سور القرآن الكريم

سُوَرِة المَائدة

هدف السورة: الوفاء بالعهود

سورة المائدة هي أول سورة ابتدأت بـ (يا أيها الذين آمنوا) وتكرر فيها هذا النداء 16 مرة من أصل 88 مرة وردت في القرآن كله. وهي آخر ما نزل على رسول الله في المدينة بعد حجة الوداع. وقد اشتملت على العديد من الأحكام : أحكام العقود ، الذبائح، الصيد، الإحرام، نكاح الكتابيات، الردة، أحكام الطهارة، حد السرقة، حد البغي والإفساد في الأرض، أحكام الميسر والخمر، كفارة اليمين، قتل الصيد في الإحرام، الوصية عند الموت، البحيرة والسائبة، الحكم على من ترك العمل بشريعة الله وغيرها. وقد ورد عن النبي أنه قال:” علّموا رجالكم سورة المائدة” لما فيها من أحكام ووفاء بالعهود والمواثيق.

والخطاب من الله تعالى للمؤمنين بـ (يا أيها الذين آمنوا) بمعنى يا من آمنتم بي ورضيتم أن تدخلوا في ديني عليكم أن تنفذوا أوامري لتفلحوا وتكونوا من المؤمنين حقاً.

*سميت السورة بـ (المائدة) لورود قصة المائدة في نهاية السورة في قصة سيدنا عيسى  والحواريين. لكن التسمية لا تتعلق فقط بذكر المائدة في السورة ولكن العبرة من القصة هي الهدف وتسميتها تتناسب مع هدف السورة، لأن الله تعالى حذر الحواريين أنه سينزل عليهم المائدة ولكن من كفر بعدها ولم يؤمن سيعذبه الله عذاباً شديداً وهذا توجيه وتحذير للمسلمين بأن عليهم الوفاء بالعهود والمواثيق وإلا سيكون العذاب جزاؤهم كما في قصة المائدة.

والسورة شددت في معظم آياتها على العهود والمواثيق باختلافها وكل نداء (يا أيها الذين آمنوا) ينص على عهد مختلف، والآيات تذكر باستمرار بأهمية الوفاء بالعهود والالتزام بها.

النداء الأول: العقد الأول في الطيبات من الأكل وهي أول ضروريات الحياة، وما أحله الله تعالى لنا. ومن رحمة الله أنه ابتدأ الأحكام بما أحلّ وليس بما حرّم.(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُالأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1))

النداء الثاني: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(2)). هذه الآية فيها الحث على مبادئ إسلامية عظيمة وانتقل من طيبات الطعام إلى مبادئ الإنسانية والعدل ووحدة المجتمع.

– آية تحريم بعض الطعام وآية إكمال الدين: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(3)). وفيها حرّم ربنا تعالى بعض أنواع الطعام وجاءت فيها (اليوم أكملت لكم دينكم) لأن الدين قد اكتمل وتم وعلينا أن نعاهد الله تعالى على كمال هذا الدين والعمل به.

– تشريع نكاح الكتابيات، بعد ذكر الطيبات من الطعام ذكر الله تعالى لنا الطيبات من الزوجات. وأحلّ الله تعالى للمسلمين الزواج من الكتابيات ما دمن محصنات عفيفات. (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(5)).

النداء الثالث: أحكام الوضوء. بعد ذكر الطيبات من الطعام والزوجات لا بد من ذكر طيبات الروح وطهارتها لذا جاءت آية الوضوء هنا في السورة. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أو عَلَى سَفَرٍ أو جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أو لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(6)).

– تذكير بضرورة الوفاء بالعهود: بعد كل بضع آيات عن العهود تأتي آية تذكر بأهمية الوفاء بالعهود كما في الآية (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(7)).

النداء الرابع: العدل. فمن ضمن ما نعاهد الله تعالى عليه، العدل حتى لو ظلم المسلم ويذكرنا تعالى بأنه وفّى بعهده مع عباده فكيف لا يوفّي العباد بعهودهم مع ربهم ومع الناس. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(8)).

النداء الخامس: التذكير بنعمة الله على عباده (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(11)).

·   قصة بني إسرائيل: جاء ذكرها هنا لأن بني إسرائيل قد نقضوا الكثير من العهود وهم نموذج لمن ينقض بالعهود والمواثيق.( وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إسرائيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ* فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) آية 12 – 13.

·   قصة سيدنا موسى  ودخول القدس: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ * ..* قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) الآيات من 20 – 26. وفي ورودها تأكيد آخر على نموذج نقض العهود من بني إسرائيل والفرق بين رد الله تعالى عليهم (فإنها محرمة عليهم) وبين خطابه سبحانه للمؤمنين (أحل لكم الطيبات).

·   قصة ابني آدم: ورودها في هذه السورة بعد قصة بني إسرائيل لأن بني إسرائيل نقضوا العهود من جبنهم وقابيل قتل أخاه هابيل بتسرعه ونقضه للعهد. (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) آية 27 – 31.

النداء السادس: تأكيد وسيلة تعين على الوفاء بالعهود وهي تقوى الله والجهاد في سبيله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(35)).

النداء السابع والثامن: الآيات 51 – 66 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* ..* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) وفيها دعوة إلى عدم اتخاذ اليهود والنصارى أولياء وهذا لا يعني عدم التسامح. يجب أن تكون للمسلمين هوية خاصة بعيداً عن التقليد الأعمى. وهذه الآيات سبقها ربع كامل من الآية 41 (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) إلى الآية 50 (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) بتوجيهات

النداء التاسع: عقاب الذين ينقضون العهود أن يستبدلهم الله تعالى بغيرهم. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(54)).

النداء العاشر: النهي عن اتخاذ الكفار والمستهزئين بالدين أولياء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(57)).

النداء الحادي عشر: النهي عن تحريم ما أحلّ الله تعالى. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(87)).

النداء الثاني عشر: النهي عن الخمر والميسر وهي من ضمن الوفاء بالعهود وعلى المسلم أن يعاهد الله تعالى على ترك هذه الموبقات وأن يحفظ عهده (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) آية 90

النداء الثالث عشر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(94)).

النداء الرابع عشر: من رحمة الله تعالى بنا أن جعل لنا بعد التشدد في العهود والوفاء بها ضوابط بأن لا نضيّق على أنفسنا بالسؤال عما لا يعنينا. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(101)).

النداء الخامس عشر: وفي هذه الآية يضع الله تعالى لنا ضابطاً آخر بأنه علينا بأنفسنا ولا يضرنا لو ضل كل من حولنا علينا أن نحفظ عهدنا مهما كان من حولنا ضالاً. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(105)).

النداء السادس عشر: حكم الوصية والشهادة (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أو آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ (106)).

ناسب خواتيم النساء مع فواتح المائدة

تبدأ المائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ (1)) وأخبر ربنا في النساء في أواخرها أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها الله عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم فقال: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا (160) النساء) إذن حرّم عليهم الطيبات لأنهم نقضوا المواثيق وقال في المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) لأن أولئك نقضوها أنتم أوفوا بالعقود لذلك في أوائل المائدة قال: (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ (4)) مقابل (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ (160) النساء). يخاطب المؤمنين في سورة المائدة لما قال أوفوا بالعقود قال أحل لكم الطيبات أما أولئك حرم عليهم الطيبات لنقضهم المواثيق أنتم أوفوا بالعقود أحل لكم الطيبات. هذا أمر، والأمر الآخر أنه في خواتيم النساء تقسيم الإرث (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ (176)) فإذن خاتمة النساء في تنظيم العلاقة المالية بين الأقرباء، في أول المائدة العلاقة مع الآخرين، تلك العلاقة المالية مع الأقرباء والمائدة مع الآخرين والطبيعي أن تبدأ بالأقرباء ثم تعمم، فذكر العلاقة بين الأقربين في النساء وتقسيم الإرث بينهم وأول المائدة ذكر العلاقة مع الآخرين وتبدأ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) والعقود مع الآخرين (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى (2)) هذه مع الآخرين. إذن صار خاتمة النساء وأول المائدة تنظيم العلاقة بين أفراد المجتمع عموماً كلهم من الأقربين إلى عموم المجتمع، تنظيم العلاقة كلها بين الداخل والخارج. ثم خاتمة النساء في تقسيم الأموال وأول المائدة في صرف الأموال ابتداء من الأطعمة أول ما يحتاج إليه الإنسان الطعام فذكر ما يحل له (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)) وما يحرم عليه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ (3)). إذن خاتمة النساء في تقسيم الأموال والمائدة في أوجه صرف الأموال، إذن هي مترابطة. خاتمة النساء في هلاك الإنسان والاستفادة من ماله والاستفادة مما ترك وبداية المائدة في إهلاك الأنعام والاستفادة منها من صوف ولحم، تلك استفادة مما ترك وهذه استفادة مما تركت من صوف ولحم وأشعار، إذن الرابط الاستفادة مما ترك ومما تركت، تلك استفادة في الأموال والاستفادة من هذه بالأصواف والأشعار واللحم، إذن ترابط أكثر من موضوع في العقود وإحلال الطيبات وتنظيم العلاقة والاستفادة مما ترك ومما تركت.

تدبر سورة المائدة -. رقية العلواني– 1

د. رقية العلواني
تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نبدأ بحول الله وقوته مستعينين به سبحانه وتعالى داعينه عز وجلّ أن يفتح لنا في هذا الكتاب فتحًا وهو خير الفاتحين وأن يرزقنا الإخلاص في النية والقول والعمل وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته.
تعتبر سورة المائدة من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر أن فيها بعض الآيات نزلت قبيل الفتح. هذه الآيات في سورة المائدة تعتبر وتشكّل الوصايا العظيمة التي أكّدها القرآن، عادةً الإنسان حين يكتب وصية له – ولله المثل الأعلى – فهو يوصي بأهم الأشياء في حياته وأكثر وأقرب الأشياء التي يهتم بها ويحرص عليها، ولله المثل الأعلى، سورة المائدة من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى البشرية على الإنسانية فكان هذا التوقيت في نزول السورة له دلالة خاصة، دلالة على أن هذه الأوامر والوصايا التي حوتها سورة المائدة هي من أعظم الوصايا التي يجب على الإنسان أن يقف عندها طويلًا صحيح أن الكثير من هذه الوصايا والأوامر والتعاليم والتشريعات جاءت في سور أخرى ولكن على الرغم من كل هذا فإن تأكيد هذه الأوامر والتعليمات له دلالة من نوع خاص.
الأمر الآخر كذلك الذي تتضح معه دلالات هذه السورة العظيمة أن سورة المائدة يمكن أن لا تسمى فقط بأنها سورة المائدة باعتبار قصة المائدة التي ذكرت في أواخرها وإنما هي سورة العقود والمواثيق التي ابتدأها الله سبحانه وتعالى بقوله (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وذكرت فيها المواثيق في أكثر من موضع الأمر الذي يؤكد أن المحور الذي تدور عليه سورة المائدة محور المواثيق، وأعظم ميثاق منه تتفرع كافة العقود والالتزامات المختلفة بين الإنسان ونفسه وبينه وبين أهله وبينه وبين الآخرين وبينه وبين الدولة، هذه المواثيق أعظمها ذلك العقد والميثاق الذي بين الإنسان وربه وجاءت الآيات في سورة المائدة بالحديث عنه بوسائل متنوعة كعادة القرآن العظيم.
أمر آخر في السورة أنها حوت على ما يزيد على خمسة عشر نداء بـ(يا أيها الذين آمنوا) له دلالة خاصة إذا علمنا أن السورة من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم السورة تخاطب المؤمنين وقد استقر الإيمان في قلوبهم حتى يأتي التشريع وتأتي الأوامر وتأتي الأحكام مبنية على أساس رصين قوي من الإيمان بالله ومعرفته، وهذه هي عظمة التشريعات في كتاب الله عز وجلّ ليست مجرد قوانين صورية شكلية وإنما مؤسسة على الإيمان وعلى معرفة الله سبحانه وتعالى,
ولقائل أن يسأل هذا إذا نظرنا إلى أن هذه السورة من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم لكنها في ترتيب المصحف جاءت بعد سورة النساء إذن هي من أوائل السور في كتاب الله عز وجلّ، إذن فما وجه أن يخاطب الإنسان من البداية، بداية القرآن العظيم بـ(يا أيها الذين آمنوا)؟ ذكرنا سابقًا – وهذه من أعظم وأبسط مبادئ التدبر في كتاب الله عز وجلّ – أن ترتيب السور والآيات في كتاب الله عز وجلّ توقيفي أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما يتعلق بهذا الكتاب دور النبي صلى الله عليه وسلم فيه البلاغ (إنما عليك البلاغ)، هذه نقطة.
النقطة الأخرى أن القرآن كان ينزل – ولا بد الآن حين نقرؤه أن نستحضر هذه الحقيقة كذلك – يعالج واقعًا، الوقائع، الأحداث، الأسئلة، الأمور تعرض للمجتمع المسلم، للجيل الأول الذي نزل فيه القرآن فتأتي الآيات وتنزل السور تعالج تلك الحوادث والأمور وتأتي الإجابات على الأسئلة بطرق مختلفة ووسائل متنوعة على عادة القرآن العظيم. اليوم حين نقرؤه بهذا الترتيب الذي جاء في كتاب الله عز وجلّ الترتيب مقصود، ترتيب السور مقصود وليس لدينا الآن حادثة بعينها معينة يأتي القرآن ليعالجها كما كان عليه الحال في عصر النزول ولكن القرآن يقدم لنا نماذج للأسئلة، نماذج حاصلة في وقت التنزيل لكن عليّ أنا المؤمن بالله المتدبر لهذا الكتاب العظيم أن أدرك أن هذا العصر والأجواء التي أعيش فيها اليوم صحيح هي تختلف كأجواء إنسانية حصل فيها تطور، حصل فيها تقدّم، تغيرات كبيرة ولكن السؤال ربما في الصيغة يختلف والإجابة موجودة في كتاب الله عز وجلّ المطلوب مني كمتدبر أن أتعلم كيف أقوم بتشكيل هذا السؤال الذي يأتيني في واقعي وأبحث عن الإجابة في كتاب الله عز وجلّ وأتفاعل مع تلك الإجابة لأجل أن أطبقها في حياتي وفي واقعي فهنا يكون الترتيب بهذا الشكل في كتاب الله عز وجلّ واضح الحكمة والمقصد في حياتي. القرآن الآن هو بين أيدينا ونحن نؤمن به وإيماننا بكتاب الله عز وجلّ وتلاوتنا لكتاب الله عز وجلّ بهذا الترتيب أمر مقصود تماما فهو يعالج حين يعالج ويناديني بـ(يا أيها الذين آمنوا) من أوائل القرآن العظيم ومن أوائل السور لأجل أني في قضية الإيمان أحتاج لكل تلك القضايا والتعاليم حتى أعالج ما أمر به. فإدراك أجواء التنزيل ونزول سور القرآن ومحاولة ربط بين تلك الأجواء وما أعيشه اليوم تساعدني في صياغة الأسئلة التي تعرض لي والحوادث والمشاكل التي أتعرض إليها في واقعي لأتعلم من خلال المقارنة والإطلاع كيف أصل إلى الإجابات في كتاب الله عز وجلّ كيف أجعل القرآن العظيم بمنهجه القويم يعدّل حياتي ويعدل الإشكاليات التي تعرض لي في حياتي.
من النقاط المهمة في تدبر سورة المائدة البحث عن المناسبات وذكرنا في مرات سابقة أن علم المناسبات علم دقيق جدًا اعتنى به الأقدمون من المفسرين والعلماء وهو علم دقيق واعتنى به بعض المعاصرين لكن تبقى قضية البحث عن التناسب أمر يحتاج من الإنسان المتدبر لكتاب الله سبحانه وتعالى أن يقف عند الآيات طويلا أن يحاول بكل ما أوتي من أدوات ووسائل أن يستشعر تلك الأجواء التي نزلت فيها السورة العظيمة ليحاول أن يتبين شيئا من ذلك التناسب.
سورة المائدة سورة العقود والمواثيق وربي في أول السورة، لأن التناسب له أشكال بين أول السورة وخاتمة السورة بين نهاية سورة النساء وبين بدايات المائدة، بين آخر المائدة وبين بدايات الأنعام، أشكال من التناسب ولكن نبدأ بأول شكلين من التناسب:
الأول ما بين النساء وخاتمتها وما بين بداية سورة المائدة: سورة النساء تحدثت عن بناء القيم العدالة والحرية والمساواة على عين من تقوى الله عز وجلّ وجاءت بتحديد نماذج لتحقيق تلك القيم من خلال النموذج الأسري بشكل واضح جدًا وعملي وانتقلت من الأسرة إلى المجتمع إلى العالم ولذلك خطابات (يا أيها الناس) كانت واضحة في سورة النساء. سورة المائدة تبدأ بـ(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لأن القرآن يبني إنسانًا مؤهلًا للقيام بمهمة الخلافة على الأرض. بداية سورة المائدة (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بما فيها تلك العقود والالتزامات التي جاءت في السورة والتي قبلها في سورة النساء وآل عمران والبقرة وفي الفاتحة رغم الفوارق الزمنية فيما بين تلك السورة ولكن كل تلك الالتزامات بين مختلف الأطراف إنما هي عقود عليك الوفاء بها.
الشكل الآخر من أشكال التناسب بين أول المائدة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وبين آخر السورة الآية الأخيرة يقول فيها الله عز وجلّ (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٢٠﴾) أول سورة المائدة (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) ثم تلتها عشرات النماذج للعقود، ما وجه التناسب؟ الآية الأخيرة في سورة المائدة قال (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ) كل شيء في هذا الكون سماء، أرض، أنعام، طيور، أشكال المنتفعات التي ينتفع بها الإنسان كل شيء ورد ذكره في هذه السورة وغيرها في القرآن هو ملك حقيقي صرف لله سبحانه وتعالى لا يشاركه في ذلك الملك أحد على الإطلاق.
الآية الأولى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بمعنى آخر بيننا وبين المالك الحقيقي سبحانه وتعالى عقد. معنى هذا: نحن في حياتنا الدنيا اعتدنا أننا حين نؤجر بيتًا أو مسكنًا أو ما شابه نذهب لإجراء عقد بيننا وبين مالك البيت الحقيقي أو المكان الذي نريد أن نستأجره وبناء على هذا العقد وما يضعه المالك من شروط يوقع هذا الإنسان المستأجِر ويلتزم تجاه المالك الحقيقي ولله المثل الأعلى نحن سُخر لنا ما في هذا الكون شجر سماء ماء أرض حتى ما نقول باستعماله من سمع من بصر من أدوات إدراك وهبنا الله سبحانه وتعالى إياها سخرها لنا لنقوم بالانتفاع بها نحن لسنا ملّاكا المالك الحقيقي الذي قالت فيه آخر سورة المائدة (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٢٠﴾) هو المالك الحقيقي. ونحن ربي سبحانه وتعالى بفضله ورحمته وكرمه هيأ لنا وسائل الانتفاع بتلك الأشياء التي يمتلكها هو لا غيره على وجه الحقيقية والشيء الطبيعي في عقود الانتفاع والملكية أن الذي يعطيني ويفرض عليّ الشروط للانتفاع بالأشياء المالك الحقيقي لها ولله المثل الأعلى الذي يعطيني افعل ولا تفعل وتصرّف ولا تتصرف وحلال وحرام هو الذي أعطاني ووهبني، الذي يمتلك الأشياء، بمعنى آخر الذي يمتلك حق التشريع هو الذي يمتلك على وجه الحقيقة، فالتشريع لا يكون إلا منه وشروط العقد في الانتفاع لي كبشر كإنسان على وجه الأرض أنا لا آخذها من أيّ أحد لأنه لا أحد يمتلكها امتلاكا حقيقيا وأعطاني حق الاستخدام والانتفاع عن طريق التسخير إلا هو سبحانه ولذلك جاءت (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) من الذي يحلّ ويحرّم سوا الذي خلق؟! ولذلك منذ أن خلق الله الخليقة وإلى أن تقوم الساعة لم يدّعي أحد من البشر مهما طغي ومهما علا ومهما تجبر أنه خلق على سبيل المثال الأنعام، لم يدّعي أحد فأما وأنه ليس هناك من خلق ولا حتى من يجرؤ أن يدّعي أنه خلق وملك فمن الذي يملك الحق في أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا هو سبحانه وتعالى؟! تناسب رائع. ولذلك آيات سورة المائدة تكلمت كثيرًا عن الحكم بما أنزل الله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) لأن قضية الحكم والتشريع هي صلاحية واضحة لن يمتلك وليس لمن لا يمتلك. غير المالك حتى في أعرافنا البشرية نحن وتعاملاتنا البشرية على هذه الأرض لا يحق له أن يشترط شيئا ولا أن يملي شروطًا لأنه لا يملك وربي سبحانه وتعالى له المثل الأعلى هو الذي يملك فهو الذي يبيح وهو الذي يحرّم وهو الذي يقول افعل وهو الذي يقون لا تفعل.
فمنذ بداية السورة وإلى ختام السورة السورة تؤكد هذه الحقيقة أنت آمنت ورضيت بالله ربًا وبمقتضى ذلك الإيمان أنك تؤمن بأنه المالك سبحانه وتعالى فإذا ما آمنت بهذا واستقر ذلك الإيمان في قلبك سلّم زمام حياتك لله عز وجلّ، سلّم القيادة، سلّم أخذ الأوامر والنواهي إليه فقط دون غيره سبحانه وتعالى وعليك أن تستذكر في كل هذا أن بينك وبينه عقد فعليك الوفاء به فهو المالك.
ولذلك الآيات في سورة المائدة كثيرة تلك التي تكلمت عن البيئة أو ما يعرف بمصطلحاتنا المعاصرة “حماية البيئة”، المحميات المختلفة تكلمت عن الصيد وإباحة الصيد ومتى يكون محرّمًا لأنك أنت في تصرفك في هذه البيئة التي من حولك حيوان نبات أرض شجر سماء ماء أنت متصرف منتفع فقط وقد سُخّرت لك هذه الأشياء وبناءً عليه عليك أن تسير معها وتتعامل معها وفق منهج وفق تشريعات وفق أوامر ربي سبحانه وتعالى أعطاك وسخّر لك وفتح لك فيها.
تدبروا هذه المعاني العظيمة فالقضية ليست كما ستأتي علينا قضية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) هذه تفاصيل، هذه القضية عقد أنك تسير كإنسان وفق ما حدد الله سبحانه وتعالى في كتابه وفي منهجه.
(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) تدبروا ختام الآية، يحكم ما يريد لأنه المالك سبحانه وتعالى فهو يحكم وتأتي تفاصيل بعد تلك الآيات.
ثم قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) التعامل مع الأماكن ومع الأراضي ومع الأزمنة (الشهر الحرام) ومع ما كل ما هو حولك من أشياء في البيئة يتم وفق نظام منضبط تمامًا، القرآن يعلمك الانضباط. هذه الموجودات المنضبطة بقانون التسخير الذي جاء ذكره في كتاب الله عز وجلّ في أكثر من موضع أنت تسير عليه لكي يتحقق التوازن، كل شيء في الكون خُلق بتوازن وهذه من قدرة الله سبحانه وتعالى كل شيء فيه توازن: عدد ساعات الليل، عدد قطرات المطر، كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى بقدر وخلقه بشكل موزون وعنده خزائنه سبحانه في كل شيء. دور الإنسان المستخلَف الذي جعله الله خليفة على هذه الأرض دوره أن يسير ضمن ذلك التوازن، النظام المتوازن، يحافظ على التوازن في أثناء تعامله مع تلك الأشياء أو المسَخّرات سواء كانت زمانًا أو مكانًا أو موجودات، كائنات. فإذا لم يسر ذلك الإنسان الخليفة وفق ما بيّنه الله سبحانه وتعالى له في المنهج في كتابه بدأ الخلل يحدث، بدأ النظام يضطرب، بدأ نظام التوازن يختلّ فإذا حدث اختلال في التوازن حدثت عشرات الكوارث الطبيعية والإنسانية التي تحدث في زماننا هذا!!
تدبروا ونحن نسمع اليوم من هنا وهناك انقراض عشرات الأصناف من الحيوانات وهذا كله له تأثيرات على أشياء أخرى على الأنظمة حتى على الأنظمة الغذائية فالكون يمشي وفق نظام متكامل كل شيء فيه يؤدي إلى شيء آخر بانسجام، باتساق لأن الذي خلقه أحسن كل شيء خلقه فالإنسان أُمر أن يسير وفق هذا المنهج والتفاصيل لأن ربما الإنسان لما يقرأ في سورة المائدة أو سورة النساء والأنعام يقول ما هذه التفاصيل العجيبة؟ ما هذه الدقائق والجزئيات؟! هذه مطلوبة لتبين لك أن عليك كإنسان أن تحافظ على هذا النظام، إذا لم تحافظ عليه سيحدث الخلل، وإذا حدث الخلل سيظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. والنتيجة ستكون فوضى، عذابات مستمرة، شقاء للإنسانية سواء على المستوى الطبيعي أو على المستوى الإنساني، مجاعات، فقر، حروب، عواصف تصحر جوع عطش، اختلالات. ما نراه اليوم أعراض لعدم القيام بذلك المنهج الموزون المتوازن والقواعد المنضبطة التي جاء بها في كتاب الله عز وجلّ.
تدبروا في الآية الثانية في سورة المائدة (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) لا للاعتداء، وهذه من الكلمات العظيمة في السورة، لا اعتداء لا زيادة ولا نقصان في الشيء الذي ينبغي أن يكون عن الحدّ الذي أمر به الله سبحانه وتعالى، أيّ شكل من أشكال الاعتداء هناك تجاوز للخط، هنام خطوط، سورة المائدة حوت خطوطا في الطعام، في الذبائح، في الصيد، في عشرات الأشياء، هذه الخطوط لا ينبغي تجاوزها فإذا حصل التجاوز يحدث الخلل. ولذلك قال (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ) حتى البغض والكراهية التي قد تكون مبرّرة في بعض الأحيان (أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (أَنْ تَعْتَدُوا) هذا ليس مبررًا كافيًا لأنك أنت مأمور بعدم تجاوز خط العدالة، الاعتداء منهيٌ عنه لا يسوّغه شيء (ولا تعتدوا) ولذلك قال (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) تدبروا عدوان مرة أخرى في آية واحدة قال (تعتدوا – العدوان) لأن العدوان والتجاوز هو من أسباب عدم الوفاء بكل تلك الالتزامات والعقود فمنذ البداية سورة المائدة حددت الإطار العام لكل العقود: وفاء، تعاون على البر والتقوى في الوقاء بتلك العقود وفي نفس الوقت عدم التعاون على الإثم والعدوان الذي يهدّم كل صور وأشكال الوفاء بالعقود: الإثم والعدوان. فكل ما نحن فيه من أشكال الانتفاع والتصرف في الحياة سواء في أنفسنا، في أموالنا التي هي ليست على وجه الحقيقة أموال خالصة لنا، المال مال الله، في كل الأشياء المسخّرات أدخل فيها في عقد انتفاع فعليّ أن أتعامل فيها بالبر والتقوى هذه هي القاعدة حتى أصل لمرحلة الوفاء وحتى لو اقتضى ذلك الأمر أن يكون حين يحدث اعتداء فلا بد لجماعة الإنسان الجنس الإنساني البشرية أن يتعاونوا لأجل إعادة الأمور إلى نصابها البر والتقوى وأن لا يكون التعاون والتكتل والتجمع على الإثم والعدوان لحماية العقود. ولذلك ما يحصل اليوم من تجاوزات ومن اعتداء على البيئة والموارد البشرية وعلى الأرض وعلى المسخّرات وعلى الحيوان وعلى الماء هذه لا بد أن يكون لأجلها تجمعات إنسانية حقيقية تأخذ على المعتدي الآثم لتضع الأمور في نصابها ويبقى الجنس الإنساني وفيا بعقده والتزامه في الانتفاع بهذه المقدّرات الموجودة في هذا الكون. ولهذا قال الله عز وجلّ في ختام الآية (وَاتَّقُوا اللَّهَ) لأنه بدون تقوى لن يكون هناك تعاون على البر والتقوى (التقوى – واتقوا الله) التقوى مخافة الله عز وجلّ الشعور برقابة الله سبحانه وتعالى. تدبروا في الربط بين هذه الآيات وأوائل سورة النساء حين قال (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) الوصية العظيمة، الوصية الباقية: التقوى. رصيد الإنسان من التقوى، بقدر نصيبك من التقوى بقدر ما يكون الوفاء بالعقود والإلتزام بكل شيء سواء كانت العقود بينك وبين الطبيعة، البيئة وبينك وبين الناس في محيط الأسرة، في محيط العمل، كل الأشكال هي عقود، ما الذي يدفعني للوفاء بها؟ رصيد التقوى. ثم ختم بقوله (إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) طبيعي! الإنسان الذي لا يسير في العقد على الإلتزام بم جاء فيه من شروط عليه أن يكون مستعدًا لإنزال العقوبة به، شيء طبيعي! نحن حتى في تعاملاتنا في العقود هناك ما يسمى بالشرط الجزائي حين لا يقوم طرف من طرفيّ العقد بالوفاء بمقتضيات العقد – ولله المثل الأعلى- إذا ما قمنا بالالتزام بهذه العقود التي ستأتي في هذه السورة العظيمة من البداية قال الله عز وجلّ (إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لا زلنا في الاية الثانية في سورة المائدة، شديد العقاب لمن لم يوفّي بالعقود بكل أشكالها بكل مستوياتها بكل صورها.
ثم تنتقل الآيات إلى الحديث عن أول فئة من تلك الفئات المشمولة بالعقود (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ) لماذا هذه الأصناف؟ صحيح هناك حكم في التشريع، الأصل في التشريع وخاصة تشريع المعاملات الأصل فيه أن يتبين الإنسان المقصد ويتفهم الحكمة من التشريع حتى يستقر معنى الالتزام والتمسك بذلك التشريع بشكل واضح وعملي. هذه الأشياء التي خلقها الله سبحانه وتعالى هي من مخلوقاته ولكن أعطى للإنسان القدرة على الاستفادة والانتفاع بها حين تكون بشكل معين وفق ما هو أراد الله سبحانه وتعالى فأعطاه، الأنعام حين لا تكون ميتة مباحة عن طريق الذبح ولكنها إذا أصحبت ميتة حرّمت عليكم (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) تدبروا! ثم قضية الدم والأشياء الأخرى التي جاء ذكرها في الآية الكريمة.
لماذا الممنوع والمنهي عنه؟ ربي سبحانه وتعالى حدد لنا منذ البداية أن هذه الدنيا دار ابتلاء فيها أشياء يسمح لك أن تقوم بها، أكل، طعام، وهناك أشياء تدخل في دائرة الممنوع أو المحظور أو المحرم وفي كلتا الدائرتين لا بد أن يكون هناك نوع من الاختبار والتمرين لإرادتك كإنسان. لو كان كل شيء مباح فاختبار الإرادة لم يكن له ذلك الرصيد، وربي أعلم بنا لكنه بعدله سبحانه وتعالى أراد أن يقيم الحجة علينا بأعمالنا وأعظم ما في الإنسان ومن أكرم الأشياء فيه قوة الإرادة أن يمنع نفسه عن الشيء حين يكون محظورًا أو ممنوعًا، كرمه الله سبحانه وتعالى بهذا، كرّمه أن نفسه المؤمنة الطاهرة النقية تعاف الحرام، تعفّ عن الخبيث الحرام الممنوع ولذلك في سورة المائدة جاءت أشياء ممنوعة محظورة محرّمة سواء في المطعم والمأكل والمشرب وفي الزواج وكذلك في التعاملات حتى في الأموال ليس كل المل حلال، الأكل ليس فقط ما كان في دائرة الحرام التي ذكرتها الآية الثالثة: الخنزير، الدم، الميتة فقط، لا، هناك أشكال من الأكل الحرام المعنوي مثل أكل السحت الذي سيأتي عليه في سورة المائدة. فالمسألة تتعلق بهذا الاختبار والابتلاء الذي لا ينبغي أن يغيب عن ذهن الإنسان وهو يباشر انتفاعه بهذه الأشياء الموجودة في الكون، عليه أن يتعلم متى وكيف يقول لنفسه لا، ولكن قول اللا هنا ليس محكومًا بمزاجه الفردي ولا بأهواء من يمكن أن يأخذ منه تشريع وإنما هو محكوم بما أنزله الله سبحانه وتعالى في كتابه ولذلك جاءت الآية هنا (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) هذا تشريع.
ثم بعدها وضع الله سبحانه وتعالى كل ما يتعلق بقضية التشريع في حال الاضطرار وما شابه ثم قال (مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) ليبين في قاعدة عريضة أن الحلال هو الطيب وربي سبحانه وتعالى لم يحرّم شيئا إلا الحرام الخبيث فالحرام خبيث والخبيث حرام والطيب حلال والحلال طيب. النفس الإنسانية حين تدرك منذ البداية هذه الحقائق لا يحدث فيها نزاعات ولا صراعات في مسألة التشريع. ولذلك ربي عز وجلّ في الآية بعد ذلك قال (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) وقضية التسمية هنا ليست مجرد قضية تتعلق بحكم فقهي كما يظن البعض أو الإشكالية الموجودة عند بعض المسلمين اليوم هو ذلك التسطيح والتصغير والتحجيم في التعامل مع الأشياء التي تعتبر أبجديات، قضية الطهارة في المطعم والمشرب ثم بعد ذلك سينتقل إلى الزواج والنكاح وما شابه، هذه قضية تشكّل هوية الإنسان الملتزم بأمر الله سبحانه وتعالى. ولنا أن نتساءل ونحن في بدايات سورة المائدة لماذا بدأ ربي سبحانه وتعالى بالحديث عن الأشياء الحلال والمحرّمات في المطعم قبل أيّ شيء آخر؟ المطعم شيء مهم في حياة الإنسان. هذا الجسد، ربي سبحانه وتعالى خلق الإنسان من جسد من اللحم والدم وخلق معه الروح وهي شيء متكامل مع بعضها البعض تشكّل الإنسان ذلك المخلوق الذي كرمه الله سبحانه وتعالى في أصل خلقته فقضية الطعام والشراب مهمة جدًا لأنها تعتني بذلك البناء الجسدي للإنسان والقرآن بعد ذلك كما سيأتي سيأتي الحديث عن الوضوء والطهارة، طهارة الباطن وطهارة الأعضاء وتجهيزها للدخول في كافة العبادات والشعائر وإقامة تلك الشعائر لا يكون بجسد نصفه قد غُذّي بالخبث والحرام ونصفه الآخر يحاول أن يتطهر تطهيرًا ظاهريًا، لا، القرآن لا يقبل بأنصاف الحلول، القرآن يريد منا أن نكون بشرًا نتصف بالطهارة الحقيقية طهارة الباطن وطهارة الظاهر، طهارة الجسد حتى فيما يدخل فيه فيحرص الإنسان المؤمن على لا يدخل في جسده إلا الحلال حلالًا حسيًا وحلالًا معنويًا، يتحرّى الحلال في طعامه وشرابه وكذلك في طعام من يعول يتحراه تحريًا، يحرص أشد الحرص عليه. وهنا تأتي قضية التسمية (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) ذكر ليست مجرد تسمية مجرد قول بسم الله تسمية عابرة، لا، التسمية هي شعار له اتصال حقيقي وثيق بهوية الإنسان فأنت حين تقول للشيء وعلى الشيء “بسم الله” إنما أنت تؤكد وتذكّر نفسك بذلك العقد الذي بينك وبين الله عز وجلّ. فهذه الأنعام ما سُخرت لولا أن الله سخّرها للإنسان للدرجة التي استطاع هذا الإنسان حتى وإن كان جسم الكائن الآخر أقوى وأعظم وأكثر في الوزن ولكن الإنسان يستطيع أن يتحكم فيه بقانون التسخير فحين يبدأ بشيء يبدأ بسم الله ليؤكد نفسه ولذلك الشيء الذي ينتفع به في ذات الوقت أن كل شيء في الكون إنما هو من الله سبحانه وتعالى فضل ونعمة وأنا حين أستعمله وأنتفع به إنما أفعل ذلك باسم الله تعالى ولذلك قال (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)
ثم انتقلت الآيات في آيتين متتاليتين (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) ليبين هذه القاعدة التي للأسف الشديد تغيب عن بعض الناس أن الحلال هو الطيب مهما كان بسيطًا أو متواضعًا وأن الخبيث هو الحرام حتى وإن كان شكل ذلك الحرام مزينًا بأشكال وألوان مختلفة إلا أن تلك الزينة لا تخرجه عن خبثه فالحرام في أصله خبيث، الخمر على سبيل المثال أم الخبائث وضعت في كأس لها ألوان وأشكال، وضعت في أواني من أفخر وأغلى الأنواع، خبيثة في أصلها، ولكن الحلال هو في أصله طيب. فالإنسان حين تستقر هذه الحقيقة في نفسه تبدأ النفس برحلة القناعة بالحلال الطيب ولو كان بسيطًا أو قليلًا وأن تعاف النفس الكريمة المؤمنة الحرام الخبيث لأنه خبيث مهما اختفلت أشكاله.
وقضية الحديث هنا عن الطعام وطعام أهل الكتاب، المسألة ليست مجرد طعام (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) وحصر القضية في هذا فكثير من المسلمين خاصة حين يسافرون لغرض السياحة أو العمل أو ما شابه يسألون هذا السؤال: هذا حلال؟ هذا حرام؟ هذا أمر طبيعي. لكن القرآن حين نتدبر سنجد أن القرآن يحمّل الإنسان المؤمن رسالة عليه أن يبلغها لكافة أمم الأرض، هذه الرسالة لأجل أن تحدث وتتحقق هناك وسائل وآليات، واحدة من هذه الوسائل قضية الطعام، الطعام لما يكون مباحًا بين هذه الأطراف المختلفة (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) لأجل قضية التبادل، تبادل شيء من العلاقات التي يمكن أن تسمح بإيصال الرسالة التي كُلّفنا بها، رسالة القرآن كيف تصل. فقضية إباحة الطعام وقضية الزواج بالكتابيات في هذه الآيات جاءت في هذا السياق، سياق الرسالة الإنسان المؤمن كما يصوغه ويبنيه القرآن ليس بذلك الإنسان الذي تحركه شهوات ونزوات طارئة عارضة وإنما إنسان مصنوع على تلك المهمة التي خلقه الله عز وجلّ إليها ولها. تفكير الإنسان حتى في حالة الزواج أو إقامة العلاقات الاجتماعية أو روابط العمل أو ما شابه مع الأمم المختلفة محكوم بهذه الغاية العظيمة غاية إيصال الرسالة. فحين يكون للإنسان المؤمن فردًا أو مجموعة هوية خاصة في الطعام، هوية تعبّر عن ذاته وتعبر عن دينه وتعبر عن مبادئه وعن إيمانه وقيمه هذا سيكون أدعى لإيصال رسالة القرآن وهذا للأسف الشديد ما لم يعتني به البعض من المسلمين في كلامهم وفي اهتمامهم في قضية الحلال والحرام في المطعم والمشرب وما شابه وهو محكوم بهذا المقصد ولذلك ربي سبحانه وتعالى قال في نهاية الآية التي تحدثت عن قضية عام الذين أوتوا الكتاب (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ولقائل أن يقول: قضية الإيمان تأتي هنا؟ لماذا؟ قضية إيمانية، الطعام والشراب والزواج والنكاح وكل شيء هو عقد يتعلق بالميثاق الكبير الذي بيننا وبين الله عز وجلّ: ميثاق الإيمان. أعمالنا وجزئيات الحياة اليومية التي نمر بها ومختلف المواقف في السفر وفي الإقامة وفي العمل وفي الزواج وفي الطلاق مرتبطة بهذا الميثاق وعلي أن لا أنسى هذا أبدًا حتى لا أقع في إشكالية الخسارة.
وتدبروا بعد الكلام عن الطعام وقضية الزواج جاء قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) تدبروا، قمت بطهارة الباطن والداخل عقلًا وقلبًا – قضية التقوى كم مرة ذكرت في الآيات الأولى من سورة المائدة قبل الحديث عن الوضوء؟ اغسل قلبك بالتقوى قبل أن تغسل الوجه. الصلاة طهارة، لماذا كل هذا الاهتمام بهذه القضية؟ قضية تنقية، فتصبح عملية الوضوء وغسل الأعضاء بالماء عملية تكميلية لما قد غُسل من أعضاء داخلية. الأعضاء الداخلية التي غُسلت وطهرت من كل الخبائث بأنها ما أكلت إلا الطيب الحلال امتنعت عن الخبيث، نظيفة طاهرة تقية نقية وزادتها التقوى نقاوة وصفاء. فهنا جاء الأمر بالغسل الظاهري للأعضاء بالماء (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) تدبروا هذه المعاني العظيمة! هنا جاء الكلام عن قضية الطهارة. وتدبروا في نهاية الآية قال (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) قاعدة: كل تعاليم الشرع، كل الأحكام في المأكل في المشرب في الزواج في الطهارة كلها ليس فيها حرج ليس الغاية منها أن يوقعك التشريع في حرج، كل أشكال الحرج مرفوعة، لا حرج حسّي ولا معنوي، إذن الذي يريده الله عز وجلّ (يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تدبروا! إذن الممنوعات والحظورات هي ليست لإيقاعي في الحرج ربي حين يمنع عني بعض الأشياء – بحكم ما ذكرناه قبل قليل – تعبر عن هويتي كإنسان مؤمن لدي عقد والتزام مع الله سبحانه وتعالى مع خالقي، إنما هو من تمام النعمة التي ينبغي أن تقابَل بالشكر لا أن أُحرج، لأن بعض المسلمين اليوم حين يذهب إلى مكان قد يُحرج أن يسأل هذا الطعام حلال أو حرام؟ خاصة حين يسافر ويكون في رحلة عمل أو مع شخصيات دبلوماسية ربما قد يخجل أو يشعر بالحرج أن يتأكد من الطعام الذي قدّم إليه هل هو حلال أو حرام والحقيقة أن هذا تعبير عن نفسك عن هويتك عن رسالتك. وقلنا في آيات سورة النساء أن المؤمن في حركته سفرًا، إقامة، رحلة للشرق للغرب هجرة تعلم، هجرة سفر، سياحة، أي شكل من أشكال الضرب في الأرض والسفر لا يخرج عن منهج الله سبحانه وتعالى الذي أنت مطالب به، الذي على قدر تمسكك به تكون عناية الله تعالى بك فالأمر لا يوقع في حرج وإنما يحدد من أنت. الأمر يحدد الرسالة التي عليك أن لا تنساها أبدًا سواء كنت في رحلة سفر أو غير سفر. أنت لأجل أن تحقق ذلك المنهج الذي ارتضاه الله لك.
قال الله تعالى بعدها (نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ) لا تنس ذلك الميثاق حين تكون في سفرة عمل ويكون معك أشخاص من كل الجنسيات والأديان، لا تنس الميثاق، لا تنس أن تأكل إلا حلالًا مباحًا طيبًا ولا تخجل منه لا تشعر بضيق ولا حرج (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) تدبروا التناسب في الآيات وهي تبني فينا وتجدد روح الإيمان فينا، المسألة ما عادت لقمة طعام، لا، ميثاق، شيء أدخله في جوفي مما أنعم الله بي علي ينبغي أن يكون وفق ما أمر (قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) هل تشعر فعلا بالحرج حين تسأل عن مصدر الأشياء التي تتناولها أو تأكلها لأنك لا تريد أن تتميز عن الآخرين أو تشعر أنك مختلف عن الآخرين؟ أنت مختلف عن الآخرين لا بشكلك ولا بلونك ولا بعرقك ولا بهيئتك ولكن بمنهجك وأريدَ لك هنا أن تكون متميزا لا لأجل أن تتعالى على أحد من الناس ولكن لأجل أن تهدي للبشرية وللإنسانية أجمل ما تحتاج إليه: الحلال الطيب فتكون أنت تلك الرسالة المجسّدة في فعلك وسلوكك، في حرصك وشدة عنايتك بأن لا تأكل إلا الحلال ولا ترتضي لنفسك ولا لأبنائك ولا لأسرتك إلا الحلال، هذا الإلتزام لبّ الرسالة الحقيقية في تعاملك مع الناس. للأسف بعض المسلمين اليوم ربما يعتبر أنه نوع من التطور والتقدم والمدنية أن يتميع في الجو الذي يكون فيه خاصة حين يسافر للغرب يذوب وينصهر وهذا الذي لم يرده القرآن أن يحدث في حياتك.
ولذلك قال الله عز وجلّ في الآية وتدبروا التناسب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) وفي سورة النساء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) [النساء: 135] تقوم بهذه القيمة العظيمة ولكن قيامك لله وشهادتك بالقسط كيف تتم وتتحقق دون أن يكون الظاهر والباطن فيك يشهد بها صدقًا وحقً، صدقًا ويقينا. في البداية كان الكلام عن الطهارة في المطعم والمشرب ثم الطهارة والوضوء ثم انتقلت الآيات مباشرة للحديث عن العدالة، لكي تتحقق رسالة العدالة تحتاج إلى نفوس طاهرة نفوس تركت الخبيث الحرام ظاهرا وباطنا هذه النقاوة المتحققة بالتقوى قال عنها مرة أخرى (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) تدبروا في أقل من عشر آيات في سورة المائدة، الأولى قال (يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) وهذه الآية قال (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ) كم مرة بعد مرة في سورة المائدة ذكرت (اتقوا الله)؟! الوفاء بالعقود والمواثيق يحتاج إلى رصيد عالي من التقوى فكانت وصية التقوى مناسبة جدًا لمحور السورة ومقصدها العظيم: الوفاء بالعقود.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿٨﴾ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿٩﴾) تدبروا هذه الآيات الأول من سورة المائدة كيف تبني قيمة الوفاء بالعقود، كيف تحقق التقوى والطهارة، كيف تجعل حرص الإنسان على الحلال والطيب في المأكل والمشرب والزواج، كيف تجعل هذه النواحي الجسدية الحسّية البحتة قائمة على عنصر النقاوة والطهارة والتقوى، المؤمن الذي يبنيه القرآن مؤمن راقي طاهر النفس يتحلى بالطهارة ظاهرًا وباطنًا طهارة حقيقية ليست طهارة مصطنعة ولا صورية، نظافة نقاوة هذا المؤمن هو الذي يكون أهلًا لحمل رسالة الشهادة التي قال عنها القرآن قبل قليل (قَوَّامِينَ لِلَّهِ) كيف يكون الإنسان قوامًا لله؟

