سور القرآن الكريم

سُوَرِة القَصَص

هدف السورة: الثقة بوعد الله تعالى

سورة القصص سورة مكيّة تركّز في آياتها على قصة سيدنا موسى في مرحلة الولادة، النشأة، الزواج، العودة إلى مصر وتحقق وعد الله ولم تركّز السورة على بني إسرائيل. وقد نزلت هذه السورة وقت هجرة الرسول r من مكة إلى المدينة وكان حزيناً لفراق مكة كما قال : “والله إنك أحبّ بلاد الله إلى قلبي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت”. فأنزل الله تعالى هذه السورة تطميناً لرسوله بأن وعده ستحقق تماماً كما تحقق وعد الله تعالى لموسى .ففي قصة سيدنا موسى  قال تعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) آية 7 وفي قصة سيدنا محمد قال تعالى (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) آية 85 وهذا تطمين من الله تعالى لرسوله الذي خرج من بلده بعدما ناله قومه بشتى أنواع الأذى وأخبره تعالى أنه كما عاد موسى إلى مصر منصوراُ كذلك سيعود الرسول r إلى مكة فاتحاً منتصراً مصداقاً لوعد الله تعالى. ومن المفارقات في قصة موسى ورسولنا أن موسى مكث خارج مصر بين 8 و10 سنوات التي كانت مهر ابنة شعيب، والرسول r عاد لفتح مكة في السنة الثامنة واختتمت الرسالة في السنة العاشرة، والرسول r خرج من مكة متخفياً وكذلك خرج موسى من مصر خائفاً يترقب، فكأنما القصتان متشابهتان إلى أبعد الحدود. وفي هذه السورة توجيه لأمة الإسلام أنه مهما كانت الظروف صعبة فعليهم أن يثقوا بوعد الله تعالى لهم (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) سورة النور آية 55.

تبدأ السورة(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) آية 3 : الخطاب موجّه للمؤمنين لأنهم يؤمنون ويثقون بوعد الله.

عرض الواقع الصعب لموسى :(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) آية 4، فالوضع قاتم والظروف المحيطة صعبة للغاية.

مراد الله تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) آية 5 و6 فهو سبحانه يريد أن يمنّ على عباده.

الخطوة الأولى في تحقيق مراد الله تعالى الذي يتم عبر عدة خطوات ويستغرق زمناً طويلا فقد رجع موسى نبياً لقومه بعد 10 سنوات من خروجه من مصرً (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِوَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) آية 7. فالخطوة الأولى تبدأ بأم ترضع أبنها وبقصة مولد أمّة بطفل يرمى في البحر بعدما أرضعته أمه، فما هذه الثقة بوعد الله من أم موسى التي يوحي لها تعالى أن إذا خفت عليه ألقيه في اليم؟ أي أمٍ يمكن أن تفعل هذا؟ هي أم موسى لأنه تعالى قال وقوله حق ووعده حق: (إنا رادّوه إليك) ثم يلتقط موسى الرضيع أشد أعدائه فيقذف تعالى حب موسى في قلب زوج فرعون. وهنا لا بد من الإشارة أن للمرأة في قصة سيدنا موسى دور كبير بارز ومؤثر جداً: من أمه التي أطاعت وحي الله، إلى زوجة فرعون التي ربّته كابنها، إلى أخت موسى (فبصرت به عن جنب) التي دلّت آل فرعون على أهل بيت يكفلونه (أي أمه)، إلى دور ابنة شعيب التي تزوجها فيما بعد لما قالت لأبيها (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) وهكذا هي الحال مع الرسول r فقد كان لدور السيدة خديجة رضي الله عنها أبلغ الأثر في بداية الدعوة والوحي.

تحقيق وعود الله: الوعد الأول (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) آية 7 تحقق في (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) الآية 13 والوعد الآخر (جاعلوه من المرسلين) آية 7 تحقق الوعد في قوله (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) آية 30. ثم وعد آخر في قوله (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) آية 35 ويتحقق هذا الوعد في (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) آية 40 فوعد الله تعالى تحقق بغرق فرعون وقيادة موسى لبني إسرائيل. فالسورة عبارة عن وعود من الله تعالى لموسى  ثم تتحقق هذه الوعود.

وكذلك بالنسبة إلى رسولنا الكريم وعده الله تعالى (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ) آية 85 وقد تحقق هذا الوعد وفتح الرسول r مكة وأسلمت الجزيرة العربية وتحقق وعد الله تعالى لرسوله كما تحقق وعد الله لموسى وأمه.

لمن تتحقق الوعود؟ تأتي الآية 83 (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) في نهاية السورة تخبرنا أن وعد الله تعالى يتحقق لعباده المتقين والذين لا يريدون الاستعلاء في الأرض. وهذه هي الآية التي قالها عمر بن عبد العزيز وهو يسلم الروح. إن وعد الله تعالى يتحقق للمؤمنين من عباده.

سميّت السورة بـ (القصص): قصّ لغة هو اتباع الأثر حتى نهايته (وقالت لأخته قصّيه) (ولمّا جاءه وقصّ عليه القصص) فلو تتبعنا القصص في هذه السورة سنجد أن وعد الله يتحقق دائماً.

ملحوظة: السورة تؤكد على أن الملك كله لله، وبين هذه السورة وقصة موسى مع الخضر في سورة الكهف تشابه فكل القصص التي استنكرها موسى واعترض عليها وهو بصحبة الخضر حصلت له في حياته في سورة القصص: اعترض على خرق السفينة وهو رمي في البحر، واعترض على قتل الغلام

وهو قتل رجلاً، واعترض على عدم استضافة أهل القرية لهم وموسى استضافه شعيب وأهله.

توجيه: إذا كانت الدنيا صعبة والظروف قاسية فثقوا في وعد الله إذا كنتم مؤمنين وإذا كان الله تعالى وعد أمة الإسلام أنه سيستخلفهم في الأرض ويمكن لهم دينهم فثقوا أن هذا الوعد سيتحقق بإذن الله وقد قال في الحديث الشريف: “إن الله زوى الأرض لي فوجدت أن ملك أمتي سيبلغ ما زوى الله لي من الأرض”. فصدق الله تعالى بوعده وصدق رسوله الكريم . فهما كان حال الأمة المسلمة هذا الزمان فلا بد لنا من الثقة بوعد الله لكن علينا أن نكون مؤمنين حقاً ليتحقق لنا وعده جلّ وعلا.

تناسب بداية القصص مع خاتمتها

في أولها قال تعالى:(طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) وفي آخرها (إن الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85))المقصود بالكتاب في أول السورة هو القرآن. في أولها قال (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) وفي آخرها (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)) تلك آيات الكتاب المبين ولا يصدنك عن آيات الله، الكتاب من آيات الله. هذه العلاقة بين الآيات تسمى تناسباً. المسألة هي هذه الآيات التي في الأواخر متناسبة مع سياقها التي ترد فيه في الأواخر وهي أيضاً متناسبة مع الأوائل فهي مترابطة في سياقها الذي وردت فيه وهي مرتبطة بمفتتح السورة.

سؤال: هذا كان يعرف في القصيدة الجاهلية بوحدة الموضوع أو وحدة القصيدة فهذا ليس غريباً عن العرب آنذاك؟

السؤال هو هل هناك وحدة فعلاً في القصيدة الجاهلية؟ هذا فيه كلام وخلاف وليس قولاً مطلقاً. على أي حال هنا بالنسبة لما نذكره في عموم التناسب هي أن ما نذكره في خواتيم السور متناسب مع سياقها التي وردت فيه ومتناسبة مع مفتتح السورة وأوائلها هذا الذي لاحظناه. في سورة العنكبوت كما ذكرنا في الحلقة الماضية 29 سورة متتابعة وجدنا فيها تناسب. والآن بعد العنكبوت نأتي إلى سورة الروم السورة الثلاثين في ترتيب المصحف متناسبة إلى الآن مع أن القرآن نزل منجماً ولم تنزل السور مكتملة وقد يفصل بين آية وآية سنوات على مدى ثلاث وعشرين عاماً، ترتيب القرآن بهذا الشكل توقيفي من الله تعالى.

تناسب خواتيم النمل مع فواتح القصص

قال تعالى في أواخر النمل: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92))، (وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ) هذا قصص (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) القصص) القرآن هو الكتاب المبين. (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)) وذكر من اهتدى ومن ضلّ وهم موسى ومن آمن به وفرعون من اتبعه.

تناسب خاتمة القصص مع فواتح العنكبوت

في أواخر القصص قال تعالى:(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)) هذه نزلت في الهجرة والرسول r مهاجر، هو هاجر لأنه فُتِن هو وأصحابه، خرج مهاجراً من أثر الفتنة، وقال في آخرها (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)) وقال في أول العنكبوت (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)) الآن هو خرج مهاجراً من أثر الفتنة ولا يصدنك عن آيات الله من أثر الفتنة، (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)) كأن الخطاب كان موجهاً للنبي ثم عُمم على الجميع. في أول العنكبوت قال (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)) وذكر في أواخر القصص فتنة قارون إلى أن قال (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)) ذكر في القصص فتنة قارون وعاقبته وفي بداية العنكبوت قال (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)) كأنها إشارة إلى ما حدث قبل قليل في آخر سورة القصص.

