سحر البيان

سحر البيان في القرآن الكريم

سحر البيان في القرآن

د. محمود شمس

(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴿٩٠﴾ الأنبياء) (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿١٥﴾ الأحقاف)

فعل أصلح يتعدّى بنفسه (أصلحنا له زوجه) ويتعدّى بحرف جر (أصلح لي في ذريتي). ولكل واحدة معنى والتعدي بحرف (في) ليس من غير معنى وليست (في) حرف زائد هنا.

في آية سورة الأنبياء (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) إصلاح زوجة زكريا بحيث حملت وقد كانت عاقراً قبل ذلك، وهذا المعنى الذي يحتمله السياق لأن الحديث عن عدم انجاب زكريا وزوجه وبإصلاح الزوجة حملت بعد أن كانت عاقراً.

في آية سورة الأحقاف ورد فعل أصلح متعدياً بحرف الجر (في) وحرف (في) يفيد الظرفية بمعنى أن ما بعده وعاءٌ لما قبله ويفيد التمكّن كما تضع الورقة في الظرف فالظرف أصبح وعاءً للمظروف الذي وضعته فيه.

الله تعالى يشير بوجود حرف (في) مع فعل أصلح لأن الوالدان عندما يدعوان لأبنائهما لا يدعون لهم بالإصلاح الظاهري، فالاصلاح نوعان إصلاح ظاهر وإصلاح باطن والناس عندما يدعون عادة لا يتعمقون في الاصلاح الباطن وإنما يدعون بالاصلاح الظاهر أما الوالدان فهما عندما يدعوان لأبنائهما إنما يريدان إصلاحاً متمكناً في أعماق أبنائهم وفي سلوكهم وتصرفاتهم، ما يدعون لأبنائهم بالإصلاح الظاهر فقط، وهذه خصوصية دعوة الوالدين فاحرصوا رحمكم الله أن تفوزوا بدعوة والديكم إن كانوا على قيد الحياة لأنه بوفاتهما يُغلق باب من أبواب السماء

 

(وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ﴿٦٦﴾ يس) – (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ﴿٣٧﴾ القمر)

ورد في القرآن فعل طمس وورد فعل طمس على متعدّي بحرف الجرّ (على) وإذا تدبرنا الايات التي ورد فيها الفعلين ومعنى طمس في السياق نجد أن الطمس معناه الإزالة والمحو والمحو على نوعين قد يكون محواً للأثر وقد يكون محواً للأثر والأصل. بالنسبة للعين الأثر هو الإبصار فقط فيكون الطمس على العين بمعنى محو الإبصار مع بقاء العين أما طمس العين فهو محو للأثر والأصل يعني ذهب ضوء العين وذهبت العين لم يعد هناك عين فهو إزالة للأثر وإزالة للأصل.

في آية سورة القمر (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ) السياق يتحدث عن قوم لوط وكيف أنهم كانوا يراودون ضيوف لوط عليه السلام ليفعلوا بهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد فكان عقابهم من الله مباشرة بطمس أعينهم عقوبة على جريمتهم الشنيعة فأزال ضوء العين وأزال العين أيضاً فلم يعد في وجوههم أعين.

أما في آية سورة يس قال تعالى (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ) السياق يتكلم في الآخرة على الصراط فالطمس يكون على العين بإزالة الأثر مع بقاء الأصل أي إزالة إبصار العين مع بقاء العين فلا حاجة في هذا الموقف لإزالة العين فهو ليس موقف عقوبة على جريمة كحال قوم لوط.

هذا والله أعلم.

************************

حلقة 14/4/2012م

فقد بيّنت في اللقاء السابق مفهوم القول بالزيادة عند القائلين بذلك وبيّنت أن كل حرف في كتاب الله له دور في المعنى ولا يمنع أن يكون زائداً في الاعراب بمعنى أنه يجرّ ما بعده لفظاً فقط لكن لا بد أن يكون له دور في المعنى. لكن نتساءل ما الأسباب التي دعتهم للقول بالزيادة؟ لماذا قالوا بزيادة بعض الحروف وتمسك بذلك البعض؟ هناك بعض الأسباب حاولت أن أحصرها لكم وهي تتمثل في الآتي:

  • الفعل عندهم في اللغة يتعدى بنفسه ولا يحتاج إلى حرف جر بعده
  • هذا الفعل قد يرد في القرآن الكريم في موضع متعدياً بحرف جر وفي موضع آخر متعدياً بنفسه بدون حرف جر

القضية أنهم لا يحاولون الربط بين معنى الفعل ومعنى الحرف والسياق الذي ورد فيه الحرف والفعل. ولذلك سآتي بأمثلة لأبين بظلان قولهم هذا:

الفعل الأول: فعل ربط.