تدبر سورة المائدة -. رقية العلواني 2

تدبر سورة المائدة – 2

د. رقية العلواني
تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لا زلنا في تدبرنا لسورة المائدة، سورة العقود، سورة المواثيق، سورة نادى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين أول ما نادى فقال (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ومنذ بداية السورة ومنذ أول آية فيها القرآن العظيم يحدثنا عن طبيعة علاقة يدخل فيها الإنسان مع ربه في عقد، عقد الإيمان، ذلك العقد الذي سيفرض عليه قطعًا أشكالًا وأنواعًا من الالتزامات وقوفًا عند الأوامر تركًا للنواهي والمحارم، اتساقًا مع الكون ومع الطبيعة مع الزمان ومع المكان، يترك أشياء ما كان ليتركها لولا أن الله سبحانه وتعالى نهاه عنها، نهاه عن القيام بها بموجب ذلك العقد، عقد الإيمان الذي يحرّر الإنسان من الخضوع لأيّ منهج سوى منهج الله سبحانه، عقد الإيمان الذي بناء عليه أمر الله عباده المؤمنين بالوفاء بكل العقود بكل الالتزامات مهما كانت طبيعة وأشكال تلك الالتزامات أو تنوع العلاقات بينهم وبين أطراف تلك الالتزامات والعلاقات، الوفاء، الصدق مع الله سبحانه وتعالى الذي يقيم الإنسان على علاقة الإلتزام بالعقود والمواثيق. والله سبحانه وتعالى عرض لنا في سورة المائدة وجاء بنماذج عديدة لأمم، أفراد، شعوب، البعض منها قام بتلك المواثيق حق القيام والبعض منها لم يقم بها، القيام بالمواثيق أو عدم القيام بالمواثيق جاء في سياق عقد الإيمان، جاء في سياق الحديث عن أولئك المؤمنين حين يدخلون في واثيق وعقود مع الله سبحانه وتعالى توجب عليهم التزامات توجب عليهم خضوع لمنهج حياة منهج عبادة منهج في التعامل مع الأفراد والأشياء. والقرآن في عرضه في سورة المائدة لنماذج تلك الأقوام جاء بأول ما جاء في الكلام عن بنود ميثاق لم تخرج عنه أمة من الأمم ميثاق شامل شمل بني إسرائيل شمل الحديث عن النصارى شمل الحديث عن هذه الأمة التي نزل فيها القرآن وأمرت بتبليغه وإيصالخ للبشرية جمعتء. بنود الميثاق واضحة تمامًا، بنو الميثاق ليست بتلك البنود القاسية وليست تلك البنود التي تحدد حركة الإنسان وفق أشياء يعجز عن القيام بها، أبدًا، في حدود طاقته وفي حدود ما وهبه الله سبحانه وتعالى من إمكانيات، وبموجب تلك الإمكانيات والقيام بها يتحقق للعبد وللمجتمع معية الله عز وجلّ. يقول الله عز وجلّ (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴿١٢﴾) تدبروا منذ البداية تعهّد الله سبحانه وتعالى بقوله (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) مع كل الأمم وليس فقط مع بني إسرائيل إن قامت بمقتضيات ذلك العقد وقد يقول قائل ولكن الله مع حلقه مراقبة وجزاء وعدلًا وعطاء وأخذا ومنعًا، تلك المعية العامة الله سبحانه وتعالى مع عباده على نوعين:
المعية الأولى معية لكل الخلق المؤمن والكافر الذي يقوم بمقتصى لميثاق والعهد الذي لا يقوم به، معية بالعطاء فهو يعطي الجميع، يعطي الكافر ويعطي المؤمن، ينفع سبحانه وتعالى، يسبب لهم الأسباب ويرسل لهم الرسل وينزل عليهم الكتب، هذه معية عامة.
ولكن المعية الخاصة التي تعهد الله سبحانه وتعالى بها لعباده المؤمنين معية من نوع آخر معية التأييد معية التوفيق معية النصرة معية الفتح، معية الهداية معية الرزق معية الشعور بالأمن والإيمان، هذه المعية التي حدثنا القرآن عنها في آيات أخرى، تلك المعية التي استشعرها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لصاحبه في الغار (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40] معية التأييد، معية الشعور بأن الله سبحانه وتعالى مع الإنسان المؤمن الذي وفّى له بالعقد حتى ولو وقفت في وجهه كل جنود الأرض، تلك المعية التي لم يستشعر بها بنو إسرائيل كما سنرى بعد قليل، حين حرموا من القيام بذلك الميثاق والعقد، شعروا بالخوف وعدم الأمن والأمان لأنهم سُلبوا من معية الله الخاصة التي لا تكون إلا لعباده المؤمنين، إلا لعباده الواقفين عند بنود ذلك الميثاق، معية خاصة يستشعر بها المؤمن الذي يقوم بمقتضيات ذلك العقد، إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، إيمان بمناهج الرسل، تأييد لرسالاتهم، تأييد لقيمهم، لشرايعهم ولمبادئهم. وكيف يكون التأييد للرسل وتعزيرهم والنصرة والإيمان بمبادئهم إلا من خلال تطبيق تلك القيم التي جاؤوا بها إلا من خلال تنفيذ الشرائع، السير على المنهج الذي جاؤوا به في حياة الإنسان في حياة الأمم في حياة المجتمعات. ولكن على الرغم من محدودية تلك البنود ويُسرها إلى حد كبير فهي ليست بخارجة عن حدود البشر إلا أن بعض تلك الأقوام نقضوا المواثيق فحكى الله سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) نقضوا الميثاق، تجاوزوا تلك البنود، لم يوفوا بتلك العهود ولا المواثيق ربما يكونوا فعلًا قد قاموا بالصلاة لكنهم لم يقيموها حقًا، لم يحققوا القيم التي جاءت في الصلاة لم يحققوا مقاصد الصلاة ولا غاياتها، ربما قاموا بأشكال العبادات لكنه في مواقع الأمر حولوا تلك العبادات إلى مجرد مظاهر لا تحقق القيم ولا المقاصد التي لأجلها شُرِعت ووضِعت، ربما قالوا ظاهرا أنهم ناصروا موسى عليه السلام أو أنهم معه ولكن القلوب لم تكن مع رسالة موسى عليه السلام، الجوارح لم تخضع لرسالته ولم تقم والميثاق الذي جاء به وجاءت به رسالته.
إذن قضية القيام بالميثاق ليست قضية شكلية ليست قضية صورية، القرآن يريد مجتمعات ويريد أفرادا تحقق بنود الميثاق في حياتها وفي واقعها وأما ما خالف ذلك يعتبر مناقضة للميثاق. واللافت للنظر أن القرآن في الآيتين تكلم عن بني إسرائيل وتكلم عن النصارى وجاء بعقوبات دنيوية، عقوبات يلمسها البشر في واقعهم في مجتمعاتهم حين ينقضوا الميثاق حين ينقضوا العهد فيما بينهم وبين الله سبحانه وتعالى قال (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) عقوبات دنيوية ضرب الله سبحانه وتعالى بها تلك المجتمعات، طرد من رحمة الله عز وجلّ، وحين يُطرد المجتمع أو الفرد من رحمة الله عز وجلّ ماذا بقي له بعد ذلك؟ ماذا بقي للإنسان إن طرد من رحمة الله عز وجلّ؟ كيف يعيش؟ كيف يشعر بالسكينة؟ كيف يشعر براحة القلب؟ كيف يشعر بالاستقرار وقد طرد من رحمة خالقه؟! أين يعيش؟ أيّ سماء تظله وأيّ أرض تقلّه إن عاش بعيدًا عن رحمته سبحانه وتعالى وهو شاء أم أبى إنما يتقلب في رحمته سبحانه؟! ولكن هذا الجزاء، هذه العقوبة خاصة وهي تتلاءم تمامًا مع نقضه لعقود الميثاق، مع نقضه لبنود ذلك الميثاق الذي فرضه عليه الإيمان بخالقه سبحانه.
ثم تدبروا: ضربهم أيضًا بقسوة القلب فقال (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) وما ضرب العبد بعقوبة ولا ابتلي ببلاء أشد من قسوة القلب! القلب القاسي الذي يحدثنا القرآن عنه كثيرًا في العديد من سور القرآن كما في سورة البقرة وذكره القرآن بعد الحديث عن شكل من أشكال نقض بني إسرائيل للميثاق. بنو إسرائيل أمرهم الله عز وجلّ في سورة البقرة بالقيام بأمر ما في قضية ذبح البقرة وهو أمر من الله عز وجلّ تلكأوا فيها ما أرادوا أن يخضعوا للأمر الإلهي فضربهم الله بعقوبة قال عنها (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿٧٤﴾ البقرة) القلب القاسي يصبح حين يتلكأ في الأمر الإلهي ويتجاوز الأمر الإلهي أشد قسوة من الحجارة لأن الحجارة لو وجدت فيها وسائل الإدراك لخضعت لخالقها الذي خلق والذي هو أولى بالاتباع وأولى بالخضوع لمنهجه في واقع الحياة ولكن الإنسان الذي لا يخضع في منهجه وفي حياته لأمر الله سبحانه ولا يقف عند مناهيه ولا يسير وفق المنهج ولا وفق العقد ولا وفق الميثاق الذي واثق به خالقه سبحانه يصبح أشد قسورة من تلك الحجارة. وقضية القلب القاسي لماذا يعطيها القرآن العظيم هذا الحيّز الكبير؟ القلب هو محل الانفعال بآيات الكتاب، كل الكتب، الكتب السماوية التي أنزل الله على عباده، أنزل على بني إسرائيل التوراة وعلى النصارى الإنجيل وعلى هذه الأمة وكل الأمم هذا القرآن العظيم، إذا قسى القلب ما عاد محلًا صالحًا لاستقبال آيات الكتاب، لآيات الكتاب تنزل عليه لكنه لا ينتفع بها، لا يتأثر بها، لا تتحرك مشاعره ولا عواطفه لتلك المواعظ الواردة في كتاب الله، كل الكتب. فإذا جمدت تلك المشاعر وتوقفت تلك الأحاسيس عن الانفعال بآيات الكتاب ما عادت الآيات تؤثر بها، عاد يحرّف ويتعامل مع تلك الآيات بمنهج منحرف يأخذ منها ما يتماشى مع مصالحه ويترك منها ويهجر ما لا يتوافق مع أهواء نفسه ولذلك تكلمت سورة المائدة عن الأهواء كثيرًا وتكلمت عن نسيان الحظ من آيات الكتاب كثيرا سواء مع بني إسرائيل أو مع النصارى أو مع الأمة في سياق التحذير من المنهج المنحرف في التعامل مع كتاب الله سبحانه وتعالى، قسوة القلب عقوبة خطيرة جدًا ولذلك إذا وجد الإنسان في نفسه قسوة وما وجد في نفسه انفعالًا مع آيات الكتاب ولا تأثرا بها عليه أن يراجع القلب عليه أن يعود إلى قلبه لأن الأصل في آيات الكتاب أن ينزل على القلب فيتأثر وينفعل به القلب تتغير به المشاعر تتألم تتأثر تنفعل فإذا بذلك الانفعال يتحول إلى خضوع، إلى خنوع إلى استكانة لمنهج الله سبحانه وتعالى في الواقع خضوعًا لأوامر الله سبحانه وتعالى لا يستطيع العبد معه إلا أن يقول سمعنا أطعنا ولكن بني إسرائيل ما قالوا سمعنا وأطعنا وإنما قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم، قالوا سمعنا وعصينا لأن تلك الآيات لما نزلت على القلوب القاسية لم تحرك فيها دواعي الإيمان لم تحرك فيها دواعي الطاعة والاستجابة والانفعال والخضوع لله سبحانه وتعالى والأصل في آيات الكتب أن تنزل على قلوب المؤمنين بها فتحرك فيهم بواعث الإستجابة للأوامر، بواعث الانتهاء عما حرّم الله سبحانه وتعالى قست القلوب! إشكالية خطيرة جدًا ولذلك نحن في تعاملنا مع الكتاب العظيم مع القرآن علينا دومًا أن نتفقد القلوب، نتفقد قلوبنا القلوب بحاجة إلى تفقد بحاجة إلى مراجعة بحاجة إلى عرض على آيات الكتاب، عالج قلبك بالعرض على آيات القرآن العظيم، استمع للقرآن فإذا وجدت ذلك الانفعال، انفعال عاطفي ولكن لا بد لذلك الانفعال العاطفي أن يولد فيك استجابة فإذا ما تولدت فيك الاستجابة ولا صحّ التأثر بآيات الكتاب ولا التحرك أثناء الاستماع والقرآءة لهذه الآيات العظيمة اعلم أنه هناك إشكالية خطيرة في ذلك القلب. والقرآن العظيم في سورة المائدة يطلعنا على بعض أمراض القلوب تلك الأمراض التي تحول بيننا وبين وصول آيات الكتاب إلينا إلى القلوب لتحرك فيها دواعي الاستجابة. النتيجة كانت في بني إسرائيل، حدثت في واقعهم تحريفا لكلام الله عن مواضعه سواء كان تحريفًا حسيًا (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴿٧٩﴾ البقرة) (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) هذه صورة من صور التحريف الحسي أو تحريف معنوي الكتاب يقول له شيء وهو يفعل في واقعه شيئًا آخر كما ستأتي عليه الآيات في سورة المائدة. الآيات تعرض نماذج لتلك المخالفات البشعة التي وقعت في بني إسرائيل، تحريف للكلم عن مواضعه ما كان يحدث لولا أن قلوب القوم قد قست، تجمّدت، تصلّبت، ما عادت آيات الكتاب تؤثر فيها! قضية في غاية الخطورة وعظيمة جدًا لأنها عقوبة عظيمة تتناسب مع ذلك الجُرم الذي وقع في بني إسرائيل جرم نقض الميثاق وتجاوز العقد الإيماني الذي يحدد علاقة الإنسان بربه. نتج عنه شيء طبيعي خيانة مع الناس، خانوا الله سبحانه وتعالى وخانوا رسوله ويخونون كل البشر لأن العبد الذي لا يعرف قيمة الوفاء مع خالقه في العقد الذي بينه وبين خالقه أنّى له أن يعرف الوفاء مع الخلق، مع الرسل، مع الأنبياء؟! خيانة بني إسرائيل كانت خيانة واضحة مع الأنبياء والرسل، قتلوا من قتلوا من الأنبياء، سفكوا الدماء لأن القلب الذي يستسيغ خيانة خالقه ما عاد يعرف حقًا لأحد من خلقه!
ثم تمر الآيات بعرض نموذج آخر لا يقل بشاعة عن ذلك النموذج الأول، النصارى (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴿١٤﴾) بمجرد الدخول في قضية الإيمان هنا يؤخذ الميثاق أخذ منهم الميثاق حين قال عيسى عليه السلام (قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ) [آل عمران: 52] لكن النصرة والإيمان ونصرة الأنبياء ليست مجرد ادعاء وإنما تنفيذ في الواقع، حفاظ على آيات الكتاب، نصرة لقيمه ومبادئه، وقوف عند أوامره، عدم تجاوز لنواهيه، ولكن هؤلاء القوم نسوا حظًا مما ذكروا به فكانت النتيجة والعقوبة (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ضرب، عقوبة شديدة وبعض المفسرين له وقفة جميلة: أغرينا من الغِراء أي ألصقنا بهم العداوة والبغضاء، البغضاء شعور بالكراهية الشديدة أما العداوة فهو ذلك الشعور بالكره الذي يتعدى حدود الكره، لا يقف عند القلب، يتجاوزه ليظهر على الجوارح اعتداءً وظلمًا ونهبًا وسلبًا وأخذًا لحقوق الناس وأموالهم وأعراضهم ونفوسهم.
الحادث بين كل فرق النصارى عبر تاريخها الطويل حروب طاحنة، دماء شحناء، بغضاء، كراهية، عقوبة تتناسب مع جريمة نقض الميثاق مع جريمة عدم النصرة لذلك النبي عيسى عليه السلام على الرغم من التناقض الشديد بدعوى محبته والغلو في محبته وطاعته.
والقرآن في سورة المائدة بعد هذه الآية سيعرض التناقض الواقع في حياة النصارى الذين كانوا يدّعون أنهم يحبون عيسى عليه السلام ولكن حب عيسى عليه السلام لا يعني إلا الالتزام برسالته وتنفيذ منهجه والأخذ بما جاء في ذلك العقد بينهم وبين الله سبحانه وتعالى. كيف الخلاص؟ كيف السبيل لتلك المجتمعات التي نقضت العهد مع خالقها؟ كيف يمكن أن تتخلص من كل تلك العقوبات؟ طرد من رحمة الله، قسوة في القلوب، تحريف للمناهج، عداوة وبغضاء وكلها أمور نحن نشهدها في عالمنا المعاصر البشرية أصبحت تئن تعاني من هذه الأمراض، تعاني من هذه العقوبات، تعاني من منسوب الكراهية والعداوة والبغضاء الشديد، ذلك المنسوب الذي فاق كل التوقعات التي عرفتها البشرية نتيجة طبيعية جدًا لنقض العقود، هذه عقوبات دنيوية ليست عقوبات أخروية، القرآن يحذرنا منها وتدبروا ولا زلنا في بدايات سورة المائدة والسورة تحذّرنا من نقض المواثيق من نقض العقود ولا سبيل للخلاص من تلك العقوبات إلا باتباع هذا المنهج العظيم الذي جاء في كتاب الله. تدبروا (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) القرآن في آياته يخاطب أهل الكتاب، القرآن رسالة عالمية خاطب الله سبحانه وتعالى بها البشرية كل البشرية لم يفرق بين قوم موسى وقوم عيسى، لم يفرّق بين السابق واللاحق لأنها هي الرسالة التي ختم الله بها كل الرسالات السماوية وتدبروا وتذكروا سورة المائدة من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أواخر الوصايا التي وصى الله البشرية بها (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) الرسول r جاء منا، الرسول r لا ينتمي إلى عرق ولا قوم، القضية ليست قضية قومية وليست قضية عرقية كما نظر إليها بنو إسرائيل، الرسالات والرسل والكتب والأنبياء ما جاؤوا لأجل أن يؤججوا أسس الصراعات بين البشر، أبدًا، جاؤوا بعوامل الجمع لا التفرقة، جاؤوا بعوامل المحبة وإرساء المحبة لا العداوة والبغضاء، والدعوة العرقية والدعوة العنصرية لا يمكن أن تؤدي إلا إلى البغضاء وإثارة العداوات بين البشر. كيف الخلاص منها؟ قال تعالى (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) القرآن هو المخلّص لكل ما تعاني منه البشرية اليوم يخلّصكم من العدواة، من البغضاء التي ضُربت بها البشرية وضُرب بها الأقوام حين نقضوا المواثيق.
وتأملوا كيف وصف الله سبحانه وتعالى كتابه الكريم (نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) لا يحتاج إلى بيان (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) هذه ثمرات لاتباع المنهج للسير وفق منهج القرآن والوفاء بعقوده والتزاماته في واقع الحياة، سبل السلام، السلام ذلك الحلم الذي بات يراود البشرية يوما بعد يوم وأصبح أقرب ما يكون إلى الخيال منه إلى الواقع، البشرية باتت اليوم تحلم بشيء اسمه السلام! والقرآن يحدثنا عن السلام فيقول (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ) لا يهدي به البشر، يهدي به الله، الهداية من الله هداية حقيقية تتحقق حين يتعهد الله سبحانه وتعالى ويقول (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) متى؟ حين يتّبع البشر هذا الكتاب العظيم يهدي به الله. وتدبروا (مَنِ اتَّبَعَ) إذن هو الاتباع هو الخضوع للمنهج هو السير وفق ما جاء في هذا الكتاب العظيم، سبل السلام، ثمرات دنيوية، تريد السلام؟ لا يمكن أن يتحقق السلام لا داخليًا ولا خارجيًا ولا عالميًا إلا حين يعود البشر إلى منهج خالقهم، إلا حين يثوبوا إلى رشدهم باتباع هذا المنهج العظيم. (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) قال يُخرجهم، الإنسان لا يخرج بنفسه ولكن الرب سبحانه وتعالى هو الذي يُخرجه وكيف يُخرجه؟ يخرجه حين يلتزم ببنود ذلك العقد والميثاق يخرجه هو من الظمات إلى النور وجاء بالظلمات جمعًا كعادة القرآن في حديثه عن الظلمات: ظلمات الجهل، ظلمات العداوة، ظلمات البغضاء، ظلمات التفرق، ظلمات القسوة، ظلمات الانحراف عن المنهج البشرية عرفت في تاريخها وتعرف في واقعها صنوفًا متنوعة من الظلمات لا صنفًا واحدا، البشرية أصبحت تتخبط في دياجير الظلمات على الرغم من كل أشكال الإضاءة التي أهدتها التكنولوجيا الحديثة للبشرية، كل أشكال الإضاءة لم تخلّص البشرية من دياجير الظلمات التي أصبحت اليوم تتخبط فيها، ظلمات الفقر، ظلمات المعاناة، ظلمات التهجير، ظلمات البؤس، ظلمات الشقاء، هذه الظلمات عقوبات طبيعية جدًا تتناسب مع تلك الجريمة، خالق خلقنا وأعطانا ورزقنا ووهبنا ثم بعد ذلك أعطانا ما تصلح به الحياة وتستقيم به المعيشة ولكننا تنكصنا وما أردنا أن نسير وفق ذلك المنهج الذي أعطى، تخبطنا في دياجير الظلمات، اتبعنا منهجا من هنا ومنهجا من هناكّ من الذي يُخرجنا؟ (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) النور واحد نور القرآن نور الإيمان نور العقد الذي تدخل به مع الله سبحانه وتعالى حياة جديدة حياة تشعرك بذلك النور حياة النور الحقيقي النور الذي يبعدك عن التخبط يبعدك عن الشقاء يبعدك عن كل أشكال العقوبات المختلفة التي جاءت نتيجة لنقض ذلك الميثاق.
ثم بدأت الآيات بإعطاء النموذج الحقيقي لنقض الميثاق (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) كفروا، نقضوا الميثاق، رسالة المسيح عليه السلام جاءت بالتوحيد وما جاءت إلا بالتوحيد والمخالفة لهذا المنهج ونقض الميثاق يكون بالكفر برسالته، الكفر بالتوحيد. ثم تدبروا كيف يخاطب القرآن العظيم هؤلاء الأقوام (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لافت للنظر جدًا أن سورة المائدة من أكثر سور القرآن التي ذكرت فيها هذه الآية (ولله ملك السموات والأرض) الملك المالك الحقيقي فقط هو الذي يملك حق التشريع، هو الذي يملك حق فرض شروط الميثاق لأنه مالك متصرف في ملكه فالله سبحانه وتعالى له ملك السموت والأرض وما بينهما فلمن ولأجل من يمكن أن يكون الخضوع في المنهج والخضوع لأوامر ذلك المنهج في واقع الحياة؟ لمن؟!؟ للمسيح عليه السلام؟ والمسيح إن هو إلا عبد من عباد الله اصطفاه لرسالته فكيف يكون الخضوع والتنكص عن ذلك المنهج وادعاء الألوهية للمسيح عليه السلام من دون الله سبحانه وتعالى؟!
وانتقلت الآيات لعرض نموذج آخر من التخبط نموذج من الانحراف عن ذلك الميثق العظيم، العقد بين الإنسان وربّه (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) قولًا باللسان والإيمان لا يمكن أن يكون قولا باللسان، محبة الله سبحانه وتعالى والدخول مه في علاقة المحبة لا تكون بالقول وإنما تكون بالاتّباع، تكون بتنفيذ العقد، تكون بالمحافظة على كل البنود التي جاءت في كل تلك العقود، تدبروا الربط بين أول آية في السورة (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) والقرآن في سورة المائدة سبحدثنا عن المودّة وسيحدثنا عن محبة الله عز وجلّ المحبة الحقيقية المحبة التي تتولد على قدر ما تكون الاستجابة لذلك العقد والوفاء به وببنوده. (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ادّعاء! والمحبة ليست ادّعاء وتدبروا (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) القرآن يحدثنا عن عذاب دنيوي هنا، لم عذّبكم وضربكم يا بني إسرائيل بقسوة القلب؟ لم عذّبكم بالانحراف عن منهجه وتحريف الكلم عن مواضعه؟ لم عذبكم بالعداوة والبغضاء فيما بينكم؟! لم عذبكم بالتخبط؟ لم جعلكم تعانون كل هذه المعاناة الواضحة في واقع مجتمعاتكم؟ لم؟ المحبة لا يمكن أن يترتب عليها عذاب، إذا أحب الله سبحانه وتعالى عبدًا فتح له من أبواب الرحمة ما لا يعلمه إلا الله أعطاه السلام أعطاه الأمان، أعطاه الرحمة أعطاه الاستقرار ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لصاحبه في الغار وقد جمعت له قريش الجموع قال له (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) تلك المعية التي لا يمكن أبدًا أن يأتي معها الحزن الذي يذهب بلُبّ المسلم وعقله وقلبه، معية حقيقية ليست ادعاء، محبة حقيقية تولد عند المؤمن الشعور بالراحة والاستقرار الشعور الأمن الذي لا يتولد إلا من خلال القيام بالمنهج والعقد. وتدبروا في نهاية الآية وكما ذكرنا سورة المائدة من أكثر سور القرآن التي ذكر فيها قول الله عز وجلّ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) لمن يكون الخضوع للمنهج؟ للواحد الملك أم للعبيد؟! لمن؟!
تدبروا (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٩﴾) القرآن يخاطب بآياته أهل الكتب ويخاطبنا نحن كذلك الذين ينبغي لأن ندرك أن شيئا من الوفاء بالعقد بيننا وبين الله سبحانه وتعالى ينحصر في إيصال رسالة القرآن لأهل الكتاب ولغير أهل الكتاب. ثم جاءنا بنموذج يوضح لنا أكثر عمليًا نقض الميثاق الذي وقع في بني إسرائيل في سياق التحذير من أشكال نقض الميثاق لأن نقض الميثاق والعقود لا يتخذ شكلًا واحدًا وإنما يتخذ أشكالًا متعددة، يمكن الإنسان يحافظ على الصلاة ولكنه لا يؤتي الزكاة، ويمكن أن يؤتي الزكاة ويصوم رمضان ولكنه لا يحافظ على الصلاة، نقض الميثاق له أشكال متنوعة متعددة فالقرآن عرض هنا نموذج من نماذج نقض الميثاق، أمر إلهي أمر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل على لسان موسى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ) ذكّرهم بالنعمة، النبوة نعمة، وجود المنهج في حياة الإنسان نعمة وهي أعظم نعمة تبعده عن التخبط تبعده عن الحيرة تجعل منه إنسانًا يمشي في الحياة على بصيرة على نور لأن الظلمات عقوبة خطيرة جدًا والله سبحانه وتعالى أنعم على عباده المؤمنين بهذا المنهج، أمرهم بأمر ذكّرهم بالنعمة وبناء على تلك النعمة أمرهم بالالتزام بأمر إلهي فقال (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴿٢١﴾) أمر: ادخلوا الأرض المقدسة. العقد الإيماني التزام. أمرهم بدخول الأرض المقدسة فماذا كانت النتيجة؟ فكيف وقفوا من هذا الأمر الإلهي؟ (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا) تدبروا طريقة بين إسرائيل المنحرفة في التعامل مع آيات الكتاب، مع العقد، لم ينظروا إلى الأمر الإلهي ولم يقيموا الأمر الإلهي في نفوسهم، نظروا إلى (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ) علمًا بأن الله سبحانه وتعالى منذ بداية الآيات تعهّد لهم بأن يكون معهم (إني معكم) فما قيمة أن يكون في تلك الأرض المقدسة قومًا جبارين؟! ما قيمة كل البشر ووجود كل أمم الأرض في الأرض المقدسة إذا كان الله سبحانه وتعالى معكم؟! ولكن اللافت للنظر أن بني إسرائيل لم يستشعروا تلك المعيّة لم يدركوا حُرموا من ذلك الإحساس العظيم الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لصاحبه (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) ما شعر به بنو إسرائيل لأنهم نقضوا الميثاق، الشعور بمعية الله سبحانه وتعالى وبتأييده ونصرته وتوفيقه لا يكون إلا لذلك القلب المؤمن الذي صان عقد الإيمان في قلبه أولًا. شعور عظيم شعور يجعل من المؤمن ويخلق في نفس المؤمن قدرة عجيبة لا يمكن أن تقف أمامها ولا كل قوى الأرض، حُرم منها بنو إسرائيل. صحيح أن الكلام عن بني إسرائيل عن قصة حقيقية حدثت في الواقع ولكن الكلام لكل أمم الأرض لكل البشر لكل من ينقص عقد الإيمان مع الله سبحانه وتعالى ماذا يضرك إذا كان الله سبحانه وتعالى معك؟ ما الذي يضره وما الذي ينقصه إذا كان الله سبحانه وتعالى معه؟ وتدبروا فالفارق بين الإنسان والأمة التي تستشعر معية الله سبحانه وتعالى المعية الخاصة معية التأييد والتوفيق لأنها مدركة وواعية أنها قامت بما أمر الله سبحانه وتعالى به في حياتها فاطمأنت لمعيته شعرت أن الله معها وهذا شعور يولد الثبات في نفس الفرد أو في نفس المجتمع والأمة. وتأملوا في تلك الواقعة التي جاء ذكرها في سورة البقرة في قضية مشابهة (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [البقرة: 249] إلى أن جاءت الآيات التي تحكي عن أولئك الذين استشعروا معية الله سبحانه وتعالى تولدت لديهم من خلال التزامهم بأوامره (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) أدركوا معية الله سبحانه وتعالى، المعية التي لا تكون إلا لعباده الذين امتثلوا لأمره، الوفاء بالميثاق القيام بالعقد يولد ذلك الشعور بالمعية. بنو إسرائيل لأنهم يدركون في قرارة أنفسهم في الواقع وفي الحقيقة أنهم نقضوا الميثاق ما وفّوا لله تعالى بالعقد هم يدركون ذلك حقًا، يدركون أن الإيمان ليس ادعاء يدركون أنهم نقضوا الميثاق، ما استشعروا تلك المعية، خافوا من القوم الجبارين في الأرض المقدسة، العبد إذا آمن بالله سبحانه وتعالى أمّنه الله عز وجلّ من كل شيء وإذا ما آمن به سبحانه وتعالى شعر بالخوف من كل شيء ألقى الله في قلبه الخوف من كل شيء، معادلة بسيطة جدا يدركها الإنسان حين يؤمن بالله سبحانه وتعالى بنو إسرائيل حرموا من ذلك الإحساس حرموا من الشعور بمعية الله (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا) خافوا من البشر مثلهم على الرغم من أن الله تعهد بأن يكون معهم ولكنهم ما شعروا بتلك المعية لأنهم لم يوفوا بالعهد والميثاق (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ). وتدبروا في وصول الإنسان إلى مرحلة التكبر والجحود (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا): الاشتراط على الله سبحانه وتعالى! أنت حين توفي بالعقد مع الله سبحانه وتعالى إنما توفي به لنفسك، المستفيد الحقيقي هو البشر الفرد المجتمع الأمة أما الله سبحانه وتعالى لا يغني عنه إيمان البشر ولا وفائهم بالعقد ولا نقضهم ولا عدم نقضهم.
في المقابل يعرض القرآن أنموذجًا آخر أنموذج أدرك الحقيقة التي غابت عن عقول بني إسرائيل (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) أنعم عليهم بالإيمان أنعم عليهم بالوفاء بالعقد استشعروا تلك المعية معية التأييد والنصرة، الإنسان المؤمن هو الذي يغدق الله عز وجلّ عليه هذه النعمة العظيمة. (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) بمجرد الدخول حصلت قضية الغلبة والنصرة وتحقق النصر لأن المسألة لا تتعلق بالعدو الذي أنت تواجهه وإنما المسألة تتعلق بالإنسان في ذاته، في خضوعه لأمر الله سبحانه وتعالى (فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) إذا امتثلتم لأمر الله سبحانه وتعالى تحقق لكم النصر. النصر يتحقق للإمسان في داخله، النصر يتحقق حين يقول الإنسان سمعنا وأطعنا، لا يتحقق في الخارج، المسألة ليست انتصارا في الخارج، العدو الحقيقي إنما هو في الداخل فإذا انتصر الإنسان على هواه وعلى خوفه من البشر، إذا انتصر فعلًا في الداخل وقام ببنود العقد والعقد مع الله سبحانه وتعالى تحقق النصر. وتدبروا (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الإيمان والوفاء بالإيمان يولد عند الإنسان الشعور بالطمأنينة والتوكل على الله ولكن إذا لم يقم بحق الإيمان والعقد به ما تحقق التوكل وما تحققت المعية وشيء طبيعي أن لا تتحقق ذلك الشعور بالثبات والإيمان والاستقرار.
ومع ذلك أصرّ بنو إسرائيل على موقفهم ولم يلتفتوا إلى ذلك المنزع الحقيقي في الإيمان ولا إلى الشعور بالتوكل (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا) تدبروا في كيفية الإصرار والعناد على الكفر ونقض المواثيق (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) أيّ إيمان هذا؟! أيّ إيمان؟ أيّ نقض لذلك العقد وقع في بني إسرائيل؟! الإيمان الذي لا يحرك في قلوب أصحابه حركة وامتثالًا واستجابة لأمر الله هذا ليس بإيمان، الإيمان الذي يولد في نفس صاحبه القعود والخوف والجبن والكسل والرجوع عن تنفيذ أمر الله سبحانه وتعالى هذا ليس بإيمان، هذا ادعاء! ما قيمة أن يقول الإنسان وقد قالها بنو إسرائيل (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) المحبة التي لا تولد في نفس الإنسان استجابة لأمر الله في الواقع أيّ نوع من المحبة هذه؟! هذه ليست محبة (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)! تدبروا كيفية نقض الميثاق! الإيمان الحقيقي، الوفاء بالعقد الحقيقي للإيمان هو ذلك الوفاء الذي يدفع بالمؤمن إلى الاستجابة والطاعة.
موسى عليه السلام قال (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿٢٥﴾) أصبحوا فاسقين، فسقوا حتى لو قالوا عشرات المرات نؤمن بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم لا قيمة لذلك الإيمان، فسقوا خرجوا عن أمر الله وطاعته نقضوا الميثاق فكانت العقوبة (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿٢٦﴾) تدبروا نموذج لنقض الميثاق، نموذج حقيقي واقعي، القرآن يريد منا من خلال ذلك المنهج ومن تلك الواقعة والقصة في بني إسرائيل أن يقدم لنا معنى الطاعة والخضوع للميثاق في الواقع والحياة، الاستجابة، الإيمان الذي يحرك صاحبه ويعطيه الدافعية للقيام بأوامر الله سبحانه وتعالى وتنفيذها في الواقع وعدم الخوف من أيّ شي ومن أيّ أحد إلا من الله سبحانه وتعالى هو الإيمان المطلوب، هو الوفاء الذي جاءت به سورة المائدة العظيمة.