ختام سورة القصص

ختام سورة القصص


(وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿٨٨﴾)
تأمل ختام سورة القصص وكيف يلخص أهم القضايا الواردة فيها: ولا تدع مع الله إلهاً آخر، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم، وإليه ترجعون.
د. أحمد نوفل
——————————–
يقول سيد قطب في الظلال:
هذه السورة مكية , نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة , والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان . نزلت تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم , نزلت تقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود ,هي قوة الله ; وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون , هي قيمة الإيمان . فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه , ولو كان مجردا من كل مظاهر القوة , ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى ; ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله , ومن فقد هذه القيمة فليس بنافعه شيء أصلا .
(ولا تدع مع الله إلها آخر) يؤكد هذه القاعدة مرتين بالنهي عن الشرك والنهي عن اتخاذ إله آخر مع الله . ذلك أنها مفرق الطريق في العقيدة بين النصاعة والغموض . وعلى هذه القاعدة يقوم بناء هذه العقيدة كلها , وآدابها وأخلاقها وتكاليفها وتشريعاتها جميعا . وهي المحور الذي يلتف عليه كل توجيه وكل تشريع . ومن ثم هي تذكر قبل كل توجيه وقبل كل تشريع .
ثم يمضي في التوكيد والتقرير:
(لا إله إلا هو). . (كل شيء هالك إلا وجهه). . (له الحكم). . (وإليه ترجعون). .
(لا إله إلا هو). . فلا إسلام إلا لله , ولا عبودية – إلا له , ولا قوة إلا قوته , ولا ملاذ إلا حماه .
(كل شيء هالك إلا وجهه). . فكل شيء زائل . وكل شيء ذاهب . المال والجاه . والسلطان والقوة . والحياة والمتاع . وهذه الأرض ومن عليها . وتلك السماوات وما فيها ومن فيها . وهذا الكون كله ما نعلمه منه وما نجهله . . كله . كله . هالك فلا يبقى إلا وجه الله الباقي . متفردا بالبقاء .
له الحكم . . يقضي بما يشاء ويحكم كما يشاء , لا يشركه في حكمه أحد , ولا يرد قضاءه أحد , ولا يقف لأمره أمر . وما يشاؤه فهو الكائن دون سواه .
(وإليه ترجعون). . فلا مناص من حكمه , ولا مفر من قضائه , ولا ملجأ دونه ولا مهرب .
وهكذا تختم السورة التي تتجلى فيها يد القدرة سافرة , تحرس الدعوة إلى الله وتحميها , وتدمر القوى الطاغية والباغية وتمحوها . تختم بتقرير قاعدة الدعوة:وحدانية الله سبحانه وتفرده بالألوهية والبقاء والحكم والقضاء . ليمضي أصحاب الدعوات في طريقهم على هدى , وعلى ثقة , وعلى طمأنينة , وفي يقين . .
——————
وقفة تدبرية بقلم موقع إسلاميات:
نفي الشرك والدعوة للتوحيد خطاب لمشركي مكة وكل من مثلهم وقد ساق الله تعالى في السورة قصة فرعون الذي ادّعى الألوهية وظن أنه يملك قوة الحكم والسلطان فعاقبه الله تعالى بالإغراق ليؤكد أنه لا إله إلا الله وأن كل شيء هالك إلا وجهه وأنه لا حكم إلا لله وحده عز وجل وأن المرجع والمآل إليه حيث يجازي كلًا بعمله.
وكذلك عرضت السورة قصة طغيان قوة المال من خلال قصة قارون الذي طغى بماله وكيف خسف الله تعالى به الأرض فذهب هو وماله..
فختام السورة ملخّص دقيق لكل ما ورد فيها وتأكيد أنه لا شيء على وجه الأرض يدوم لا مال ولا سلطة ولا جاه وإنما ى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وأنه لا إله إلا هو سبحانه، الأمن لا يكون إلا في جواره عز وجل والخوف يكون في البعد عنه فما على الإنسان إلا أن يؤمن بالله تعالى إلهًا وربًا ولا يشرك به شيئًا ويوقن أن الحكم لله وأنه إليه المآل والمصير سيحاسب كل إنسان على ما عمله في الدنيا ولن يظلم ربك أحدا.