الفعل ربط في اللغة يتعدى بنفسه فأقول “ربطت الشنطة” و”ربطت الدابة”. القرآن الكريم استعمل الفعل ربط في ثلاثة مواضع وفي المواضع الثلاثة نجد الفعل بعده متعدياً بحرف الجر (على). اقرأ قول الله تعالى في غزوة بدر (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) الأنفال) فقالوا (على) هاهنا زائدة لأن الأصل “ليربط قلوبكم”.

الموضع الثاني في قصة أصحاب الكهف عندما قال تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ (14)) لم يقل ربطنا قلوبهم

الموضع الثالث والأخير لهذا الفعل في القرآن الكريم في قصة موسى وأم موسى يوم أن ألقته في اليمّ. قال الله تعالى (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) القصص) فنجد الفعل “ربط” لم يُستعمل في القرآن إلا بوجود حرف الجر (على) وحرف الجر (على) هاهنا هم يرون أنه لا دور له في المعنى. كيف هذا؟!

تدبروا السياق في المواضع الثلاثة، في المواضع الثلاثة عندما نتدبر نجد أن قلب الإنسان وعاء -وسيأتي الكلام عن القلب والصدر والفؤاد واللُّب بحول الله وقوته فيما بعد- القلب وعاء وعاء لليقين وعاء للإيمان وعاء للثبات فالقلوب في المواضع الثلاثة تدرك أنها قد امتلأت يقيناً وإيماناً وثباتاً بداية. ففي غزوة بدر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ما خرجوا لأجل القتال لكن عندما وجدوا أن القتال فالله تبارك وتعال أودع في قلوبهم الإيمان والثبات واليقين. القلوب امتلأت إيماناً وثباتاً ويقيناً أولاً ثم ظهرت النسبة البشرية في الإنسان عندما رأوا الفرق بين العدد والعُدّة عددهم وعدد المشركين والعُدّة التي معهم والعُدّة التي مع المشركين فأدركوا أن هذا الأمر لا يمكن بالعقل البشري أن يأتي النصر، كيف والعدد فارق كبير بالآلآف بيننا وبينهم؟! فهذا الأمر كاد أن يزحزح الإيمان والثبات واليقين من قلوبهم. فالله تبارك وتعالى ما ربط قلوبهم، لا، ربط على قلوبهم، على ما في القلوب حتى لا يتزحزح فالله ربط على قلوبهم بما فيها من إيمان وثبات ويقين حتى يثبّتهم وحتى يستمروا على ثباتهم. إذن الربط ليس للقلب ولكن الربط على ما في القلب من إيمان. أنت عندما تودع شيئاً في خزينة ِ تلك الخزينة فأنت أغلقت على ما في الخزينة، فالله ربط على ما في قلوبهم.

تعالوا لأم موسى، أم موسى عندما أوحى الله إليها (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) القصص) نفّذت لكن النسبة البشرية في الإنسان راودتها (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) القصص) تنفيذها لأمر الله يؤكد أن قلبها امتلأ إيماناً وثباتاً ويقيناً في البداية لكن حدث ما قد يزحزح هذا الإيمان.

*****************************

حلقة 16/4/2012م

نلتقي لنؤكد أن القرآن الكريم هو كلام الله تبارك وتعالى وأنه كتاب هداية فكل حرف فيه له دلالة وأؤكد هذا من خلال استعمال القرآن الكريم لحرف في موضع أحياناً البعض يرى أن هذا الحرف زائد لا دور له في المعنى وتلك القضية سنؤصلها فيما بعد وأحاول أن آتي بآية ونتدبر استعمال الكلمات التي استعملها الله تبارك وتعالى.