تدبر سورة المائدة -. رقية العلواني3

تدبر سورة المائدة – 3

د. رقية العلواني
تفريغ الأخ الفاضل هيثم العريان لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وقفنا في ‏لقائنا السابق في تدبر سورة المائدة عند تلك الصورة التي وقعت في بني اسرائيل، وهي نموذج يشكل واقعا لنقد ميثاقهم ‏وعقدهم مع الله سبحانه وتعالى، وكانت تلك السورة سورة مُعبّرة ربي عز وجل أمرهم على لسان نبيه موسى عليه ‏السلام أن يدخلوا أرضًا فيها مفسدين ليزيلوا معالم الفساد فيها، على اعتبار أنهم قد دخلوا في عقد الايمان مع الله سبحانه ‏وتعالى، وعقد الايمان يفرض التزامات على الانسان المؤمن، واحدة من أهم تلك الالتزامات أن يكون عنصرًا فاعلاً في ‏ازالة الانحرافات والفساد، أن لا يكون انسانًا سلبيًا يرى الفساد ويرى المفسدين ويرى الظَلَمة ويقف مكتوف الأيدي لا ‏يفعل شيئا.‏ فبنو إسرائيل أًمروا بأن يدخلوا الأرض المقدسة لأجل أن يزيلوا ويسهموا في ازالة تلك المعالم الفاسدة التي جاء بها ‏أولئك الجبارين الذين كانوا يقطنون فيها، ولكن بني إسرائيل لم ينظروا الى ذلك الأمر الرباني ولم ينظروا الى مدى ‏التزامهم بميثاقهم مع الله سبحانه وتعالى، ذلك الميثاق الذي قال الله سبحانه وتعالى عنه في آيات سابقة أنه أخذ منهم ‏الميثاق، فبموجب ذلك الميثاق عليهم أن يقوموا بذلك الالتزام. وبدأ بنو إسرائيل يبررون لأنفسهم ما وقع فيهم من ‏مخالفة لذلك الأمر الالهي بقولهم (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا) نقضوا الميثاق، لم ‏يوفوا بالالتزام بإزالة الفساد، لم يدركوا ان معنى الالتزام أمام الله سبحانه وتعالى أن يكون الانسان فعلًا مستعدًا مدركًا ‏للمخاطر التي يمكن ان يواجها في حياته وفي موقفه، ولكن تلك المخاطر والعقبات لا ينبغي أبدًا أن تقف حاجزًا أمام ‏ازالته لذلك الفساد أمام طاعته واستجابته لذلك الامر الرباني ولذلك ربي قال عن الرجلين (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ‏أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) هنا يظهر حقيقة التوكل على ‏الله سبحانه وتعالى: أن التوكل يدفع بالإنسان المؤمن الى الاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى مهما كانت النتائج، ولكن ‏تلك الاستجابة هي ليست استجابة غير محسوبة لا تنظر في مآلات الفعل، تنظر في مآلات الفعل ولكنها تدرك في ‏نفس الوقت أن الله سبحانه وتعالى لن يتركها تواجه ذك الموقف دون مساندة دون أن يثبتها طالما أنها وفّت بذلك العقد. ‏هذه المعاني بأجمعها لم يتوصل اليها بنو اسرائيل وأصروا على موقفهم الذي كان يشكل أنموذجًا حقيقيًا لنقض العقد، ‏أنموذج التخاذل أنموذج التكاسل أنموذج الانسحاب والانهزامية. الأمر الذي أدّى ودفع بموسى عليه السلام -وهنا نجد ‏في سورة المائدة – هكذا التدبر يعلمنا نماذج من القواعد المختلفة التي يمكن للإنسان أن يربط فيها بين ما يجده ويقرأه في ‏كتاب الله عز وجل وبين ما يجده في واقعه.‏
‏أنموذج موسى عليه السلام مع أخيه هارون (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) أدرك موسى عليه السلام وهنا نجد النموذج لموسى عليه السلام ومعه الأخ.‏
والنموذج التي تقدمه بعد آيات معدودة سورة المائدة أنموذج لأولاد آدم – ابني آدم- وكيف كان التعامل فيما بينهما، هناك ‏اختلاف شاسع بين الأنموذجين وسبب الاختلاف مدى التزام كل طرف بعقد الايمان مع الله سبحانه وتعالى، موسى عليه ‏السلام مع هارون عليه السلام وقفا موقفًا واحدًا، موقف من يلتزم بالعقد والميثاق مع الله سبحانه وتعالى الذي يفرض ‏عليه التزامًا معينًا (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) فكانت العقوبة الالهية لهم في الدنيا ‏المعجّلة عقوبة طبيعية تتناسب تماماً مع طبيعة الجرم الذي اقترفوه، التيه، الاخراج من تلك الأرض، أصبحت محرمة ‏عليهم لأن الانسان الذي لا يدافع عن حق مشروع أمره الله سبحانه وتعالى بالحفاظ عليه وبالقيام بواجبه تجاهه، فربي ‏سبحانه وتعالى يعاقبه بأن يحرمه من ذلك الشيء، وتدبروا معي لأن هذا التدبر هو الذي يعلمنا كيف نواجه المواقف ‏التي نتعرض إليها في حياتنا، أحيانا ممكن أن الانسان يتعرض لعشرات المواقف التي يتهيأ أو يُهيأ له فيها أن الانهزام أو ‏الانسحاب من الموقف حلّ القضية، الحقيقة أن أسلوب الانسحاب والتراجع والتخاذل والانهزامية هذا ليس بأسلوب ‏يريده القرآن ولا يصنعه لا مع فرد ولا مع جماعة.‏
القرآن كتاب يعلم الانسان أن يكون إنساناً فاعلًا في الحياة، إنسانًا إيجابيًا انسانًا له مواقف معينة مع طبيعة الحوادث ‏التي تواجهه، إذا واجه فسادًا لا ينبغي أن ينسحب منه مواجهته مهما كانت المآلات في الأفعال، يخطط، يفهم، يدرك ‏يدرس الموقف من كل الجوانب ولكنه لا ينسحب، فالإنسحابية ليست صفة للمؤمنين أبدا، وسورة المائدة كما سنأتي ‏عليها بعد قليل تعلمنا نماذج من الإقبال والإقدام على الاعمال المختلفة وأداء الالتزامات والوفاء بالعقود مع الله سبحانه ‏وتعالى.‏
ثم مباشرة تنتقل السورة العظيمة سورة المائدة الى تقديم سورة أخرى شكل من أشكال نقض الميثاق، شكل فردي هنا ‏ليس بشكل جماعي، الشكل الجماعي كما سنأتي عليه نماذج لمواقف جماعية كما في بني اسرائيل، ولكن الأنموذج الذي ‏تقدمه الآيات هنا أنموذج وقع في أسرة، وقع بين فردين وقع بين أخوين، والقرآن حين يعرض لذلك الموقف بين أولاد ‏ادم، انما يعلمنا كذلك من جملة الأشياء التي نتعلمها أن الانسان حين ينقض الميثاق أو العقد على المستوى الفردي ‏أو الشخصي، فلا يعني ذلك أبدًا أن ذلك النقض لا يؤثر في بنية المجتمع ولا في صلاحه، بعض الأشخاص يقول – وستأتي ‏الآيات كذلك- أنا حتى لو انسحبت من موقف معين ماذا سأستطيع أن أفعل؟ لن يؤثر ذلك شيئا أنا مجرد شخص ‏مجرد فرد! سورة المائدة ترد على هذه القضية، تؤكد لنا أن الانسان مسؤول عن أفعاله مسؤولية مباشرة، وأن كل ما ‏يفعله من صلاح أو فساد له تأثير مباشر على المجتمع بل على الانسانية، ما يقوم به الانسان من التزام بالعقد مع الله ‏وبالإيمان والتزاماته، أو نقض ذلك العقد عقد الايمان في كلتا الحالتين هنالك أثار جانبية كبيرة جدًا لا يعاني منها ‏الفرد لوحده وإنما يعاني منها المجتمع، ولذلك كان وقف الفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء لا يتجزأ من ‏الالتزام بعقد الايمان مع الله سبحانه وتعالى، تدبروا معي (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ‏الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) موقف ربما يمر به الانسان أحيانًا دون أن ينتبه، قد لا تصل القضايا الى القتل ‏ولكن تصل الى مستويات عالية من الحدّة. أولاد آدم كلاهما أُمر بالتزام معين: تقديم القربان طاعة لله سبحانه وتعالى، ‏والطاعة أو الأمر الالهي لا بد أن يقوم به المؤمن وفق أكثر الأشياء التي يمكن والمستويات التي يمكن أن يقدمها من ‏الإحسان والإتقان، وربي عز وجل قال في سورة الملك وفي سور أخرى (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) فالإنسان مطلوب ‏منه في كل عمل يقدّمه، أن يقدمه لله سبحانه وتعالى صغيرًا كان أو كبيرًا، أن يتحرى جوانب الاحسان فيه إخلاص ‏النية لله سبحانه وتعالى والصدق الذي هو واحد من مقاصد سورة المائدة (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) ليس هناك ‏التزام بمواثيق ووفاء بعقود دون ان يكون هناك صدق، والصدق أول ما يبدأ يبدأ في النيّة وفي القلب ثم يظهر على ‏الأقوال والجوارح والأعمال المختلفة، فهذا الالتزام بالعقد والطاعة والاستجابة للأمر، والأمر الذي حدد ووجه ‏لأولاد أدم عليه السلام كان يقتضي منهما الاخلاص والصدق في النية: التقوى، الأمر الذي يدفع بكل واحد منهما الى ‏يبحث عن أفضل المستويات والإمكانيات في تقديم العمل، هذا قربان فعلى الانسان حين يقدم لله سبحانه وتعالى هذا ‏القربان أو الأضحية أو ما شابه عليه أن يبحث عن أفضل الأشياء، وكذلك الأمر في الزكاة وكذلك في الصدقة (لَنْ تَنَالُوا ‏الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) هناك درجات في الانفاق، صحيح ربي سبحانه وتعالى ما أراد أن يكلف الانسان بشيء إلا ‏في حدود إمكانياته وطاقته، فينفق من أوسط ماله حتى لا يصبح هناك نوع من أنواع الضرر، ولكن الايمان درجات ومنازل ‏ومراتب والأعمال مراتب، فإذا ما حاول الانسان أن ينفق من أفضل ما عنده أفضل ممتلكاته أفضل شيء من أمواله، قطعًا هذه الدرجة لا يمكن أن تتساوى مع درجة أخرى أو تتكافئ من إنسان يبحث عن أقل شيء لأجل أن ينفقه، أقل ‏المستويات، الفرق شاسع بينهما! ولذلك في سورة الحج ربي سبحانه وتعالى وقف بنا عند هذه القضية (يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) ‏الأضاحي القرابين الصدقات الطاعات ربي سبحانه وتعالى لا يصله منها شيء، هو الخالق الغني الحميد، نحن الفقراء الى ‏رحمته وقبول أعمالنا منه سبحانه أن نصل الى مرحلة القبول، هنا علينا أن نتحرى التقوى في الأعمال، ‏وتحري التقوى يقتضي منا الصدق والاخلاص وتقديم الأفضل في كل ما نمتلك.‏
هذه المعادلة البسيطة ما حدثت بين أولاد آدم واحد منهما لم يقدم أفضل ما عنده والآخر تحرى الأفضل فقدمه فكانت ‏النتيجة أن الله عز وجل تقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ذلك القربان. الطرف الذي لم يتقبل منه لم ينظر الى ‏الإشكالية التي حصلت في فعله لم يرجع الى نفسه لم يراجع نفسه وحساباته المختلفة فيتوصل من خلال تلك المراجعة ‏أنه قد أخطأ، والواجب من الإنسان حين يخطئ أن يتراجع ويتوب ويصحح الخطأ حتى تقبل منه التوبة، فعوضًا عن أن ‏يتراجع ويتوب ويستغفر لذنبه ويبحث في موطن الخلل الذي جعل ذلك القربان غير مقبول عند الله سبحانه وتعالى، ‏ترك كل هذا ونظر الى أخيه فقال (لَأَقْتُلَنَّكَ)‏. وهذه قضية خطيرة جدًا تحدث في بعض الأحيان بين الناس في التنافس في مجالات العمل والأسرة والمجتمع ‏والمجالات المختلفة. الانسان حين يرى شخصًا أفضل منه في أي مجال أو في أي ناحية من نواحي الحياة المطلوب منه لا أن ‏يتوجه اليه بالحسد والرغبة في إسقاط ذلك الانسان والتوهم أنه يمكن أن يرتقي من خلال إسقاطه، بل عليه أن يتوجه ‏الى نقاط الضعف في عمله ونقاط القوة في عمل الآخر فيستفيد منها، وهنا تأتي القضية التي دعت اليها سورة المائدة ‏في أوائل السورة حين أمرنا الله سبحانه وتعالى بقوله (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) تشكيل فريق ‏عمل. وتدبروا معي نحن قلنا هنالك نماذج مختلفة للأخوّة، موسى وهارون عليهما السلام، وأولاد أدم، موسى وهارون ‏جمع بينهما الحق والعقد، عقد الإيمان والوفاء به ولذلك اجتمعا على أي شيء؟؟ على التعاون والإيمان والبر بالمعروف ‏والنهي عن المنكر، بينما أولاد آدم حين نقض واحد منهما العقد كان السبيل والتفرق والتمزق والصراع الموهوم المفتعل، ‏صراع شيء يفتعله الانسان هو غير موجود في واقع الأمر، ولكن يصور للإنسان أو يهيأ له أنه سيفوز من خلال ‏صراعه مع الآخر، الآخر الذي نجح في عمل لم ينجح هو فيه، هو فشل في ذلك القربان، فشل في الامتحان، فعوضًا ان ‏يتعاون مع أخيه لإيجاد مواطن الخلل فيتعاون معه على البر والتقوى ولا يتعاون بطبيعة الحال على الإثم والعدوان، ‏تصور أن قتل والتخلص من الطرف الآخر -من أخيه- سيحل الإشكالية تماماً، وهي قضية ندرك تمام خطورتها ليس ‏فقط على الفرد كما جاء في هذه القصة وإنما خطورتها على المجتمع بأسره وعلى الأسرة، وهذه القضية الخطيرة نبهنا ‏القرآن إليها كذلك في سورة يوسف، تدبر القرآن يعلمنا كيفية الربط بين القصص وبين الآيات وبين الأحداث وبين ‏السور المختلفة. سورة يوسف في قصة يوسف عليه السلام مع أخوته الموقف مشابه، الأخوة تصوروا أن إزاحة ‏يوسف عليه السلام من الطريق سيجعل الأمور أسهل الى محبة والى طريق قلب أبيهم من أن يتعاونوا مع يوسف على أمر ‏معين! وهذه نقطة خطيرة جدًا نقطة عانى منها هنا ابن آدم (قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) أتخلص منك. وللأسف الشديد ونحن نتعلم من ‏تدبرنا لكتاب الله سبحانه عدد مهول من المشاريع الناجحة اجتماعية وسياسية واقتصادية وتربوية سقطت وحطّمت ‏من جذورها بسبب هذه القضية، القضية الخطيرة أن الإنسان يتوهم أن إزاحة الطرف الناجح من طريقه سيحقق له ‏نجاحًا أو فوزًا أو انتصارًا، وهذا خطأ بالمئة مئة هذا لا يحقق الا مزيد من الفشل، عشرات مئات من المشاريع ومن ‏القضايا المؤسسية في مجتمعاتنا وبلداننا تسقط بسبب عدم القدرة على التعاون وعدم القدرة على تشكيل فريق عمل، ‏والقرآن في هذه السورة العظيمة وفي سورة يوسف ينبه الى أهمية تشكيل فرق العمل (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا ‏عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) لماذا؟ التعاون على البر والتقوى ينجح المشاريع، ينجح قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‏ينجح محاصرة الفساد والمفسدين وإقامة العدل والخير والإصلاح ولا يأتي المجتمع والفرد إلا بكل خير، التكاتف، ‏التعاون تدبروا في واقعنا في عشرات المشاريع المختلفة التي أزاح رؤوس أو مدراء أو أشخاص أصحابهم الناجحين ‏من طريقهم عوضًا عن أن يتعاونوا معهم خشية أن يأتي ذلك الطرف الناجح فيحل محله أو يأخذ مكانه أو يستولي على ‏منصبه، وبذلك تضيع المؤسسة ويضيع المشروع وتنتهي القضية بأسرها لأجل ذلك التنافس، التنافس غير المشروع ‏المذموم، القرآن يقدم لنا مصطلحًا للتنافس المشروع (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) ولكن التنافس الشريف المحمود الذي ‏يدفع الى التعاون على البر والتقوى ولا يدفع الى الصراع ولا إلى الخصام ولا إلى الشقاق ولا إلى شق الصف والوحدة وبالتالي القضاء ‏على الطرف الأخر، لا، هذا ليس بتنافس شريف لا يؤدي إلا الى الخراب الذي ويقع في قصة ابني آدم. في المقابل ‏الطرف الثاني ماذا قال له؟؟ (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) لماذا؟ (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) ‏تدبروا معي عقد الايمان كيف يفرض على الانسان المؤمن التزامات (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) أنت تواجهني ‏بالصراع والقتل وهذه التصفية ولكني لن أفعل مثل فعلك لماذا؟ لأن الايمان يفرض علي التزامات مختلفة، هنا القضية ‏ليست قضية انهزامية هنا ليست قضية صراع تدبروا معي هو قال (ئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي) ليس هناك بعد قضية ‏دفاع عن النفس هو لم يكن ابن آدم إنسانًا انهزاميًا أو منسحبًا، لا، ولكن هو حاول كل جهده كل ما يستطيع أن يقوم به ‏لأجل أن يتخلص من لحظة الصراع أو النزاع مع أخيه، الاقتتال، لا يصح للإنسان ان يتقاتل مع أخيه أبدًا فقال هذه ‏المقولة العظيمة (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) أخاف أن أحدث نزاع واقتتال لمجرد أنك أنت لديك تلك الرغبة، ووقف ‏ذلك الموقف الذي حاول من خلاله أن يثني الأخ عن عزمه على القتل (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ‏النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ). ولكن قضية نقض العقد والحسد الذي كان قد سيطر على نفسية أخيه حالت هنا أن يثني الأخ عن ‏القيام بعملية القتل (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) تدبروا معي التصفية للطرف الآخر الناجح لا يمكن ‏أن تأتي على الفرد بصلاح، خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين!. وتدبروا معي كل أشكال التنافسات غير ‏المشروعة المنافسات في واقعنا في أسرنا في مؤسساتنا لا تأتي بخير على أصحابها، الحل هو التعاون، تدبروا معي في ‏الآية (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الآية التي بعدها (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) خسارة وندم، والندم يقابله خطوة كان لا بد لابن آدم ‏أن يقوم بها، الابن القاتل بدل أن يفكر بعملية القتل والتصفية: التوبة قبل فوات الأوان تصحيح الخطأ، الندم بعد أن ‏يحدث الجرم ويفوت الأوان لأن التوبة لها أوان ووقت، ولذلك أمرنا أن نبادر بالتوبة وتصحيح الأخطاء طالما أن ‏أنفاس الحياة تدخل وتخرج – وهذه نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى – علينا أن نبادر بالتوبة وتصحيح الأخطاء كلها ‏، أخطاء فردية أو مجتمعية أو على مستوى المؤسسي -كل الأخطاء- بادر بالتوبة، التوبة ليست مجرد تصحيح للعلاقة ‏بينك وبين الله سبحانه وتعالى بل هذا جزء والجزء الآخر ما يتعلق بنفسك وحقوق الأخرين تصحيح تغيير المسار، وهذا ما ‏فشل به ابن آدم فكانت النتيجة خسارة وندم، وهي عاقبة واضحة لكل إنسان ينقض الميثاق مع الله سبحانه وتعالى. ‏وتدبروا معي قلنا في بداية تدبرنا لقصة ابني آدم، الخطأ الفردي يعود فيه الإنسان بالندامة والخسارة على نفسه وأسرته ‏ومجتمعه والانسانية بأسرها، نحن في سفينة واحدة كما شبهها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث، سفينة ‏المجتمع وسفينة الإنسانية وسفينة العالم، أخطاؤنا وسلبياتنا وسوء تصرفاتنا في بعض الأحيان إنما هي خروق في ‏تلك السفينة، خروق نحدثها وكل خرق في تلك السفينة هو قطعًا يصب في عملية إغراقها عاجلًا أو آجلًا، المطلوب ‏منا في حياتنا أن نسد تلك الخروق أن نقوم بعملية الإصلاح.‏
تدبروا معي الآية التي تليها بعد قصة أولاد آدم (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) -تدبروا معي-(أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ ‏أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) الذي يقتل نفسًا كأنما يقتل الناس جميعًا، كل البشرية (ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ ‏جَمِيعًا) لماذا يا رب؟ تدبروا معي في الآية، آية سورة المائدة عرضت لنا أشكالًا من نقض المواثيق والعقود، وأعظم عقد ‏بدأت به في بدايتها عقد الدين، عقد الايمان. ثم جاءت هذه القصة لتبين أن الحفاظ على النفس يأتي بالمرتبة التي تليها، ‏حفاظ على الدين، على الايمان ثم الحفاظ على النفس البشرية. فإذا إنسان قتل إنسانًا نفسًا واحدة فكأنما قتل الناس جميعا ، لأن المسألة ليس مسألة عدد، المسالة هي مسألة اعتداء الإنسان على تلك الروح وحق الحياة الذي وهبه الله لإنسان ‏آخر، فالذي وهب حق الحياة هو فقط سبحانه الذي يحدد كيف يؤخذ ذلك الحق، لا ينبغي لإنسان أن يعتدي عليه أبدا ‏بغير نفس أو فساد في الأرض، وتدبروا في اختيار الكلمة قتل النفس فساد في الأرض، كل قطرة دم تسفك بغير حق ‏فساد في الأرض وفساد في الأرض لا يعاني منه فقط القاتل، أبدًا، يعاني منه جموع البشر وليس فقط القاتل، وقد يتساءل ‏الإنسان في هذا لماذا يعاني منه كل البشر؟؟؟ ربي عز وجل في سورة البقرة – هكذا التدبر يعلمنا الربط- قال (وَلَكُمْ فِي ‏الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) حياة ونحن نعلم بأن القصاص أن يُقتل الانسان المجرم القاتل بسبب قتله لغيره ‏فكيف يكون القصاص هنا حياة؟؟؟ حياة للمجتمع، حياة لعشرات الأرواح البريئة التي ستُحمى من خلال تنفيذ ‏القصاص على المجرم القاتل الذي سفك الدم، ولذلك اليوم البشرية الأغلبية الصامتة على سفك الدماء على الاعتداء على ‏الأرواح البريئة قتل الأطفال قتل الأبرياء قتل النساء قتل الرجال قتل المستضعفين، هذا الصمت العالمي سيدفع ثمنه ‏جموع البشرية أجيال من البشرية لماذا؟ لأن هذا فساد في الأرض لا ينبغي أن يسكت عنه! ما المطلوب؟ المطلوب أن ‏يوقف الفساد وأن يكون الجزاء الرادع لعملية الفساد والقتل وسفك الدماء قوي شديد يتناسب مع ذلك الجرم، جرم ‏الإفساد والاعتداء على البشرية تدبروا معي (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) عظمة التعبير القرآني العظيم في هذه الآية عظيم (أَوْ ‏فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) فما بالك بمن يقتل في كل ساعة عشرات وربما مئات أمام صمت مطبق يكاد ‏يقترب من حد الموت أكثر منه الى حد الصمت؟؟! تدبروا معي في نهاية الآية قال (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ) البينات ‏والكتب والرسالات والشرائع التي جاءت تؤكد هذه الحقيقة، والحقيقة هذه في حرمة القتل قتل النفس البشرية لا تختلف ‏بين شريعة موسى وشريعة محمد عليهم السلام ولا شريعة عيسى، كل الأنبياء جاءوا بهذه الشريعة: تحريم قتل النفس ‏والاعتداء عليها. تدبروا معي ثم قال (ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) وتدبروا التناسب والترابط بين الآيات ‏قال (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا ‏مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) هذه الآية آية حد الحرابة لماذا جاءت هنا؟ – ولذلك تسمى ‏الحرابة جزاء الذين يحاربون الله ورسوله – السؤال الذي يطرح نفسه على المتدبر هنا كيف يحارب الانسان الله ورسوله؟ ‏هل يستطيع أحد أن يحارب بالله ورسوله؟!! كيف تكون محاربة الله ورسوله؟؟ تكون من خلال محاربة المنهج ومنازلته، ‏محاربة القيم والمبادئ التي جاء بها الرسل والأنبياء ربي عز وجل شرّع، أمر، قال منذ بداية السور ة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ‏النفس البشرية حرمة النفس والحفاظ عليها هذا عقد بين الله وبين خلقه عليهم جميعًا أن يوفوا به بصيانته والحفاظ عليه والأخذ بقوة على كل من تطوع له نفسه أن يعتدي على تلك النفس البشرية ولذلك قال (يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ‏الْأَرْضِ فَسَادًا) منازلة القيم ونقض المواثيق والعقود والاعتداء على النفس البشرية هو مصب ومحط وبدايات الفساد في ‏الأرض، هو البدايات مع الدين عقد الايمان بيننا وبين الله عز وجل وشكل من أشكاله وخطواته المتتابعة قضية قتل ‏النفوس قتل النفس البشرية والاعتداء عليها. وقد يسأل سائل ولكن العقوبة شديدة ! أكيد، هذه العقوبة شديدة (يُقَتَّلُوا أَوْ ‏يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ) عقوبة شديدة تتناسب تمامًا مع طبيعة الجُرم الذي أحدثوه مع طبيعة الخرق ‏الواسع الذي أحدثوه في اغراق سفينة البشرية والمجتمع، الفساد حيت ينتشر وحين ترخص الدماء تصبح الدماء ‏رخيصة فما الذي يعيد الأمور الى نصابها بعد ذلك؟! حين يعتاد الناس على رؤية الدماء المسفوكة في الأرض دماء ‏البشر ما الذي يحيي بعد ذلك النفوس؟ هذا خرق لكل المعالم الانسانية والقيم والمبادئ التي جاءت بها كل الديانات ‏والشرائع، ولذلك جاء القرآن عظيما في إعجازه في هذه الآية (يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) بمحاربتهم ومنازلة رسالته ‏ومنهجه وأوامره وتشريعاته بتحريم قتل النفس البشرية والاعتداء عليها، المطلوب ايقاف الفساد والمفسدين وهذا عقد ‏جديد يفرض على بقية أفراد المجتمع أفراد المجتمع الانساني الأسرة الانسانية الكبيرة، أنا لدي عدد من المفسدين عدد ‏ممكن أن يكون محدودًا خمسة، عشرة، مئة، ألف، آلآف ولكن الاشكالية الخطيرة حين يترك هؤلاء المفسدون بالاستمرار ‏في افسادهم في الأرض، اليوم نحن ننظر الى البشرية هل نتوقع أن معظم نفوس العالم البشر اليوم يقبلون بسفك الدماء ‏البريئة؟! أبدًا! شعوب العالم أفراد العالم نحن وأنا وأنتم والناس أغلب الناس أيرضون بسفك الدماء؟ أيعجبهم مناظر تلك ‏الأجساد والأشلاء المقطعة التي يرونها على شاشات التلفزة ليل نهار؟ أبدًا! أبدًا! إذن من الذي يحصل؟ الذي يحصل أن ‏القلة المفسدة في الأرض التي تعيث في الأرض فسادًا ما أوقفت عند حدها، وهذا هو يأمر به القران. هذا عقد جديد ‏التزام جديد أن يكون المجتمع الانساني على قدر المسؤولية، المجتمع العالمي على قدر الشعور بالمسؤولية فيوقف ‏الفساد والمفسدين، هذه مسؤولية الجميع فاذا فشل فيها الناس كانت العقوبة عقوبة عامة كما سنأتي عليها. والعقوبة ليس ‏بالضرورة فقط قضية قتل، لا، عقوبة المعاناة، المعاناة من شرور المفسدين، العالم اليوم كل العالم في الشرق وفي الغرب ‏يعاني من الفساد والمفسدين، يعاني من أولئك الذين يقتلون ويسفكون ويهجّرون ويقطّعون، ولكن جزء من أسباب تلك ‏المعاناة هو ذلك الصمت، تلك السلبية البشعة التي لا ينبغي للإنسان المؤمن الذي يدخل في عقد مع مع الله سبحانه وتعالى أن ‏يقوم بها، كسلبية بني إسرائيل التي أخبرنا بها القران في السورة قبل قليل (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ) إذن لن ندخل ما داموا ‏فيها، هذا كلام سلبي، موقف سلبي لا يتناسب مع الايمان، لا يتناسب مع التزام الإنسان بإيمانه أمام الله سبحانه وتعالى.
تدبروا معي في ذلك الترابط العجيب بين الآيات (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) باب التوبة مفتوح باب التوبة الذي لا يغلق طالما أن ‏هناك أنفاس في الحياة، باب التوبة الذي شرع وفتح أيضًا لأجل إنقاذ المجتمع وإنقاذ الانسانية من نار ‏المفسدين في الأرض، الإنسان إذا يئس من رحمة الله عاث وزاد فسادًا وإفسادًا في الأرض، فربي عز وجل رحمة ‏بنفس هذا الإنسان ورحمة بالمجتمع فتح باب التوبة، اقبلوا التوبة من الضالين، افتحوا لهم أبواب الرجوع والتراجع المواقف ‏السلبية الفظيعة لأجل أي شيء؟ لأجل انقاذ ما تبقى ما يمكن أن ينقذ. ولكن تدبروا معي في الآية التي بعدها قال (يَا أَيُّهَا ‏الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) اتقوا الله ما العلاقة بين الكلام قبل قليل عن الفساد ‏والتقوى وابتغوا اليه الوسيلة؟؟ أعظم طريق ووسيلة للتقرب الى الله عز وجل أن يكون الإنسان الصالح المؤمن عنصرًا ‏فاعلا إيجابيا في ايقاف الفساد والمفسدين بكل ما أوتي من إمكانيات ومن قوة بحسب الإمكانيات التي بين يديه حتى ولو ‏كانت تلك الامكانيات ممكن أن تكون في مستوى أن يرى شيئا في قارعة الطريق يؤذي الناس فيقوم بإزالتها. لماذا ‏اماطة الأذى عن الطريق صدقة؟ لأنها عملية، خطوة في وقف شكل من أشكال الفساد، رمي النفايات أو القاذورات في ‏قارعة الطريق أو في طريق الناس ذلك المنظر أو المظهر غير الحضاري غير اللائق فساد في حقيقته فحتى لو كان ‏المؤمن يفعل هذا الفعل المحدود هذا يعتبر صدقة وتقرب لله عز وجل، لأن المطلوب مني بموجب العقد والاتفاق بيني وبين الله ‏سبحانه وتعالى أني لا أفسد في الأرض قال (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ ‏نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ذكرت الملائكة من الإفساد في الأرض (يسفك الدماء) رغم أن أشكال الفساد كثيرة متنوعة لا ‏تقف عند حد، ولكن ذكروا سفك الدماء لأنه واحد من أبشع أشكال الفساد، فمساهمة الانسان المؤمن بكلمة بقول، بفعل، ‏بكل ما لديه من إمكانية لأجل أن يوقف الفساد إنما هو ابتغاء الوسيلة في التقرب لله سبحانه وتعالى ولذلك قال (وَجَاهِدُوا فِي ‏سَبِيلِهِ) جهاد بالكلمة جهاد بالتوعية جهاد بالفعل، كل الأشكال المختلفة المهم أن تسهم في إيقاف الفساد المهم أن لا تقف موقفًا ‏سلبًيا المهم أن لا تعتقد ولو في قرارة نفسك أن الحياد أو الموقف الحيادي هو موقف إيجابي، لا عليك ان لا تقف ولا تأخذ موقف الحياد عليك أن تنكر المنكر وأن تعرف المعروف، أنكر المنكر، إنكارك للمنكر مساهمة في إيقافه مساهمة في ‏وقفه عند حده ولكن الصمت والسكوت انما هو بطريقة أو بأخرى إسهام في نشر ذلك المنكر والفساد وهو بلاء أصيبت به البشرية في عصرنا الحاضر بلاء بشع ستعاني منه وتعاني منه هي اليوم الكثير من ‏الأمراض والويلات ولذلك ربي سبحانه وتعالى جاء في الآية وتدبروا معي الترابط (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي ‏الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ما دخل يوم القيامة والافتداء بالكلام عن ‏هذه القضية؟ الترابط والتناسب واضح علينا أن نجاهد في سبيل الحفاظ على ذلك العقد والحفاظ على النفس البشرية ووقف الفساد ‏بكل ما أوتينا من قوة بالكلمة وبالمال وبكل الأشكال، أن نبذل الكثير وأن نبذل كل ما نستطيع أن نبذل لإيقاف الفساد في ‏الأرض, اليوم يقبل منك القليل، الله سبحانه وتعالى يقبل منك اليوم القليل ربي عز وجل يقبل القليل من الصدقة ان ‏صحّت معه النية، المسألة ليست مسألة كمية الجهد الذي تبذله المسألة هو نوعيه الجهد الذي تبذله وفق إمكانياتك في ‏طبيعة الحال بحسب إمكانيات الانسان، ولذلك ربي عز وجل يحدثنا في كتابه كثيرا (مكنّاكم لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ) آيات متنوعة ‏متعددة في كتاب الله عز وجل تتحدث عن الامكانيات ؟ لماذا؟ لأن ما يطلب مني من عمل وما يفترض مني أن أقوم به يتناسب ‏مع أوجه الإمكانيات التي وهبني الله سبحانه وتعالى إياها، فاليوم يقبل منك القليل وغدا يوم القيامة لا يقبل من الإنسان ولو كان له ما في ‏الأرض جميعا ومثله معه لأن الوقت انتهى، الوقت قصير محدود العمل له زمن محدود، ولذلك ابن ادم حين قتل ووقع ‏منه فعل القتل أصبح من النادمين ولكن الندم ما عاد ينفع لأنه فات أوانه، وكذلك هذه القضية وكذلك هذه القضية قضية ‏الفدية اليوم يقبل منك ما تقدمه من عمل ما تقدمه من مال حتى ولو كان قليل وغدا لا يقبل منك لأن الزمن انتهى، وزمن ‏الاختبار والابتلاء انتهى وهذا الربط الواضح بين الدنيا والأخرة مباشرة يوم القيامة القرآن يبين لنا هنا وواضح هذا ‏المعنى، مستفاد منه أن عملية ووقت وزمن الاختبار في الدنيا زمن محدود، ابذل ما تستطيع قبل ان يفوت ‏الأوان لتوقف الفساد والمفسدين.‏