مقاصد سور القرآن الكريم – سورة القصص

د. محمد عبد العزيز الخضيري

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

إطلالة على هذه السورة الكريمة سورة القصص. وهذه السورة سورة القصص هي الأخيرة من سور الطواسين والطواسين هي ثلاث سور الشعراء والنمل والقصص وقد ذكر المفسرون أنها نزلت متوالية يعني الشعراء ثم النمل ثم القصص. وفي سورة القصص واضح جدًا أن فيها بيان نصرة الله للمستضعفين ومكر الله بالمتكبرين وكيف أن الله عز وجلّ يديل هؤلاء المستضعفين إذا كانوا من المؤمنين على أولئك المستكبرين إذا كانوا من الكافرين. في أولها (طسم ﴿١﴾ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿٢﴾ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٣﴾ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴿٤﴾) بهذا العمل الذي عمله كان من المفسدين في الأرض. ما الذي دعا فرعون إلى التذبيح؟ يقال إن كاهنًا قال له إنه سيخرج من أمة بني إسرائيل المقيمة عندكم والذين كانوا يستعملون في السخرة والأعمال التي يحتاجها القبط في مصر سيخرج من بينهم رجل يكون ذهاب ملكك على يديه فأمر فرعون بأن يقتل الأبناء، ما يأتي ابن إلا ويقتل، فاستحرّ القتل في بني إسرائيل فاشتكى القبط قالوا إذا قتلتهم من ليل الخدمة فيما بعد فتدبر الأمر مع وزرائه واهتدى أن يقتل في سنة ويبقي في سنة فكان هارون ممن ولد في السنة التي يبقي فيها الأولاد وكان موسى ولد في السنة التي يذبح فيها الأولاد ولذلك خشيت أم موسى على موسى خشية عظيمة خصوصًا وأن الله عز وجلّ جعل لموسى مزية (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه: 39] ما رآه أحد إلا أحبه فكانت أمه قد تعلقت تعلق الأم بوليدها إضافة إلى محبة زائدة جعلها الله عز وجلّ لموسى لم يجعلها لغيره فكانت تخفيه من الذباحين وكان من حيلها في إخفائه أنها جعلته في تابوت وجعلته في اليم فإذا جاء الذباحون يبحثون عن الصبيان الذين ولدوا وضعته في التابوت ومدته في اليمّ من خلف البيت وكانت تفعل هذا مرارًا حتى إذا جاءت إحدى المرات انطلق التابوت في البحر وانفلت من الحبل ويذهب للبيت الذي كان يبحث عنه ليقتله، إذا جاء أمر الله لا راد له لا غالب لأمره ولا معقّب لحكمه، يريد الله أن ينقض ملكك سينقضه، فيأتي موسى يتهادى في تابوته حتى وصل إلى قصر فرعون وكان قصر فرعون على شفير النيل فأخذته الجواري ونظروا فإذا طفل في تابوت فجاؤوا به إلى امرأة فرعون فألقى الله محبته في قلبها فقالت إني أريد أن أتخذه ابنا ولذلك قال الله عز وجلّ (وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) ويقال أنه قال أما لك فنعم وأما لي فلا، (لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) انظر كيف إذا أراد الله أمرا وقدّره هيأ له أسبابًا لا تدخل ضمن تصورات البشر، كيف هذا الابن الصغير ينفلت ويذهب إلى العدو الذي كان يذبح الناس كلهم لأجله وكأن الله عز وجلّ يقول له: لن يربى هذا الإبن إلا في بيتك وتحت عينك ومن مالك ثم يكون هلاكك على يده، طبعًا هذا قول في قصة الذبح هل هي بسبب كاهن، قيل بسبب رؤيا وقيل أنه سمع بها من بني إسرائيل عن إبراهيم عليه السلام مما نقلوه من صحف إبراهيم أن بني إسرائيل سيكون لهم هذا الأمر إذا ذهبوا إلى مصر، والله أعلم ما السبب الذي دعا فرعون لذبح الناس بهذه الطريقة لكنه طغى وبغى وفعل شيئا لم يفعله أحد قبله وهو ذبح الأطفال الصغار بحجة أنه يخشى منهم إذا كبروا. فالله عز وجلّ يقول معقبا (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴿٥﴾ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴿٦﴾) الله أكبر! كأن هذه رسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستضعف بمكة يا محمد أنت الآن في حال من الضعف والضيق والاضطهاد والقلة والذلة لكن التمكين قادم ويؤكد هذا المعنى أنه في آخر السورة قال (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) قوله لرادك إلى معاد قال المفسرون لرادك إلى مكة التي خرجت منها كما أن الله مكن لموسى سيحصل أن الله يمكن لك حتى إن هؤلاء الذين سيخرجونك ستعود إليهم فاتحا قويا منتصرا فاثبت على دينك ولا يغرنك هؤلاء ويدعونك إلى شيء مما يريدونه منك. وقصة موسى في هذه السورة جاءت بشيء لم تأتي به أي سورة أخرى من مشاهد قصة موسى عليه السلام فقضية ماذا فعلت أمه وكيف وصل إلى بيت فرعون وكيف رجع إلى بيت أم موسى هذه لم ترد إلا في هذه القصة، وردت إشارة يسيرة لها في سورة طه وهنا جاءت التفاصيل ومن عجائب هذه التفاصيل أن الله قال (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي) لا تتخوفي من أمر المستقبل ولا تحزني على أمر فائت، لا تقلقي فإنه في معية الله (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) سنرده إليك ونجعله رسولا (فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴿٨﴾) وليسوا مخطيئن لأن المخطئ من يفعل الذنب عن غير قصد. (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٠﴾ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) فارغا أي قد خلا من كل شيء إلا من ذكر موسى ما تفكر في شيء في هذه الدنيا كلها إلا في موسى: ماذا حصل له؟ اين هو؟ ماذا صنع الله به؟ قال الله عز وجلّ (إن كادت) من شدة تعلقها وتفكيرها به (لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٠﴾ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) قالت لأخته تتبعي أثره (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أي عن بعد (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) هم لا يرون أنها تبحث عنه. ومن عجيب صنع الله أنه حرّم عليه المراضع جاؤوا له بالمراضع وهو يبكي يريد الحليب قالوا اعرضوه على الناس ذهبوا به إلى السوق من عنده مرضع فليأت بها جاء الناس يريدون القرب من فرعون وخدمته، عشرين من المراضع أغلق الله فمه عنهن جميعا (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) فجاءت أخت موسى فقالت (فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) قالوا ما يدريك عن هذا؟ قالت إنهم يرغبون في خدمة الملك، فتخلصت منهم بحيلة فقالوا هات هذه المرضع فنادت أمها فجاءت فلما لقمته ثديها أخذ يرضع فقالوا انتقلي معنا إلى قصر فرعون فقالت عندي صبيان وزوج لا أستطيع أن أترك بيتي فلو أنكم جعلتم الصبي عندي لرعيته لكم وقمت بحقه وهذا من حق الملك علينا فقالوا يبقى عندك ويجري الأجر لك وأنت في بيتك. قبل ساعات كانت في أشد الخوف وما تدري ماذا سيكون مصير ابنها وفي هذه اللحظة أمان، ابنها عندها ورزق وجاه، الآن هي مرضعة ابن الملك كل من عنده مشكلة جاءها وقال يا فلانة توسطي لنا عند فرعون يصنعون لنا كذا. انظر تدبير المرأة أنها وضعته في تابوت تمده قليلا وترده وترضعه وهي خائفة عليها وتدبير الله مختلف تماما ينطلق إلى الخوف الذي يظن أنه هلاك يعود سالما ناجيا غانما مباركا على أهله وقد حصل له الأمن ولأهله المال والجاه، أيّ تدبير هذا؟! هذا ما يكون إلا عند الله سبحانه وتعالى جل في علاه. قال الله عز وجلّ (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿١٣﴾ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿١٤﴾) اكتمل. قال الله (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) هو أصلا يعيش في بيت فرعون وكان بيت فرعون على عادة الملوك في ناحية المدينة فدخل موسى وهو صاحب الجاه والمنزلة يتمشى في الشوارع فوجد رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من القبط (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) موسى كان قويًا جلدًا أضف إلى ما في قلبه من العداوة والبغض لهؤلاء القبط الذين كانوا كفارا بالله عز وجلّ (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ﴿١٥﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿١٦﴾) استغفر في نفس اللحظة وهذا ما يجب على الإنسان إذا وقع في الذنب والمعصية أن لا يؤجل الاستغفار إلى وقت آخر. (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴿١٧﴾) لن أعين مجرمًا وهذا العهد أُكد في آخر السورة لكن على لسان النبي صلى الله عليه وسلم (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ﴿٨٦﴾ القصص) لا تكن معينا لهم. (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) لأنه قتل قبطيا (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) الذي استعان به بالأمس استعان يقول يا موسى هذا آخر يريد أن يؤذيني (قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) قال القبطي يا موسى أتريد أن تقتلني أو قال الإسرائيلي الذي لما جاء موسى وهو غاضب عليه يقول ما لك أنت تريد أن تفتح علينا باب شر ظن الإسرائيلي أنه سيقتله كما قتلت القبطي بالأمس فهو الذي أفشى الشر وكشف المستور (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴿١٩﴾) بعد ذلك علم موسى أن القوم يخططون لقتله فخرج فارًّا من غير أن يكون مستعدا إلى جزيرة العرب فخرج من مصر ومشى وصل رأس العقبة سيناء إلى أرض مدين وهي منطقة حقل وما حولها وفيها بعث النبي شعيب وكان متقدما جدا وليس في عهد موسى عليه السلام. (عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) انظروا الاستعانة بالله أول ما خرج قال (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ولما توجه تلقاء مدين قال (عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ).

(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) جماعة من الناس (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ) تذودان أغنامهما لئلا تختلط بأغنام الناس قال ما شأنكما تنحيتما بعيدا؟ (قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) حتى يذهب الناس والرعاة لأنه لا طاقة لنا بمزاحمتهما كوننا ضعيفتين وكوننا امرأتين (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) الذي حملنا على أن نتولى هذه المهمة أن أبانا شيخ كبير وإلا فالأصل أننا لا نقوم بهذا الدور الذي يقوم به الرجال. ومن دون مقدمات قدم موسى الخير لهما مباشرة (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) وسأل الله ولم يسأل الفتاتين (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) فجاءت الإجابة من الله مباشرة (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) كأنها من شدة الاستحياء قد ركبت عليه. (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هذه المنطقة لا تقع تحت حكم فرعون. (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴿٢٦﴾) يقال أنه قيل لها كيف عرفت أنه القوي الأمين؟ قالت أما قوته فكونه كشف غطاء البئر وحده وسقى لهما وأما أمانته فلما ذهبت إليه وأردت أن أدله على البيت قال امشِ ورائي ولا تمشي أمامي فإني رجل عبراني لا أنظر إلى أدبار النساء فكانت تدله على بيت أهلها بالصوت (لف يمين، لف يسار) وما تقدمت عليه من أجل أن تدله على البيت، هو الآن في حال معذور لو لم يفعل شيئا من ذلك لكن هذه هي التقوى التي تلازم الإنسان وتصاحبه في كل أحواله. قال (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) يقول هذا الشيخ الكبير، من هو هذا الشيخ؟ كثير من الناس يقول هذا شعيب ، هذا غير صحيح ولا يمكن لأن شعيب متقدم جدا، شعيب جاء بعد لوط بعد إبراهيم عليه السلام والآن زمن موسى يعني بعد مئات السنين، لا يمكن أن يكون شعيب، إنما هو رجل صالح في مدين والذي جعل الناس يقولون أنه شعيب أنه من مدين لكن ليس كل صالح في مدين هو شعيب! مدين فيها أناس آخرين صالحين ولو كان شعيب لصرّح الله به لأن هذا شرف له وشرف لموسى أن يكون صهرا لنبي ولم يذكر أن موسى تزوج ابنة نبي وإنما تزوج ابنة هذا الرجل الصالح الذي قال ابن عباس أن اسمه يثرون وقيل يثرى ولم يروى أنه شعيب إلا عن الحسن ثم اشتهر عند المتأخرين والصحيح أنه ليس شعيبا ولا ينبغي أن يكون شعيبا. المهر ثمان سنوات قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿٢٧﴾) البعض قد يقول هذا مهر غالي يشتغل ثماني عشر سنوات فقط لأجل أن يتزوج ابنته! هذا ليس زواجًا فقط، هذا سكن، كفالة كاملة وموسى في خفارة شعيب وذمته فهو لا يستطيع البقاء في مدين وهو غريب عنهم، فقد يؤسر وقد يُسترق ولكن كونه في حمى هذا الرجل الصالح جعل هذا المهر أضف إلى ذلك أن النساء ترتفع مهورهن وتنخفض بحسب كثرتهن وقلتهن بحسب العرض والطلب، إذا قل عددهن ارتفعت مهورهن وإذا كثر النساء صار الناس يريدون تزويج بناتهن بأي ثمن. (قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴿٢٨﴾ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ) لا يليق بموسى إلا أن يقضي عشر سنوات لأنه كامل الأخلاق عظيم المروءة فلا يليق به إلا الفعل الطيب والإحسان الذي يحبه الله من عباده المحسنين.

