها . . وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعور ولا خلق ولا سلوك ولا عمل . فهما صنفان مختلفان من الخلق . وطبيعتان متميزتان لا تلتقيان في الأرض في عمل ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء . . وهذا هو مفرق الطريق .
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ .. [الفاتحة: 5]
. وهذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة . فلا عبادة إلا لله , ولا استعانة إلا بالله . وهنا كذلك مفرق طريق . . مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية , وبين العبودية المطلقة للعبيد ! وهذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل . التحرر من عبودية الأوهام . والتحرر من عبودية النظم , والتحرر من عبودية الأوضاع . وإذا كان الله وحده هو الذي يعبد , والله وحده هو الذي يستعان , فقد تخلص الضمير البشري من استذلال النظم والأوضاع والأشخاص , كما تخلص من استذلال الأساطير والأوهام والخرافات . . وهنا يعرض موقف المسلم من القوى الإنسانية , ومن القوى الطبيعية . . فأما القوى الإنسانية ـ بالقياس إلى المسلم ـ فهي نوعان:قوة مهتدية , تؤمن بالله , وتتبع منهج الله . . . وهذه يجب أن يؤازرها , ويتعاون معها على الخير والحق والصلاح . . وقوة ضالة لا تتصل بالله ولا تتبع منهجه . وهذه يجب أن يحاربها ويكافحها ويغير عليها . ولا يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية . فهي بضلالها عن مصدرها الأول ـ قوة الله ـ تفقد قوتها الحقيقة . تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها . وذلك كما ينفصل جرم ضخم من نجم ملتهب , فما يلبث أن ينطفيء ويبرد ويفقد ناره ونوره , مهما كانت كتلته من الضخامة . على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع قوتها وحرارتها ونورها: ﴿ .. كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ .. ﴾ .. [البقرة:249] غلبتها باتصالها بمصدر القوة الأول , وباستمدادها من النبع الواحد للقوة وللعزة جميعا . وأما القوى الطبيعية فموقف المسلم منها هو موقف التعرف والصداقة , لا موقف التخوف والعداء . ذلك أن قوة الإنسان وقوة الطبيعة صادرتان عن إرادة الله ومشيئته , محكومتان بإرادة الله ومشيئته , متناسقتان متعاونتان في الحركة والاتجاه . إن عقيدة المسلم توحي إليه أن الله ربه قد خلق هذه القوى كلها لتكون له صديقا مساعدا متعاونا ; وأن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن يتأمل فيها . ويتعرف إليها , ويتعاون وإياها , ويتجه معها إلى الله ربه وربها . وإذا كانت هذه القوى تؤذيه أحيانا , فإنما تؤذيه لأنه لم يتدبرها ولم يتعرف إليها , ولم يهتد إلى الناموس الذي يسيرها . ولقد درج الغربيون ـ ورثة الجاهلية الرومانية ـ على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم:« قهر الطبيعة » . . ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية المقطوعة الصلة بالله , وبروح الكون المستجيب لله . فأما المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم , الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبحة لله رب العالمين .
﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴿6﴾ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ‏ ﴾ ..[الفاتحة :6 ـ7]
فيؤمن بأن هنالك علاقة أخرى غير علاقة القهر والجفوة . أنه يعتقد أن الله هو مبدع هذه القوى جميعا . خلقها كلها وفق ناموس واحد , لتتعاون على بلوغ الأهداف المقدرة لها بحسب هذا الناموس . وأنه سخرها للإنسان ابتداء ويسر له كشف أسرارها ومعرفة قوانينها . وأن على الإنسان أن يشكر الله كلما هيأ له أن يظفر بمعونة من إحداها . فالله هو الذي يسخرها له , وليس هو الذي يقهرها: سخر لكم ما في الأرض جميعا . . وإذن فإن الأوهام لن تملأ حسه تجاه قوى الطبيعة ; ولن تقوم بينه وبينها المخاوف . . إنه يؤمن بالله وحده , ويعبد الله وحده , ويستعين بالله وحده . وهذه القوى من خلق ربه . وهو يتأملها ويألفها ويتعرف أسرارها , فتبذل له معونتها , وتكشف له عن أسرارها . فيعيش معها في كون مأنوس صديق ودود . . وما أروع قول الرسول r [ صلى الله عليه وسلم ] وهو ينظر إلى جبل أحد: ( هذا جبل يحبنا ونحبه ) . . ففي هذه الكلمات كل ما يحمله قلب المسلم الأول محمد [ صلى الله عليه وسلم ] من ود وألفة وتجاوب بينه وبين الطبيعة في أضخم وأخشن مجاليها . ﴿ اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴿6﴾ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ‏ ﴾ وبعد تقرير تلك الكليات الأساسية في التصور الإسلامي ; وتقرير الاتجاه إلى الله وحده بالعبادة والاستعانة . . يبدأ في التطبيق العملي لها بالتوجه إلى الله بالدعاء على صورة كلية تناسب جو السورة وطبيعتها: ﴿ اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴿6﴾ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ‏ ﴾ . . ﴿ اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾ .. وفقنا إلى معرفة الطريق المستقيم الواصل ; ووفقنا للاستقامة عليه بعد معرفته . . فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته . والتوجه إلى الله في هذا الأمر هو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين . وهذا الأمر هو أعظم وأول ما يطلب المؤمن من ربه العون فيه . فالهداية إلى الطريق المستقيم هي ضمان السعادة في الدنيا والآخرة عن يقين . . وهي في حقيقتها هداية فطرة الإنسان إلى ناموس الله الذي ينسق بين حركة الإنسان وحركة الوجود كله في الاتجاه إلى الله رب العالمين . ويكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ‏ ﴾ . . فهو طريق الذين قسم لهم نعمته . لا طريق الذين غضب عليهم لمعرفتهم الحق ثم حيدتهم عنه . أو الذين ضلوا عن الحق فلم يهتدوا أصلا إليه . . إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين . . وبعد فهذه هي السورة المختارة للتكرار في كل صلاة , والتي لا تصح بدونها صلاة . وفيها على قصرها تلك الكليات الأساسية في التصور الإسلامي ; وتلك التوجهات الشعورية المنبثقة من ذلك التصور . وقد ورد في صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة عن أبيه , عن أبي هريرة عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]: ( يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين . فنصفها لي ونصفها لعبدي , ولعبدي ما سأل . . إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين . قال الله:حمدني عبدي . وإذا قال الرحمن الرحيم . قال الله أثني علي عبدي . فإذا قال :مالك يوم الدين . قال الله: مجدني عبدي . وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين . قال:هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل . فإذا قال:اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين . قال:هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) . . ولعل هذا الحديث الصحيح ـ بعدما تبين من سياق السورة ما تبين ـ يكشف عن سر من أسرار اختيار السورة ليرددها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة ; أو ما شاء الله أن يرددها كلما قام يدعوه في الصلاة .