ثم انتقلت الآيات بعد ذلك لشكل اخر من أشكال الفساد، الاعتداء على الأموال الاعتداء على الدين الاعتداء على النفس ‏قال (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ) وأيضًا من النقاط التي تذكر لماذا قطع الأيدي؟! سارق ‏سرق مبلغا بسيطا ربع دينار أو شيء بسيط تقطع اليد، القرآن في تشريعاته والحدود التي يفرضها لا ينظر الى حجم ‏الفعل أو حجم الفاسد ينظر الى ما يترتب عليك، قلنا قبل قليل (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ ‏جَمِيعًا) هو قتل نفس ولكن لأن الاعتداء على النفس وقع وعلى الروح البشرية الإنسانية، الحياة الانسانية التي هي ‏مكرمة مصانة محرّمة في ذاتها فكأنما قتل كل البشرية، ولكن هو على وجه الحقيقة لم يقتل كل البشر هو قتل واحد، ‏السارق نفس القضية المبلغ ممكن ان يكون بسيط محدود اذا لماذا تقطه يده أنه سرق هذا المبلغ البسيط؟! اعتداء على ‏أموال الناس القضية هي قضية الاعتداء نقض العقد، لأن الانسان في عقد مع الله سبحانه وتعالى ان يحافظ على ماله ‏وأموال الآخرين من أن تنتهك، أموال الاخرين لها حرمة كما أنك لا تقبل أن يعتدى على مالك عليك كذلك أن تحافظ في ‏صيانة أموال الناس، أموال الناس محرّمة لا يجوز أن يعتدى عليها فقضية قطع اليد هنا ليس لأجل المبلغ هنا بقدر ما هي ‏قضية الاعتداء على حرمة المال، أموال الناس وأعراض الناس وأنفس الناس مصانة، ومرة أخرى نقول حين لا تطبق ‏هذه الأشياء يا ترى ما الذي سوف يحدث؟ كل الانسانية تعاني من ويلات الاعتداء على الأموال الان في كل يوم لأن ‏الفساد والمفسدين ما أوقفوا عند حدهم ولم يؤخذ على أيديهم من قبل المجتمع الإنساني، كانت النتيجة أن الإنسانية، كل الانسانية تعاني ‏من جرائم هؤلاء حتى لو كان عددهم بسيط أو محدود، إشكالية خطيرة جدًا. وتدبروا معي في الآية قال (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ ‏مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) وأيضًا فتح باب التوبة عند قضية السرقة، التوبة التي تقدمها سورة المائدة هنا توبة ليست فقط توبة لأجل صلاح الفرد توبة شرعت للحفاظ على المجتمع، المجتمع يُسعَد ويتخلص من الآلام حين يكون هناك أصناف من ‏المجرمين التائبين أجرم، أخطأ، تاب، إذن ما المطلوب من المجتمع ؟ المطلوب أن يساعد في إصلاحه ولذلك هناك ‏مؤسسات “إصلاحيات” تعبير جميل جدا لأنه ينبغي أن تكون الاصلاحيات وأن تحاول الاسهام في إصلاح ‏العناصر الفاسدة في المجتمع بكل الطرق، طرق التوعية طرق محاولات التأهيل من جديد إعادة التأهيل النفسي ‏الأخلاقي الديني كل الأشكال، المجتمع بحاجة الى هذه المؤسسات ولذلك قال (مَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ ‏عَلَيْهِ) التوبة مطلوبة وهذا تنبيه واضح في سورة المائدة تشريع هذا للمجتمع أن يقيم مؤسسات لأجل إصلاح المفسدين ‏والمجرمين، لإيقاف حدود الشرور فيهم، المجتمع أنت لا تستطيع أن تتأكد أن المجتمع مئة في المئة أصبح صالحًا، لا بد أن ‏يبقى به عناصر فاسدة مفسدة ما المطلوب من المجتمع؟؟ المطلوب أن يسهم في إصلاح هذه العناصر حتى لا تأتي ‏بالفساد على بقية أفراد المجتمع.‏
ثم قال بعدها (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) تدبروا لماذا التذكير المستمر في سورة المائدة بعد كل مقطع تقريبًا من مقاطع السورة بأن ‏الله له ملك السماوات والأرض؟ ليعطي من جديد ويذكّر الانسان بحق امتلاك التشريع حق الوفاء بالعقد، عقد الايمان والميثاق بينه وبين الله عز وجل، ربي هو المالك المتصرف، والآيات التي جاءت آيات تشريعات من يحق له أن يشرع غير المالك الذي يملك؟! هو الذي له ملك السماوات والأرض فطالما أنه له ملك السماوات والارض هو الذي يحق له أن ‏يشرع سبحانه! وهذا واضح في هذه الآيات. ثم تنتقل الآيات (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ‏آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) تدبروا معي، عاد الحديث في هذا المقطع من السورة الى أولئك الذين يجعلون من عقد الايمان عقد شكلي صوري قولي باللسان، أن يقول الانسان أشهد أن لا إله إلا الله ولكن الأفعال بما فيها القلوب لم يتحقق فيها معنى ‏الإيمان الحقيقي، ما هو معنى الإيمان الحقيقي؟ الالتزام عقد والمطلوب الوفاء بالعقد وبموجب ذلك العقد أن تصبح العلاقة ‏مع الله سبحانه وتعالى ذكر باللسان واطمئنان بالقلب وفعل بالجوارح سلوك، واقع يتغير بناء على ذلك الالتزام وذلك العقد. ثم ‏قدم نموذجًا كذلك من بني اسرائيل (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا) وتدبروا في الآية عظمة القران حتى في عدالة التعبير ليس كل الذين هادوا ولكن “منهم” (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) شكل من ‏أشكال الإيمان الصوري البغيض الشكلي الذي لا يغيّر واقعًا ولا يصلح فسادًا ولا ينكر منكرًا ولا يعرّف معروفًا، ما ‏قيمته؟! (سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين) يدركون أن هذا ليس بالحق يدركون أنك أنت يا محمد عليه الصلاة ‏والسلام ورسالة الإسلام والقرآن حق ومع ذلك هم يناصرون من؟ يناصرون أولئك الذين لا يؤمنون برسالتك من ‏الكفار الذين يناقضون القرآن العظيم رغم علمهم أين الصواب وأين الخطأ أين الكذب وأين الصدق، لكنهم ارتضوا منهجًا ‏مغايرًا فما أغنى عنهم ذلك الإيمان الشكلي الصوري، ولذلك ربي عز وجل قال (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) ‏كيف تكون طهارة القلب؟ بتخليصه من كل أشكال وشوائب الانحرافات والكذب، الازدواجية والنفاق، يؤمن بشيء ‏ويقول شيئا آخر، يدرك أن الحق في جانب معين ولكنه مع ذلك لا يلتزم تجاه ذلك الحق، إشكالية خطيرة جدًا! تدبروا ‏معي في أوصافهم قال (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) مرة ثانية والآية تنبه على خطورة الاستماع للكذب، الكذب للأسف الشديد تلك ‏العملة التي باتت عملة رائجة الآن، هي عملة مزيفة، تدبروا معي سورة المائدة من مقاصدها العظيمة الصدق (هَذَا يَوْمُ ‏يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) ليس هناك وفاء بدون صدق، الصدق يناقض الكذب (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) صفة مذمومة ‏جدا أن يطيل الانسان الاستماع إلى الكذب رغم أنه يعلم بأنه كذب، ونحن في عصرنا وزماننا هذا كم من الأكاذيب نسمعها ‏ونمررها ونلتزم بالصمت حيال تلك الأكاذيب؟! إشكالية خطيرة جدًا جدًا شكل من أشكال الفساد الذي ينبغي أن يوقف، ‏وللأسف الشديد ذكرنا في مرات سابقة أثناء تدبرنا أن الكذب اليوم ما عاد كلمة فردية يقولها فرد لآخر وانتهى ‏الموضوع، الكذب الآن أصبح على إشكاليات لأنه أصبح عاليما، كذبة واضحة ممكن يقولها إنسان فرد فتنتشر كانتشار ‏النار في الهشيم، انتشار عالمي وسائل تواصل المختلفة وهناك من يسمع، هل من يسمع للكذب كذلك يشارك فيه؟ ‏الذي يبدو أنه مشارك فيه لأنه بصمته وسكوته عن ذلك الكذب إنما هو يساهم في الترويج له بطريقة أو أخرى، إذن ما ‏المطلوب؟ المطلوب إيقاف الكذب، توضيح الحق، بيان الحق هذا عقد هذا من الالتزامات المختلفة، الالتزامات أمام الله ‏سبحانه وتعالى أن يكون الإنسان صادقًا مع نفسه صادقًا مع ربه صادقًا مع الاخرين ناشرًا للصدق مؤيدًا له داعيًا له وبعكسه سيكون ‏الكذب، ونتيجة لترويج تلك العملة الزائفة عملة الكذب أصبحوا أكّالون للسحت الحرام وتدبروا معي نحن ذكرنا في بدايات ‏سورة المائدة الله سبحانه وتعالى في موضعين من آياتها وفي مواضع أخرى بطريقة غير مباشرة تكلم عن (أُحِلَّ لَكُمُ ‏الطَّيِّبَاتُ) عن الطعام الأكل الحسي الواضح، وهنا ربي عز وجل يحدثنا عن الطيّبات المعنوية والحرام المعنوي. حرّمت ‏علينا في بداية السورة (الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ) الى آخره وحرم علينا شيء آخر معنوي وهو السحت المال ‏الحرام من الرشوة من الخيانة من الاختلاس من شهادات الزور من الربا من أشكال متنوعة، الذي يلفت النظر وعلينا أن ننتبه إليه أن بعض المسلمين في زماننا البعض منا نتيجة لرواج الازدواجية والإيمان الشكلي المنقوص في حياة الكثيرين منا أصبح يحذر حذرًا شديدًا من الأكل الحرام، لا يأكل إلا ما قد كتب عليه وختم عليه بأنه حلال، علينا أن ‏نحافظ عليه وغالبية المسلمين إن لم نقل الغالبية العظمى من المسلمين في واقع الأمر لا يمكن أن يفكر على سبيل المثال في تناول لحم ‏الخنزير أو الاقتراب منه مجرد اقتراب، في حين أنه رغم هذا الحرص الشديد الذي ينبغي أن يكون من عدم الاقتراب ‏من الحرام أو لحم الخنزير أو ما شابه إلا أنه لا نجد في نفسه ذات الورع عندما يتعلق الأمر بالحرام المعنوي الأكل المعنوي ‏اكل اموال الناس بالباطل الاختلاس رشوة، ممكن أن يكون أكل اموال اليتامى، موارد الحرام كثيرة المال الحرام ولكن ‏هذا الورع لا يشبه هذا! وأحيانا نجد ورعًا شديدًا جدًا في ما يتعلق بالجانب الحسي في الحرص الشديد على تناول الطعام ‏الحلال والتأكد من كل هذا، وهو أمر رائع ينبغي أن نحافظ عليه، يشكّل هوية الانسان المؤمن ولكن في ذات الوقت علينا أن لا ‏يكون لدينا تلك الازدواجية التي حدثتنا سورة المائدة عن بعض أشكالها في جانب الذي أشعر أنه لا يمس أو يؤثر ‏علي بشكل واضح أحرص أشد الحرص على الأكل الحلال، ولكن الجوانب التي يمكن أن يكون لها تأثير على مدخولي ‏المادي لا، ممكن أن لا أوجهها بنفس الطريقة، هذه الازدواجية لا يقبل بها القرآن ولذلك الآيات الوحيدة التي جاءت في ‏الحديث عن هذه القضية (أكالون للسحت) هي في هذه السورة العظيمة سورة المائدة سورة العقود سورة الكلام عن المباحات والأكل الطيب ‏والتحذير من الوقوع في المحرمات فكما تحذر من الوقوع فيها، عليك أن تحذر كذلك من الوقوع في المال الحرام. وربما ‏هناك بعض الأشياء التي قد لا ينتبه إليها بعض الناس، وهي ما يتعلق بساعات العمل ربما تكلمنا عنها في لقاءات ‏سابقة تتعلق بالتدبر في كتاب الله عز وجل العمل أمانة والانسان حين يتقاضى أجرًا معينًا ماديًا مرتبًا تجاه أيّ عمل ‏من الاعمال في مؤسسة في مدرسة في شركة في عمل في القطاع الخاص في العمل العام لا يفرق الأمر لا يختلف، لا ‏بد أن نراعي جانب الأمانة بمعنى أنت تعطى هذا المال أو الأجر المادي مقابل عمل تقوم به عليك أن تقوم به وفق ما ‏يرضى الله عز وجل وفق ما أمر الله عز وجل من أداء الأمانات والقيام بالحقوق والواجبات، ولا يغرّك أن الاخرين ‏من حولك لا يهتمون ولا يعملون ولا يفعلون ويضيعون الوقت، نحن نحاسب أفرادًا، نحاسب على أعمالنا وتصرفاتنا ‏نحن لا نحاسب على تصرفات الآخرين ولا على سلوكياتهم أنت تحاسب على عملك أنت وهذه إشكالية خطيرة، ‏والبعض منا للأسف الشديد لا ينظر إلى هذا المدخول الدخل الذي يأتي إليه في كل شهر الأجر المادي المرتب مقابل هذا ‏العمل لا ينظر إلى أنه إن لم يقم بالعمل، فالمال فيه شيء على الاقل شبهة من حرام، لا ينظر الى هذه القضية بهذا الشكل أبدًا، ‏هناك تساهل شديد في هذا الجانب لا يليق مع جانب التحذير الذي يحذرنا فيه القرآن من الوقوع في هذه الاشكاليات. القرآن يعلمنا أن نتوخى الحذر الحلال يعلمنا الورع يعلمنا أن نبحث عن اللقمة الحلال فنحصل عليها لنا ولمن نعول. وفي نفس الوقت حتى في صدقاتنا ربي عز وجل لا يقبل إلا الطيب فلماذا أُدخل على نفسي وأسرتي وأولادي وأهلي ‏شبهة من المال الحرام بتصرفات لا ينبغي أن أقوم بها؟ فكلمة (أكالون للسحت) كلمة شاملة لمفردات ممكن ان تكون ‏كثيرة جدًا متنوعة تختلف باختلاف الزمن والبيئة، الجامع بينها أنها حرام إما في الحصول عليها إما في طريقة الكسب ‏غير المشروع إما لذاتها إما لأشياء ارتبطت بها علينا أن نحاول أن نتقي لأنفسنا من ذلك الحرام بقدر ما نستطيع. ثم ‏تدبروا معي كيف جاء بعد ذلك (إِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) جاء بعض اليهود الى النبي صلى الله عليه وسلم ‏في المدينة لكي يحكم بينهم وهم عندهم الأحكام كلها كاملة في التوراة ولكن لماذا جاءوا اليك؟ جاؤوا إليه ليس لأجل أن ‏ينفذوا الأوامر والأحكام، جاؤوا اليه لأجل أن يبحثوا عن الرخص والتسهيلات، شيء أسهل، شيء يوافق أهواء النفوس ‏في بعض الأحيان، وهذا أيضا مدلف خطير يحذرنا منه القرآن في سؤالي عن الحكم الشرعي لأي قضية تعرض لي في ‏حياتي علي أنا أن أتأكد من نفسي من نيتي في الصدق، أسأل عن الحكم لأجل الرخص والأسهل والأيسر أم لأجل ما يقربني الى الله أكثر؟ أبحث عن شيء أخرج منه، رخصة لكي أتخلص من الحكم الشرعي أم أبحث عن ما يمكن أن ‏يقربني الى الله سبحانه وتعالى؟ قضية في غاية الأهمية والمطلوب في كل الأحوال سواء كان مع يهود أو مع غيرهم (وَإِنْ حَكَمْتَ ‏فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) القسط، العدل، الميزان، إعطاء كل ذي حق حقه الذي يستحق فعلًا. ثم تدبروا معي في قوله عز وجل ‏ليبين ويؤكد لنا حقيقة أن القرآن العظيم لا ينبغي أن ننظر اليه بنظرة تجزيئية نظرة تجزئ تأخذ منه ما يروق لها وتترك ‏منه ما لا يروق لهواها أو ما لا يوافق هواها أو يخالف مزاجها، لا، (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ ‏يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) الأحكام موجودة لماذا أعرضوا عنها؟ لأنهم يبحثون في الأحكام عن ما يوافق ‏أهواءهم ويتركون ما يخالفها، مزلق خطير جدًا للأسف كذلك هو موجود في زماننا نبحث عن الأشياء التي تطيب لنا ‏نرتاح إليها أما الاشياء التي تخالف هوانا وتخالف الشيء الذي نريد لا تروق لنا لأي سبب من الأسباب، في ذلك ‏الوقت يكون الأمر مختلف تولّي أو إعراض، هذا أمر خطير! نفى صفة الإيمان قال (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) إذن ما الايمان ‏؟الايمان أن يصبح هواك تبعًا لما جاء به الله ورسوله تدبروا معي الإيمان أن يصبح هواي ومزاجي وفق ما جاء به الله ‏سبحانه وتعالى وليس من قبيل تفسي لأن المشرّع هو الله وليس هوى النفس. وتدبروا معي في الآيات وفي الربط ‏يعرض القرآن نماذج وينوع في الصورة مواقف لبني اسرائيل في التعامل مع الكتاب مع التوراة في سياق التحذير من ‏الوقوع في تلك المزالق الخطيرة ونقض المواثيق والعقود والالتزامات مع الله (إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) وتدبروا ‏معي في وصف القرآن: التوراة فيها هدى ونور القرآن العظيم حفظ لتلك الكتب السماوية ما جاء فيها من أحكام قال فيها ‏هدى ونور ولكن ما الذي كان ينبغي أن يحدث؟ (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ ) العلماء الذين يكون لديهم هذا الإلمام بأحكام التوراة عليهم أن يحكموا بها (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) طلب منهم أن ‏يحفظوا لا يحفظوا كلمات وحروف فحسب، لا، يحفظوه في واقعهم، يحفظوه بتطبيق أحكامه والسير على منهجه ‏وجزئياته في حياتهم في تعاملهم في أخلاقهم في أدائهم للأمانات في سلوكهم مع زوجاتهم مع أسرهم مع أقاربهم مع ‏مجتمعهم، الحفاظ على الكتاب لا يكون إلا من خلال ذلك التنفيذ في الواقع والتطبيق. ولذلك القرآن العظيم قال في سورة البقرة (وَمِنْهُمْ ‏أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) فالقرآن والتعامل مع الكتب والشرائع السماوية ينبغي أن يكون وفق ‏العقد والالتزام –استحفظوا على عقد- أن يكون هناك تطبيق وتدبروا معي قال (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) (وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ‏ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ما دخل خشية الناس؟ أعظم عائق يقف بين الإنسان وبين تطبيق منهج الله وشريعته في واقع الحياة الجري وراء أهواء الناس وتلبية رغباتهم وحظوظهم وما يرغبون وما يقولون. ‏ تدبروا إعجاز لفظ القرآني (وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) هل الآيات تباع وتشترى؟ هي ليست للبيع والشراء إذن ‏لماذا القرآن يعبر في أكثر من موضع في آياته بهذه اللفظة: (يشترون بآيات الله ثمنا قليلا)؟ لماذا؟إلأن الانسان حين يبيع ‏هذه القيم والمبادئ في سبيل عرض من عرض الدنياوالزائلة الفانية إنما هو على وجه الحقيقة يبيع ويشتري، حين ‏يخالف أمرا من أوامر الله عز وجل لإرضاء فلان من الناس أو لإرضاء شخص معين قوي أو ضعيف صاحب ‏منصب أو ليس كذلك رئيس أو مرؤوس أو ما شابه هذا ما نسميه إلا أنه يشتري بآيات الله ثمنا قليلا؟! يرضي الناس ‏ولكنه يسخط الله سبحانه وتعالى، هذا بيع وشراء، الدين لا يُتاجر به، وفي الآية تحذير شديد لأولئك الذين حمِّلوا أمانة ‏تعليم الناس العلماء علماء الدين الأحبار الربانيون علماء الدين في كل الأديان والشرائع وفي هذا الدين الاسلام، من أي ‏شيء لا تبيع وتشتري بأحكام الله سبحانه وتعالى بمعنى آخر لا تشهد إلا بالحق، لكن أن تشهد لأجل أن تحصل على ‏منصب أو مال أو بيت أو تحصل على أي شيء من عروض الدنيا الزائفة هذا شراء وبيع (وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) ‏تدبروا عظمة التناسب في كلمات القران! الكلام عن الحكم ثم جاء بخشية الناس وجاء بالشراء بآيات الله ثمنًا قليلا لماذا؟ لأن هذين السببين أعظم الاسباب وراء عدم الحكم بما أنزل الله الخوف من الناس والبيع والشراء بآيات الله سبحانه ‏وتعالى المتاجر بها لأجل عروض الدنيا الزائفة الزائلة الفانية التي لا قيمة لها، ما قيمة أن يبيع الانسان دينه حتى لو حيزت ‏له الدنيا بأسرها؟؟ ما قيمة هذا؟ ما قيمة أن يخسر الانسان دينه؟ ما قيمة أن يخسر التزامه أمام الله عز وجل؟! تدبروا ‏معي في الآيات ولذلك قال وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) لماذا؟ لأن الإيمان عقد ليس كلمة تقال باللسان، إنما ‏تطبيق وتحكيم لأمر الله ومنهجه سواء خالف ما أريد أم لم يخاف سواء جاء وفق ما يرغب ويحبه الناس أو لا يرغبون ‏فيه، أوامر الله وتشريعاته لا تخضع لأهواء وأمزجة الناس، قضية خطيرة جدًا! وتدبروا معي قال (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ ‏النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) من جديد إلى أن قال (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) لماذا هنا بالتحديد؟ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ‏تشريع الحفاظ على هذه القيم التي جاء بها الانبياء وكما ذكرنا هي في التوراة كما هي في الإنجيل كما هي في القرآن ‏هذه القيم الشرائع العظيمة التي جاء بها كل الأنبياء وتدبروا معي (وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ‏التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ‏فِيهِ) إذن هي شرائع جاءت بهذه الأوامر العظيمة الربانية، والتركيز واضح على قضية الحفاظ على النفس البشرية وكأننا ‏حين نقرأ هذه الآيات العظيمة نقرأ الواقع الذي نعيشه اليوم الواقع الذي تعيشه البشرية اليوم سفك الدماء لا يقبل به ولا ‏تقبل به ولا شريعة من الشرائع السماوية، فليحكم العقلاء من أهل كل دين من هذه الأديان من أهل التوراة ومن أهل ‏الانجيل ومن أهل القرآن بحرمة سفك الدماء، ولا يكفي أن يحكموا فقط باللسان عليهم أن يجدوا كل الطرق لأجل أن ‏يطبقوا ذلك الحكم ولذلك قال (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) تأكيد مرة بعد مرة، ظلمٌ أن يؤمن الانسان ‏بإله مالك الملك له ملك السماوات والأرض ولكنه لا ينفذ ما أمر به هذا الإله الخالق البارئ المصور الرحمن الرحيم لا ‏ينفذ ما يؤمر به في واقعه ويجد له مشرّعًا آخر!! ولن تكون هناك شريعة أخرى إلا شريعة الهوى ولذلك جاءت الآيات ‏فتدبروا معي (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ‏عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) تدبروا معي شريعة الهوى، هما شريعتان: إما شريعة الله وإما شريعة الهوى.
ثم قال (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ ‏شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) بعض التفاصيل تختلف ما بين أحكام التوراة وما بين الانجيل وما بين القرآن ولكن أصول الشرائع واحدة وهذا القرآن ‏جاء ليهيمن ويحكم وتختم بها الرسالات السماوية. قال (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) إذن لمَ الاختلاف؟ ليس لأنه هو سبحانه يريد منك أن تختلفوا، لا ؟ ولكن لو ربي أراد ألا يختبركم ويجعل الجميع أمة واحدة (أن لو يشاء اللّه لهدى ‏الناس جميعا) ولكن ربي عز وجل أراد أن يسند ويعطي الانسان القدرة على الاختيار ليختبره فيها لأنه لو لم يعطى حرية ‏الاختيار يختبر ويبتلى في أيّ شيء؟! (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) تدبروا معي هنا السباق الذي تكلمنا ‏عنه تكلمنا قبل آيات في قصة ابني آدم عن قضية الصراع والتنافس وقلنا أن هناك تنافس مذموم وهناك تنافس محمود ‏هنا سباق، سباق بأيّ شيء؟ بالخيرات، فيما آتاكم، بحسب إمكانياتك أنت لا تحاسب إلا على امكانياتك أنت فإذا كانت ‏إمكانياتك محدودة ربي سبحانه وتعالى يحاسبك على قدر هذه الإمكانيات، فربي سبحانه وتعالى لا يحاسب على سبيل ‏المثال الفقير على إنفاقه كما يحاسب المليونير أو الغني الذي يمتلك الاموال الطائلة، لا، حساب مختلف هذا آتاه مال ‏فكيف ينفقه وهذا ربي سبحانه وتعالى قدّر عليه رزقه فكيف يكون التعامل فيما آتاكم؟
ثم تدبروا معي قال (إِلَى اللَّهِ ‏مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) والآيات هنا تحدثنا عن اختلاف في الأديان كذلك اختلاف حاصل يهود ‏نصارى مسلمين ولكن ما المطلوب؟ المطلوب أن يعمل الانسان وفق ما يفرض عليه إيمانه ذلك الالتزام والعمل ‏(فاستبقوا الخيرات) ولكن من الذي سوف ينبأنا بهذه الاختلافات؟ (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). ثم تؤكد الآيات مرة ‏اخرى القرآن ليس فيه تكرار القرآن فيه تأكيد قال (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) مرة أخرى تدبروا معي ‏مرتين الآية التي قبلها قال (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) هذه المرة قال (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ ‏أَهْوَاءَهُمْ) شريعة الهوى، اتباع الهوى أخطر شيء على النفوس البشرية، أخطر شيء على الفرد أن يتبع الإنسان شريعة ‏هواه، هوى نفسه! ابن آدم لو أنه ما اتبع هوى نفسه فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من النادمين، نفسه سولت له ‏زينت له الباطل حسد غيرة تصور توهم أنه إن أزاح الأخ عن الطريق هذا الأخ الصالح سيتقبل الله منه العمل وسيصبح ‏من بعده صالحًا إلى اخره، نفس القضية التي وقع فيها كذلك إخوة يوسف نفس القضية التي يقع فيها الكثير من الذي ‏يحكم بإزاحة الاخرين من الطريق عوضًا عن التعاون على البر والتقوى؟ من؟ هوى النفس. أما شريعة الله سبحانه ‏وتعالى والحكم بما أنزل الله فهو يقتضي أن نتعاون جميعًا على البر والتقوى وأن لا نتعاون على الإثم والعدوان، فارق ‏شاسع!! شريعة الله تعزز التعاون على البر والخير والتقوى وجمع الناس على كلمة واحدة جمع القلوب وإحداث التآلف ‏بينها، بينما شريعة الهوى تفرّق بين القلوب فما نراه من فرقة في مجتمعاتنا وفي العالم وفي أسرنا أحيانًا إنما جاء ذلك من ‏شرعة الهوى ولو حُكّمت وحكّمنا شرع الله في نفوسنا وأسرنا وحياتنا لما تفرقت قلوبنا، القلوب تتفرق حين تحكمها ‏الأهواء تحكم فيها الأهواء ولكنها تجتمع حين تحكم فيها شريعة الله. ثم بعد ذلك ربي عز وجل يقول في الآية (وَإِنَّ كَثِيرًا ‏مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) عجيب! الكثرة، قلنا في مرات سابقة الكثرة لا تعني أبدًا الصحة، الكثرة في القرآن غالبًا ما تأتي في ‏سياق الذم وإن كثيرًا من الناس لفاسقون فلا تتبع الأكثرية المسألة ليست أكثرية وأقلية، المسلمون في مكة كانوا أقلية ‏والأغلبية كانت لكفار قريش من كان على حق ومن كان على باطل؟ الأكثرية أم الأقلية؟! إذن المسألة ليست أكثرية وأقلية ‏لا، المسألة ليست عدد، المسألة مسألة المبدأ، المسألة مسألة الحق، والحق لا يُعرف بكثرة من يتبعه ويسير خلفه، الحق ‏يُعرف بنفسه يعرف بقيمه يُعرف بذاته، ولذلك كل الأنبياء ما كان أتباع الانبياء هم الأكثرية، معظم أتباع الرسل ‏والأنبياء كانوا أقلية ما كانوا أكثرية، الملأ كانوا من غير أتباع الأنبياء غالبًا ولكن ذلك لم يغير من واقع أن الحق حق وأن الباطل باطل، لا يتغير ولا يحل واحدًا منهما مكان الاخر بكثرة أو قلة، الأتباع، قضية خطيرة جدا لأننا ‏وللأسف الشديد في كثير من الأحيان في مجتمعاتنا ننساق وراء أغلبية الناس. لذلك النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أن ‏الانسان لا ينبغي أن يكون إمعة إن أحسن الناس أحسن وان اساؤوا اساء لأنه يمشي وراء الناس، القران لا يريد من ‏الإنسان المؤمن أن يمشي وراء الناس يريد إنسانا يمشي أمام الناس. القرآن أعظم كتاب يصنع الانسان القيادي ‏والانسان القيادي هو من أبرز صفاته ذلك الإنسان لا يسير وراء أهواء الناس ولا وراء ما يقولون ولا وراء ما ‏يرغبون لأنه لديه ميزان دقيق ميزان ما أنزل الله سبحانه وتعالى، ماذا يريد الله منا؟ ما الذي يرضي ربي عز وجل ‏عني وليس الجري وراء ما يرضي الناس ولذلك القرآن العظيم اعتبر ذلك حكم جاهلية (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ ‏مِنَ اللَّهِ حُكْمًا) ولكن لمن؟؟ ( لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) تحولت قضية الإيمان في قلوبهم إلى يقين يعيشونه ويرونه ويشعرون به حكم ‏الجاهلية لماذا الكلام عن الجاهلية؟ الجاهلية كانت تحركهم أهواؤهم، عدد الناس الكثرة بينما القرآن أيضا في سورة ‏البقرة قال (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) المسألة ليست الكثرة والقلة المسألة هي مسألة القضية التي لأجلها ‏يقوم القلة أو الكثرة ولذلك ربي عز وجل في آيات أخرى قال (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا) قضية ‏خطيرة قضية الكثرة والقلة لماذا جاء ذكرها بالذات في هذا السياق في سياق الحديث عن الحكم؟ لأننا في كثير من الأحيان ننجر ‏وننساق وراء الأكثرية ونتأثر يقولها كذلك نتأثر بما يقول الآخرون وأحيانًا نتعرض لإشكالية وتحدي خطير في أنفسنا ‏قد يصل بنا الى حد تغيير المبادئ والقيم والقناعات لأجل إرضاء الأكثرية وإرضاء الناس، لا تكن إمعة! إذن ماذا يكون ‏الإنسان؟ يكون نفسه تلك النفس المؤمنة التي لا يضرها من ضل إذا كانت هي على حق وهداية، تدبروا معي في المعنى، معنى ‏عظيم! ولذلك وفي نفس السياق ربي عز وجل يحدثنا عن قضية الولاية الدخول في ولاءات في شراكات في اتحادات قضية ‏خطيرة جدًا. الإنسان بطبيعته البشرية وخاصة الجماعات البشرية لا يستطيع أن يعيش فردًا بمفرده الحياة الإنسانية لا ‏تستقيم بالفرد فقط إذن كيف تستقيم؟ بالتعاون على البر والتقوى. ولكن ربي عز وجل أراد أن يكون الولاء والاتحاد وهذه ‏الولاءات المختلفة لأنها منبثقة من عقد الإيمان تكون ضمن الإطار الذي حدده القرآن ولذلك قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا ‏الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) قضية الولاية هنا قضية خطيرة لماذا؟ لأنها تتعلق بأحكام الدين بالشرائع، الكلام هنا محدد قضايا ‏محددة الولاء يفرض عليك التزامًا تجاه الطرف الآخر كثير من الناس يخلط بين الآيات، الآيات لا تتحدث عن البر ‏وعن القسط لأن الله سبحانه وتعالى أمر بالعدل وأمر بالقسط وأمر نبيه قبل كم آية صلى الله عليه وسلم فقال (فَاحْكُمْ ‏بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) عن اليهود، ربي عز وجل لا ينهانا عن أن نبر ونقسط إليهم، أبدًا، هذا مطلوب (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ ‏صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) قضية مفروغ منها، إذن الحديث عن أي شيء؟ الحديث عن ‏قضية الولاءات لأن الولاية التزام يفرض على الإنسان أن يخضع في أحكامه وتشريعاته وهو أراد من للمؤمن بأن لا ‏يخضع في تحكيم أحكامه وشرعه إلا لله سبحانه وتعالى تدبروا معي الآية ولذلك قال (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) باتباع أحكام وتشريعات ثم بعد ذلك جاء بصورة المنافقين أصحاب النفسيات الضعيفة أصحاب الوجوه ‏المتعددة (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) نفاق! تدبروا معي (يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) أصحاب القلوب ‏المريضة التي لم يخالجها الإيمان الحقيقي واليقين، التي تعتقد بأن النصر مرهون بدخولها في ولاءات للشرق أو للغرب ‏لهذا أو لذاك، التي لا ترى أن الولاء لله سبحانه وتعالى ينقذها من كل شيء، لا، لذلك قالوا (نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) فيدخل في ولاء مع من يخالف أمر الله وشرع الله سبحانه وتعالى بسبب الخوف على المصالح العاجلة التي جاء القرآن فقال (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ). تدبروا معي الكلام واضح في هذه الآية ‏العظيمة هذه الآيات هذا المقطع في سورة المائدة تتكلم عن شيء لا ينفك عن قضية الحكم، الآيات السابقة تكلمت عن ‏الحكم بما أنزل الله وتحكيم شرع الله ومنهجه في هذه الحياة، ومباشرة في هذا المقطع تكلمت عن الولاء لأنهما لا ينفكان عن بعضهما ‏البعض الولاء ولاؤك لله يفرض عليك أن تحكم شرعه وولاؤك لغيره ودينونتك وخضوعك لغيره سبحانه سيفرض ‏عليك أن تحكم شرائعه ومناهجه وهو ما لا يريده الله سبحانه وتعالى لأنه ازدواجية! تدبروا معي في هذه الآيات ولذلك مباشرة في هذه الآيات قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) خطاب (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ‏الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) تدبروا في الآية القوم الذين في قلوبهم مرض يخشون ‏الناس ولكن الذين يحبون الله ويوالونه قلبًا وقالبًا لا يخافون لومة لائم (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) ‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا) فالولاية ضمن هذا الإطار أصبحت مرتبطة بهذا الإطار أصبحت عقد الولاية ولذلك أصبحت القضية فيه ردّة هنا لماذا؟ لأن الولاء والموالاة تفرض على الإنسان أن يحكّم شريعة ويتبع أوامر وينفذ أوامر من يواليه يريد أن يكون الانسان في ولائه إنما لله سبحانه وتعالى وذلك جاء بقضية المحبة هنا (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) والآية عظيمة ربي عز وجل إذا أحبّ عبدًا حبّب إليه إتباع أمره ونهيه، حبّب اليه اتباع أمره والوقوف عند ‏نواهيه وعدم الاعتداء على ما جاء به في شريعته سبحانه ثم ذلك الوصف العظيم (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ليبيّن هوية الانسان المؤمن.