ثم جاءت قصة تكليف موسى بالرسالة وما وراء ذلك إلى آخر السورة حيث ذكر الله فيها قصة أخرى في نفس الموضوع العلو في الأرض وذهاب هؤلاء المستكبرين (إِنَّ قَارُونَ) أولئك من القبط وقارون من بي إسرائيل ليس من القبط، وقارون آتاه الله مالًا عظيما حتى ذكر الله (وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) لو هناك عصبة من الرجال أصحاب قوة يثقل عليهم حمل مفاتيح خزائن قارون، المفاتيح فقط حملها يثقل على العصبة أولو القوة من كثرة ماله. هذا المال الكثير أصابه بالطغيان والجبروت حتى إنه قال (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) هذا بذكائي وتخطيطي وحسن تدبري (أ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴿٧٨﴾ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿٧٩﴾) يا أيها المسلمون المستضعفون في مكة لا يغرنّكم ما عليه الكفار من ملك ونعيم وتمكن وملك وسلطان فالله عز وجلّ قريبا ما يعذبهم ويسلبهم النعمة قال الله عز وجلّ (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴿٨٠﴾ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴿٨١﴾ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴿٨٢﴾ تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿٨٣﴾). السورة تدور حول تمكين المستضعفين من المؤمنين وإهلاك المستكبرين حتى ولو كانت أصولهم إسلامية يهلكهم الله، هذا ما تدور حوله سورة القصص ولذلك هي سورة عظيمة ومعبرة عن هذا المعنى بوضوح.

وقفات تدبرية رمضان 1442هـ-سورة القصص / أ سمر الأرناؤوط

#رمضان_١٤٤٢

#وقفات_تدبرية

#الجزء_٢٠

 

لا زلنا مع مجموعة السور المكية التي تتحدث عن موضوع التمكين للأمة مقوماته وعوائقه.

سورة الشعراء والنمل والقصص نزلت في مرحلة الجهر بالدعوة في مكة ولكل منها دور في تأسيس مرحلة بناء الدولة في المدينة لاحقا.

فسورة الشعراء: وسائل التأسيس، الإعلام الهادف البنّاء، افتتحت بالإنذار لمن لم يستجيبوا.

وسورة النمل: الإسلام والعلم ركيزة بنيان الأمة (علم شرعي وعلم كوني) افتتحت بالبشارة لمن استجابوا

وسورة القصص: وسائل التمكين للأمة افتتحت بوعد الله بتمكين الذين استجابوا ولو كانوا ضعفاء وإهلاك الذين لم يستجيبوا ولو كانوا أقوياء أشداء.

وتأتي بعدها سورة العنكبوت لبيان أن لا تمكين من غير ابتلاء وتمحيص، هذه سنة الله تعالى في الكون. سورة تدعو إلى مجاهدة النفس في زمن الابتلاءات والثبات على الإيمان مهما اشتدت وتعددت المحن والابتلاءات وتهوّن ما يلقاه المؤمن من العذاب في سبيل الله من خلال التذكير أن الحياة دار ابتلاء مؤقتة وأن الآخرة هي الحياة الحقيقية فلا يتحول ولاؤه ولا ينجرف مع تيارات الفساد التي تخيفه تارة على رزقه فالرزق من الله وتارة على حياته فالموت نهاية كل حيّ وتارة على وطنه فالهجرة باب من أبواب التمكين وأن الرجوع إلى الله الذي لا إله إلا هو له الحكم ليجزي المؤمنين ويعاقب الكافرين.

ولو راجعنا السيرة سنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أفاد من كل هذه الأساليب في تأسيس دولة الإسلام الأولى فكانت قوية في إيمانها متمسكة بكتاب ربها موقنة بصدق وعده صابرة على الابتلاءات الشديدة مجاهدة في سبيل الله والدفاع عن دين الله وحمل لوائه إلى العالم، فتحولت بتأييد من الله تعالى في سنوات قليلة العدد ٢٣سنة وبعدة وعتاد قليل إلى أن يكون لها الريادة والسيادة على حضارات عظيمة امتدت على مدى قرون طويلة..

والسبب الرئيس: الهدى والإيمان بالله تعالى ودستور عظيم هو القرآن والعلم النافع والقائد الصالح للمهمة والرعية الصالحة للمهمة.

رسالة سورة القصص وسورة العنكبوت أن التمكين للأمة المستضعفة واقع وإهلاك الظالمين المستكبرين واقع لكن التمكين ليس وليدة لحظة إنما قد يحتاج سنوات طويلة حتى يتحقق..

ولعل حديث سورة القصص عن موسى عليه السلام منذ كان رضيعا وهو الجزء الذي لم يرد في غيرها مع كثرة دوران قصته في القرآن ليبين لنا أن التمكين من الله قد يكون بدأ وأنت في أشد حالات ضعفك وأنك تسير إليه وستصله في الوقت الذي حدده الله عزوجل ابتداء. هذا نوح لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وإبراهيم لم يمكّن في قومه فهاجر وفي كل قصة عبرة..

قصة التمكين لموسى لم تكن بعد عودته لمصر وغرق فرعون وجنوده بل بدأت مشاهدها من لحظة ولادته وإلقاء أمه له في التابوت ولو نظرنا في مشاهد القصة سنجد كل مرحلة كانت خطوة تقربه إلى مشهد التمكين الختامي.

وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة معه لم يكن تمكينهم بعد فتح مكة وبدء إرسال البعثات خارج الدولة بل بدأ من اللحظة التي عاد إلى خديجة فزعا خائفا يقول زملوني دثروني بل لعله من يوم حملت به أمه والله أعلم ومن لحظة صرخ فيها بلال أحدٌ أحد ثابتا على إسلامه والصخرة التي وضعها أمية بن خلف على صدره تكاد تكسر أضلاعه!..

وقصة التمكين لا بد لها من ابتلاءات وتمحيص الفتن تعترض طريقها ليعلم الله من يستحق النصر ممن لا يستحقه، وممن يجاهد في سبيل ممن يجاهد لأجل دنيا..

معوقات التمكين كما بينت سورة القصص العلو والاستكبار والبغي والظلم

ومقومات التمكين والمخرج من الفتن والابتلاءات:

في النمل (أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها الله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرآن..)

في القصص (بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) (فلا تكونن ظهيرا للكافرين)

في العنكبوت (اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون)

قرآن وصلاة وذكر وصبر وتوكل على الله وهجرة في سبيل الله ولجوء إلى الله تعالى وإخلاص له واعتبار بمصائر السابقين

عبر السير في الأرض للاتعاظ وتفكر في آيات الله الكونية ويقين بهوان الدنيا وفنائها ويقين بخلود الآخرة والحياة الحقيقية.

ونحن اليوم في زمن استضعاف أشبه بالعهد المكي ونحتاج لقرآءة تدبرية لهذه السور مرة بعد مرة لنشخّص داءنا ونتداوى بدوائها

في سورة العنكبوت (بل أكثرهم لا يعقلون)

في سورة الروم (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)

في سورة لقمان (بل أكثرهم لا يعلمون)

ليس من الحكمة أن تزكّي نفسك فتصنّفها مع القلة الذين يعلمون وتصنّف الآخرين مع الكثرة الذين لا يعلمون،

الحكمة أن تقوم بتعليم ما علّمك الله لمن لايعلم..

الحكمة هي الإفادة مما عُلّمت..

هذا والله أعلم

البيوت والمساكن في سورة النمل والقصص

لطيفة قرآنية في سورة النمل والقصص

في سورة القصص فعبّر بالمساكن في قوله تعالى:

(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58))

لأنه ذكر قبلها المعيشة، وغالبًا العيش يذكر معه السكن كقوله (وإذ قلنا اسكنوا)

وقد تكرر كذلك ذكر السكن في سورة القصص في أربعة مواضع:

(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58))

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72))

(وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73))

قال الله تعالى في سورة النمل:

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52))

فعبّر بالبيوت ليناسب ما ذكر قبلها (قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49))

والتبييت هنا القتل بياتًا أي حال النوم.

ارتباط الرسم بإعجاز النظم – وقفة في سورة الكهف والقصص

 بين سورتي الكهف والقصص

إعداد موقع إسلاميات

قال الله تعالى (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا) [الكهف:24]
وقال تعالى في سورة القصص (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) [القصص:22]

بين الآيتين اختلافان:
كلمة (يهدين) رسمت في آية سورة الكهف بحذف ياء المتكلم ورسمت في آية سورة القصص بإثبات ياء المتكلم
تقديم وتأخير لفظة (ربي)

ذكر د. سامح القليني قاعدة في الذكر والحذف في الكلمة القرآنية:

في سورة الكهف (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَايْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ﴿٢٣﴾ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا) يهدين بالكسرة وحذفت الياء منها وتأخرت كلمة (ربي) عن فعل الهداية. الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم (ولا تقولن – وقُل)

في سورة القصص لما خرج موسى يترقب بعد قتل الرجل (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) كلمة يهديني رسمت بإثبات الياء وقدّمت كلمة (ربي) على فعل الهداية

ارتباط الرسم بإعجاز النظم:

آية سورة الكهف (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَايْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ﴿٢٣﴾ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) السياق في الحديث عن أمر غيبي
ومن قواعد حذف حرف الياء أو الألف أو الواو من الكلمة القرآنية:
– إذا كان الحدث خفيفًا
– إذا كان الحدث سريعًا
– لو كان الحدث غيبي غير مرئي، ملكوتي

آية سورة الكهف السياق في الحديث عن أمر غيبي (ولا تقولن لشايء) ففي الأمر الغيبي تحذف الياء، كل هداية غيبية تحذف الياء.

