سورة البقرة حددت المنهج الذي يجب أن يتبعه الذين استخلفهم الله تعالى في الأرض، وسورة آل عمران ركزت على الثبات على هذا المنهج, وتأتي سورة النساء حتى تدلنا على أن العدل والرحمة بالضعفاء من أهم ما يحتاجه الناس لاتباع المنهج. وآيات سورة النساء تتحدث عن أنواع عديدة من المستضعفين, والضعفاء منهم اليتامى والنساء والعبيد والإماء والأقليات غير المسلمة التي تعيش بين المسلمين الذين قد يظلمهم الناس. فالعدل إذن والرحمة بالضعفاء هي أساس المسؤولية في الأرض.
وأول العدل يكون في البيت مع النساء, فلو عدل الإنسان مع زوجته ولو رحمها لاستطاع أن يعدل في مجتمعه مع باقي الناس مهما اختلفت طبقاتهم. والله تعالى يريد أن يرى عدل الناس خاصة بالنساء قبل أن يستأمنّا على الأرض.
سورة آل عمران مهّدت لتكريم المرأة في قصة زوجة عمران ومريم عليها السلام اللتان هما رمز الثبات في الأرض, ولأن النساء هن مصانع الرجال والأجيال، فالأم هي التي تربي أطفال الأمة حتى يصبحوا رجالاً. وسميت السورة بـ(النساء) تكريماً لهن ولدورهن في الأمة الإسلامية.
ونستعرض آيات سورة النساء ومعانيها وكل آيات هذه السورة فيها عدل ورحمة:
· وتبدأ من أول آية التي يذكرنا الله تعالى فيها أنه خلقنا من نفس واحدة وأصل واحد فكيف يظلم بعضنا بعضا.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
· ذكر انواع الضعفاء من اليتامى والنساء والسفهاء وغيرهم والحث على العدل والرحمة بهم.
1. ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ).
2. ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ).
3. ( وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا).
4. ( وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا).
5. ( وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا).
6. ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) .
7. (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا).
· تحذير الذين يظلمون بعاقبة الظلم: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا(10)).
· آيات الميراث وما تضمنته من نصيب الأولاد والأبوين والأزواج والزوجات في حالة وفاة أحدهم.
1. يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أو دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا(11)).
2. وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أو دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أو دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أو أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أو دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)).
· بيان خطورة عدم العدل: (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(13)).
· أوامر للتوجيه لحسن التعامل مع النساء: والحث على عشرتهن بالمعروف بعدم ظلمهن وتحمل الأذى منها والصبر عليها وترقق قلبها لتنسى الظلم والإساءة. يبدأ بالعشرة بالمعروف ثم الصبر عليها ثم إذا كرهتموهن فلا حرج من استبدالها لكن لا يأخذ أموالها كرهاً وليتذكروا ما كان بينهم من عشرة وعلاقة حميمة ولذا جاءت كلمة أفضى بكل معانيها الجميلة وليتذكر الرجال أنهم استحلوا نساءهم بميثاق غليظ على سنة الله ورسوله.
1. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا).
2. (وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِينا(ً.
3. ( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا).
وكذلك توجيه بالعدل مع الإماء، ومن رحمة الله تعالى أن جاء بكلمة أهلهن بدل أسيادهن، ونصحهم بأن لا يتخذن أخذان أي أصحاب حتى لا تتأذى لأن قلوب النساء رقيقة وتتأذى بشدة. (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(25)).
· ذكر رحمة الله تعالى التي هي أوسع من كل شيء:
1. (يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
2. (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا).
3. (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا).
· العدل في الأنفس والأموال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29)).
· ضوابط ليستقيم العدل داخل الأسرة: مع الأمر بالعدل يأتي التشديد على وجود ضوابط حتى تستقيم الأمور ولا تتجاوز الحدود المسموح بها. كما في الآية 34 (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) فالتسلسل واضح فيها فالأول يبدأ الوعظ ثم الهجر في المضاجع وأخيراً الضرب والضرب جاء في النشوز وجاء متأخراً في الترتيب فجاء بعد الوعظ والهجر فإذا لم ينفع أياً من هذه الأمور يتركها عسى الله أن يبدله خيرا منها.