تدبر سورة المائدة -. رقية العلواني4

تدبر سورة المائدة – 4

د. رقية العلواني
تفريغ الأخت الفاضلة نوال لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كنا قد وقفنا في تدبرنا لسورة المائدة عند قضية الولاية، وقلنا: أن القرآن العظيم في هذه السورة يعطي مسألة الولاية حيزاً ‏كبيراً منها، ذلك أن السورة تتكلم عن العقود وتتكلم عن التحالفات للحفاظ على العقود وأداء الأمانات، والوفاء بها، ‏والدخول في اتحادات آمراً الله سبحانه وتعالى عباده بأن يتعاونوا على البر والتقوى، ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان. فعملية الدخول في تحالف في التعاون على البر والتقوى، وإيقاف الفساد والمفسدين عملية مهمة جداً للمجتمع تحتاج معها أشكالاً من الولاء لا يمكن أن يكون دون هذا الدستور الذي تضعه سورة المائدة، ولذلك ربي عز وجل في هذه الآيات ما ‏يزيد تقريباً على خمس وعشرين إلى ثلاثين آية كلها تتكلم عن قضية الولاء.‏
المؤمن لكي يوفي بعقده مع الله سبحانه وتعالى وميثاقه، وهو ناداه منذ بداية السورة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا ‏بِالْعُقُودِ﴾. يحتاج منذ البداية أن تكون مسألة الولاية عنده محصورة في ولائه لله ولرسوله، وللمؤمنين، بمعنى: أن قضية الولاء التي ‏تستتبعها نوع من أنواع الالتزامات المختلفة، تستلزم خضوع في المنهج، تستلزم اتباع تستلزم محبة، تستلزم شراكات، ‏تستلزم دفاع ورد عدوان في بعض الأحيان عن الفئة أو الجهة التي يواليها الإنسان، كل هذه القضايا طالما أن الإنسان مؤمن ‏كفرد قد دخل في عقد الإيمان مع الله سبحانه وتعالى، فيحتاج أن يكون ولاءه لله وحده لا شريك له، وحين يكون ولاؤه لله ‏سبحانه وتعالى وحده، تبدأ قضية الموازين تتضح أمام عينيه، فهو لا يوالي ولا يدخل في ولاء ولا في تكتل إلا إذا كان ‏ذلك الولاء في منهجه وفي قيمه وفي مبادئه، خاضعاً لأمر الله سبحانه وتعالى ولا يمكن أن يدخل في عقد اتفاقاً أو تحالف ‏يخالف ما جاء به الله سبحانه وتعالى ورسوله، ولذلك الآية جاءت بقوله عز وجل: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ ‏وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾.‏
والولاية التي يتحدث عنها القرآن -كما سبق وأن ذكرنا في المرة السابقة- لا تتعلق بطبيعة التعامل مع اليهود والنصارى، لا ‏تتعلق بمبادئ وقيم العدالة، العدالة في التعامل مع الآخر التي أكدها القرآن في أكثر من موضع، وفي سورة المائدة تحديداً. مطلوب من الإنسان حين يتعامل مع كل الناس، يهود، نصارى، يختلفون معه، يتفقون معه مطلوب منه أن يتعامل وفق ميزان ‏العدل والقسط، وأن يعطي الناس حقوقهم، لكن الآية هنا لا تتحدث عن المعاملة، الآية تتحدث عن الموالاة، لأن الولاء ‏وعملية الولاء والموالاة ليست مجرد مشاعر أيضاً قلبية، بل كما ذكرنا قبل قليل: تستتبعها عمليات أخرى: اتباع في المنهج، سير على ما يريد الآخرون، خضوع لهم بطريقة أو بأخرى، فإذا أنت كنت تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى ‏أعطاك منهجاً واضحاً في كتاب الله، والله عز وجل في كل الآيات التي سبقت حدثنا عن عن طبيعة تعامل هؤلاء مع ‏مناهجهم، وكتبهم، وأخبر عنهم أنهم قد نقضوا الميثاق، وأعطانا نماذج سواء كان من اليهود أو من النصارى، نماذج نقضوا ‏فيها الميثاق، ولذلك ربي عز وجل في الآيات التي قبل حدثنا عن حكم الجاهلية قال: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾. هؤلاء القوم شرح الله عز وجل لنا في بداية الآيات وفي كل الآيات السابقة كيفية نقضهم لميثاقهم، وقضية شرح وبيان ‏وتوضيح نقض الميثاق الذي وقع مع اليهود والنصارى ليس فقط في سياق تحذيرنا من عدم الوقوع في هذه الإشكالية ‏الخطيرة، ولكن في سياق العلاقات. القرآن هنا في سورة المائدة يبني أُسس ما يُعرف بالعلاقات الدولية العلاقات مع الآخر- إن صح التعبير- فعلاقاتي مع الآخر ‏هنا متمثلًا في اليهود والنصارى لا ينبغي أن يدخل فيها قضية الولاء بمعنى الخضوع في هذا المنهج، بمعنى الاتباع، بمعنى ‏السير وراءهم وتحكيم المناهج التي قد جاءوا بها في واقعنا وفي حياتنا، لا يتخذ منهم المناهج، ولا تتخذ منهم الأحكام، ولا ‏تتخذ منهم التشريعات؛ لأن هذه هي طبيعة الولاء تقتضي اتباع، ولذلك نفى منذ البداية فقال: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا ‏تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ لماذا؟ لموقفهم من الميثاق مع الله سبحانه وتعالى.‏
ثم أعطاني بعد ذلك نماذج لأولئك المنافقين أصحاب أنصاف الحلول الذين يعتقدون وهم في كل مجتمع موجودون في كل ‏المجتمعات في كل الأزمنة، لم ينحصر وجود هؤلاء كما جاء في كتاب الله عز وجل فقط في عصر النبوة، لا، أعطاني نموذج ‏لأولئك المنافقين في عصر النبوة، ولكن هم كفئة موجودة، النفاق كمرض يتسلل إلى النفوس أفراد أو جماعات موجود، طالما ‏أن دواعيه موجودة. ما هي الدواعي أو البواعث التي تبعث عليه؟ قال في البداية: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ‏يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾ وما هي حجتهم في تلك المسارعة والبحث وراء الولاء لهؤلاء من اليهود والنصارى؟ أنهم يقولون: ‏‏﴿نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ الخوف. ولذلك القرآن العظيم في هذه الآية أتى على هذه القضية من جذورها، قال: (في ‏قلوبهم مرض) لو كانت قلوبهم سليمة صحيحة تدرك تماماً معنى الميثاق مع الله عز وجل لاستقر فيها أن الذي يأتي بالنصر ‏هو الله سبحانه وتعالى، وأن الذي بيده الملك والأمر من قبل ومن بعد هو الخالق الذي خلق، أما هؤلاء القوم فمهما زادوا ‏قوة مادية أو معنوية، فليس للعاقل المؤمن أبدًا أن يغتر بتلك القوة أو يعتقد أنهم يملكون لأنفسهم أو لغيرهم أي شيء من الضرّ أو النفع، ولذلك قال بعد ذلك حدّثنا عن النداء للمؤمنين قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ‏اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ اعتبر أن قضية الولاية هنا لغير الله ورسوله نوع من أنواع الارتداد والتراجع عن الدين ‏والإيمان وعقد الميثاق، العقد عقد الإيمان وميثاق الإيمان مع الله سبحانه وتعالى، وأعطانا مواصفات لأولئك القوم في حال حدوث عملية الاستبدال هذا فيها وعيد، وعيد واضح جداً لكل أولئك الذين لا يسيرون وفق ما أراد الله سبحانه وتعالى ‏في منهجهم وفي حكمه وفي تشريعاته. ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ والله سبحانه وتعالى لا يعطي ولا يقدم لنا في أي سورة ولا في أي موضع من مواضع الحياة التي تتحدث عن قضية الذل في ‏القرآن، لا يعطينا أي شيء من الإيجابية لهذه الصفة إلا في مواضع محصورة:‏
الموضع الأول في التعامل مع الوالدين: حين قال: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ عند الوالدين لا بأس للإنسان ‏المؤمن أن يكون ذليلاً بين يديهم، بين يدي الوالدين.
ثم بعد ذلك في التعامل مع المؤمنين هو وصفهم فقال: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى ‏الْمُؤْمِنِينَ﴾ الذل ليس بمعناه السلبي، وإنما بمعنى التذلل بمعنى الليونة في التعامل، بمعنى اليسر والتسامح في التعامل معهم ‏إلى الحد الذي يُشعر الإنسان الآخر أو الطرف الآخر بهذه الصفة.‏
أما في التعامل مع الكافرين فالموقف مختلف، لماذا أعزة على الكافرين؟ لأن المطلوب من المؤمن ألا يُظهر لهم أي نوع من ‏أنواع التخاذل أو التواضع أو شيء من أنواع التذلل معهم الذي قد يوهمهم بأن هذا الطرف طرف المؤمن في ضعف. ‏المؤمن حتى إذا كان طبيعة الظروف المحيطة به تفرض عليه شيئا من الضعف فهو لا يظهر هذا الضعف ولا يبديه أبداً؛ لأنه ‏في قرارة نفسه مؤمن بأنه يستمد قوته من الله سبحانه وتعالى، ولذلك أيضاً وصف هؤلاء القوم فقال: ﴿يُجَاهِدُونَ فِي ‏سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾.‏
على العكس تماماً من أولئك الذين يخافون لومة لائم. أولئك الذين يوالون لغير الله، ويدخلون في الولاءات حسب ‏مصالحهم العاجلة، لماذا؟ لأنهم يخافون من هذا وذاك يخافون من الشرق ويخافون من الغرب، يخافون من اللوم ويخافون من ‏كل شيء؛ لأنهم ما عادوا يدركون أن أعظم خوف يجب أن ينصرف هو الخوف من الله سبحانه وتعالى. والإنسان إذا خاف الله عز وجل ربي عز وجل أخاف منه كل شيء، ولكنه إذا خاف من كل شيء، أخافه الله سبحانه ‏وتعالى من كل شيء؛ لأنه لم يخف الله سبحانه، توهم وجود نفع أو ضر من قبل أحد من البشر.‏
ثم قال بعد ذلك وقرر في الآية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا﴾ حصر، كلمة (إنما) تعني الحصر ولايتك ينبغي أن ‏تنصرف لله ولرسوله وللمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، لا تدخل في ولاءات، لماذا؟ لأن أولئك ‏حين تتبع أو تمشي وراءهم بأي شكل من الأشكال إنما هم في واقع الأمر يسيرون وفق منهجٍ إلهي، وفق التشريع الإلهي، ‏وفق تعليمات الله سبحانه وتعالى، وفق حكمه، وليس وفق حكم الهوى، أو حكم الجاهلية. ولذلك قال ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ والحزب هنا وإطلاق هذه التسمية هي ليست قضية شعار، ولا اسم ولا عنوان على توجه معين، لا، هو إقرار للمبدأ الذي ‏جاء في بداية السورة حين وصى الله سبحانه وتعالى عباده فقال: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ ‏وَالْعُدْوَانِ﴾. فالمطلوب من المؤمن أن يدخل في تحالفات لتعزيز البر والتقوى، وليس لتعزيز الإثم والعدوان، ولأجل أن تتعزز هذه القيم ‏‏(البر) كلمة شاملة جامعة لكل أعمال الخير (والتقوى) فلا بد للمنهج أن يكون منبثقاً من أمر الله وتشريعاته، ولذلك ‏حصرها فيها. وبدأت الآيات تشكل وتفسر وتعطينا نماذج تعزز المبدأ والقيمة الأساسية في كل هذه الآيات من السورة ‏قضية الولاية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ ‏أَوْلِيَاءَ﴾ تدبروا معي! الآيات تتحدث عن الولاية ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. لماذا هزواً ولعباً؟ استهزاء الآخرين بدينك وقيمك ومبادئك، والنظر إلى تلك الشخصيات التي أنت تتبعها وتؤمن بها، النبي ‏صلى الله وعليه وآله وسلم وجميع الأنبياء، الرسل والأنبياء ومبادئهم وقيمهم وما جاءوا به من رسالات ومن مناهج. الاستهزاء: هو أسوأ صفة يمكن أن يتحلى بها الإنسان في التعامل مع الآخر، بمعنى آخر السخرية والاستهزاء والتي نهى الله عز ‏وجل عنها بشكل عام بين البشر كتعامل يعني هي في أصلها منهيٌ عنها لذاتها ولذلك ربي في سورة الحجرات قال ﴿لَا ‏يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ السخرية لا ينبغي أن تكون، لماذا؟ لأنها هي شكل من أشكال أدنى درجات التعامل بين البشر مع بعضهم البعض، مطلوب ‏من البشر في تعاملهم مع بعضهم البعض أن يكون هناك قدر من الاحترام فيما بينهم حتى حين يختلفوا، فأنت حتى وإن ‏اختلفت مع غيرك في دين في مبدأ في عقيدة عليك أن تبقي ذلك القدر من الاحترام في التعامل، ولا ينبغي أن تنصرف إلى ‏عملية السخرية والاستهزاء، تناقش، تحاور، تنفتح على الآخر بمعنى تعرض ما لديك وهذا موجود كثير في كتاب الله عز وجل ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ﴾ يا أهل الكتاب، عشرات الآيات في كتاب الله عز وجل دعوة للحوار، دعوة للمناظرة، دعوة لمناقشة الأمور التي نختلف حولها، هذه القضية مطلوبة تماماً، ولكنها لا يمكن أن تتحقق بدون وجود الاحترام للطرف الآخر الذي اختلف معه، لكن إذا فُقد الاحترام، وأصبح بدل عن الاحترام هناك استهزاء هزواً ولعباً، ‏فالقضية انتهت.
وتدبروا معي ﴿لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا﴾ أصعب شيء أن يصبح الدين الذي تؤمن به مصدر لسخرية الآخرين واستهزائهم، ونحن نعرف تماماً في كل الدول خاصة ‏في دولنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية أن السخرية بالرموز التي تحكم، والرموز التي تتصرف، والرموز التي كذا، فعل غير جائز ‏أبداً، غير مقبول، السخرية بالرموز، وفي بعض الدول يعاقب عليها القانون عقوبة قاسية جداً، الاستهزاء والسخرية ولله ‏المثل الأعلى، ما بالك حين تصبح السخرية والاستهزاء، ما بالك حين تصبح السخرية والاستهزاء بدينك ومبادئك وقيمك؟! ‏أو بشخص النبي صلى الله عليه وسلم كما حصل في قضية الرسوم وما شابه الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم؟! ‏قضية في غاية الخطورة، لماذا قضية في غاية الخطورة؟ لأنها تمس ذلك القدر المشترك الذي ينبغي الحفاظ عليه، بين كل الأمم، ‏وكل الشعوب، ولذلك أنا أقول: خسر المسلمون وخسر العالم بأسره بغياب هذه القيم العظيمة والتحالفات حول تلك ‏القيم التي ينبغي لكل العقلاء أن يتفقوا عليها، ويدخلوا في تحالف حقيقي لحمايتها ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ أيّ ‏تحالف؟ تحالف على عدم السخرية والاستهزاء بدين ولا بقيم ولا بمبادئ تتعلق بالآخرين قضية المفروض أن يكون هناك ‏توافق عليها، لا تتعلق بحرية رأي كما ادعى بعض الذين دافعوا عن قضية المجلات أو الجرائد التي نشرت فيها الرسوم ‏المسيئة لشخص النبي الكريم صلى الله وعليه وآله وسلم، هذه قضية لا تتعلق بحرية رأي، هذا قدر مشترك ينبغي للإنسانية ‏أن تحترمه، فنحن كما أننا لا نقبل بأن يتخذ ديننا هزواً ولعباً لا نقبل أن يتخذ كذلك عيسى عليه السلام على سبيل المثال هزواً ولعباً، هناك مشتركات ينبغي الحفاظ عليها، وإذا لم تحافظ عليها البشرية كل البشرية ستفقد الإنسانية تلك القدرة على حماية أي قيمة حقيقية للبشر، لا يبقى لها شيء، ستسقط حتى درجات وقيمة الإنسانية ستسقط من خلال هذا النوع من أنواع السخرية والاستهزاء. وكما ذكرنا القرآن سبق كل مواثيق العالم وقوانين الدنيا، بأن حرّم السخرية والاستهزاء كمبدأ ﴿لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ تدبروا معي! والقضية عامة شاملة تشمل كل أشكال السخرية والاستهزاء، فما بالك ‏حين يكون الاستهزاء بالدين، وبقيمه ومبادئه؟! فلا يمكن أن تدخل مع هؤلاء في تحالفات وتنسى أنهم قد استهزأوا بدينك ‏قيمك ومبادئك ولا تقوم نفسك لأجل أن تدافع عن الحق الذي تؤمن به! ما قيمة إيمان الإنسان إذا لم يكن لديه احترام لذاته أمام هؤلاء الآخرين الذين يستهزئون بدينه وبقيمه، ما قيمة هذا؟! ما قيمة الحق والإيمان الذي تؤمن به إن لم تدافع عنه، إن لم تحميه من السخرية والاستهزاء؟! ولذلك قال ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا﴾ شكل كذلك من الأشكال يستهزئون بكل شعائر دينك، الحج، الصلاة، الصوم، الحجاب، أو اللباس الشرعي، كل ‏الأشياء المختلفة التي تشكل شعائر للدين هو أعطاك نموذج، أعطاك مثال، ولكن هؤلاء القوم يستهزئون بكل شعائر دينك، لا يحترمونها، هنا عليك أن تتوقف ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ‏وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾. تدبروا معي! هذه الآيات العظيمة جاء بعدها الكلام كذلك عن اليهود ‏﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ثم بيّن شيئاً آخر نحن بحاجة إليه ‏اليوم وهو ما ذكرته قبل قليل حين قلنا إن قضية الدخول في تحالفات قضية تحتاج أن يجتمع كل العقلاء من كل الأمم ‏والأديان، العقلاء الحكماء، ليتفقوا فيما بينهم أن هناك قيماً مشتركة إنسانية لا بد أن تحترم منها: احترام الدين، وقيم ‏الآخرين.‏
تدبروا معي! هنا قال ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ الأحبار والربانيون هنا تشكل فئة العقلاء والحكماء والعلماء الذين وصفتهم آيات أخرى قبل ذلك بما استحفظوا من كتاب الله، على اطلاع ومعرفة حقيقية بالدين وبالكتب السماوية استحفظوا من كتاب الله، ومدركين لهذه التعاليم والتشريعات، هؤلاء لا بد أن يكون لهم موقف من الفساد والمفسدين، لا بد أن ينهوا عن الفساد في الأرض، لا بد من النهي عن الفساد ‏في الأرض، ولكن أن يقفوا صامتين أمام وإزاء كل هذا الفساد الذي يحدث فالقضية لن تقف أبداً عند حد! ولذلك كان ‏من الواجب على أولئك العقلاء والربانيون والأحبار والعلماء والرهبان أن يكون لهم موقف واضح إزاء ما حدث من سخرية ومن استهزاء ومن تطاول على شخص النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أنا لا أتكلم هنا عن أفراد، أنا أتكلم عن تجمعات، تحالفات، يكون لها صوت قوي مسموع، ولذلك قال في نهاية الآية ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.
الأولى قال: (يعملون) والثانية (يصنعون) الفساد بكل أشكاله حين لا يجد من يوقفه سيصبح صنعة عند البشر وفي المجتمعات ‏الإنسانية الناس تعتاد عليه، وهذا هو الفرق بين شيء يصنع، وبين عمل، العمل يعمله الإنسان مرة مرتين كذا مرة، ولكن ‏حين يصبح هذا الشيء صنعة له فهو أصبح مهنة، أصبح يزاوله ويزاوله ويديم المزاولة إلى أن أصبحت صنعة له، فقضية قول ‏الإثم، وأكل المال الحرام السحت، أصبحت صنعة لهؤلاء، وذكرنا في آيات قبل ذلك في سورة المائدة وربطناها مع سورة ‏البقرة وغير ذلك من السور قلنا القرآن وصف هؤلاء قال ﴿اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ فكان هنا الحديث عن ‏السحت، أكل المال الحرام، بمعنى آخر المتاجرة بالدين، المتاجرة بالقيم، المتاجرة بالقيم والسكوت عن انتهاكها لأجل تحقيق ‏المصالح الدنيوية المختلفة أو المكاسب المادية المعروفة.‏
تدبروا معي هذا الربط العظيم هذه كل الآيات كأنها تحكي عن الواقع الذي نعيش فيه، وهكذا القرآن. القرآن يعالج واقعًا إنسانيًا، واقعاً إنسانياً غير متوقف على زمن معين غير مرتبط بزمن معين، لماذا ربي عز وجل حدثنا هنا عن قضية ‏اليهود والنصارى؟ لأن القضية ليست قضية مرتبطة بزمن، ومعظم التعاملات نستطيع أن نقول كلها اليوم نحن في تعاملاتنا ‏وفي تعاملاتنا الخارجية والعلاقات الخارجية علاقات الدول والأفراد الخارجية هي مع من؟ هي مع هؤلاء القوم، صحيح ‏القضية لم تعد قضية أو هكذا يظهر أن القضية لا تتعلق بأشياء دينية ولكن القرآن حدد لك الإطار العام الذي يتم التعامل ‏فيه ومن خلاله حتى يكون الإنسان والمجتمعات مدركة لواقع هذا التعامل، ولا تتعامل مع هؤلاء القوم، ومع الآخرين من ‏زاوية أو من ناحية الشعور بالضعف، والاستجداء منهم، الأمر الذي يولد عشرات التنازلات حتى عن القيم والمبادئ والدين الذي تؤمن به، إشكالية في غاية الخطورة! والإنسان حين لا يدافع حتى عن الدين الذي يؤمن هو به، ماذا بقي له؟! ‏ماذا بقي له؟! للأسف الشديد خسرنا كثيراً حين سمحنا للآخرين بطريقة أو بأخرى من خلال ضعفنا ومن خلال عجزنا من ‏خلال تنازلاتنا، خسرنا إنما لم نعالج قضية عدم احترام الآخرين لقيمنا ومبادئنا وديننا، خسرنا ولا زلنا نخسر، لأن هذه ‏القضية جوهرية تماماً.
وتدبروا معي! ربي عز وجل في سورة المائدة أعطاني نموذج واقعي آخر، نموذج سخرية هؤلاء القوم ‏وتقولهم واستهزائهم برب العزة سبحانه وتعالى ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ ‏مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى ‏يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ ليست القضية قضية أنه أصبح مفسدًا وفاسدًا، لا، هو أصبحت صنعته الإفساد في الأرض، والسعي فيها (ويسعون في ‏الأرض فساداً) حرص على الجري والعمل الدؤوب المتواصل في الفساد، نشر الفساد في الأرض، إذاً الآيات تريد أن تحذرنا: هؤلاء الذين يتطاولون على تلك المبادئ والقيم التي جاءت بها الأديان إلى الأمر الذي بلغ بهم الحد أن يقولوا يد الله مغلولة غلت أيديهم، هؤلاء هم الذين ينشرون الفساد في الأرض، وهو حاصل اليوم. هذا ‏الاستهزاء والسخرية والتطاول على القيم والمبادئ والأديان هذا لب الفساد في الأرض والذي قطعاً سيحطم الكيان ‏الإنساني عاجلاً أو أجلًا ولذلك حين جاء به قال (ويسعون في الأرض فساداً) الفساد هو ليس فقط تخريبًا في البيئة، هو ‏ليس فقط اعتداء على الأنفس أو القتل، سورة المائدة أعطتنا أشكالاً من الفساد، أشكال مختلفة، ذكرت قتل النفس على ‏سبيل المثال، وذكرت أن هذا فساد، ذكرت الاعتداء على الأموال، ذكرت الاعتداء على الأعراض، والآن تذكر ‏الاعتداء على الأديان، وهو من أعظم الاعتداءات، الاعتداء على الدين، وعلى قيمة الدين أعظم فساد في الأرض. وهذا -للأسف الشديد- لو تدبرنا في واقعنا اليوم ماذا جرى على البشرية الآن البشرية لنكون واقعيين فعلاً البشرية اليوم تعاني ‏من موجات إلحاد واضحة جداً، من موجات ابتعاد عن الدين شديد، في مختلف دول العالم، وخاصة بين فئة الشباب، ولنا ‏أن نتساءل لو أردنا أن نحلل هذه القضية، هذه لماذا حدثت، ولماذا تحدث، ولماذا للأسف الشديد اليوم تحصل حتى بين ‏بعض المسلمين، الذين ولدوا في بيئات وعوائل وأسر مسلمة مسلمة لأبوين مسلمين، ومع ذلك تجد الشاب أو الشابة ‏ملحد أو بـ(لاديني) أو من هذه الأسماء لها أسباب متعددة، ولكن من أعظم أسبابها هذه القضية الاعتداء على الدين، ‏الاعتداء على قيمة الدين كدين، تجرّ إلى الإلحاد، وهذه قضية في غاية الخطورة؛ لأنها ستجر على الإنسانية ويلات لا يمكن ‏أن يوقفها شيء، ومع ذلك نرى أن بعض المجتمعات أيضاً تعتبر أن ذلك أو هذه القضية حرية في التدين، حرية الإنسان أن ‏يعتقد ما يشاء، قضية في غاية الخطورة، ليس القصد أن الإنسان يكره الناس على الدين، لا، وربي عز وجل قد قال في آية: ‏‏﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ ليست المسألة هذه، ولكن لا ينبغي لقيمة الدين ومقصد الدين أن يعتدى ويستهزأ به بهذه الطريقة ‏السمجة التي تشهدها مختلف المجتمعات اليوم، والتي قطعاً لن تقود البشرية إلا إلى مزيد من موجات الإلحاد!
وتدبروا معي ‏في الآيات التي بعدها في المقابل ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿65﴾ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا ‏التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا ‏يَعْمَلُونَ ﴿66﴾ تدبروا معي! أعظم أسباب وعوامل الرخاء الاقتصادي والاستقرار السياسي والمجتمعي، والأخلاقي في كل المجتمعات: إقامة ‏منهج الله سبحانه وتعالى ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ لو أنهم أقاموا، طبّقوا، نفّذوا، ساروا على المنهج الذي جاء في هذه الكتب، الكتب السماوية، لكانت تغيرت النتيجة.‏
سؤال – هذا طبيعة التدبر كما ذكرنا في مرات سابقة – التدبر يعني من جملة ما يعنيه أنك القرآن وتقرأ الواقع الذي أنت ‏تعيش فيه، الواقع الإنساني، فاليوم نحن لدينا بمفهوم المخالفة هنا أن كثيرًا من الناس لا يجدون ما يأكلون، ناهيك عن أن يأكلوا ‏من فوقهم أو من تحت أرجلهم. الآيات تتحدث عن رخاء اقتصادي، عن غنى، وفرة في الأموال، في المكاسب، في المطاعم، في ‏المصادر، المصادر بكل أشكالها، مصادر الثروة. ما نجده في عصرنا وفي زماننا اليوم الشكوى المتواصلة من الكوارث ‏الاقتصادية، ومن المجاعات، ومن قضية التقشف، معظم الدول العالم اليوم ومن نزول في قضايا الثروات، ومصادر الدخل، ‏واضح جداً هذا، السؤال: يا ترى لماذا حدثت هذه النتيجة؟ بمفهوم المخالفة: أن واحدًا من أهم أسباب وعوامل حدوث ‏هذا الانهيار والتدهور في الحالة الاقتصادية للبشر، وهو عدم اتباع منهج الله عز وجل، وممكن أن نوضح هذا، كيف؟ أعظم رسالة وقيمة في إقامة منهج الله سبحانه وتعالى التي جاءت في التوراة، جاءت في الإنجيل، جاءت في القرآن: النهي عن ‏الفساد وإيقاف المفسدين في الأرض. ولو تدبرنا في معظم ما نعاني منه من حالات اقتصادية لوجدنا أن السبب الرئيس في حالات التدهور في اقتصاد دول هو الفساد، مستويات الفساد لدينا في كثير من مجتمعاتنا عالية! فساد بكل أشكاله، شخص أو مجموعة أفراد يسيطرون على ممتلكات دول، وينهبون أموالها، هذا الفساد، أو مؤسسات تنهب هذه الأموال، وتبقى هذه المؤسسة والدولة والمجتمع يعاني من أشد الأمراض فتكاً من فقر، ومن تدني في التعليم، من كل الأمراض! والرسالة ‏الجامعة بين كل قيم الأنبياء والرسالات السماوية لو أردنا فعلاً أن نلخصها في كلمات ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ ‏إِصْلَاحِهَا﴾ ولا ننسى أن في القضية في سورة البقرة ربي عز وجل على لسان الملائكة حين قالت: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ‏وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ عن الإنسانية ذكروا الفساد. فالرسالات والرسل جاءوا بالنهي عن الفساد بكل أشكاله، فساد في ‏الدين، وفساد في المال، وفساد في الأخلاق، وفساد في القيم، ومشكلة العالم اليوم ليس قضية قلة الموارد أو مصادر ‏الدخل، أو أن الأرض ما عاد فيها أقوات تكفي لهذه الجموع من البشر كما يتوهم البعض، أو يحاول الترويج له، لا، وإنما ‏الإشكالية الخطيرة إذا استطعنا فعلاً ونريد أن نلخصها في كلمات: (قضية الفساد والمفسدين) أن هناك مجموعات من ‏المفسدين استولوا على تلك الثروات، ثروات البشرية وأهدروها، فكانت النتيجة ما نراه! إذاً هل فعلاً محاصرة الفساد ‏وإقامة ما أنزل الله في واقع الحياة يحقق رخاءً اقتصاديًا؟ قطعاً. لماذا؟ لأن إقامة منهج الله سبحانه وتعالى هو أنجع طريق لمحاصرة ‏الفساد والمفسدين، وإذا قضيت على الفساد والمفسدين، أصبحت في غنى حقيقي، رخاء حقيقي، وهذه هي الرسالة التي أعطانا ‏إياها القرآن.
تدبر معي: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ بلاغ مهمة النبي صلى الله عليه وسلم البلاغ ‏إيصال الرسالة، وبالتالي المهمة الذين يؤمنون به كذلك إيصال الرسالة، تبليغ هذه الرسالة، تبليغ القيم التي جاء بها عليه ‏الصلاة والسلام في هذا القرآن العظيم. وتدبروا معي كيف القرآن يؤكد القضية هنا في مسألة بني إسرائيل ليربط كذلك في قضية القرآن (قل) بلِّغ يا محمد صلى الله عليه وسلم وبلّغوا جميعاً ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا ‏التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ بلّغوا هذه الرسالة، أنتم تدّعون أنكم تؤمنون بالتوراة والإنجيل أقيموها في حياتكم، لأن الذي أنزل التوراة هو الذي أنزل الإنجيل، هو الذي أنزل القرآن، الشرائع السماوية، والرسالات السماوية واحدة، ولكن أقيموها في واقعكم، أقيموها في الواقع الذي تعيشون فيه، تدبروا معي! ولكن واقع الأمر ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا ‏مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ المفروض أن القرآن يزيد الذين آمنوا هدى، ولكن هو فعلاً هو نفس القرآن، ‏ولكن يزيد الذين آمنوا هدىً، ويزيد هؤلاء القوم طغياناً وكفراً، رغم أن المصدر واحد، لماذا؟ لأن المسألة ليست في مسألة ‏الكتاب وحده، مسألة الكتاب في ذاته، مسألة المتلقي، وهذه نقطة مهمة جداً في قضية التدبر، بمعنى أنت تقرأ القرآن، أنت ‏كشخص تقرأ القرآن، ولكن تدبر في نفسك ساعات تقرأ القرآن وتشعر كأن آيات الكتاب تنزل على قلبك فتشفيه من ‏أمراضه، من شكوكه، من شبهاته، من همومه، من أحزانه، وساعات تقرأ القرآن وكأنك تقرأ أيّ شيء آخر أيّ كتاب آخر لا ‏يؤثر فيك! هل القرآن هو الذي تغير في رسالته وفئاته؟ أبداً، هو لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ما الذي تغير؟ ‏المتلقي، نفسية المتلقي، قلب المتلقي، مدى الاستعداد الذي وجد فيه في تلقي آيات القرآن وآيات الكتاب. ولذلك هؤلاء ‏القوم سيزيدهم القرآن طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين، لماذا؟ لأن في قلوبهم صدّ، هناك حالة نفسية واقعة في ‏القلب، القلب هو محل التلقي لآيات الكتاب، فإذا ذاك القلب مرِض بالنفاق أو بالكفر والجحود والإصرار على ذلك الكفر ما عادت تؤثر فيه مواعظ الكتاب! تدبروا معي، ولذلك قال ﴿فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ القلب فيه كفر فيه جحود فلو يُقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره لن يؤثر فيه!!
ثم قال ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ ‏بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ هذا القرآن، الأمم المؤمنة التي جمع بينها الإيمان. ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا ‏لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ ما الذي منعهم من الإيمان بالرسل والحفاظ على الميثاق؟ هوى النفس، أن هذا الرسول r وهذا الدين يأتيهم بمخالفة أهوائهم ‏وهم لا يريدون ديناً يخالف أهواءهم، وإنما هم يريدون أن يصنعوا دينًا يوافق أهواءهم، فارق شاسع!! وهذا سؤال مهم ‏أنت ماذا تريد؟ تريد ديناً تتبعه حتى وإن خالف هواك، أم تريد هوى تدين له حتى وإن خالف دينك؟! القضية في غاية ‏الخطورة. وحدثنا القرآن في الآيات بعد ذلك عن أشكال من ذلك الاتباع للهوى وقع القوم في الكفر قال ﴿لَقَدْ كَفَرَ ‏الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ إذاً تأليه المسيح عليه السلام ‏وعقيدة التثليث التي ظهرت في النصارى هي من شرعة الهوى ما أنزل الله بها من سلطان، ولذلك قال في نهاية الأمر ﴿وَمَا ‏مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ التوحيد.
ثم فتح باب التوبة فقال ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ باب التوبة مفتوح، ولكن لا بد من التراجع ومراجعة النفس؛ لأن عقيدة التثليث فعلاً وتأليه عيسى عليه السلام لا يمكن أن تكون إلا شرعة هوى! وهي فعلاً هي لم تكن في النصارى هي جاءت في مرحلة لاحقة متأخرة ولو تسألهم إلى اليوم: اشرح لنا ما ‏معنى ثالث ثلاثة؟ لا يستطيع هو لا يفهمها أصلاً حتى يستطيع أن يقوم بإيصالها للآخرين! إشكالية خطيرة. وجاء عليها ‏القرآن ثم قال ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ ‏لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ القرآن لهم، رسالة القرآن لهؤلاء القوم، ولذلك نحن ذكرنا في مرة سابقة أن من أعظم وسائل التبليغ وإيصال رسالة القرآن ‏التحاور مع من نختلف معه، أن توصل الرسالة فعلاً، ولذلك كان الاستهزاء والسخرية من أخطر الأمور؛ لأنه لا يُبقي مجالاً أو ‏فسحة للتحاور والمناظرة القائمة على قضية التعقل في الأمور، حتى يدرك الناس الحق من الباطل، الهدى من الضلال ﴿قُلْ ‏أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ تدبروا معي! تعبدون من؟ تعبدون المسيح عليه السلام وهو لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً؟! هل يعقل أنت تعبد من؟! وهذه ‏الآية حجة عقلية مائة في المائة، الإنسان يعبد من يحتاج إليه، يعبد من هو أقوى منه، يعبد من يملك شيئاً هو لا يملكه، ولكن ‏أنت حين تعبد المسيح فما الذي يملكه المسيح؟! وهو لا يملك نفعاً لنفسه ولا ضراً، فكيف يملك لك النفع والضر؟!‏
تدبروا معي!! (قل يا أهل الكتاب) وتدبروا في قوله (قل) (قل) (قل) وهو دور النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة التي تؤمن بالقرآن أن توصل الرسالة ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ الغلو في الدين ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ‏ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ الإشكالية في قضية الاتباع أيضاً اتباع من؟ اتباع الأحبار والرهبان، وعلماء الدين لديهم وتلك الرموز والرؤوس مثل (بولس) على سبيل المثال الذي جاء بكثير من هذه العقائد الفاسدة، ومنها: قضية التثليث، فهؤلاء القوم قد ضلوا فلا ‏تتبعوا أهواءهم، لأن غالبية هؤلاء إن لم نقل الجميع تسيرهم مصالحهم الذاتية، أراد بولس على سبيل المثال: أن يبني له ‏مجداً، وأراد هؤلاء الأحبار أو الرهبان أن يصنعوا لهم مجداً، وأن يصنعوا لهم ذِكراً، وأن يحققوا مصالح دنيوية فلِمَ تسيرون ‏وراءهم وتتركون المواثيق الحقيقية التي جاء بها عيسى عليه السلام؟!! ولذلك قال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى ‏لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ لعن الذين كفروا على لسان كل الأنبياء، عصيان تمرد، ‏اعتداء ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.‏
تدبروا معي! في قضية محورية النهي عن المنكر والفساد. إشكالية خطيرة في مجتمعاتنا الآن بدأت تظهر أن الناس أصبح أيّ ‏واحد منهم حتى في الأسرة الواحدة يرى الخطأ يرى المنكر من أخيه، من أمه، من أبيه، من ابنه، من ابنته، من ابن أخيه، ويقول ‏لك: لا لا لا، لا أريد أن أتدخل هذه حرية شخصية ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ نهيك عن المنكر لا يعني أنك تتدخل في ‏حريات الآخرين، لا يعني أنك تقوم بالوصاية عليهم، لا يعني أبداً هذه المعاني، ولكن هو يعني بالفعل أنك إنسان تهتم لأمر ‏الآخرين، تقوم بالواجب الذي يفرضه عليك، عشرات الأمور من العلاقات الإنسانية فيما بينك وبين هؤلاء من الروابط ‏رابطة الإنسانية، رابطة الدم، رابطة القرابة، عشرات الروابط التي تربط بيننا كبشر، كيف نتغافل عن كل هذه الروابط؟! ويهيأ ‏لنا بأن القضية قضية حرية شخصية ولا أتدخل في الآخرين؟! كيف أنت اليوم أنا أتساءل دعونا نضعها في هذا المثال: لو أنك ‏رأيت بيتاً يحترق حريقًا حسيًا حقيقيًا، ورأيت في داخله أشخاصًا كبار وصغار ونساء ورجال، بالله عليك أتتركهم يحترقون؟! أم تسارع لإنقاذهم ونجدتهم؟ الحقيقة أن الطبيعة الإنسانية تفرض عليك أن تفعل كل ما بوسعك لأجل إنقاذهم أليس كذلك؟! البعد عن منهج الله عز وجل، أليس هو نوع من أنواع الاحتراق المعنوي؟! أكل المال الحرام على سبيل ‏المثال، أليس هذا نوع من أنواع الاحتراق؟! الجسد الذي يغذّى بالسحت وبالحرام، أليست النار أولى به؟! فأنت المطلوب ‏منك كإنسان أن تبادر لإنقاذ هؤلاء بالحكمة والموعظة الحسنة والطريقة الجيدة، نعم، ولكن قطعاً لا تتركهم هكذا هذا الشيء منطقي، فلماذا يغيب عنا العقل والمنطق ونحن نواجه المنكر والفساد؟! لماذا؟! هل أحد يلومك إذا أنت قمت بمحاولة إنقاذ هؤلاء من الحريق، أو من الغرق؟! لا، فلماذا إذاً أنت تتوهم أن هناك من يمكن أن يوجه إليك اللوم لو أنك نهيت عن منكر، ‏أو أوقفت فساداً، أو أمرت بخيرٍ أو إصلاح بين الناس لماذا؟! لماذا هذا التناقض لماذا؟! ولذلك ربي عز وجل قال ﴿كَانُوا لَا ‏يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ وروي في بعض الآثار أنهم كانوا ممكن ينهون في بعض الأحوال، ولكنهم يجالسونهم ويمشون معهم وكأن الأمر طبيعي الإشكالية خطيرة جداً إذا ظهرت في الأسرة، إذا ظهرت في المجتمع قامت بتدميره من جذوره!!
تدبروا معي! وهنا جاء الحديث عن قضية الولاية مرة أخرى ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ ‏أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ من أشكال المنكر: الولاية للكفر ولمنهج الكفر ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ ‏كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ تأكيد سورة المائدة على محورية قضية الولاية، لأن الولاية ليست مجرد شعور، الولاية اتباع، خضوع، ‏منهج، أخذ أوامر، أخذ تعليمات ولا ينبغي لمؤمن أن يأخذ تعليمات من أحد أو يخضع في حياته لأحد إلا الله سبحانه وتعالى.‏
تدبروا معي في الآية: ولذلك جاءت الآيات مرة أخرى من جديد للحديث عن قضية اليهود والنصارى ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ‏النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ ‏قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ ليس في نفوسهم ذلك الكبر الذي يمنعهم من الاستماع إلى الحق، أما اليهود فكانوا بطبيعتهم يرون أنهم أفضل من كل ‏الأمم الأخرى (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) (قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه) وكل الأمم الأخرى أميين، نحن ‏أفضل منهم، نحن شعب الله المختار نحن أبناء الله وأحباؤه!! فهم في نفوسهم استعلاء حال دون أن يستمعوا إليك دون أن ‏يستمعوا للحق. أما هؤلاء من النصارى فهم يستمعون ولذلك قال ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ ‏مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ والقرآن في عرضه لهذه الحقيقة يعرض لنا قضية العدالة مرة أخرى، ويجيب على ما ذكرناه قبل قليل في قضية الولاية، ‏الولاية لا تعني أنك لا تعترف بالحق لأصحابه، لا تعني أنك تقطع الأواصر وتقطع العلاقات، لا، قضية مختلفة تماماً، لا تعني ‏أنك لا تكون عادلاً ولا منصفاً، أبداً!! القرآن يدعو إلى العدالة، كل تعاليم القرآن تنص على العدالة، العدالة بين البشر ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ هذه العدالة بكل أشكالها وكل صورها التي أمرنا بها وهي لبّ القرآن ولبّ ‏رسالة القرآن ليست فيما يتعلق بالولاية كما ذكرنا الولاية خضوع، موالاة، ولاء، إظهار الولاء وأخذ المنهج والتشريعات من تلك الجهة التي أواليها وأنا توليتها وهي تولتني، هذا هو عقد الموالاة.‏