فالقاعدة: إذا كانت الكلمة تتعلق بأمر غيبي (غيبي ملكوتي لأنه قد يكون هناك غيب أرضي) أو ملكوتي (كما يطلق عليه العلماء في علم الملكوت، الوحي، الملائكة،..) أو تشريفي يطرأ حذف الألف أو الياء أو الواو من الفعل.
حذف وإثبات الياء في فعل الهداية
(وقل عسى ربي أن يهدينِ) أمر غيبي، يهديني علم الوحي فحذفت الياء من الفعل.

أما في آية سورة القصص موسى عليه السلام خرج خائفًا يترقب وهو لا يعلم الطريق فسأل الله عز وجلّ أن يهديه الطريق المادي الذي يوصله إلى مكان آمن فرسمت الكلمة بالياء (يهديني) فسواء السبيل هنا ليس مقصودًا بها طريق الطاعة وإنما الطريق الموصل إلى مدين. إذن في طلب الهداية المادية تثبت الياء وفي طلب الهداية الغيبية تحذف الياء.

تقديم وتأخير ربي بين الآيتين:
في آية سورة القصص موسى عليه السلام خرج من المدينة خائفًا يترقب والخائف يحتاج للسند فقدّم لفظ (ربي) على طلب الهداية ويثبت ضمير المتكلم الياء في فعل الهداية (يهديني) ليؤكد أنه هو الذي يحتاج للهداية من ربه حتى يصل إلى المكان الآمن. فإثبات الياء لأن الهداية التي طلبها من ربه هداية مادية ولإثبات خصوصيته أنه هو الذي يحتاج لهذه الهداية.

أما في سورة الكهف فالسياق في طلب هداية الوحي فقدّم الهداية على لفظ (ربي) .

التفسير المباشر – رمضان 1431 هـ – سورة القصص

الحلقة 28

ستكون الحلقة رقم (122) يوم الثلاثاء 28 رمضان 1431هـ جلسة مشتركة بين فضيلة الشيخ الدكتور مساعد بن سليمان الطيار الأستاذ المشارك بجامعة الملك سعود والدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري، الأستاذ المساعد بكلية التربية بجامعة الملك سعود .

وموضوع الحلقة هو :

– علوم سورة القصص .

– الإجابة عن أسئلة المشاهدين حول السورة وحول الجزء الثامن والعشرين من القرآن الكريم .

————————-

سورة القصص

إسم السورة

د. عبد الرحمن: اليوم بإذن الله تعالى سوف نتحدث عن سورة القصص وكان الحديث يوم أمس عن سورة النمل وكان في أولها الحديث عن قصة موسى وكان لفت نظري لفتة في سورة طه وسورة الشعراء وسورة النمل وسورة القصص تبدأ بـ(طس، طسم، طه) فكانت كلها تبدأ بقصة موسى فقلت لو كنا من المولعين بالحديث عن الرموز والغرائب كما قال الدكتور فضل عباس حفظه الله في كتاب له عن القصص قال: لو كنا من المولعين بتتبع الرموز لقلنا هذه نربطها بالطور. لكن هذه لفتة تصلح للحفاظ الذي تتشابه عليهم هذه القصة.

د. مساعد: هذه تعتبر من اللطائف

د. عبد الرحمن: نريد أن نبدأ بإسم السورة إسم سورة القصص هل يعرف لها غير هذا الإسم؟

د. مساعد: لا يعرف لها إلا هذا الإسم سورة القصص فقط وبناء عليه فإن هذا يشير إلى أن هذه التسمية نبوية وهي أخذت من قوله (فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ (25)) والمراد بالقصص هنا هي قصة موسى عليه السلام وما حصل له مما ذكر في السورة.

د. عبد الرحمن: وفي أولها أيضًا قوله (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ (3)) فيها معنى القصة

د. مساعد: فيها معنى القصة عمومًا لكن اللفظة التي اشتق منها الإسم هي هذه.

وقت نزول السورة

د. عبد الرحمن: دعنا نتحدث عن ترتيب نزولها، متى نزلت؟ في أي مرحلة من مراحل النزول؟

د. مساعد: هي نزلت في العهد المكي، مكية باتفاق وإن كان هناك بعض الآيات حُكي أنها مدنية أو نزلت على حدث مدني لأن فيها عن اليهود خبر كثير جدًا في هذه السورة وليس في قصة موسى وإنما ما سيأتي بعدها من المحاجة مع الكفار سيدخل معهم اليهود في بعض المحاجات عليهم الاحتجاج على الكفار

د. عبد الرحمن: وهذه قد تكون إشارة إلى أنها مدنية

د. مساعد: بعض العلماء رتب على بعض الآيات أنها مدنية لكن لا يمنع أن تكون احتجاجًا على الكفار وهي مكية لأن هناك اتصال بين اليهود والكفار وقد اجتهد الكفار على أن يجدوا طعنًا في النبي صلى الله عليه وسلم عند أصحاب النبوات السابقة وكان أقرب الناس إليهم اليهود في المدينة

د. عبد الرحمن: يبدو لي أن عدد من علماء بني إسرائيل الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم اشتغلوا بتتبع المطاعن -إن صح التعبير- الآن هناك أناس متخصصون في إثارة الشبهات تجدهم حتى وأيضًا الحمد لله فينا أناس متخصصون في الرد على هذه الشبهات والانتصار للقرآن الكريم وهذه رسالة ينبغي أن نرسلها للكثير من الباحثين أنه ينبغي على الباحثين الإسلاميين أن يحرصوا على التخصص في جوانب العلوم الشرعية حتى عندنا خاصة في الدراسات القرآنية جانب إعجاز القرآن الكريم وتتبع الشبهات والرد عليها. والرد عليها أحيانًا هي كلمة عامة لكن الردود عليها لها مواطن مثلًا الرد على الشبهة في التلفزيون في قناة فضائية يختلف عن الرد على الشبهة في كتاب ويختلف عن الرد على الشبهة في بحث علمي محكّم يختلف عن الرد على الشبهة في مواقع الانترنت. وأيضًا اللغات التي ينبغي أن يتعلمها الإنسان حتى يناقش. وأتصور أن القرشيين والمشركين كانوا يذهبون إلى بني إسرائيل في المدينة وكان هناك أناس من علماء بني إسرائيل يكادون يكونون متخصصين في محاولة استخراج الطعون أو الشبهات أو الأسئلة الصعبة

د. مساعد: وهذا ظاهر في الآثار وفي الآيات. وهذه مسألة وأتمنى لو يخصص حلقات في كيفية معالجة هذه الشبهات، قديمًا كان بعضهم يقول أن الرد على الشبهة إثارة للشبهة لكن الآن مع الأسف مع الانترنت والفضائيات لم تترك لك مجالًا أن تخفي شيئا ليس كتابًا تمنعه والكتاب الذي عرضته بالأمس الجواهر مُنِع عندنا أيام الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى عندما عُرض على علمائنا مُنع وكان لمنعه مسوّغ وكان هناك إمكانية أن تمنعه عن فئام من الناس أما اليوم فلا يمكن أن تمنعه، تصوير بي دي أف ينزل على الانترنت ينتهي الأمر كله.

د. عبد الرحمن: بالنسبة لكتاب الجواهر بالأمس كان فيه إشارة تكلم عن سورة النمل وغيرها مثل العتكبوت وغيرها التفسير هو لا يعادل ربع المادة العلمية أو أقل وثلاثة أرباع أو أكثر هو حديث عن النمل وعن قصص النمل وعن تاريخ النمل ومقابلات وتقارير في الجرائد. نعود إلى موضوع سورة القصص الأساسي

د. مساعد: ألاحظ أن قول الله سبحانه وتعالى (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ (6)) قوله نمكن لهم كأنه هذا هو موضوع السورة (التمكين) ولو تأملت السورة ومساق قصة موسى عليه السلام تجد أنها تشير إلى هذا المعنى ماذا فعل فرعون ببني إسرائيل قبل موسى عليه السلام ولماذا فعل بهم هذا؟ وماذا كان من قدر الله أن يربي فرعون من سيكون هلاكه على يديه. ثم بعد ذلك تبدأ أحداث القصة في أن موسى عليه السلام يحصل منه ما حصل في قتل الفرعوني خطأ ثم هروبه عليه السلام ثم رجوعه بالرسالة وتتوالى الأحداث إلى أن يبدأ التمكين لبني إسرائيل لأن بني إسرائيل عاشوا فترة من الذل فاحتاجوا إلى تحميص فعاشوا في التيه أربعين سنة ثم بعد ذلك بدأ لهم التمكين بعد موسى عليه السلام لما دخلوا بيت المقدس. فهي إشارة إلى هذا المعنى، وأيضًا فيها إشارة خفية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الذين كانوا في مكة وتنبيه لما سيحصل لهم فالهجرة فيها إشارة لهجرة موسى عليه السلام لأرض مدين وعودة موسى عليه السلام فيها إشارة إلى عودة النبي في فتح مكة ظافرًا منتصرًا فهناك تشابه كبير بين الأحداث التي عاشها النبي محمد صلى الله عليه وسلم والتي عاشها موسى عليه السلام