اقرأ قول الله تعالى (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى (1) الحج) وألفت نظرك لنتعلم سوياً التدبر في كتاب الله (يوم ترونها) أسند الرؤية لواو الجماعة (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا). و(وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى) ترى أنت إسناد الرؤية هاهنا لمفرد عند رؤية الناس سكارى أسندها لمفرد فهل هناك سر في هذا؟ نعم، ولا بد أن يكون هذا هو كلام الله تبارك وتعالى، لِمَ أسند الرؤية في ذهول كل مرضعة عما أرضعت وأن كل ذات حمل تضع حملها أسنده لجماعة؟ لأن الناس جميعاً ليسوا بمرضعين وإنما المرضعون سيكونون فئة من الناس مجموعة من الناس فالمرضعة هي المرأة وليس كل النساء آنذاك سيكن مرضعات فالله جلت قدرته يشير إلى أن غير المرضعين وهم جماعة ترونها أنتم أيها الجماعة الذين لا ترضعون سترون كل مرضعة تذهل عما أرضعت. وأن كل ذات حمل تضع حملها، إذن الناس في تلك الرؤية مجموعتان مجموعة مرضعة ومجموعة غير مرضعة فكان لا بد من اسناد الرؤية للمجموعة غير المرضعة.

أما في قوله (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى) ليس الناس على فريقين، ليس من الناس من يكون يسكارى ومن لا يكون بسكارى، أبداً، إنما كل واحد من الناس سيرى غيره سكارى فأنت ترى كل الناس سكارى وأنا أرى كل الناس سكارى (وَمَا هُم بِسُكَارَى) نعم، بدليل أنك عندما رأيت رأيتني من السكارى وأنا رأيتك من السكارى إذن كل واحد يرى الناس جميعاً سكارى وما هم بسكارى لأن كل واحد سيرى هؤلاء الناس سكارى، من الذي يملك أن يصوّر هذا الأسلوب وهذا التعبير إلا الله سبحانه وتعالى؟!

يرى البعض أن التاء في كلمة مرضعة زائدة، لماذا؟ لأن التاء تدخل على الوصف الخاص بالنساء عندما يشترك الرجال مع النساء في هذا الوصف بمعنى أني أقول محمد كريم وفاطمة كريمة حتى أميّز بين صفة المؤنث وبين صفة المذكّر. لكن هناك صفات خاصة بالنساء لا يشترك فيها الرجال فأهل العربية يرون أن تلك الصفات لا ينبغي أن تلحقها التاء مثل كلمة حائض خاصة بالمرأة لا أقول امرأة حائضة ومرضع خاصة بالنساء فأقول امرأة مرضع. لكن عندما تتدبر وتقرأ أصل كلمة مرضع ومرضعة تجد فرقًا دقيقًا بين الكلمتين وأن كلمة مرضعة هي المراة هاهنا. كيف هذا؟ المرضع بدون التاء هي المرأة التي من شأنها الارضاع إلا أنها غير متلبّسة به الآن، يعني عندها طفل وعندما الحليب في صدرها إلا أنها لا ترضع الآن، الطفل نائم، يلهو ويلعب فهي لا ترضعه الآن، هذه هي المرضع. إذا تلبست بالارضاع وكان الطفل متلبساً بالارضاع معها نجد أن هذه هي المرأة المُرضعة أي المتلبسة بالارضاع. إذن هناك فرق بين المرضع والمرضعة: المرضع من شأنها أن ترضع لكنها غير متلبسة المرضعة هي المتلبسة بالارضاع. تخيل عندما يصور الله ذهول كل مرضعة عما أرضغت أيّ الأسلوبين أكثر تعبيراً في هول هذا اليوم؟ أن تكون المرأة المتلبسة بالارضاع تذهل عن طفلها، لأنه لو قال (تذهل كل مرضع) لكان الأسلوب أقل تصويراً للهول، لأن المرضع من طبيعتها أنها تركت الطفل الآن وهي غير متلبسة لكن كون المرضع متلبسة بالارضاع ومع ذلك هي تذهل عنه فمعناها أن الهول في هذا اليوم شديد وهذا هو ما أراد الله تبارك وتعالى أن يصوّره لأن الارضاع كما نعلم له دور في العلاقة بين الطفل وأمه ولذلك عندما نقرأ قول الله تعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي (7) القصص) تدبر معي: (أَنْ أَرْضِعِيهِ) أم أن الوحي مركّز على (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)؟ نعم مركّز على (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) لماذا قال أرضعيه في البداية؟ لا بد أن يكون هناك درس لنا ولا بد أن نتدبر وبالمفاهمة مع أساتذة طب الأطفال قالوا بأن الارضاع له ثلاث فوائد، تلك الفوائد الثلاث سنعرفها ونتدبرها بحول الله وقوته في الحلقة القادمة.