تدبر سورة المائدة -. رقية العلواني5

تدبر سورة المائدة – 5

د. رقية العلواني
تفريغ الأخت الفاضلة نوال لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلنا إلى بداية النهاية في سورة المائدة، سورة العقود، سورة الالتزامات، سورة الأمانات، سورة الإيمان في واقعه، الإيمان وعمليات الربط لذلك الإيمان في جزئيات الحياة والتشريع المختلفة، والآيات التي سنبدأ بها وقد وصلنا الآن تجاوزنا الآيات الثمانين الأولى من سورة المائدة. الآيات لا تزال تتكلم عن التشريع، عن التحريم، وعن الإباحة، ولكن تقدم نماذج مختلفة، كلها تتعلق بالتشريع، كلها ‏تؤكد أن مصدر التشريع والتحليل والتحريم في حياة الإنسان المؤمن الذي اعتبر الإيمان بالله سبحانه وتعالى منهجاً له في حياته، مصدر ذلك التشريع لا بد وأن يكون الله سبحانه وتعالى، هو فقط الذي يملك حق التشريع، حق التحريم، وحق الإباحة، وبالتالي لا يمكن أن تؤخذ هذه الحقوق المتعلقة بالتشريع من أي جهة أخرى مهما كان مصدرها، ولا تكون عملية الاقتراب من ذلك المنهج، إلا بعملية تطبيق التشريع في واقع الحياة، والوقوف عند الحدود التي وضعها الله سبحانه وتعالى في تشريعاته، فالزيادة كما هو النقصان تحدث خللًا في عملية تطبيق التشريع المسألة ليست مسألة زيادة أو عدد، ‏المسألة مسألة أن نتعبد لله سبحانه وتعالى بالوقوف عند ما أمر به بالضبط تحديداً، نحن نتكلم عن تشريع، ولذلك جاءت الآية في قوله عز وجل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ الاعتداء: هو التجاوز، سواء كان في تحريم المباح، أو إباحة المحرّم، كلاهما اعتداء، كلاهما تجاوز على السلطة التشريعية التي لا ينبغي أن تكون إلا لله سبحانه. ولذلك ربي عز وجل لا يحب المعتدين، لا يحب أولئك الذين يجعلون من أنفسهم مصدراً ‏للتشريع إباحة وتحريماً ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾.‏
تدبروا معي في الربط ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ أنت آمنت بالله والخطاب للمؤمنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ أنت ‏آمنت بالله فبمقتضى ذلك الإيمان يحتاج الإنسان أن يراقب التقوى في نفسه وفي قلبه، وهذه التقوى ليست مجرد عمل قلبي، ‏التقوى لها صدى في واقع الحياة، في واقع، العمل لها صدى من خلال الوفاء بالعقود والالتزام بها، وأعظم عقد كما ذكرنا في بداية سورة المائدة هو ذلك الميثاق الذي بين العبد وربه، ميثاق الإيمان والالتزام بما أمر الله سبحانه وتعالى به.‏
والقرآن في سورة المائدة يعرض لنا أشكالاً متنوعة في قضايا التشريع، قضايا تعرض للإنسان في واقعه، فكما أن القضايا في ‏التشريع متعلقة بالطعام والشراب وما شابه، هي كذلك متعلقة بالكلمات بما يتفوه به الإنسان، فبعض الأشخاص قد ‏يأخذ قضية الحلف والأيمان وما شابه وسيلة يحرّم بها أشياء معينة على نفسه، وهذا يعتمد إلى حد كبير على ‏طبيعة البيئة التي يعيش فيها الإنسان، ونحن نرى في بعض المجتمعات الناس يحلفون على بعضهم البعض لأجل دعوة على ‏طعام أو عشاء أو ما شابه، أو تناول صنف معين من أصناف الطعام، هذا ما عبّر عنه القرآن باللغو في أيمانكم، هو لا ‏يقصد به الحلف في ذاته، ولكن هو الذي يقصد به في واقع الأمر مجرد عملية زيادة في التأكيد على شيء معين، ولذلك ربي ‏سبحانه قال ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ لماذا؟ لأن القضية قضية التزام هنا وربي سبحانه وتعالى حتى في هذه الآية أوصانا بأي شيء؟ قال: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ كل شيء في هذا الدين العظيم، يقوم على مبدأ الحفظ، يقوم على مبدأ التنبؤ واليقظة، لا شيء في هذا الدين من تشريع يأتي هكذا عفوياً بدون معنى، تصبح في ‏ظل هذه التشريعات أقوال الإنسان، ألفاظه، أفعاله، حتى النية لا بد أن يكون لها موقع لا بد أن يكون لها أهمية واضحة ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.‏
ثم تدبروا معي!! في ذاك التناسب الرائع العجيب الذي جاء موقعه بعده في الآية التي تليها في مسألة تحريم الخمر تحريماً قطعياً، ربي سبحانه في الآية التي قبل قال: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ الألفاظ التي يتلفظ بها الإنسان عليه أن يراقبها تماماً، وبالتالي لا يستعمل كلمة الحلف كما جاء ويأتي في كثير من مجتمعاتنا وبيوتنا الناس يحلفون كثيراً، ولكن ليس هم حين يحلفون هم ‏يريدون فعلاً قضية الحلف، وإنما هم فقط هكذا درجت أصبحت كلمة دارجة على الألسنة، ما المطلوب؟ المطلوب أن يتيقظ ‏الإنسان وأن ينتبه لما يقول، وأن يصحح من لسانه، وأن يضبط عملية التفوه بتلك الكلمات التي يقولها، ولكن الذي يلفت ‏النظر: أن الآية التي جاءت في تحريم الخمر تحريماً قطعياً لأننا كما نعلم الخمر حرمت على مراحل، بتدرج قال: ﴿يَا أَيُّهَا ‏الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ الرب الذي أمرك بأن تحفظ الأيمان، وأن تحافظ على الكلمات التي تتفوه بها، هو الرب الذي يأمرك أن تحافظ على أعظم ‏نعمة أعطاها لذلك المخلوق، لذلك الإنسان، النعمة التي هي مناط التكفير، النعمة التي بدونها لا يمكن أن يكون هناك تكليف ‏في واقع الأمر ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ وبدأ بالخمر، ولماذا الخمر؟ الخمر فيه اعتداء واضح ‏على نعمة العقل، أعظم اعتداء فيها اعتداء على نعمة العقل، نعمة العقل التي بها كُرِّم الإنسان، وبها خوطب في مجال التحريم ‏والتحليل والتشريع، المجنون لا يخاطب بالتشريع، فاقد العقل لا يخاطب بالتكليف وبالت،شريع الذي يخاطَب هو الإنسان ‏العاقل، فكيف لذلك الإنسان أن يأتي إلى الخمر طواعية لتفقده أعظم ما كرّمه الله به ألا وهو العقل؟! الخمر، والميسر، ‏والأنصاب، والأزلام وربي عز وجل في هذه الآية جمع لنا كل ما يعرف في واقع الأمر من الحفاظ على الضروريات أو ‏مقاصد الشريعة حفاظ على الدين، حفاظ على العرض، الحفاظ على العقل، الحفاظ على المال، الحفاظ على النفس، هذه ‏الآفات الخمر والميسر، والأنصاب والأزلام هي التي تهدر هذه الضروريات التي لا تستقيم حياة البشر أبداً دون الحفاظ ‏عليها، تدبروا معي! ولذلك قال ﴿رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.‏
نحن تكلمنا وقلنا أن سورة المائدة تتحدث عن العقود، وهذه الممارسات التي لم تعد ممارسات فردية، بل هي تنسحب على ‏كل طبقات المجتمع: الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، ممارسات اجتماعية ليست فقط فردية، ممارسات يتأثر بها الفرد، ‏وتتأثر بها الأسرة، ويتأثر بها المجتمع بأسرة، فكان لا بد من الحفاظ عليها، ولا يمكن أن يكون هناك حديث عن وفاء بعقود أو ‏التزامات بوجود هذه الآفات الاجتماعية التي أمر القرآن العظيم في هذه الآية باجتنابها، وجعل اجتناب هذه المحرّمات ‏مفتاح الفلاح والنجاة والفوز ليس فقط في الآخرة، وإنما في الدنيا الكلام هنا عن الجزاء الدنيوي. وتدبروا معي في الآية ‏التي تليها ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ آفات اجتماعية تترتب عليها ‏عشرات الممارسات التي تهدم المجتمع، وتهدم الكيان الأسري: العداوة والبغضاء، وقلنا في موقع آخر وقد ذكرت في سورة ‏المائدة قبل ذلك العداوة فيها اعتداء فيها فعل، فيها قول، البغضاء: هو شعور سلبي شعور بالكراهية، ولكن شعور ‏الكراهية إذا تولدت عنه اعتداءات على حقوق الآخرين نتيجة لذلك الشعور أصبح عداوة، أصبح عدوانًا، والله لا يحب ‏المعتدين.‏
إذاً هذه الآفات السيئة: الخمر، والميسر، القمار بكل أشكاله وصوره، لأن الميسر في الجاهلية كان له شكل معين، ممارسة اعتاد ‏عليها رواد النوادي في الجاهلية، ولكن في واقع الأمر في أيامنا هذه اتخذ أشكالاً مختلفة، متنوعة جداً متعددة، ولكن كل ‏هذه الأشكال تقوم على مبدأ الغشّ، والتدليس، وأخذ أموال الناس وتداول تلك الأموال بالباطل، ‏ربي عز وجل جعل لتداول المال بين الناس قنوات مشروعة، وهذه القنوات لا بد أن تكون من التشريع مباحة، حتى تصبح ‏عملية التداول المالي مشروعة، الميسر فيه تداول مالي، وكذلك الخمر في البيع والشراء والتعاطي، ولكن هذه القنوات ‏قنوات جففها القرآن العظيم، وأمرنا بأن لا نقوم بعملية التداول من خلالها، وذكر بعض وأهم الأسباب الكامنة وراء ذلك ‏التحريم: عداوة، وبغضاء وصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟ سبل العداوة فعلاً تنفتح من خلال هذه الوسائل غير المشروعة.
ثم تستمر الآيات بعد ذلك في الحديث عن قضايا المتعلقة ‏بإباحة الطعام، وبتحريم الأشياء وما شابه التحريم والتحليل، قال ‏﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ الطاعة: عندما يكون لدي أمر إلهي نهياً أو إيجاباً، المفروض من المؤمن أن تكون طبيعة الاستجابة له: طاعة ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ ‏وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾. ومهمة الرسول r صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه القضية: البلاغ، إيصال الرسالة، إيصال التشريع، واضحة جداً ‏المهمة في هذه الآية، مهمة النبي صلوات الله وسلامه عليه.‏
ثم قال بعد ذلك ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ ‏اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وتدبروا معي!! تقوى وإيمان، تقوى وإيمان وعمل صالح، تقوى وإيمان، تقوى وإحسان، الإيمان درجات، الإيمان يزيد ‏وينقص، يزيد على قدر مراقبة الإنسان وحرصه الشديد على الاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى وتنفيذه في واقعه، كلما ‏كان الإنسان أكثر التزامًا ورغبة من الداخل ونية صادقة في اتباع أمر الله سبحانه وتعالى في حياته في كل الجزئيات، كلما ‏ترقى في مرتبة التقوى والإحسان، الإيمان يزيد بالطاعة، كما أنه ينقص بالمعصية ومخالفة أمر الله سبحانه وتعالى.‏
ثم إننا في هذه الدنيا نمر بعشرات الابتلاءات، نمر بعشرات الاختبارات والامتحانات وفي بعض الأحيان الاختبارات تكون ‏متعلقة في ذلك الجانب التشريعي فعلاً: هل تمتد يدي إلى الحرام؟ أم أتوقف ولا أتجاوز الحلال إلى الحرام أبداً؟ ﴿يَا أَيُّهَا ‏الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ ‏عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ تدبروا معي! الصيد ممكن أن يكون الشيء في أصله مباحًا، ولكن هناك توقيت زمني معين يحرّم ذلك الشيء عليك، أو ‏أحياناً توقيت مكاني، كما في القضايا المتعلقة بالحج وعملية الصيد، أو كما هي متعلقة في رمضان الطعام مباح، ربي أباحه في ‏كل وقت، ولكنه تحديداً في رمضان في نهار رمضان حرم على الإنسان أن يتناول ذلك المباح، فيصبح المباح محرماً توقيت ‏زمني، لماذا؟ قضية امتحان، قضية اختبار، رغم علم الله سبحانه وتعالى من يخافه بالغيب، ولكن كما ذكرنا في مرات سابقة ربي عز وجل أراد أن يقيم الحجة علينا بأعمالنا، وليس بعلمه سبحانه، وهذا من تمام عدله سبحانه، ومن تمام حكمته عز وجل.
ثم تتوالى الآيات بعد ذلك تحدثنا عن المباح وعن الحرام ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ﴾ وفي نفس ‏الوقت ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ تدبروا في تلك الصورتين المتقابلتين في آية واحدة: صيد البحر وطعامه هذا أحلّ لكم، ولكن صيد البر ما دمتم حرماً حُرّم عليكم. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ هنا ربي عز وجل يبتلينا بقضية الوقوف والحزم في الوقوف عند أوامر الله سبحانه وتعالى، تحديداً في كل الأشياء وخاصة فيما يتعلق بقضية التشريعات. هناك أشياء جعل الله سبحانه وتعالى مساحة لها ليدرك الإنسان الحكمة في التشريع، ممكن، ولكن كذلك هناك مساحة أخرى ‏في جانب التشريع لا يدرك الإنسان الحكمة من قضية التحريم أو التحليل، ليس كل شيء في الدنيا حُرّم أو أبيح لنا، ممكن ‏أن ندرك فيه الحكمة من التشريع، وليس مطلوب من عندي في قضية التعبد لله سبحانه وتعالى والتزام شرعه أن أدرك كل ‏الحكمة أو أجزاء من الحكمة في التشريع، لا، لأن المطلوب أن يكون لدي رصيد قوي وعالي من الإيمان والتقوى، يمكنني من ‏اتباع أوامر الله سبحانه وتعالى سواء ظهرت لي الحكمة أم لم تظهر، ولذلك ربي عز وجل حرم من الأماكن أماكن مخصوصة ‏معينة: كالبيت الحرام، حرّم من الأزمنة أزمنة معينة، حرّم من الأشياء، حرّم من الأطعمة، هذه الأمور كلها داخلة في تصميم ‏التشريع والابتلاء والاختبار. وتدبروا معي! ربي عز وجل يقول في نهاية الآية ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ‏وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ * ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ التزام الشعائر، الوقوف عند تلك الأوامر والنواهي في كل شيء، فيما حرّم الله سبحانه وتعالى ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ‏اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ يزيد رصيد المؤمن من التقوى، كلما ازداد تعظيماً لشعائر الله سبحانه وتعالى.
وبعد هذا الكلام عن قضية الصيد التحريم والتحليل، يأتي الحديث عن الكعبة، ربي عز وجل جعل لهذا المكان خصوصية معينة، وجعل لها أحكام معينة تتعلق بها هي، ‏أحكام الصيد، وجعل لها خصوصية في قضية الزمان كذلك، يا ترى لماذا؟ ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ قيام تقوم به حياتهم، دنياهم، دينهم، ولماذا هذا المكان بالذات؟ ما خصوصية هذا المكان؟ ربي عز وجل في سورة الحج قال ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ رسالة التوحيد، ولا يقوم معاش الناس ولا حياتهم ولا دينهم ولا دنياهم إلا بالتوحيد. تدبروا معي في هذه اللفتة المناسبة العظيمة: الذهاب إلى الحج، أو إلى العمرة، أو زيارة الكعبة تجديد لمعاني التوحيد في قلب ‏الإنسان المؤمن، ولا تقوم حياة الناس إلا بالتوحيد وتجديده وتصفيته وتنقيته. رسالة التوحيد ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ لأن هذه الرحلة بكل شعائرها وتعظيم شعائرها وبكل ‏وقوف الإنسان عند كل جزئية فيها من تحريم الصيد، من الأشياء التي جاءت فيها، من تعظيم شعائر الله في الزمان في المكان، ‏تجديد وتنقية وتصفية للتوحيد الذي لا تستقيم حياة الناس إلا به. وبالتالي هذا المكان، وهذه الشعيرة وهذا الالتزام هو ‏الذي يذكرنا بهذه التصفية العظيمة للتوحيد. وتدبروا معي في الكلمة! قال: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ لكل الناس الآية هنا. كيف يكون هذا القيام؟ ‏كيف يصبح ذلك المكان فعلاً مكانًا يصلح به الأمور المختلفة أمور الناس في دنياهم وفي آخرتهم، وفي دينهم، كيف؟ ربي عز ‏وجل من خلال قضايا متعلقة بالتشريعات بهذا المكان مكاناً وزماناً أراد من هذه الأمة أن توفّي بذلك العقد والميثاق فتجعل ‏الشعائر والعبادات المتعلقة إقامتها بهذا المكان، بهذا البيت، مصدراً لتبليغ رسالة القرآن للعالم كله، فإذا ما نظر الناس إلى مكة ‏إلى الكعبة البيت الحرام وجدوا كأنها صورة واقعية لشعائر الإسلام وشعائر الدين، بمعنى آخر إذا أراد إنسان أن يتعرف ‏على الإسلام كدين، وأن ينظر إلى شعائر هذا الدين، فما عليه إلا أن ينظر إلى الكعبة البيت الحرام ليرى كل الشعائر ‏متحققة فيه بشكل عملي. الإنسان بطبيعته جُبِل على أن ينظر إلى مثال إلى شيء واقعي، شيء حسي، شيء يلمسه، وربي ‏سبحانه وتعالى في كل السورة وفي سور أخرى قال: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ فتعظيم الشعائر الذي عمل قلبي يبدأ بالتقوى، لا بد أن يكون له رصيد في الواقع. وبالتالي أريد لهذه الأمة التي أُمرت ‏بالالتزام بأوامر الله إيجاباً ونهياً، زماناً ومكاناً، أن تُظهر تعظيم الشعائر في ذلك المكان كأعظم ما تُظهره حتى تصبح فعلاً الكعبة ‏بمجرد أن ينظر إليها أيّ إنسان وإلى ما يدور حولها، يتعرف إلى طبيعة هذه الدعوة، يرى مدى احترام وإيمان المسلمين ‏بشعائر هذا الدين وتطبيقهم له. وهنا لفتة عظيمة جداً للأسف الشديد نجد أن بعض المسلمين اليوم يعتقدون أو يتوهمون، ‏بعضاً منهم يتساهل في الموضوع، ويتصور أن تعظيم شعائر البيت هذا البيت الحرام تنحصر في قضية متعلقة بقصّ الشعر أو ‏قتل الصيد أو ما شابه القضايا المتعلقة التي نصّ عليها القرآن وجاءت في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتناولها ‏الفقهاء قديماً وحديثاً، ولكن المسألة أعظم وأعمق وأكبر، الحج هو في حد ذاته في واقع الأمر أريد له أن يكون رسالة سنوية ‏عالمية تقدم للعالم أنموذجاً حياً لتعاليم الإسلام، ولذلك سورة الحج ربي سبحانه وتعالى كما نعلم الحج فرض على المسلم ‏الذي يؤمن بالله ورسوله ورغم هذا نجد أن سورة الحج ابتدأت بقوله عز وجل ﴿َيا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ‏السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾.‏
تدبروا معي! سورة الحج والخطاب يبدأ بـ ﴿َيا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ لأن الحج رسالة عالمية صحيح هو فُرض على المسلم المقتدر ‏على أداء فريضة الحج، ولكن هو كعبادة وكشعيرة هو رسالة عالمية لكل الناس، كان لكل مسلم وعلى كل مسلم يحج ‏البيت أن يُسهم في تقديم هذه الرسالة، وأن يُحسن في إيصال هذه الرسالة إلى العالم بأسره، والآية هنا تؤكد هذا المعنى ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ وليس فقط للمسلمين، وليس فقط لمن يزور هذا البيت، وليس فقط لمن ‏يعظم شعائر هذا البيت، وإنما هي لكل الناس، كيف لكل الناس؟ من خلال تقديم رسالة الإسلام، فالإنسان ينظر إلى الكعبة، ‏وينظر إلى البيت الحرام، فيفهم معنى هذا الدين، يرى سلوك المسلمين، يرى انضباط المسلمين، يرى تميز المسلمين، يرى ‏تلك الصفوف المستوية وكأنها قد خُطّت بخطوط، يرى ذلك المنظر الرائع الجميل لآلاف المسلمين الذين جاءوا من مشارق ‏الأرض ومغاربها يصطفون بمجرد قول الإمام: الله أكبر بتكبيرة الإحرام، في خطوط متوازية متساوية واحدة شيء عجيب! ‏انضباط عجيب! دون أن يقول لهم أي أحد أو مرور أو أحد يساوي بين الصفوف! تدبروا معي، هذا أين يحدث؟ هذا ‏يحدث في الكعبة، يحدث حول الكعبة، يحدث في البيت الحرام، هذا من تعظيم شعائر الله عز وجل، ولذلك كان واجباً على ‏المسلم المتدبر لكتاب الله سبحانه، أن يدرك من خلال هذه الآية أن كل آيات التي سبقت وتكلمت بالتحديد عن قضية ‏الصيد ليست القضية فقط قضية صيد القضية قضية تقديم شعائر الدين، قضية إيصال الرسالة، قضية تبليغ رسالة الإسلام ‏القائمة على السلام، القائمة على احترام المسخّرات واحترام البيئة، والحرص في قضية الصيد على كل الأشياء وعلى كل ‏الموجودات من حولنا في الطبيعة، هذه رسالة من رسالة الإسلام. السؤال: هل أحسن المسلمون إيصال كل الرسائل المتعلقة ‏بالكعبة وبالبيت الحرام من خلال تعظيمهم للشعائر؟! واحدة على سبيل المثال من تعظيم الشعائر: الحفاظ على نظافة البيت، ‏الحفاظ على نظافة المكان بأسره، هذه تتعلق كذلك بأداء رسالة الحج. رسالة الحج على كل حاج أن يدرك أنه هو في ذهابه ‏لهذا المكان المكان الذي أراده الله سبحانه وتعالى أن يحج إليه الناس وجعل قضية الحج متعلقة به هو وبذلك المكان وذلك الزمان، ‏هو في حد ذاته جزء من الرسالة فعليه أن يحسن إبلاغ الرسالة. تدبروا معي! كم مرة جاء الكلام عن البلاغ ﴿مَا عَلَى ‏الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ النبي صلى الله عليه وسلم بلّغ هذه الرسالة وأحسن البلاغ فيها. أحسن البلاغ في فتح مكة القضية ليست فقط قضية أنه هو قال ‏للناس ولأهل مكة: اذهبوا فأنتم الطلقاء، القضية قضية إرساء لمعالم ولرسالة السلام والتسامح تحديداً في ذلك المكان. فلا بد ‏أن تتضمن الرسالة ذلك التسامح وذلك السلام بين المسلمين ليشكلوا فعلاً في حقيقة الأمر صورة تجسد هذه التعاليم ‏العظيمة، والشعائر العظيمة التي لا ينبغي الوقوف بالبلاغ فيها عند الكلمات أو الخطب. ولنا أن نتأمل في حال بعض ‏المسلمين وهم في البيت الحرام، خارج البيت الحرام، يحدث من بعض المسلمين نزاعات ارتفاع في الأصوات، تدافع أحياناً ‏نتيجة لقضايا متعلقة بالزحام وما شابه، كثرة وجود الناس في مكان واحد، هو في حد ذاته رسالة، جزء من رسالة الإسلام، ‏جزء من رسالة هذا الدين،أن هذا الدين بتعاليمه وتشريعاته قادر على أن يُخرِّج أناساً ويُخرِج أناساً يستطيعون أن يعيشوا ‏سوياً يتعايشون سوية في مكان واحد في وقت واحد، رغم الحرّ رغم الزحام، رغم الأشياء المختلفة الظروف البيئية المختلفة، ‏إلا أنهم يستطيعوا أن يقوموا بشيء منظم له هدف وله غاية في جو من التسامح في جو من التعايش. إذا لم يدرك المسلمون ‏هذه الرسالة ما استطاعوا أن يبلغوها للعالم! ربي عز وجل أراد هذا المكان الكعبة البيت الحرام أراد أن يكون قياماً للناس، ‏تقوم به حياتهم، ودينهم ودنياهم، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال فهم هذه الرسالة العظيمة. ولذلك تدافع بعض المسلمين ‏أحياناً على الصلاة في مكان معين، أو حجز الأماكن، أو وضع أمتعة في مكان معين ليحجز خاصة هذه الأيام التي سنقبل ‏عليها بإذن الله أيام رمضان، تزداد الأعداد بشكل واضح جداً فيصبح كل شخص يريد أن يتأكد أنه يصلي في مكان معين ‏ولا يزاحمه عليه أحد. مبدأ الإخوة، مبدأ التسامح، مبدأ الإيثار، هو الرسالة الحقيقية لكل هذه الشعائر، القضية ليست ‏المكان الذي أنت فقط تصلي فيه، تقربك إلى الله عز وجل يكون من خلال تقربك بإيصال هذه الرسالة العظيمة المتضمنة هي في حقيقة الأمر في أوامره ونواهيه سبحانه، ولذلك حين قال ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ ‏الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ القضية فيها تقوى، التقوى بمراقبة الله سبحانه وتعالى، ولذلك من المهم جداً ونحن نذكّر ونعرّف المسلمين برسالة الحج أن ‏يدركوا أن القضية ليست فقط في إقامة الشعائر، هي في مراقبة تلك الأعمال التي هي في حد ذاتها مهمة جداً، ولا تستقيم ‏قضية الحج بدونها: قص الشعر وتقليم الأظافر وما شابه. تعظيم شعائر الله رسالة واضحة في كل شيء مدرسة سلوكية، مدرسة تتبنى كل القواعد التي جاءت بها أحكام الشرع من التسامح ومن السلام، ومن إشاعة المحبة، ومن التعاون على ‏البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، التعرّف على الآخرين، الاستماع والإنصات إليهم، الشعور بمشاعرهم، الدعاء لهم، التعاون معهم على ما فيه خير، هذه معاني عظيمة للأسف الشديد في بعض الأحيان يغيّبها بعض الناس، ويجعل ‏من تلك الشعائر العظيمة مجرد أعمال شكلية صورية في حين أن الله سبحانه وتعالى في سورة الحج على سبيل المثال أكد في ‏أكثر من موضع ﴿وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ القضية قضية التوقى، العبادات ليست مجرد أشكال، لا بد أن يكون لها محتوى ذلك المحتوى يتعلق ‏بالتقوى وتحقيق رسالة القرآن.‏