· العدل في المجتمع كله: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا(36)). ونلاحظ في الآية الكريمة تعداد أنواع من الضعفاء.
· مشاكل تؤثر على القدرة على العدل والرحمة بالضعفاء: منها البخل (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا(37))، والرياء (وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا(38)).
· الله تعالى يعاملنا بالفضل قبل العدل (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) آية 40
· الرسول r يشهد على عدلنا (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا(41).
· آية محورية هي قلب الصورة في أهمية أداء الأمانات: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا(58).
· تنتقل السورة إلى محور جديد هو القتال لضمان حقوق المستضعفين (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(74) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا(75). وقد يستغرب البعض من ورود آيات القتال في سورة النساء, والحقيقة أن مكان الآيات في هذه السورة؛ لأن النساء هن مصنع المقاتلين والمرأة مقاتلة في بيتها بصبرها وطاعتها لزوجها.
· الحث على العدل أثناء الجهاد ومعاملة الناس برحمة حتى في القتال وهذا من أخلاق الحرب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(94).
· خطورة المنافقين: تنتقل الآيات في ربع كامل للتنبيه إلى خطورة المنافقين لأن أكثر ما يعيق إتمام العدل هو انتشار المنافقين
· توصيات للأقليات المستضعفة: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا(97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً(98).
· رحمة الله تعالى بعباده: ومنها رحمته بنا حتى في الصلاة فشرّع قصر الصلاة (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا(101))، وصلاة الخوف (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أو كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا(102)).
· العدل مع الأقليات المسلمة التي تعيش مع المسلمين: فالعدل واجب للمسلمين وغيرهم أيضاً (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا(105)) و(وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا(113)).
تذكرة بالعدل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أو الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أو فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أو تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)).
ومن لطائف هذه السورة الكريمة أن أكثر آياتها ختمت بأسماء الله الحسنى (عليم، حكيم، أو من صفات القدرة والرحمة والمغفرة) وقد ورد 42 اسماً من هذه الأسماء في آيات السورة مما يشدد على أهمية العدل والرحمة في سورة النساء لآن العلم والقدرة والحكمة والمغفرة والرحمة هي من دلائل العدل. فسبحان الله العدل الحكيم الرحيم الغفور.
سورة النساء
مع سورة النساء وأوصي نفسي وإخواني بتعلم السورة وحفظها إذا أمكن فإنها من السور العظام ومن السبع الطوال التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: من أخذ السبع الأول فهو حَبْر (أي عالِم) والسبع الأول ست منها متفق عليه وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والسابعة مختلف فيها والذي رجّحه بعض الباحثين أن السورة السابعة هي سورة يونس لأن الصحابة كانوا يسمونها “السابعة”، سورة يونس كانت تسمى في عهد الصحابة السابعة، يدل على أنها سابعة السبع الطوال. هذه السورة من أخذها مع السور الأخرى فهو حِبْر. وابن مسعود رضي الله عنه له كلمة في هذه السورة وله موقف أيضاً في هذه السورة. أما الموقف فهو ما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقرأ عليه القرآن قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ” اقرأْ عليَّ القرآنَ ” قال فقلتُ: يا رسولَ اللهِ ! أقرأُ عليك، وعليك أُنْزِلَ ؟ قال ” إني أشتهي أن أسمعَه من غيري ” فقرأتُ النساءَ حتى إذا بلغتُ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [ 4 / النساء / الآية – 41 ] رفعتُ رأسي أو غمَزَني رجلٌ إلى جنبي فرفعتُ رأسي فرأيتُ دموعَه تسيلُ. وفي روايةٍ : قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، وهو على المنبرِ ، ” اقرأ عليَّ ” .الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث:مسلم – المصدر: صحيح مسلم – الصفحة أو الرقم: 800 – خلاصة حكم المحدث: صحيح.