د. عبد الرحمن: وأيضًا يمكن أن تلمح في كل جانب من جوانب القصة هذا الجانب وهو التمكين سواء إما أن يكون مقدمة إلى التمكين أو طريق إلى التمكين. ولفت نظري وأنا أقرأ السورة لماذا ذكر هامان هنا؟ في قوله سبحانه وتعالى  (وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)) الله سبحانه وتعالى يذكر هامان مع فرعون ولفت نظري إلى فكرة وهو أن الطغاة -ويبدو أن هامان رئيس وزراء فرعون- أن الطغاة لا يستطيعون أن يتمكنوا بمفردهم وأنه لا بد لتمكينه من أن يستعين بأمثاله من الطغاة الذين يعينونه على ظلمه وهامان هذا رمز لهذه النوعية من الناس التي كما يقولون في المثل الشعبي: ما الذي فرعنك يا فرعون؟ قال لم أجد من يردعني عن الظلم. فالذي يعين هذا الفرعون هم شرذمة من حاشيته الذين يعينونه على الطغيان وذكر هامان في هذه السورة وفي قوله (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) غافر) نفس المعنى أنه يوجه خطابه إلى هامان وحتى في آخر السورة قارون وقارون نوع من هذه الحاشية السيئة فرعون وزبانيته كونه من الأغنياء المترفين من بني إسرائيل الذين وافقوا فرعون وحاشيته في هواهم وفي طغيانهم وتكبرهم فكان في ذكر هامان وذكر قارون في آخر السورة إشارة إلى كيف يتمكن الظَلَمة

د. مساعد: صحيح تمكّن بالجاه وتمكّن بالمال. ومآل كل واحد من هؤلاء الذين حصل لهم ما حصل ويبقى التمكين للمستضعفين الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا.

د. عبد الرحمن: حتى هذه الآية نتوقف عندها في قوله (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)) كل مقصد من هذه المقاصد في أول السورة أنه سبحانه يلخّص أن هؤلاء بني إسرائيل كانوا مستضعفين وأن هذا فيه عزاء للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قال (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) ما قال نرفع عنهم الظلم فقط بل أضاف لهم هذه الكرامة، (وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) تبشير لهم بورث الأرض كلها

د. مساعد: (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) الدخان) إشارة إلى وراثة بني إسرائيل لأرض مصر لكن كيف كانت الوراثة هذه قد يقع فيها اختلاف.

د. عبد الرحمن: (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) التمكين موضوع السورة، ما المقصود بالتمكين؟

د. مساعد: التمكين هو لا شك بمعنى الغلبة في السلطة الدينية والدنيوية، وهذا حصل لبني إسرائيل على فترات ولكن من طبع بني إسرائيل الجحود والكفران فهذا الطبع جعلهم يتأخرون كثيرًا وقد أعطاهم الله سبحانه وتعالى الفرص الفرصة تلو الفرصة حتى إذا استنفذ ما عندهم جميعًا كان من قدر الله أن يزاحوا عن هذا التمكين وتأتي أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأن هناك وعدًا لإبراهيم عليه السلام أنه يمكِّن ذريته وأن يجعل ذريته الملوك والأنبياء وكان له ذلك وتحقق لكن من خالف أمر الله فإن الله سبحانه وتعالى لا يحابي أحدًا فقد أخذوا فرصتهم ثم كان من قدر الله سبحانه وتعالى أن تنتهي النبوة بعيسى عليه السلام من بني إسرائيل ثم تنتقل إلى الشق الثاني إلى بني إسماعيل وليس لهم إلا إسماعيل ومحمد صلى الله عليه وسلم وبقيت آثار النبوة إلى اليوم التي هي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

د. عبد الرحمن: الله سبحانه وتعالى أكرم إسحق وأبناءه بالنبوة، الفرع النبوي كان في ذرية إسحق في يعقوب وفي يوسف وابنائه وموسى وعيسى وأيوب ويونس وسلمان وداوود عددهم كبير جدا أما ذرية إسماعيل فلم يكن إلا محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل وأفضلهم.

د. عبد الرحمن: في آخر حكمة من الحكم التي ذكرها الله تعالى (وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) وأن من المقاصد التي ذكرها الله لتمكين بني إسرائيل إهانة فرعون وإدخال الحسرة على قلبه وعلى قلب من كان معه جنود الضلال وقد تم لهم هذا في الغرق.

د. مساعد: لاحظ أثر المرأة في هذا الموقف، لما جاء هذا الرضيع كرهه فرعون لكن امرأة فرعون فرحت به وألقي في قلبها محبة هذا الصبي، الله سبحانه وتعالى ألقى في قلبها محبة هذا الصبي ولذلك قالت (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)) فهذا التقدير الإلهي يحتاج منا إلى تأمل ونظر في ما حولنا كم من الدول تربي مجموعات وتعطيها السلاح في مكان من الأماكن ثم هؤلاء الأفراد ينقلبون ويكونون ضد الدولة وكذلك في الحياة التي تعيشها أنت أحيانًا يأتي إنسان يعطي إنسانًا ويربيه فينقلب عليه. فهذا القدر العجيب نجد أن الله سبحانه وتعالى قد فعله في فرعون عليه من الله ما يستحق وجعله يربي ويتبنى من سيكون هلاكه على يديه وهو لا يدري.

د. عبد الرحمن: نعود إلى الحديث عن قصة موسى عليه السلام هنا. هناك كتاب أنصح الإخوة المشاهدين بقراءته “قصص القرآن الكريم” للدكتور فضل حسن عباس كتاب قيم فالدكتور فضل جمع قصة موسى عليه السلام ورتبها حسب نزول السور فذكر فائدة جميلة أريد أن أذكرها وهي أن سورة الأعراف فصّلت في قصة موسى مع فرعون وفي قصته مع بني إسرائيل ثم جاءت سورة طه فتحدثت عن مبدأ رسالة موسى عليه السلام وعن قصته مع فرعون وعن قصته مع بني إسرائيل، في الشعراء تحدث عن خبر موسى مع فرعون فقط، لما جاء في سورة النمل تحد عن جانب من رسالة موسى عليه السلام والآيات التي أعطاه إياها، في سورة القصص تحدث عن ثلاثة جوانب بدأها من الميلاد ثم مرورًا بالرسالة ثم حديثه مع فرعون وفصّل في ذلك ثم في سورة يونس تحدث عن خبره مع فرعون فقط، في سورة الصافات تحدث عن تكريمه وامتنانه على موسى عليه السلام، في سورة غافر تحدث عن قصته مع فرعون وكذلك في الزخرف وفي الدخان. في سورة الكهف تحدث عن قصة موسى مع الخضر، في سورة إبراهيم تحدث عن قصة موسى مع بني إسرائيل فقط في سورة النازعات تحدث عن قصة موسى مع فرعون فقط، في سورة البقرة تحدث عن كثير من قضايا موسى مع بني إسرائيل (يا بني إسرائيل)، في سورة المائدة تحدث عن قصة موسى مع بني إسرائيل، في بقية السور التي جاء فيها ذكر موسى فقط مثل (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)) في سورة الأعلى هذه فائدة جميلة وفائدة رائعة في تتبع القصص القرآن وأن يعاد ترتيب الأحداث بحيث مثل قصة موسى الأحداث التي وردت منذ ولادته ثم بدء إرساله ثم قصته مع فرعون ثم قصته مع فرعون مع بني إسرائيل، وهذه لفتة أحببت أن أشير إليها.

د. عبد الرحمن: نقف بعض الوقفات في سورة القصص هناك بعض من سأل بعض الأسئلة في ملتقى أهل التفسير والإخوان يظنوني لا أطّلع على الأسئلة ولكني أطلع على كل الأسئلة وأحيانًا أرد وأحيانًا لا أرد وأحيانا لا نستطيع أن نتعرض لشيء منها، هذه الأسئلة التي معنا اليوم ذكر الأخ أبو عاتكة سؤالًا قال (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7))، واليم هو البحر كما هو معلوم ولكن موسى عليه السلام ألقي في النهر ولم يلق في البحر , فلم عبر عن النهر باليم ؟. وسؤال آخر لعلنا نتناقش فيه في قوله (لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ) عندما قال لزوجته (لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ) في سورة النمل، (سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ) تقول الأخت أم عبد الله تسأل هذا السؤال هل اختلاف الألفاظ له دلالة؟

د. مساعد: صعب أن نأخذ كل اللفتات لكن هناك رسالة ولعلها تخرج وهي رسالة في جامعة أم القرى عن عموم قصص القرآن تستوعب كل قصص القرآن وكانت قصة موسى هي التي أخذت الحيز الأكبر المتشابه اللفظي دراسة متكاملة لها وأيضا كتب توجيه المتشابه تذكر مثل هذه الأسئلة يمكن الرجوع إليها.