ثم انتقلت الآيات بعد ذلك وهي في واقع الأمر لم تنفصل عن السياق، السياق واضح الترابط فيه، قال ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي ‏الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لا زال الكلام عن الخبيث والطيب، ولكن الآية هنا تعطي قاعدة عظيمة في التعاطي مع الأشياء: لا يستوي الخبيث ‏والطيب، الحرام والحلال ليسوا سواء، البيع ليس كالربا البيع حلال، أحلّ الله البيع وحرّم الربا، الخمر ليس كالماء الخمر ‏حرام والماء مباح، الخبيث ليس كالطيب، الحرام ليس كالحلال، لا، ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾.
وتدبروا في الآية قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ يا أصحاب العقول، الإنسان في القرآن كلما ازداد تعقلاً وتبصراً وإقامة لكل هذه المفاهيم العظيمة، وتفكراً وتدبراً لأن من وظائف العقل التدبر، لا يمكن أن يتدبر إنسان غير عاقل، أو ‏لديه قدرات محدودة عقلية، لا، الإنسان الذي يتفكر ويتبصر ويتدبر هو الإنسان العاقل، والإنسان الذي يترقى في درجات ‏التدبر هو ذلك الذي هو من أصحاب الألباب أو العقول الكبيرة. ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ المال الحلال ليس كالمال ‏الحرام، المال الحرام قد يكون كثيراً، هذا جزء من الابتلاء، الإنسان يحصل على مرتب معين، راتب شهري، مقابل عمل ‏يقوم به، حلال، ولكن قد يأتيه عرض مغري جداً اختلاس رشوة، ما شابه ربا، يزيد أضعاف مضاعفة على ذلك المال، عليه ‏أن يستذكر هذه الآية العظيمة ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ لأن الناس تجري وراء ‏الكثرة، المليون ليس كالألف، طبيعي! ولكنك إذا أدركت أن ذلك المليون بخبثه وبما فيه من دنس سيحرق حياتي، سيدمر ‏حياة أسرتي وعائلتي، ستعف نفسي عنه، وسأرضى حينها بذلك القليل، الألف، وأدرك تماماً أن الله سبحانه وتعالى سيجعل فيه ‏من البركة ما يكفيني ويزيد، أكثر بكثير من هذا الحرام، فلا أحدّث نفسي أبداً بالاقتراب من الحرام، هذا هو الفرق بين ‏الخبيث والطيب. كما أن أي إنسان مسلم الآن ولا نبالغ في ذلك، الآن غالبية إن لم نقل كل المسلمين، لو تضع له في طبق ‏لحم خنزير طهي بأحسن الطرق ووسائل الطهي والطبخ مزيّن بكل الأشكال والأنواع لا يمكن نفسه تحدثه بأن يقترب منه، هناك ستار وحاجز كثيف يمنعه من أن ينظر حتى إليه، نفسه تعافه، لا رائحة ولا طعم ولا لون ولا شكل لماذا؟ نفسه اعتادت على هذا. ربي سبحانه في سورة المائدة يريد منا أن يقيم ذلك الحاجز القوي السد المنيع بيننا وبين الحرام، ولذلك ‏جاءت لفظة الخبيث هنا، الخبيث هنا بمعنى الحرام. فهذا الحرام الخبيث لا بد أن يقام في نفسي حاجز نفسي الآن عندي أنا ‏كمؤمن تجاه ذلك الخبيث، فمهما كثر لا يمكن أن تحدثني نفسي أن تمتد يدي إليه. وأنا أقول: أن بناء هذا الحاجز النفسي ‏في نفوسنا ونفوس أبنائنا وشبابنا يحتاج إلى زاد من التقوى، يحتاج إلى زاد بنته هذه السورة العظيمة.‏
وتدبروا معي! في الآية التي تليها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ‏الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ بناء هذا الحاجز العظيم النفسي التي تكلمنا عنه في نفس الإنسان بينه وبين الخبيث يتحقق من خلال وسائل متعددة، ولكن ‏هنا جاء الحديث عن قضية السؤال، وما علاقة الحديث عن السؤال بالآية التي قبل؟! لو ربطنا في قصة بني إسرائيل في قضية البقرة في سورة ‏البقرة، بنو إسرائيل عُرف عنهم كثرة السؤال، يسألون ما لونها، ما هي، كيف هي؟ أسئلة كثيرة! كثرة الأسئلة في الدين ‏ليست هي التي تبني ذلك الحاجز الذي أراد القرآن بناءه في نفس الإنسان المؤمن بينه وبين الحرام، كثرة السؤال ليست هي التي تزيد في نصيبك من التقوى، وإنما الوقوف بالضبط عند أمر القرآن الأمر والنهي، تماماً، ولذلك حتى توقيت ‏السؤال ينبغي أن يكون وفق ما أمر الله سبحانه وتعالى ﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ إذاً الأشياء التي سُكت عنها وسَكت عنها التشريع هو ما سكت عنها نتيجة لعدم معرفة أو إغفال لها، ولا نسيان حاشا لله ‏سبحانه وتعالى! ولكن هذه المنطقة من عدم إبداء الكلام فيها أو تناولها مقصودة لذاتها، فكثرة السؤال أو التنقيب عن ‏الشيء الذي لا ينبغي السؤال عنه لن يزيد في رصيدك الإيماني ولن يزيد في رصيد التقوى، لأن هناك كثير من الناس يزيد ‏في جانب التنطّع إلى حد التنطّع كثرة السؤال عن التفاصيل والدقائق بشكل بحيث يخرجه فعلاً عن الحكمة من التشريع أو ‏المقصد من ذلك التشريع، ونحن نهينا عن كثرة السؤال وقيل وقال. بنو إسرائيل هم الذين كانت عندهم هذه الإشكالية، فعلينا الحذر والتنبه لهذا، ولكي تحدث عندي هذه القضية قضية ‏الحذر أحتاج أني حين أسأل أتفقد نيتي من السؤال أنا لماذا أسأل؟ من باب التعلم؟ من باب التقرب لله سبحانه وتعالى؟ من ‏باب البحث عن رخصة؟ من باب أي شيء؟ من باب إبداء الرأي وإبداء الأفضيلة أو إبداء أني أنا أعرف؟ أو من أي باب؟ ‏لأن الأبواب كثيرة والله سبحانه وتعالى جعل هذا الباب واحدًا قال ﴿تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ﴾ القرآن كان ينزل ‏في أوقات محددة معينة، ولكن الآن هو نزل، وهذا هو الترتيب الذي جاء به ونزل به القرآن العظيم كما هو الآن هو هذا ‏الترتيب، كما هو عليه الآن بين أيدينا، فنحتاج أن ندرك هذه الرسالة، وأن نتأدب بأدب القرآن العظيم، ولذلك قال: ﴿قَدْ ‏سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ﴾ الكلام هنا إشارة إلى بني إسرائيل الذين كانوا يكثرون من السؤال، والتفاصيل، ولكن تلك التفاصيل لم تقربهم إلى الله، ‏تلك الأسئلة لم تجعلهم إلى الله أقرب، بل كانوا من الله أبعد.
ثم أعطانا نموذجًا آخر من النماذج التي كان يحرم فيها الناس ‏قبل نزول القرآن أشياء هي في الأصل مباحة ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ‏يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ تشريع بغير دليل، تحريم، يشقّون أُذن الناقة أو الأنعام ثم يطلقون أنها هذه حرام، يسيّبون الناقة فترة من الزمن، ثم يقولون: لا ‏هي حرمت علينا لا تُركب ولا تؤكل ولا تُذبح ولا، أشياء ما أنزل الله بها من سلطان!! الذي يملك حق التشريع هو الخالق ‏الذي خلق فقط، ولذلك قال: ﴿يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ وتدبروا معي! في تلك المعالجة القرآنية الرائعة لأكبر عائق يمكن أن يقف بين الإنسان وبين التشريع، وإذا قيل لهم: رغم أن ‏الكلام في سياق الحديث عن الجاهلية، ولكن الكلام حتى وهو في هذا السياق هو نزل إلينا، نزل تحذيراً من الوقوع في هذه ‏الإشكاليات، قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ ‏لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ كثير من الناس يتركون أوامر الله عز وجل ومنهج الله سبحانه، وتشريعاته لأنهم اعتادوا على تشريعات ومناهج في البيئات ‏التي نشأوا فيها سواء كانت تلك البيئات بيئات الأسرة، أو بيئات المجتمع وضغوط المجتمع، أو ضغوط الإعلام، أو أي ‏شيء آخر، ﴿حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ عليك أن تختبر المنهج الذي تسير وفقه في هذه الحياة، مجرد أن أهلي وعشيرتي وقرابتي أو كل الناس، بعض الناس وخاصة في ‏زماننا يلهثون وراء رأي الأغلبية، يسيرون وراء الأكثرية كما قلنا في لقاء سابق (لا يكن أحدكم إمّعة) الإمعة الذي ‏يتبنى منهج الأكثرية إن أحسن الناس أحسنوا، وإن أساءوا أساء، شيء من التبعية. القرآن يريد أن يصنع إنساناً له استقلالية ‏في ذاته، استقلالية في تفكيره، استقلالية في اختياره للمنهج الذي يسير عليه في حياته، هذه الاستقلالية ليست استقلالية ‏فوضى، وإنما هي استقلالية مبنية على شعوره بالمسؤولية، فهو لأنه يدرك طبيعة المسؤولية حين يختار عليه أن يحسن الاختيار، ‏وما الذي يكون أحسن اختياراً مما يختاره الله سبحانه وتعالى لك وأنزله إليك، ولذلك الآية التي جاءت بعدها تؤكد هذا المعنى، قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ ‏تَعْمَلُونَ﴾ كثير من الناس خاصة في زماننا هذا أصبح لديهم قضية الجري وراء قول الأكثرية، ربما يفعل أحياناً شيئاً معيناً ليس لأنه على ‏قناعة فيه، أبداً، ولكن لأنه يرى أن أكثر الناس يقومون به. يقف أحياناً في طريق ليس لأنه يدرك بأن هذا الطريق سوف سيوصله إلى غايته، ولكن رأى أنهم سيقفون فوقف معهم، رأى أهله يقفون فوقف مع أهله، وكما يقال في الكلام الدارج: (حشرٌ مع الناس عيد) لا، ليس كل الحشر مع الناس لمجرد أنه مع الناس فهو عيد، أبداً! كلام غير دقيق وغير صحيح ‏القرآن يفنّده ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾. اختيارك للهدى، لطريق الهدى هذا اختيار ينبغي أن يكون اختيارًا فرديًا، مبنيًا على قناعة تامة، وليس مبنيًا على طريقة ولا ‏على مقياس الأكثرية والأغلبية. وهذه الآية كما فهمها البعض حتى في العصور الأولى: أن لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ‏إذاً أنا لا دخل لي بالناس لا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر، إطلاقاً! لا تعارض بينهما: أنت تقوم بواجبك، تقوم بما أمر الله ‏سبحانه وتعالى من تبيان للحق، المنهج واضح، لأن الآية لا ينبغي أن تقرأ بمعزل عن الآيات الأخرى، التي تحض على الأمر ‏بالمعروف والنهي عن المنكر في نفس السورة التي عابت على بني إسرائيل ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا ‏كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ مطلوب منك تماماً أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولكن في نفس الوقت عليك أن تدرك أن المسؤولية المباشرة تقع ‏عليك على نفسك (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ). وإذا رأيت بعد ذلك أن الناس قد اختاروا من حولك منهجاً آخر، فعليك دائماً أن يكون التركيز والمقياس هو الاختيار ‏الذي أنت اخترت، وليس النظر إلى الناس، مقياس خطير جداً أن تجعل مقياس الصحة لديك في الأمور بحسب ما ينظر إليه ‏الناس، أو من خلال منظار الناس من أخطر الأمراض، من أخطر الأشياء التي لا بد من تداركها.‏
ولذلك قال في نهاية الآية: ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فطالما أن الله عز وجل يرجع إليه الخلق، ويرجع إليه الخلق أفراداً ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ لا ينبئكم بما كان يعمل ‏الآخرون، أنا غير مسؤول عن عمل الآخرين، ولكن مسؤول عن عملي، ومسؤول كذلك عن ما ينبغي أن أقوم به، ‏لتصحيح –على سبيل المثال- أخطاء الآخرين، أو إفساد صدر منهم فلا بد أن أقوم بعملية إصلاح أواجه به ذلك الإفساد، ‏ولكن أن أكون إنسانًا سلبيًا هذا لا يمكن أن يقبل أبداً في القرآن!
وتدبروا معي في النموذج الذي جاء بعد ذلك نموذج ‏مثال عن الشهادة والقيام بالشهادة، والوصية والقيام بالوصية، ولنا أن نتساءل ما دخل في قضية الشهادة والإشهاد على ‏الوصية حين يوصي الميت بشيء في كل هذا الحديث؟ هذا مثل تطبيقي نموذج تطبيقي، القرآن يعلمنا كيفية تطبيق أحكامه ‏وتشريعاته من خلال جزئيات الحياة والمواقف التي نتعرض لها، فالموقف الذي نتعرض له في قضية الشهادة والوصية، فماذا ‏تكون النتيجة؟ ﴿وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ﴾ لا تكتم الشهادة، وكما أن الإشهاد على الوصية في حال الموت وما شابه قضية خطيرة وحساسة جداً لا يجوز للإنسان أن ‏يكتمها، كذلك تعاليم شريعة الله عز وجل وأوامر الله ونواهيه، هذه شهادات وأمانات لا ينبغي أن تُكتم أبداً.‏
تدبروا معي!! ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ ربط هذا الموقف موقف قضية الشهادة وهو قضية متعلقة بمواقف معينة حياتية يعيشها الناس، لكن يحتاجون إليها، وهي ‏تحصل مع كل إنسان، والمفترض من كل إنسان صغيراً كبيراً فقيراً غنياً رجلاً امرأة، أن يكون له وصية، وأن يُشهد على ‏هذه الوصية، الوصية لا تتعلق بالمرض فقط، كما يعتقد بعض الناس، بعض الناس لا يكتب الوصية إلا إذا مرض، أو أحسّ ‏بدنو أجله، ولكن نحن نعلم تماماً أن الموت لا يعلمه إلا الله، ساعة الرحيل لا يعلم بها إلا الله، فعلى العاقل المؤمن ألا ينام ليلة ‏كما روي عن كثير من الصالحين، إلا ووصيته فعلاً تحت وسادته مستشعراً أن الموت قد يأتي في أيّ لحظة، هذا جزء من ‏أداء الأمانة، ثم تدبروا معي في ذلك الربط العظيم قال: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ ‏أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ الرسل تُجمع وأماناتهم ووصاياهم كانت متعلقة بأداء رسالات الدين، وأشهدوا الله عليها، وأشهدوا أنهم قد قاموا بإبلاغها ‏للناس، ولذلك النبي صلى الله وعليه وآله وسلم كان يقول في حجة الوداع: “اللهم هل بلّغت، اللهم فاشهد”. أشهد الله على أنه قد بلغ الرسالة، فهذه وصايا (واتقوا الله واسمعوا) كيف تكون التقوى؟ التقوى بالاستشعار بالمسؤولية.
‏ثم ذاك الانتقال العجيب في سورة المائدة بعد ذلك في نهاياتها إلى يوم القيامة، مشهد يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل، وحتى ‏الرسل سيقال لهم ماذا أُجبتم؟. تدبروا معي! لماذا؟ لإشعار الإنسان المؤمن بأهمية الرسالة التي يحملها. ثم عاد الحديث بعد ذلك في قضية عيسى عليه السلام، ‏عيسى عليه السلام النبي الذي اختلف عليه من يدّعون بأنهم أحبابه، وأنهم الذين ناصروه (إذا قال الله يا عيسى) عيسى ‏عليه السلام ربي عز وجل في هذه الآية يذكّره بتلك النعم التي أنعم بها عليه، ولكن عيسى عليه السلام هنا في هذه الآية ربي ‏يذكّر ويقول لعيسى عليه السلام من باب وفي سياق أن يقول لهؤلاء الذين يغالون في هذا الدين، الذين غالوا في ‏دينهم، الذين قالوا إنما المسيح عيسى ابن مريم قالوا: (هو الله) ومرة أخرى قالوا: (ثالث ثلاثة)!
تدبروا معي! فكل هذه الآيات هي في سياق الحديث لهم: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا ‏وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾. تدبروا في الكلمات، تدبروا في الشهادة هنا! سورة المائدة قلنا منذ البداية: إنها سورة عقود وكل عقد لا بد فيه من شهود، كل العقود فيها شهود: بيع شراء، زواج فيها ‏شهود، وكالة فيه شهود، ولكن هذا الميثاق ﴿قَالُوا آَمَنَّا﴾ من الذي شهد عليهم؟ ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ ولذلك بعد ‏ذلك جاء الحديث عن القصة الرئيسة في سورة المائدة قصة المائدة هم قالوا: اشهد بأننا مسلمون، نحن أسلمنا معك مع ‏عيسى عليه السلام، وأسلموا لله وربي شهد عليهم بذلك، ولكن مع ذلك ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ ‏يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لماذا قال لهم اتقوا الله إن كنتم مؤمنين؟ أنت شهدت بأن الله هو الخالق القادر البارئ الرزاق، الذي يقول للشيء كن ‏فيكون، فعلى أيّ أساس تطلب بعد ذلك دليلاً حسياً يكرّس ويعزز جوانب الإيمان في نفسك؟! قال ﴿اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ ‏كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لا تطلب شيء حتى حسي من هذا النوع حتى يثبت الإيمان في قلبك. الإيمان الذي لا يستقر في قلب ‏صاحبه بناءً على يقينه بأن الله سبحانه وتعالى قادر خالق رازق عالم سميع بصير لا يمكن أبداً أن يتركز ويستقر من خلال ‏فقط الآيات أو المعجزات الحسية! ولذلك وقع الكفر بعد ذلك في الأقوام السابقة والأمم السابقة على الرغم من نزول ‏الآيات الحسية. وفي هذا الكلام تعريض كذلك للناس لكفار قريش الذين كانوا يصرون في بداية الدعوة على المطالبة ‏بالآيات الحسية للإيمان بالله سبحانه وتعالى، طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون له من بيت من زخرف وأن ‏يكون له كذا وأن يكون له كذا، القرآن ما استجاب لهم، لماذا؟ لأنه لا بد أن يدرك العقل البشري ونحن قلنا أن سورة ‏المائدة من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، أن إيمانك لا بد أن يزيد ويستقر في قلبك من خلال وجود الآيات ‏الموجودة في الكون، وليس من خلال استحداث آيات جديدة، الكون مليء بالآيات، السماء الأرض، الشجر، المطر، الماء، الإنسان ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ فالقضية ليست قضية استحداث آيات حسية! هم أصروا على أن تنزل عليهم مائدة من السماء، ألا يكفي السماء التي ‏فوق رؤوسهم؟! ألا تكفيهم من آية لتعزز فيهم استشعار قدرة الله سبحانه وتعالى على فعل أي شيء؟! ولكن معناه أن تلك ‏الآيات الموجودة المبثوثة لم تؤدي مفعولها الحقيقي في تلك النفوس، ليس لأنها ليس فيها مفعول قوي، لا، ولكن طبيعة ‏النفوس التي تتلقاها. وللأسف الشديد نحن في زمننا هذا الذي نعيش فيه ألفنا كثيراً من تلك الآيات الحسية المبثوثة في ‏الكون الصلة بيننا وبين الكون بدأت تضعف بشكل واضح جداً، وكأن الكون أصبح أو الطبيعة أصبح جزء منفصل عنا لا ‏نكاد ننظر إليه، ونحن بحاجة إلى النظر والتدبر والتأمل في تلك الآيات الحسية المبثوثة في الكون وفي أنفسكم لتجديد جذوة ‏الإيمان في قلوبنا. الإيمان يخلق، تجديد الإيمان يحتاج منا إلى هذا النوع من النظر والتدبر والتأمل.
ولذلك تدبروا معي في الآية ‏التي تليها ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ ‏لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ تدبروا معي! في ذلك الخلق القرآني الراقي الذي يمليه القرآن هنا في أنفسنا، خلق المساءلة خلق التأكد التحقق من الأخبار، ‏ربي عز وجل علام الغيوب، ويعلم ماذا قال عيسى عليه السلام ولكن هو جاء بها بصيغة السؤال هنا. الآيات تتكلم عن ‏عقود آيات سورة المائدة، آيات سورة المائدة تتكلم كذلك عن مناظرات ممكن أن تكون مع اليهود ومع النصارى، قضية ‏التحقق والتأكد والسؤال عنصر مهم جداً في قضايا العهود والوفاء بها والالتزام بها، عنصر مهم في قضية الشهادة التي ‏ذكرها القرآن قبل قليل، أدب قرآني مهم جداً لا بد أن نتعلمه. عشرات، مئات، أكثر من مشاكلنا الأسرية والاجتماعية ‏تحدث نتيجة لأخذ الأخبار دون التحقق منها، ليس هناك عملية تحقق كما جاء في سورة النور على سبيل المثال، يقول الله ‏سبحانه وتعالى عن قضية الإفك ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ الإنسان لا يتلقى باللسان، الإنسان يسمع بالأذن، ولكن لتأكيد هذا المعنى العظيم أن الناس حين سمعوا هذه القضية ما أعطوا لأنفسهم فرصة الاستماع، ولا التحقق ولا التأكد مباشرة تلقوه وعلى اللسان مباشرة بالنشر والإشاعة، أخطر شيء! وهي ظاهرة خطيرة جداً تهدّ قيم العقود والالتزامات والعلاقات ‏البشرية، لا تستقيم العلاقات البشرية بهذا النهج دون نهج التحقق!
وتدبروا معي حتى في نهاية الآيات ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ ليعطي هذا المعنى في هذه القضية، الله رقيب، رقيب على الكلمات التي نسمعها، رقيب على الكلمات التي نتلفظ بها، شهيد على كل شيء، وتدبروا كم مرة ذكرت قضية الشهادة، كما ذكرنا التناسب بين قضية العقود والشهادة، والوفاء ‏بالالتزامات والعقود والمواثيق وأن الله هو الشهيد عليها، كل العقود كل الالتزامات مكتوبة غير مكتوبة مسموعة غير ‏مسموعة كلها الذي يشهد عليها هو الله سبحانه وتعالى ﴿وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ قاعدة عامة.‏
تدبروا معي! ولماذا ذكر هذه القضية المتعلقة بعيسى عليه السلام في نهايات سورة المائدة وأوائل سورة المائدة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ‏آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾؟ نموذج، عيسى عليه السلام كنبي، كرسول، هو أنموذج لإنسان وفّى بالعقد وبالميثاق مع الله سبحانه وتعالى، صدق مع الله عز ‏وجل، ولا يضره أن قومه وأتباعه لم يصدقوا في اتباع رسالته، وفي إيصال رسالته على النحو الذي بلّغه، وهي لفتة رائعة ‏وتناسب دقيق مع تلك الآية ﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ عيسى عليه السلام نبي، نبي من الأنبياء الذين لهم هذه المكانة العظيمة ولكنه ظلم من قبل أتباعه بأنهم حرّفوا منهجه ‏وحرفوا رسالته، وافتروا عليه الكذب، افتروا الكذب عليه، أشكال من الكذب، إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة. ولكن ‏هل يحاسب عيسى عليه السلام على ما اقترفوه؟ لا، عليك أن تلتزم بالعقد وتوفّي بالعقد الذي بينك وبين الله عز وجل، ولا ‏تضرك ماذا تكون النتيجة بالنسبة للآخرين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ثم قصة عيسى عليه السلام، ثم تدبروا في الآية في التي تليها ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾.
الوفاء بالعقود هو أعلى مراتب الصدق، الوفاء بالعقود، والوفاء بالعقد والميثاق بيننا وبين الله عز وجل أعلى درجات ‏الصدق ﴿من المؤمنينَ رجالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾ الوفاء بالعقود يحتاج إلى الصدق. تدبروا التناسق بين أول السورة وآخر السورة، لا يمكن أن يتحقق الوفاء بالعقد دون أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه ‏صادقاً مع ربه، صادقاً مع الآخرين حين يلتزم‏ بالعقد. ولذلك على سبيل المثال عشرات الأشياء عشرات العقود طرفي ‏العقد على الأكثر قد لا يعرف الواحد منهم نيّة الآخر النية خفية عن الآخر، الذي يشهد ويعرف الله سبحانه وتعالى فعليك أن تكون صادقاً، فإذا ‏كنت وأنت تكتب العقد لديك شك أنك يمكن ألا توفي بذلك العقد عليك أن تكون صادقاً ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ ‏الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.‏
وتدبروا ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تدبروا معي ونتذكر سوية حين قلنا في بداية السورة أننا في العقود مع الله عز وجل بيننا وبينه عقد اتفاق قائم على مبدأ ‏التسخير، المالك هو الله سبحانه، كل ما في الكون وكل ما أعطانا في أنفسنا، وكل ما آتانا ليبلونا فيما آتانا إنما آتانا إياه على ‏وجه الانتفاع، أما من هو المالك الحقيقي؟ فهو سبحانه فقط المالك الحقيقي والذي هو على كل شيء قدير.‏
تدبروا معي في هذه المعاني. سورة المائدة سورة تبني في نفس الإنسان الالتزام بالعقد، وقلنا هي من أواخر ما نزل، حتى ‏تبين أن تلك الرسالة التي نحملها هذه الرسالة رسالة القرآن هي أعظم عقد بيننا وبين الله سبحانه وتعالى، ونحتاج إلى وقفة ‏ونحن ننهي هذه السورة العظيمة أن نسأل أنفسنا: هل صدقنا في تلقي تلك الرسالة؟ هل صدقنا في تمثّل قيم هذه الرسالة؟ ‏أوامر الرسالة، نواهي الرسالة، عقود الرسالة، رسالة القرآن؟ لأننا سنُسأل، للرب عز وجل يسأل الصادقين عن صدقهم، فإذا كان هو سبحانه يسأل الصادقين فما بالك بغير الصادقين؟! نحن مساءلون. وإذا ربي عز وجل سأل عيسى عليه السلام وهو به ‏أعلم، فكيف لا يسألنا نحن؟! نحن بحاجة إلى هذه الوقفة، بحاجة إلى قياس مدى الصدق في حياتنا، مدى صدقنا في التعامل مع ‏الله سبحانه وتعالى، مدى الصدق الذي نحمله في العقد والميثاق بيننا وبين الله سبحانه وتعالى.‏
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الصادقين.‏