**********************

حلقة 21/4/2012م

القول بزيادة بعض الحروف في القرآن لا ينبغي أن نقول به وإنما لكل حرف دور في المعنى. وقد بينا ذلك في الحلقات السابقة ومن خلال ورود الآيات التي قيل فيها بالزيادة ومن الآيات التي اشتهر القول فيها بالزيادة:

قول الله تبارك وتعالى (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ (31) يوسف) في قصة نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. والسبب الذي دعاهم للقول بزيادة الباء هاهنا في قول الله تعالى (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) أن الفعل سمع يتعدى بنفسه كما ورد في قول الله تعالى (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا (1) المجادلة) فلم يقل الله “قد سمع الله بقول التي” فيرون أن الباء هاهنا زائدة ويكون المعنى “فلما سمعت مكرههنّ”. عندما نتدبر السياق الذي وردت فيه تلك الآية الكريمة ندرك أن الباء لا بد من وجودها ولو لم توجد الباء في قوله (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) لاختل المعنى، ولقلنا بأن هناك خللًأ هاهنا، لم؟

أولاً الفعل سمع الذي يتعدى بنفسه هو الذي يكون السمع فيه سمعاً مباشراً، أنا سمعتك تتكلم سمعتك وأنت تتكلم لكن إذا كان الكلام قد حُكي لي ولم أسمعك مباشرة وإنما وصلني عن طريق من أخبرني فإني أقول سمعت بك أو سمعت عنك لكن إن كنت قد سمعتني مباشرة فأنت تقول قد سمعتك. تعالوا نتدبر هذا الكلام النسوة اللآئي تكلمن في حال امرأة العزيز هم بالتأكيد قلة وهؤلاء النسوة بالتأكيد كنّ يتكلمن في خفاء فيما بينهن بدليل أن الله تبارك وتعالى سماه مكراً والمكر تدبير خفيٌ لا يُسمع عندما تمكر بأحد لا ينبغي أن يسمع ما تمكر به وإلا ليس بمكر. فالمكر تدبير خفيٌ إذن الباء هاهنا لا بد منها لو قال الله “فلما سمعت مكرههن” لقلنا كيف سمعت المكر؟! وهل المكر يُسمع؟! المكر لا يُسمه وهي لم تسمع مباشرة وإنما جاء من يُسمِعها وجاء من يبلغها الخبر.

عندنا أيضاً في قول الله تبارك وتعالى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ (228) البقرة) يرون أن الباء في (بِأَنفُسِهِنَّ) زائدة لأن التربص يكون بالغير انا أتربص بك وأنت تتربص بي فيقولون كيف تتربص المطلقة بنفسها؟ هي تتربص بغيرها إنما تتربص بنفسها فهذا لا يمكن أن يكون. إذا قلتم أن الباء زائدة ماذا ستفعلون بكلمة أنفسهن؟ قالوا تكون توكيداً لنون النسوة الضمير الذي في قول الله تعالى (يَتَرَبَّصْنَ) كأنهن يقولون “يتربصن أنفسهن” لكن لا يمكن أن تكون أنفسهن توكيد هاهنا لا من الناحية اللفظية أو الصنعة النحوية ولا من ناحية المعنى لأننا نؤكد بالنفس عندما يكون هناك التباس في المعنى، لبس حاصل في المعنى. عندما تقول زارنا الشيخ بالأمس فقد تكون أنت تبالغ ربما الشيخ لم يزرك وإنما ارسل أحدًا من تلاميذه فإذا أردت أن تؤكد هذا الأمر تقول زارني الشيخ نفسه. ونحن هنا لا نحتاج لهذا التوكيد لأنه لا يوجد لبس (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ) لن تقول لي من اللآئي يتربصن لأنه من الواضح أنهن المطلقات.