د. عبد الرحمن: كقاعدة عامة في معرفة مثل هذه الأشياء أن السياق الذي وردت فيه مثلًا على سبيل المثال (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ (7)) عبّر بالإلقاء وفي قصته في سورة طه قال (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ (39)) كيف عبّر هنا بالقذف وهنا بالإلقاء؟ القذف أشد لما ترجع إلى السياقات تجد أنه هنا يخاطب أم موسى فلا يمكن أن يقال لها اقذفيه لأن القذف فيه نوع من الشدة فقال (فَأَلْقِيهِ) تطمين لها تأنيس لها وهي أم وهو طفل رضيع. لكن في سورة طه لما تأتي إلى السياق تجد الله تعالى يخاطب موسى عليه السلام بعد أن أرسله وبعد أن تفضل عليه بالرسالة (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) فهو يذكر له هذا كان موضوع قاسي وصعب ولكنك تغلبت عليه. فالسياق هو الذي استطعنا من خلاله أن نعرف الفرق بين التعبير بالإلقاء والتعبير بالقذف

د. مساعد: وهذا صحيح، السياق هو من أكبر الأشياء التي يجب أن نرجع إليها. وأيضًا الحال، حال الحدث مرتبطة بالسياق لكن السياق فيه قرائن لفظية وفيه قرائن حالية. فأنت تتحدث الآن عن جزء من القرآئن اللفظية وهي مرتبطة بجزء من القرآئن الحالية فأحيانًا تكون القرآئن الحالية مقدمة وأحيانًا تكوت القرائن اللفظية مقدمة فالسياق لا بد من اعتباره. وأذكر من طرائف الأعراب واحد لما سمع قصة موسى في هذه السورة كان فيها وعد لما قال (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)) قال يا بخت أم موسى بموسى! لأن الله سبحانه وتعالى كما يقول العلماء هنا (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)) فيها أمران ونهيان وبشارة، فالعرب يدركون هذه الأسرار وإن لم يعبّروا عنها المتأخرون يتكلفون في إدراك هذه الأسرار فاجتهدوا في التعبير عنها وهذا فرق ما بين العربي القُحّ وبين من يتعلم العربية ليفهم بها، فالعربي لا يمكن أن يأتي ويبيّن المبيّن لأن هذا بيّن عنده وروعة هذا القرآن كانت عنده ظاهرة لكن نحن لأننا نحتاج أن نتلمس روعة القرآن ونأتي مثل هذه، بعض من يتكلم في الإعجاز يذكر هذه الآية كمثال ويناقشها ويبيّن ما فيها من وجوه الإعجاز وغرائب التعبير، لما قول غرائب التعبير يعني ما فيه من لطائف وإعجاز. قال (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) أمر (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) أمر (وَلَا تَخَافِي) نهي (وَلَا تَحْزَنِي) نهي (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) بشارة أولى (وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) بشارة ثانية فجمع في هذه الجملة أمران ونهيان وبشارتان أو خبران.

د. عبد الرحمن: في سورة هود (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)) يعبر بها كثيرًا الذين يكتبون في البلاغة القرآنية وهذه الآية (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)) فيها هذه المعاني ومفترض أنها تنوع الأمثلة في الاعجاز القرآني

د. مساعد: القصة طويلة لكن لو وقفنا عند قصة قتل القبطي لأنها تمثل هي منعطف حياة بعض الأحداث في الإنسان وهذا قدر الله سبحانه وتعالى لو تتأمل حياتك تجد أن لحظة معينة فاصلة صرفت مسارك إلى مسار آخر كنت متجهًا بشكل ثم اتجهت إلى مسار آخر. لما قال هذه القصة (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا (15)) انتقلت الآن الأحداث، الإسرائيلي ينتصر بموسى عليه السلام قبل نبوته وموسى عليه السلام أخذته الحميّة لبني إسرائيل لأن بني إسرائيل يعرفون أنه منهم السحنة والدم وأمه المرضعة من بني إسرئايل فمجرد أن وكز القبطي قتله وهذا يدل على قوته ولهذا جاءت (وَاسْتَوَى) (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) اكتمل بنيان جسمه لأنه يحتاج إلى هذا في دعوته, ولو تأملت بنيان موسى تجد أن القوة ظاهرة ولذلك لما دخل مدين وجد من دونهم امرأتين تذودان فلقوة بينانه قام فسقى لهما وردّ لهما غنمهما ثم غيرها من الأحداث وخروجه إلى الطور عليه السلام لأخذ التوراة، أمثلة كثيرة كان يحتاج للقوة فجاءت (وَاسْتَوَى) للتنبيه أن الله سبحانه وتعالى قد هيأه وأعدّه حتى في بنيانه وجسمه. هذه الحادثة صرفت مسار الحياة عند موسى عليه السلام من لا شيء إلى شيء ولهذا هذه نتيجتها أنه هرب وخاف من القتل ولكنه عاد آمنًا بل عاد بما هو أعظم من ذلك شرف الرسالة وصار أحد أولي العزم من الرسل فلا شك أننا حينما نتأمل بعض الأحداث تصرف الإنسان أن يكون عظيمًا والأمثلة في هذا كثيرة ولكن هذا نموذج.

د. عبد الرحمن: هناك مسألة لا أدري إن كنت توافقني عليها في موسى عليه السلام وهو أعظم أنبياء بني إسرائيل كان فيه قوة جسمية ألاحظ في الملوك وأنبياء بني إسرائيل فيهم هذه الصفة، طالوت عندما رشح لقيادة الجيش قال (قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ (247) البقرة) داوود كان معه في الجيش وكان معروفًا بقوته (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ (17) ص) وهو الذي قتل جالوت والله ذلل له الحديد وسليمان عليه السلام كان قويًا في ملكه وقويًا في بنيته وفي الحديث “لأطوفن الليلة على سبعين امرأة” وأيضًا في هذه القصة في تفاصيلها قد توحي بأن بني إسرائيل هؤلاء لا يسوسهم إلا هذا النوع من الرجال ويبدو أنهم شعب لا يمشي إلا بالقوة

د. مساعد: يبدو هذا في حياتهم وتاريخهم سواء كانوا تحت بني إسرائيل أو تحت غيرهم، ما كانوا يمشون إلا بالقوة ولهذا لا يصلح مع هؤلاء السلام، هذا قدر الله فيهم، لا يصلح معهم السلام، لا يصلح معهم السياسة والملاينة والملاطفة مع هذا الجنس لا تنفع وهذه ظاهرة جدا في تاريخهم فتناسي التاريخ لأجل مشكلات حضارية معاصرة هذا من الغفلة التي يحتاج أن ينتبه إليها المسلم

د. عبد الرحمن: قد تصل أحيانًا إلى أكثر من الغفلة وهي ترك هذا القرآن ظهريًا والآن اشغلونا بمفاوضات مباشرة وغير مباشرة والمشكلة ليست في كونها مباشرة أو غير مباشرة!

د. عبد الرحمن: نأتي إلى قصة موسى عليه السلام هنا عندما ذهب إلى مدين، الناس يقولون أنه ذهب إلى شعيب، ما رأيك في من يرى أن الشيخ الكبير في القصة هو شعيب عليه السلام؟

د. مساعد: إذا نظرنا في قضية التاريخ فشعيب عليه السلام كان متقدمًا جدًا وشعيب يذكر مع قوم عاد وثمود ولوط متقدم جدًا ولم يذكر مع هؤلاء أبدًا ولم يرد ذكر له. لكنه اشتبه أن شعيب أرسل إلى مدين وموسى عليه السلام ذهب إلى مدين فوقع هذا الاشتباه عند بعضهم أن الشيخ هو شعيب مع أنه لم يرد في أي خبر صحيح لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه إشارة إلى أنه شعيب فهذا من الوهم بل إن الحسن البصري نبه على هذا الوهم وأن هذا الرجل ليس بشعيب مما يدل على أن هذا الوهم كان قديمًا ولذلك في أسفار بني إسرائيل يسمونه يثرو أو يثرون (هذا الرجل)

د. عبد الرحمن: وأيضا البنتان قالتا (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)) ولو كان شعيبًا لكان رجلا معروفًا ومشهورًا ما دام أنه شيخ كبير معناه كان نبيًا في ذلك الوقت معناه ليس شعيبًا، هذا من جهة والأمر الثاني لو كان موسى تزوج بنت شعيب وبقي عنده هذه المدة لظهر في هذه القصة عشر سنوات وهو متزوج ابنة شعيب النبي وهذا لا يذكر في قصتة الطويلة التي ذكرت فيها تفاصيل أكثر من هذا؟! إذن واضح أنه ليس شعيب وإنما رجل صالح من مدين

د. مساعد: لا شك أن مدين من العرب ولهذا موسى عليه السلام لما توجه إلى مدين توجه إلى جزيرة العرب وتزوج منها هم عندهم في كتبهم يسمونه صفّورة والإسم العربي لها عصفورة، إسم زوجة موسى عليه السلام.