تدبر آية – (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) المائدة)

تدبر آية – (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) المائدة)

د. رقية العلواني
تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والآه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يقول الله عز وجلّ في سياق الحديث عن الكفار من بني إسرائيل وهو يصف أقبح الصفات التي اتصفوا بها وطبعًا القرآن العظيم حين يحدثنا عن هذا وحين يحدثنا عن الأمم السابقة إنما يأتي بها لسياق أخذ الدروس والعبر، في سياق التعلّم، في سياق عدم الوقوع التي وقع بها السابقون لأن العاقل هو الذي يتعظ بغيره ويتعلم من عثرات غيره، يتعلم من الأخطاء ويحاول أن يتدارك تلك الأخطاء فلا يكررها في حياته وقد علم مآلآت تلك الأفعال والأخطاء
القرآن العظيم في سورة المائدة هذه الآية الكريمة التي يقول فيها (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) والقرآن العظيم في هذه الآية يحدد صفة شاعت وانتشرت بين تلك الأقوام، شاعت في المجتمع ما أصبحت مجرد عمل فردي فالقرآن يستعمل في مواضع أخرى كلمة (ينهون) ولكن هنا قال (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ) واصفًا ذلك الفعل عدم التناهي (لا يتناهون) وعدم التناهي هنا يوضح لنا من سياق الكلام أنه الذي ينبغي أن يكون أن يصبح إنكار الخطأ وعدم إعطاء الشرعية للأخطاء لما قبّحه الإسلام، لما يقبّحه وينكره العقل السليم الصافي الرشيد النقي الذي يتدبر في عواقب الأمور ويربط بين تلك المآلآت بما جاء في كتاب الله عز وجلّ حين لا يصبح ذلك تفاعلًا في المجتمع حين يرى أفراد المجتمع البعض منهم وهو يزاول أعمالًا مشينة قبيحة لا يقبل بها الشرع أنكرها الشرع العظيم زجر عنها نهى عنها هذه الأفعال حين يكتفي الإنسان المسلم الإنسان الذي يقرأ كتاب الله تعالى الإنسان الذي يعي تمامًا ما معنى رسالته على هذه الأرض يرى الأخطاء يرى القبائح يرى المنكرات من فحش في القول من فحش في الفعل من تصرفات دنيئة من مخالفات صريحة لشرع الله ولكنه يأبى إلا أن يلوذ بالصمت مبررًا لنفسه عشرات التبريرات وما أكثر التبريرات في حياتنا! التبرير هو عبارة عن حالة نفسية يحاول فيها الإنسان أن يتخلص من كل تلك الإزعاجات النفسية التي يشعر بها يتخلص من تلك التبعة التي يحس بها نفسيا الألم وخز الضمير الذي يشعر به حين يسكت عن خطأ حين يسكت عن قبيح. هذا الفعل الإنساني حين ينتشر بين أفراد المجتمع ويصبح المجال كل المجال (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ) يفعل أحدهم المنكر يفعل القبيح يفعل الجريمة التي زجر القرآن عنها بأبشع الأوصاف ورغم كل ذلك يعودون فيتشاركون ويتقاسمون معه كل تفاصيل الحياة يجالسونه في مجالسهم ربما يستقبلونه في بيوتهم وربما يرحبون به كذلك، بمرور الوقت والزمن المخطئ يشعر أن هؤلاء يعطونه ويمنحونه شرعية سلبها الله سبحانه وتعالى منه. المخطئ نحن حين نرى في حياتنا من يخطئ في حياتنا وكل ابن آدم خطاء ولكن هناك فرق شائع بين من يخطئ ويتستر على خطئه على فعلته وبين من يخطئ ويجاهر بذلك الخطأ وربما في بعض الأحيان حتى يتفاخر به، هذا النوع من التصرفات هو الذي نعى القرآن العظيم نعى على من يحاول أن يعطي شرعية لتلك التصرفات، كيف كيف يعطي شرعية وهو فقط التزم بالسكوت؟! القرآن يعلّمني أني حين لا أوضح لذلك المخطئ الخطأ حين لا أبيّن حين لا أجعل هذا الإنسان المخطئ أنا في حقيقة الأمر أنا حين أوضح له الخطأ إنما آخذ بيده أحاول مساعدته، المخطئ فينا ليس إنسانًا منبوذًا كما يُهيأ للبعض أنك إذا أنكرت الخطأ على صاحبك كأنك نبذته، لا، المسألة ليست بهذا الشكل، المسألة أني بالعكس تماما حين أوضح له الخطأ إنما آخذ بيده إنما أحاول أن أريه أشياء ما رآها من قبل أحاول أن أوضح له العواقب، أسلك أحسن السبل والطرق والوسائل لأجل أن أبين له مدى الخطأ لكن أن أتركه وأتعامل معه وكأنه لم يخطئ وأغض النظر عن تصرفاته وربما تكون تلك التصرفات قبائح، منكرات، هذه كارثةّ ولن يتوقف أثر هذه الكارثة على الشخص فحسب وإنما قطعا سيمتد إلى أطراف متنوعة متعددة.
شاع على سبيل المثال للأسف الشديد في بعض المجتمعات ما يطلق عليه البعض الجنس الثالث أو مسميات مختلفة أصبح وجودهم لا نقول أنه شائع جدًا والفضل لله لا تزال بعض المجتمعات فينا لديها ذلك الحس والوعي الإيماني والخوف من الله عز وجلّ ولكننا في نفس الوقت نرى أن ذلك الانفتاح والانبساط في العالم بأسره تجاه هذه القضية الأخلاقية تجاه هذا الإنحراف الأخلاقي قد بدأ يتغير شيئا فشيئا بل كثير من التشريعات العالمية بدأت تعتبر أن تلك الصفات المنحرفة وتلك الأمراض الخطيرة إنما هي ليست بقبائح وليست بجرائم بل هي شكل من اشكال الترابط بين شخصين، شكل من اشكال الأسرة إن صح التعبير هذا في بعض التشريعات العالمية و لكن ذلك لا يغير من حقيقة الأمر الله سبحانه وتعالى بل جميع الشرائع السماوية وصفت ذلك الفعل الشنيع بأنه جريمة أخلاقية. نحن حديثنا اليوم ليس عن هذه القضية ربما نتحدث عنها في مرات قادمة ولكن الحديث هنا عن كيفية تقبل المجتمع لوجود هذا الأمر، البعض منا أصبح يعطي شرعية لهذا الفعل دون أن يتنبه يتعامل مع هذه الأطراف وكأن الأمر مقبول في حين أن الأمر منحرف وشاذ وقد يتساءل قائل: ماذا نفعل بهم؟ ننبذهم؟ لا نتعامل معهم؟ من قال إن الأمر إما أبيض وإما أسود؟ القرآن يقدم منهجية في التعامل مع الإنحرافات والأخطاء تلك المنهجية التي سار عليها لوط عليه السلام في التعامل مع قومه توضيح الأمور عدم السماح بإعطاء أي شرعية لذلك الأمر.
وثمّة أمر نغفل عنه تمامًا أننا حين نتقبل الأخطاء والانحرافات إنما نعطيها شرعية تتكلم بصمت لأبنائنا ولشبابنا ولبناتنا أن ذلك الفعل يمكن أن يكون مقبولًا منهم. ربما لم نشعر بضخامة الأمر، ربما لم ننتبه إلى جسامة الجريمة، ربما لم ندرك تمامًا ما مدى الآثار السلبية الفظيعة المترتبة على ذلك الفعل، فعل السكوت، السكوت السلبي الذي بات فعلًا يقتل المجتمعات يقتل الحسّ والوعي بالمظاهر المختلفة، ربما لم نعي ذلك. ولكن القرآن العظيم في هذه الآية يؤكد أن من أكثر الأعمال شناعة أن لا يتناهى أفراد المجتمع عن المنكر فيما بينهم بأحسن الأساليب بأجمل الطرق ولكن في ذات الوقت لا يمكن أن يكون السكوت هو الحلّ بل السكوت هو الداء.

وقفات تدبرية رمضان 1442هـ / سمر الأرناؤوط

السورة قائمة على الوفاء بالعقود والمواثيق وأولها تعظيم أحكام الله وشرعه فهو وحده سبحانه الذي له الحكم في التحليل والتحريم لا ينبغي أن يعترض أحد على حكمه، الله تعالى حدد المحرّمات في المطعومات وحدد أعضاء الوضوء وما يُغسل منها وما يمسح وشرع الغسل والتيمم وأحلّ ما شاء وحرّم ما شاء وحدد عقوبة الحرابة وعقوبة السرقة وعقوبة القتل كما شاء لا يملك أحد أن يكون له رأي أمام حكم الله وشرعه. إذا كان الناس لا يملكون الاعتراض على قوانين الأرض الوضعية فكيف يتجرأ أحد على الاعتراض أو التشكيك في حكمة تشريعات الله الملك القدير؟!

تعظيم شعائر وأحكام الله تعالى هي من تعظيم الله تعالى أيها المؤمنون.

 

ولنتوقف عند قول الله تعالى:

(ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإسْلاَمَ دِيناً)

هذا الجزء من الآية الثالثة والتي افتتحت بالمحرّمات من المطعومات وروي عن هذه الآية أنه جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: “يا أمير المؤمنين، إنكم تقرأون آية في كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً”. فقال عمر: “وأي آية؟” فقرأ اليهودي هذه الآية، فقال عمر: ”قد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي أنزلت فيه، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله تعالى لنا عيد”.

لنقرأ هذا الجزء من جديد بقلوب متدبرة (اليوم أكملت لكم  دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) آية تلخص المطلوب:

كن فخورا بدينك فخورا أنك تدين لله بدين أكمل لك أحكامه فلا مزيد عليه ولا نقصان، كل ما تحتاجه فيه وهذه نعمة من الله تعالى بل من تمام النعمة، هذا الدين الذي ارتضاه الله تعالى لي ولك والناس أجمعين فالدين عنده الإسلام ونحن أنعم الله علينا بالإسلام وهذا والله نعمة يُحتفى بها ويحتفل بها شاكرين الله على نعمة ارتضائه الإسلام لنا دينا واضحا لا شبهة فيه، كامل الأحكام لا نقص فيه..

 

وهذه الجملة: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ ﷺ نبيًّا مرويَّة عن النبي ﷺ على وجوهٍ مُتفاوتة؛

فقد جاء في حديث أبي سعيدٍ الخدري : أنَّ النبي ﷺ قال: مَن قال: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولًا؛ (وجبت له الجنَّة)

ورد هنا مطلقا غير مقيّد بوقت والحديث ثابتٌ صحيحٌ من حديث أبي سعيدٍ الخدري .

 

وجاء من حديث سعد بن أبي وقَّاص: أنَّ النبي ﷺ قال: مَن قال حين يسمع المؤذّن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، رضيتُ بالله ربًّا، وبمحمدٍ رسولًا، وبالإسلام دينًا؛ (غُفِرَ له)، وهذا ثابتٌ صحيحٌ. وهنا ورد مقيدا بالأذان.

 

وفي لفظ آخر: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا.

 

ومن الأذكار الواردة في الصَّباح والمساء: ما جاء عن ثوبان قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَن قال حين يُمسي: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا؛ (كان حقًّا على الله أن يُرضيه).

ورد هنا مقيدا بأذكار الصباح والمساء.

 

وأسئلة القبر: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟

 

(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)

لا تمر عليها بعد اليوم إلا مرور راضٍ بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، فإنك إن فعلت كانت حياتك كلها عيدا كيف لا وأنت تعلن امتثالك لأحكام الله كلها ولعباداته التي افترضها وطاعتك وتسليمك لأوامره وإن لم تتبين لك الحكمة منها واعلم أن أحكام الله وشرعه مظنة رفع الحرج وإتمام النعمة والله يريد لكم الأفضل والحكيم هو الذي حكم ونحن رضينا به ربا ورضينا بحكمه ودينه ونبيه.

هذه قطرة من بحار سورة المائدة وتذوقا لليسير من طيبات مأدبتها…

هذا والله أعلم

 

 

#رمضان_١٤٤٢

#وقفات_تدبرية

#الجزء_٧

 

ختام سورة المائدة وطلب الحواريين الذين قالوا لعيسى عليه السلام: آمنوا واشهد بأننا مسلمون هم الذين طلبوا أن ينزل الله عليهم مائدة من السماء وحجتهم في طلبهم:

نريد أن نأكل منها

وتطمئن قلوبنا

ونعلم أن قد صدقتنا

ونكون عليها من الشاهدين

 

بعد كل المعجزات الحسية التي أيّد الله عزوجل بها عيسى يريد الحواريون آية جديدة تأتي من السماء مباشرة وكأن كل الآيات السابقة لم تكن من عند الله وبإذنه!

ثم تأتي سورة الأنعام التي أبرزت ما طلبه الكفار من النبي صلى الله عليه وسلم من آيات ومعجزات حسية حتى يؤمنوا (لولا أنزل عليه ملك) والله تعالى عالم الغيب يعلم أنهم لن يؤمنوا (وما يأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين)

آيات الله تعالى في الكون أكثر من أن تحصى لمن يفتح عقله للتفكر والله تعالى أراد أن تكون معجزة الرسول الخاتم معجزة عقلية دائمة لا تنتهي بذهاب الرسول ألا وهي القرآن.

في سورة المائدة (إن الله يحكم ما يريد) التحريم والتحليل بيده سبحانه وحده فهو العليم الحكيم كل حكم له حكمة أما المعارضون عن قبول الحق في سورة الأنعام ابتدعوا الخرافات بلا دليل غير معظمين لله (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء) (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا…) تحريم وتحليل لا حكمة من ورائه إنما هو عن جهل مطبق.

سورة الأنعام تظهر عقلية الجاهلية التي تكذب بالحق وترد أدلته وتبني العقلية المسلمة القائمة على العلم والتفكر وتضع المسلم على أرضية صلبة من قبول الحق بدليله ورد الباطل لأنه لا دليل عليه. الله هذا سبب تكرار أسلوب التلقين للنبي صلى الله عليه وسلم ليرد باطل الجاهلية (قل) وأسلوب التقرير (هو) للتعريف بعظمة الله تعالى العليم الحكيم.

لم يرد في سورة الأنعام من القصص القرآني إلا قصة إبراهيم عليه السلام ومحاجته لأبيه وقومه القائمة على أدلة عقلية مقابل باطل حجتهم.

ومشكلة المعارضون عن الحق الجاهلون قدر الله عزوجل أنهم لا يؤمنون بالغيب ولا بالحساب ولا بالقيامة (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) وقد كان الأولى بهم أن يعلموا أن (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتفقون أفلا تعقلون)

كم من المسلمين اليوم يعيشون حياة لعب ولهو غافلين عن هدف وجودهم في الدنيا وعن مهمتهم فيها وعن الحساب يوم القيامة، يقضون أعمارهم يأكلون ويشربون وينامون ويتناسلون، إن هم كالأنعام بل هم أضل لأن الأنعام تؤدي ما خلقت لأجله!!

نحتاج وقفة مع أنفسنا صادقة لتنفض غبار عقلية الجاهلية التي شوشت على مجتمعاتنا فصار البعض يتجرأ بالسخرية من بعض الآيات والمعجزات ويرحم ويحلل على هواه ما قدروا الله حق قدره ولا أعملوا عقولهم بعظيم آياته في الكون وألصقوا تهمة الجهل والتخلف بالإسلام والعلم والعقل بالغرب فتبعوه والأنعام وما علموا أن الإسلام قائم على العلم وحفظ العقل وتحفيزه للتفكر والمعرفة والسير في الأرض للنظر والاعتبار..

اقرأوا آيات الجزء من جديد باحثين عن مصابيح الهدى والنور المادية منها (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) والمعنوية (فبهداهم اقتده) مصابيح تخرجنا من ظلمات الجهل إلى نور العلم بالله للسير على صراطه المستقيم فنحمده سبحانه (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور)

(قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها) (هذا صراط ربك مستقيما قد فصّلنا الآيات لقوم يذّكّرون)

هذا والله أعلم

 

في صحبة القرآن
سورة المائدة

“أهل القرآن هم أهل الله وخاصته”
سورة البقرة سورة الإسلام لله والاستسلام لأمره لشرعه وأحكامه وطاعته مهما كانت الطاعة صعبة لا بد من السمع والطاعة (سمعنا وأطعنا)
سورة آل عمران سورة مواجهة الحرب على أمة الإسلام من أعداء الداخل والخارج، حرب مادية وحرب شبهات
سورة النساء سورة العدل والإحسان ومعنى إعطاء كل ذي حق حقه حتى مع أبغض الناس
سورة المائدة قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة كاملة بآية من آياتها خوفاً على أمته (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)) الحديث
في السورة آيات مهمة قال بعض أهل العلم أنها آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وبكى عند سماعها بعض الصحابة لأنهم شعروا أن الأمر تم وسينقطع الوحي (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3))
سميت السورة بالمائدة ليس لمجرد ذكر المائدة التي أنزلها الله تعالى على بني إسرائيل ولكن لأن المائدة نفسها فيها معنى العقد (قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (115)) سينزل الله تعالى عليهم المعجزة لكن بشرط، في المقابل لو كفر أحد بعد أن يرى الآية فإن الله سيعذبه وهذا بمثابة عقد، الله عز وجل واثقهم ميثاقاً في هذه الآيات ولذلك أول آية في سورة المائدة وآيات كثيرة في السورة تكلمت عن العقود، لكن ليست أيّة عقود وإنما نوع آخر من العقود وهي العقود والمواثيق مع الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى يأخذ ميثاقاً على الناس ولهذا تتكرر في السورة (أوفوا بالعقود)
(وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)) الميثاق عقد
(وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (12))
(وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (14))
(لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70))
ذكرت كلمة العهد والميثاق مع الله سبحانه وتعالى هذا ميثاق مختلف إذا استشعرت أنه مع الله تعالى.
ذكرت في السورة من أسماء الله الحسنى اسم الملك وذكرت صفة القوة (القدير). عندما يحصل عقد بين البشر في الدنيا لو لم يكن لدى المتعاقد وازع ديني والآخر ليس عنده القوة ليثبت حقه فقد يحصل نوع من أنواع الغبن وينفض العقد بطريقة مهينة وفيها إغفال لحق الإنسان الذي تعاقد، هذا في حق البشر ولله المثل الأعلى. كلما أدركت أن هذا الميثاق وهذا العقد مع ملك قدير كلما كان ذلك أدعى للإلتزام بشروط العقد والخوف من الشروط الجزائية. أنت تتعامل مع ملك الملوك سبحانه وتعالى ليس ملكاً من ملوك الدنيا، تتعامل مع الملك والقدير سبحانه وتعالى الذي له الملك المطلق والقدرة المطلقة وهذا أدعى أن تلتزم بالعقود والموايثق مع الله سبحانه وتعالى. ولهذا تكرر في السورة اسم الملك
(وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)) (وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)) (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)) (لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)) الملك والقدرة هذه المعاني تترسخ في آيات السورة، الملك القدير له القدرة وله القوة وله الملك وله الجبروت فكيف إذا أمر لا يُطاع؟! وكيف إذا نهى العبد عن أمر لا ينتهي؟! ألا يجب أن يكون له الولاء؟!
في السورة عقود عندما تستشعر قيمة الملك والقوة والقدرة المطلقة لله سبحانه وتعالى فهذا أدعى بالإلتزام بالعقود والمواثيق مع الله سبحانه وتعالى.
يمكن تقسيم العقود والمواثيق في السورة إلى ثلاثة أنواع، يجب علينا مراجعة مدى التزامنا بهذه العقود أم أننا سنكون مثل النماذج التي ذكرتها السورة لمن نقضوا عقودهم:
1. عقد التحاكم لشرع الله والسمع والطاعة
2. عقد الولاء لله ولأحبائه وأوليائه والبراء من أعدائه (الولاء والبراء)
3. عقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحرص على أن يلتزم الناس جميعاً بالعقود مع الله، لست وحدك والعقد الأساسي قبل هذا كله هو عقد التوحيد لله سبحانه وتعالى.
نتيجة هذه العقود أن تعترف أن الله سبحانه وتعالى هو الملك الذي يُسمع ويُطاع، الملك الحقيقي لله وحده (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ (114) طه) نتيجة الإيمان باسم الملك القدير الذي تكرر في السورة الذي له القدرة على أن يقتص ممن اخترق عقده ولم يطعه فمن الطبيعي أن تطيع وتلتزم بقانون هذا الملك وتتحاكم له لأنه صاحب الأمر والنهي في ملكوته الذي تعيش فيه وأن تسمع وتطيع. ومن النتائج المنطقية لهذا أن توالي هذا الملك وهذا هو العقد الثاني عقد الولاء والبراء المذكور بكثرة في السورة، الولاء لهذا الملك والبراء من أعدائه خصوصاً، خيانة لله عز وجل أن يوالى عدوه ويُنصر على حبيبه ووليه. ومن نتيجة العقود أيضاً أن يلتزم الناس بحيث لا يخترق أحد عقود مواثيق وأوامر ونواهي هذا الملك الجليل فيكون لدى كل إنسان غيرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
العقد الأول: عقد التحاكم لشرع الله عز وجل والامتثال لأمره والسمع والطاعة
(وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)) ميثاق الإستسلام لله هو عقد لا بد من الالتزام به وفيه أوامر ونواهي يجب أن نلتزم بها فالإسلام ليس مقتصراً على شعائر فقط وإنما هو منهاج حياة كامل برمجة كاملة للحياة، فيه أحكام، حلال وحرام، فروض وواجبات، منهيات وأمور لا بد أن يسيطر هذا النظام على حياتك. وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ليست كلمة جافة، لا بد أن يكون لها مدلول من خلال هذه الطاعة. من خلال هذا المعنى تذكر السورة أحكام، حلال وحرام، واجبات وفروض (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)) لا بد أن تمتثل لهذا الحكم
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)) هذه عقد بينك وبين الله عز وجل
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ) قوانين للملك لا بد من الإلتزام بها والامتثلال لهذه الأحكام لأنك تعيش في ملك الله سبحانه وتعالى تحت ظلال شريعته. ذكرت الآية المحرمات من اللحم
(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)) تذكر الآيات ما أُحلّ
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)) أحكام وقوانين الملك التي يجب أن تلتزم فيها.
وتذكر السورة عقوبات كثيرة فرضها الملك سبحانه وتعالى (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)) حد الحرابة
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)) حد السرقة
هذه أحكام الملك في مملكته، أحكام الملك التي جعلها ميثاقاً.
ثم يضرب الله عز وجل مثلاً لمن لم يلتزم بهذه الأحكام وهذا واضح في السورة بعد كل نوع من العقود يذكر نماذج لمن لم يلتزموا بالعقد. (وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ (13)) نقضوا الميثاق ولم يعترفوا بالعقد بينهم وبين الله تعالى. الله سبحانه وتعالى يأمرهم (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)) قالوا (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)) أمر واضح لكنهم لا ينفذوه لأنهم لم يعترفوا بالميثاق (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ) مرة بعد مرة إلى أن قالوا (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)) غاية التمرد!! يعملنا الله سبحانه وتعالى أن جزاء عدم الالتزام بهذا الميثاق (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)) (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)) (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)) كلام واضح وصريح الذي لا يحكم بما أنزل الله ولا يلتزم بقوانين الملك في مملكته يكون كافراً بهذا القانون، ظالماً لا يريد أن يمتثل لهذا العقد (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (104)) يريدون أن يستبدلوا شرع الله، وأي استبدال لشرع الله فهو حكم جاهلي (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)) شرع الله هو أحسن ما يحكم به (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا (50)) يقابله حكم الجاهلية فالذي لا يبتغي حكم الله يبتغي حكم الجاهلية. آية صريحة وواضحة ولا تحتاج لجدال. وقد تكرر في القرآن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)) (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49))
العقد الثاني: عقد الولاء لله سبحانه وتعالى وأوليائه وعقد البراء من أعدائه
يجب أن توالي الملك سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)) الولاية هنا هي النصرة على حساب المسلمين، المحبة من دون المؤمنين، هذا أمر مرفوض. يمكن أن تُحسن وتبرّ لكن لا أن توالي أعداء الله من دون المؤمنين. (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
ثم يذكر الله عز وجل نموذجاً ممن اخترق هذا العقد (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)) هذا أمر واضح وقاعدة صريحة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (57))
ويضرب الله عز وجل أمثلة بأهل الكتاب الذين والوا ولم يفعلوا ما أمرهم الله عز وجل به من موالاة الله عز وجل وإنما والوا أعداءه.
العقد الثالث عقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إذا التزمت بشرع الله عز وجل وواليته وواليت المؤمنين لا بد أيضاً أن تغار على شرعه وعلى حرماته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم “إن الله يغار تنتهك محارمه”. عليك أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بقدر ما تستطيع وتحرص على هداية الناس قدر وسعه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا، وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا فَاسْتَقَيْنَا مِنْهُ وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا جَمِيعًا” من يخترق حدود الله عز وجل قد يغرق الجميع بسببه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث. فعلينا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر كي ننجو جميعاً ليس فقط أن ننجو وحدنا ولهذا تأتي آية مهمة في السورة تركز هذا المعنى (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79)) لأنهم كانوا يتركون هذه الشريعة التي يحاول كثيرون الآن تشويه صورتها وهي واجبة على كل مسلم (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110) آل عمران) هذا واجب حياة، المسلم يحب لأخيه ما يحبه لنفسه فلذلك يأمره بالمعروف ويقول له اتق الله إذا فعل منكراً، هذه شريعة مهمة يجب أن لا نغفل عنها. وقد يتفاوت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين أصحاب السلطة وبين الناس بعضهم بعضاً فالناس بين بعضهم يكون على سبيل النصيحة والجدال بالتي هي أحسن أما الحاكم فيمكنه تغيير المنكر باليد. لا نستحيي من قول الحق، هذا ديننا الذي علمنا الله عز وجل إياه والذي لعن من لم يفعلوه (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79)) فاستوجبوا اللعنة بسبب ذلك.
كل هذه مواثيق واضحة في السورة وأهمها ميثاق التوحيد الذي خُتمت به السورة عندما سأل الله عز وجل المسيح عليه السلام وأمه (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ) أقر عيسى بميثاق التوحيد لله عز وجل (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)) وسميت السورة بميثاق المائدة التي أنزلها الله عز وجل على بني إسرائيل باشتراط (قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (115)) وبيّن المسيح عليه السلام أنه التزم بهذا العقد فصدق الله عز وجل عليه وعلى كل صادق صدق بالتزامه بالعقد والميثاق مع الله عز وجل لا يعاهد الله كل مرة على عدم المعصية والفاحشة والالتزام بالأمر ثم بعد ذلك ينقض ميثاقه مع الله، أكد الله عز وجل جزاء الوفاء بالعقود الذي أمر به في السورة (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119))
وتختم السورة بالملك ( لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120))
هذه السورة مواثيق وعقود تعلمنا أن نلتزم بها وتوضح لنا مصير من لم يلتزم بالعقود والموايثق وماذا حصل لهم فعلينا أن نتخذ قراراً أن نوفي بالعقود مع الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) حتى نكون ممن قال الله عز وجل عنهم (يوم ينفع الصادقين صدقهم).