ثانياً توكيد الضمير لا بد أن آتي بضمير منفصل بين الضمير المتصل والمؤكد وهذا ليس بموجود.

دور الباء هنا عندنا ما يسمى بأسلوب التجريد. وأسلوب وارد في القرآن الكريم كما في قوله تعالى (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) النازعات) نهى فعل ماض والنفس مفعول به، أين الفاعل؟ نهى هو، أي أن الإنسان هو الذي ينهى نفسه، كيف ينهى الإنسان نفسه؟ هذا الذي نسميه أسلوب التجريد بمعنى أن الله تبارك وتعالى يقول لك اعتبر نفسك صديقاً لك وجاراً لك وقل لنفسك يا نفسي ابتعدي عن الهوى. فالله تبارك وتعالى يشير هاهنا إلى أن المطلقة يجب أن تجرد نفسها وأن تقول لنفسها ّتربصي مدة العدة وهي ثلاثة قروء” وهذه تبرز الحالة النفسية للمطلقة لأنه كما نعلم أن المطلقة تكون في ظروف نفسية صعبة وتريد أن تثبت ذاتها وتريد أن تثبت أنها صالحة للحياة فربما يتقدّم إليها زوج أو عريس خاطب جديد فتحاول أن تخفي عدتها حتى تتزوج وتثبت جدارتها وتثبت رغبة الغير فيها وتلك حالة نفسية في المرأة المطلقة أنها تريد أن تثبت أنها ناجحة وأنها صالحة فالله يقول لها تمهلي تربصي اعتبري نفسك صديقا لك لن يتربص بنفسك إلا أنت، أنت المهيمنة على نفسك (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ) إذن الباء ليست زائدة وإنما الباء لها دور أكيد تأسيس في المعنى لا يمكن الاستغناء عنه كما بيّنت.