د. عبد الرحمن: يلفت نظري عندما تقول عربي آسيا بنت مزاحم زوجة فرعون هي المرأة التي وقع في يدها موسى وهي التي حفظته وربته، آسيا بنت مزاحم كأنه إسم عربي

د. مساعد: وهو كذلك

د. عبد الرحمن: يعني زوجة فرعون عربية

د. مساعد بناء على هذا الإسم لأن الإسم يعطي دلالة على الموطن.

د. عبد الرحمن: ويبدو أنها كانت هي الزوجة الوحيدة لفرعون لأنه قال (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) التحريم)

د. مساعد: يبدو من السياقات أنها المرأة الوحيدة

د. عبد الرحمن: وإن كان يستغرب من فرعون أن يقتصر على امرأة واحدة!

د. مساعد: قد يكون عندهم عقائد أو قضايا في تشريعهم. قصة البنتين مع موسى عليه السلام أذكّر بما طرحه أخونا الدكتور عويض العطوي في هذه الآيات وله وقفات رائعة جدا عن القصة واختصارا للوقت لعلنا نرجع إليها وهي موجودة على النت في موقع الدكتور، له لفتات بديعة جدًا في موضوع هاتين الفتاتين. من اللطائف التي رأيتها في الآثار ولا أدري عن صحته عن إبن مسعود سأل عن الشجرة التي استظل تحتها موسى (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ (24)) فذهب إلى هذه الشجرة وقالوا له أن مورِقة كل السنة، عبد الله ابن مسعود إتجه إلى مدين وسأل عن هذه الشجرة، هو مجرد خبر لا نعرف عن صحته أيًا ما كان لكن مثل هذه الأمور لا يبنى عليها عبادات ولا اعتقادات حتى لو جزمنا أن هذه الشجرة التي استظل تحتها موسى عليه السلام فليس هناك أي أمر مطلوب منا اعتقادًا أو عبادة أن نفعله

د. عبد الرحمن: في التذييل في قصة قارون في سورة القصص يعني ذكر الله عز وجل ميلاد موسى عليه السلام وكيف تربى في بيت فرعون وكيف خرج خائفا عليه السلام من فرعون وقومه وبقي في مدين عشر سنوات وأكثر (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ (29)) ثم جاء في قصة قارون في ختام القصة فقال (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ (76)) ما دلالة إيراد قصة قارون؟

د. مساعد: كنت أتأمل هل يُفهم أن قارون كان من قوم موسى أنه كان في عهد موسى عليه السلام؟ اللفظ لا يوحي بذلك، لا يلزم ذلك، قوله قارون من قوم موسى يحتمل أن يكون في عهد موسى عليه السلام أو بعده، إذا كان في عهد موسى عليه السلام فقطعا سيكون في وقت بقائهم في مصر ايام وجود فرعون وهذ يُضعف القصة لأنهم كانوا في التيه وما كان عندهم أموال ولا شيء. معرفة تاريخ موسى عليه السلام يشعرنا أو يوحي لنا أن قوله (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى) ليس المراد أنه كان مزامنًا لموسى وإنما إشارة إلى أنه من بني إسرائيل، أنه رجل من بني إسرائيل نسب إلى موسى تنبيهًا بما أن السورة متعلقة بموسى عليه السلام فجاء بهذه القصة التي تدل على القوة بالمال، كيف تعامل قارون مع هذه النعمة العظيمة التي أعطاه الله إياها؟ تعامل معها ببطر وأشر وادعى أنه إنما أوتيها على علم عنده وأبان الله سبحانه وتعالى لنا ما يحصل من ضعف نفوسنا حينما نرى أصحاب الأموال (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)) لهذا نقول لكل غني من أغنياء المسلمين أن يعتبر من هذه القصة وأن يجتهد أن ينظر في قصة قارون وأن لا يتشبه بشيء مما فعله وإنما يخالف كل هذه الأشياء التي ذكرها قارون، تدعي الفضل وتنسبه لله سبحانه وتعالى فهو سبحانه وتعالى الذي أنعم عليك وهو الذي أعطاك وابتدأك وهو الذي يقدر أن يسلبك هذا.

د. عبد الرحمن: سبحان الله بالأمس في سورة النمل الله سبحانه وتعالى آتى سليمان عليه السلام ملكا عظيما وسخر له الطير والريح والجن وبالرغم من كل هذا الملك العظيم كان غاية في التواضع (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) النمل) مباشرة يتذكر فضل الله عليه في أشد حالات الزهو والقوة، يسمع صوت النملة وهي تقول (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)) فيقول (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ (19)) ونأتي لهذا المغفل الأحمق قارون ما الذي عند قارون مقارنة بما أعطاه الله لسليمان؟! لا شيء، أو ذي القرنين؟ نأتي إلى قارون أعطاه المال ولكن غرته نفسه فقال (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي (78)) قال الله تعالى فيه (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا (78)).

لقت نظري في ختام سورة القصص في قوله سبحانه وتعالى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)) وفي أولها عندما قال (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)) نلاحظ هذه المنهجية في عمل فرعون وفي عمل الطغاة بصفة عامة وهو “فرّق تسد” تريد أن تسيطر على الشعب فرّق وازرع الطبقية في المجتمع وهذه للأسف موجودة في المجتمعات الإسلامية الآن تجد طبقات تعاني من فحش الثراء وطبقات كثيرة جدًا تعاني من الحاجة والعوز وهذا قطعًا سيؤدي إلى التنازع وإلى الصدام فيما بينها ويبقى هذا المتسلط يراقب الموقف. انظر إلى هذه اللفتة (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) يعني جعل أهلها طوائف متفرقة، ما تعلقيك؟

د. مساعد: في قوله (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) كأنها خاتمة لقصة فرعون من جهة وقصة قارون من جهة أخرى وإن كانت قصة قارون أقرب لها، والله سبحانه وتعالى لما قال (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) لم يقل الدنيا لأن الدنيا ليست الدار الحقيقية فكأنه قال في يوم القيامة هذه الدار لا تكون لهؤلاء الذين يريدون العلو وإنما تكون للذين لا يريدون العلو والبغي في الأرض. ولهذا نقول للحاكم المسلم الذي قدر الله له أن يكون وليًا للمسلمين في أي مكان وزمان لتكن هذه الآية نصب عينيك دائمًا (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وهذه نبراس وهذه التي ختم بها عمر بن عبد العزيز حياته رضي الله عنه فقيل وهو ينازع الروح كان يتلو هذه الآية وهذه بشارة له رضي الله عنه.

د. عبد الرحمن: من اللفتات أيضًا في قصة موسى أنه أعطاه الله القوة وأعطاه الله العلم فلما قتل القبطي في أول حياته ندم عليه السلام واستغفر ربه وقال (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ (17)) لن أكون عونا للمجرمين أبدًا ولاحظ وفي آخر السورة في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم (وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ (86)) نفس الفكرة، وهذا خطاب أيضًا لكل من آتاه الله سلطة، لكل من آتاه الله علمًا لكل من آتاه الله لسانًا أن لا يكون ظهيرًا للمجرمين وأن لا يكون عونًا للمنافقين ولا يكون عونًا للظلمة، وللأسف الشديد أن ترى بعض الناس آتاه الله علمًا فسخره لخدمة الضلال فأصبح ظهيرًا للمجرمين وظهيرًا للكافرين وظهيرًا للعلمانيين ولكل عدو للمسلمين

د. مساعد: هذا مثاله موجود في القرآن الذي هو بلعام بن باعوراء في (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) الأعراف) وهي معروفة هذا مثال لعالم السوء الذي أعطاه الله العلم لكنه انسلخ منه نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينجينا من هذا.

في قوله (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ (85)) فيها وجهان للتفسير: أن المراد بالمعاد يوم القيامة والوجه الآخر وهو أضعف منه أقل منه في التفسير وإن كان له لطف أن المراد إلى مكة، وإذا قلنا لمكة فهنا ترابط في الآيات كأنه لما أشار إلى ما حصل لموسى عليه السلام كأنه نبه النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيحصل له هجرة ثم سيعود كأنه أخبره كما أخبر أم موسى أنه سيُردّ إلى مكة وهو كما قلت أضعف من القول الأول

د. عبد الرحمن: يعني (لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) يعني إلى يوم القيامة يعني إشارة إلى البعث

د. مساعد: ومن قال معاد بعضهم سمى مكة معاد جعل من أسمائها معاد هذا القول الثاني ولا مشاحة في ذلك.

د. عبد الرحمن: (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)) إشارة إلى أنه إذا وصلت إلى العلم واستقر اليقين في قلبك ثم انحرفت فالعقاب شديد ثم قال (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)) فيها إشارة أن السور المكية تركز على جانب العقيدة وجانب نبذ الشرك والعناية بالقرآن الكريم.

سؤال الحلقة

في الجزء الثامن والعشرين أربع سور منها اثنتان مبدوءة بالأمر (سبِّح)، واثنتان بالمضارع (يُسَبِّح) فما هما السورتان المبدوءتان بالمضارع؟