**************************

حلقة 27/4/2012م

تناوب الحروف

نلتقي في قضية القول بتناوب الحروف لنؤكد أن كل حرف استعمله الله تبارك وتعالى في كتابه إنما استعمله لتأدية المعنى المراد. ومن تلك الحروف التي قيل فيها بأنها بمعنى حرف آخر في قول الله تبارك وتعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) ابراهيم) فيقولون بأن قوله تعالى (وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) أن (على) بمعنى (مع) ليكون وهب لي مع الكبر أي أن الله وهب لخليله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهب له مع وجود الكِبر. لكن عندما تتدبر معي لتدرك معنى حرف الاستعلاء هنا (وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَر) (على) حرف يفيد الاستعلاء والتمكن فما معنى الاستعلاء هنا في قول الله تبارك وتعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) لندرك أولاً قبل أن نتكلم في حرف الاستعلاء أن الله تبارك وتعالى عندما يتحدث عن انجاب الولد يستعمل لفظ الهبة (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴿٤٩﴾ الشورى) (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) ابراهيم) (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ﴿٥﴾ مريم) (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴿٣٨﴾ آل عمران) لماذا لفظ الهبة بالذات؟ إشارة أنك أيها الانسان لا تملك شيئا في إنجاب الولد لأن الهبة عطاء بلا مقابل منك وإنما هو الأخذ بالأسباب الذي تفعله إنما هو أن تأخذ بالأسباب فقط. فلا بد أن نعلم أن الكبر من أهم وأكبر العوامل التي تكون مانعة لانجاب الرجل، فالله تبارك وتعالى يشير هاهنا على لسان سيدنا ابراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه يحمد الله أي يثني عليه أنه وهب له على الكبر، فما معنى الاستعلاء هاهنا؟ معنى الاستلاء أن إرادة الله تبارك وتعالى عندما يريد العطاء لعبد من عباده تستعلي فوق كل الموانع البشرية، الكبر من الموانع عند البشر، البشر يرون أن الكِبَر مانع للانجاب فالله جلّت قدرته يشير هاهنا إلى أن إراداته وإلى أنه عندما يعطي ويمنح فإن عطاءه ومنحته تستعلي على أكبر الأسباب البشرية وهذا دليل على أن الله تبارك وتعالى عندما يريد أن يعطي فلا مانع لعطائه أبداً لكن عليك بالدعاء. ولذلك علمنا الله تبارك وتعالى على لسان زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن يلجأ العبد لربه بالدعاء حتى لو كانت الأسباب البشرية تشعر وتوحي بأن هناك مانعاً ما. قال الله تبارك وتعالى على لسان سيدنا زكريا (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴿٣﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴿٤﴾ مريم) وهن العظم مني أي أني بلغت الغاية العظمى في الضعف لأن العظم بالنسبة للإنسان هو الأعمدة التي يقوم عليها بنيان الانسان فإذا وهن العظم فمعنى هذا أن الإنسان قد بلغ الغاية العظمى في الضعف. وقيل أيضاً لأن في جسم الإنسان ثلاثة مخازن رئيسية تمد الجسم بالقوة وبالطاقة: المخزن الأول الشحوم التي في جسم الإنسان فمنها يمتد الجسم قوته وطاقته. إذا فقد الجسم تلك الشحوم ينتقل إلى المخزن الثاني الاحتياطي وهو اللحم ما بين الجلد والعظم، هذا اللحم يستمد الجسمُ طاقته وقوته منه إذا فقد الشحم. فإذا بلغ الإنسان مبلغاً من السنّ وفقد المخزن الثاني وهو هذا اللحم -ولذلك بعض أجدادنا أو جدّاتنا لو نظرنا إلى يدي الجدّ نجد الجلد والعظم، هل كانت يده هكذا وهو في مرحلة الشباب ومرحلة القوة؟ أبداً، كان هناك اللحم لكن فقد الجسم هذا اللحم. إذا فقد الجسم هذا اللحم ينتقل إلى المخزن الأخير وهو العظم. إذا العظم إذا وهن يكون الانسان في غاية الضعف. وقيل أيضاً بأن تكوين الحيوان المنوي يكون في النخاع العظمي ولذلك كانت الدقة في التعبير القرآني في قول الله تعالى (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا (4) مريم) إذن عندما قال خليل الرحمن (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) إشارة إلى أن عطاء الله تبارك وتعالى لا يمنعه مانع فإذا كانت هناك موانع بشرية وأراد الله لك أو أراد الله بك أن يعطيك أو يمنحك فإنه عطاءه لا يتوقف بسبب الموانع البشرية. وهذا هو المعنى الذي أبرزه وجود حرف الاستعلاء (على)

ومن المواضع التي قيل فيها (على) بمعنى (مع) في قول الله تبارك وتعالى (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ (177) البقرة) فيقولون بأن (على) هاهنا بمعنى (مع) ليكون “وآتى المال مع حبه”. لكن تعالوا نتأمل السياق ونتدبر معنى حرف الاستعلاء هاهنا نجد أن لحرف الاستعلاء دورا أساسياً في المعنى لأن حب المال في قلب الانسان فطرة فالإنسان يحب المال بفطرته والمال كما يقولون شقيق الروح فالله تبارك وتعالى من خلال وجود حرف الاستعلاء هاهنا (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) يشير إلى أن حب المال في قلبك فطرة بشرية ولا مانع من تلك الفطرة. لكن المؤمن عندما يُدعى للإنفاق وعندما يُدعى الصدقة وعندما يُطلب للعطاء فإن حُبّه للصدقة وحُبّه للإنفاق وحُبّه لما عند الله يستعلي على حُبّه في قلبه، فلو قال الله “وآتى المال مع حبه” ما أفاد هذا المعنى وإلا لكان المعنى أنه يعطي المال مع وجود حُبّه وهذا أمر فطريٌ.

******************

حلقة 5/5/2012م

رابط الحلقة

http://www.youtube.com/watch?v=qPnJPPwSnZ0&feature=share

كل حرف في كتاب الله له معنى في موضعه الذي أراده الله تبارك وتعالى. القائلين بتناوب الحروف الأمر الذي دعاهم إلى هذا أن الفعل قد يتعدى بحرف معين ثم يجدونه في القرآن الكريم قد تعدى بحرف آخر كما بينا في الحلقات السابقة. واليوم نبدأ في بيان بعض الأفعال التي تتعدى في موضع بحرف وفي موضع آخر بحرف آخر ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)) عندما نتدبر نلاحظ أن الفعل يشربون في الآية الأولى تعدى بحرف الجر (من) (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ) بينما في الاية الثانية قال الله تعالى (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا) وبالطبع الكأس آلة يُشرب بها وأما العين فهي المنبع الذي يُشرب منه مما دعا البعض إلى القول أن (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا) الباء هاهنا بمعنى (من) أي عيناً يشربون منها إذ أن العين كيف يشربون بها؟ لكن عندما تتدبر تجد أن هنا معنى دقيقاً لأن الله تبارك وتعالى يتحدث عن نعيم الأبرار في الجنة والنعيم في الجنة أكبر بكثير مما ذكره الله تعالى لكن الله يذكره بما نفهمه وبما تستطيع العقول أن تستوعبه. العذاب أيضاً لأهل العذاب إنما هو أكبر بكثير ولكن الله يذكر ما فيه الزجر بما تستوعبه العقول. فالله تبارك وتعالى يشير إلى أن الكأس التي هي الآلة التي يُشرب بها إنما ستكون منبعاً ولن تكون آلة لأنهم سيشربون من كأس. لماذا؟ الكأس في اللغة إنما هو الكوب الممتلئ بالشراب، يعني الكوب إذا كان فارغاً يسمى كوباً فإذا امتلأ يسميه الله كأساً. إذن الكأس في الأصل ممتلئ ولذلك الله قال في آية أخرى (وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) النبأ) معنى دهاقا أي كأساً مملوءة لا تفرغ أبداً، لماذا؟ لأن الإنسان عندما يشرب كأساً من العصير أو كأساً من مشروب معين يحبه ويتلذذ به يكون كل همه أن هذا الكأس سينتهي وإذا انتهى يتألم من داخله، فالله تبارك وتعالى يشير إلى أن هذا الكأس الذي ستشربون منه لن يفرغ أبداً سيكون ممتلئاً مهما شربت فكلما رغبت في الشرب تجد الكأس ممتلئاً وتجد نفسك تشرب من غير جهد ولذلك قال الله في نفس السورة في نعيم الأبرار (وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)) أي أن قطوف ثمار الجنة ستكون مذللة لك تأتيك دون أن تطلبها بمجرد أن ترد في بالك ستأتيك.

وأما في قوله تعالى (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا) جعل الله العين آلة يُشرب بها مع أن العين هي المنيع، نقول نعم أراد الله أن يشير أنك ستكون قريباً جداً من العين، ستكون ملابساً ومصاحباً لها لتجمع بين التمتع بالنظر والتمتع بالشرب فالله تبارك وتعالى يشير إلى أن الأبرار سيتمتعون برؤيتهم للماء وهو في العين وسيتمتعون بالشرب وسيكونون ملابسين لتلك العين لن تبذل جهداً ولن تحتاج إلى بذل جهد فالعين أنت تشرب بها والكأس الذي تشرب به في الأصل ستشرب منه، دليل على أنه كأس لا يفرغ أبداً. والكأس ممتلئ دائماً دليل على أنك ستكون في غاية التمتع وفي غاية التذلل بما أعده الله تبارك وتعالى لهؤلاء الأبرار.

إذن جعل الله تبارك وتعالى الآلة وهي الكأس كأنها هي المنبع (يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ) وجعل المنبع هي الآلة (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا) ولم يقل عيناً يشرب منها. وهذا الكلام هو الذي يؤيده السياق ويؤكده السياق في آيات أخرى أيضاً خلافاً لمن زعم أن عباد الله في الآية الثانية غير الأبرار في الآية الأولى فيرى أن الأبرار نوع من البشر ويرى أن عباد الله نوع آخر، نقول أبداً، عباد الله هاهنا هم الأبرار المذكورون في بداية السياق ولذلك هؤلاء يشربون من كأس كان مزاجها والعين يشربون بها لماذا؟ دلالة على التمتع الكامل والتلذذ برؤية العين وبالشرب من الماء عندما يريدون وأن الكأس لا يفرغ أبداً وهذا دليل على تمتع الأبرار في الجنة. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم ممن يُنادون يوم القيامة (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) الأعراف).