هذا الموقف، وأما المقولة فإنه يقول رضي الله عنه من قرأ آل عمران فهو غنيّ والنساء مُحبَّرة (أي متقنة) وبعض الناس يقول النساء مَحْبَرة (من الحبور) والحبور في اللغة هو السرور يعني مصدر للسرور إما أن تكون مُتقنة أو مصدر للسرور وكلا المعنيين يظهر في السورة والله أعلم وإن كان يحتاج مزيد تأمل لكن الإتقان في الأحكام في هذه السورة عظيم وهي تبعث على السرور لأنها تُظهر من كمال الدين ما يجعلك تفرح به جداً.
وهذه السورة أظن أن أيّ كافر من المتعلمين والمثقفين لو قرأ معاني هذه السورة ولو قرأها بالعربية لكان خيراً لو قرأ ترجمة معانيها بأيّ لغة فإنه لا يشك أن هذا القرآن ليس من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء في آخر السورة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴿١٧٤﴾)
هذه السورة العظيمة بدأت بالنداء وهذه أول سورة تبدأ بالنداء والنداء من الله لا ينبغي أن نمرّ عليه سريعاً، الله ينادي وأنت أحد المنادَيْن في غالب الآيات إلا في بعض الآيات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأحياناً ينادى النبي صلى الله عليه وسلم وتدخل أمته معه في الحكم وأحياناً يكون الحكم خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم لكن أكثر النداءات (يا أيها الناس) ندخل فيه، (يا أيها الذين آمنوا) نسأل الله أن يثبتنا على الإيمان، فهذه السورة بدأت بالنداء. أنت عندما تتكلم ولله المثل الأعلى مع إنسان فإنك تتكلم معه بدون نداء إلا إذا شعرت أنه شارد أو منصرف أو أردت أن تنبهه أن الأمر مهم. كل هذا محتمل فالإنسان قد يكون غافلاً فيحتاج إلى النداء وقد يكون منشغلاً بأمر آخر فيحتاج إلى النداء وقد يكون غير مستحضر لعظمة الأمر فيحتاج إلى النداء فربّ الأرض والسماء في مطلع هذه السورة بالآية التي كان يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة التي تقال في خطبة الجمعة وفي غيرها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) فبدأت بالنداء وتكررت فيها النداءات كثيراً.
هذه السورة مثل السور التي قبلها باستثناء الفاتحة نزلت في المدينة ونزلت في مدة طويلة بخلاف سورة آل عمران وقد مر معنا أن سورة آل عمران تتعلق بحدثين: بغزوة أحد وقدوم وفد نصارى نجران على المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم أما سورة النساء فتتعلق بأحداث متفرقة مما يدل على أنها ظلت تنزل فترة طويلة مثل البقرة ظلت تنزل عشر سنوات، هذه السورة أقل لكنها ظلت تنزل على فترات تربي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهنيئاً لهم تلك الآيات التي نزلت على قلوبهم كما ينزل الماء البارد على من أصابه الظمأ.
سورة النساء امتدّ نزولها واشتملت على أحكام كثيرة وإذا مررنا على موضوعات هذه السورة ولاحظنا فيها النداءات التي تتكرر. بدأت بنداء (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وختمت بـ(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وبينهما نداءات كثيرة، هذه النداءات تعين على التركيز في معاني السورة وتنبه أن موضوعاً انتهى وموضوعاً استؤنف وهذه السورة باعتبار أنها في المدينة الذي يكثر فيها هو الأحكام الشرعية ومن اسمها نتنتبه أن النساء سيُذكرن في السورة كثيراً ويُذكر معهن اليتامى لأنهم يشتركون معهن في الضعف ويذكر معهم صغار السن والضعفة فهؤلاء تتعلق بهم كثير من آيات السورة التي تمتلئ برحمة الله سبحانه وتعالى. هذه الأحكام تأخذ جزءاً كبيراً من السورة ومعها أحكام أخرى تتعلق بالقتال لكن دائماً إذا انتهى نداء وقبل أن يأتي النداء الآخر تأتي موعظة من الله سبحانه وتعالى يأتي حديث عن التوبة كقوله سبحانه وتعالى بعد النداء الأول وقبل النداء الثاني يقول سبحانه وتعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)) (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ) ما معنى بجهالة؟ قالوا: كل من عصى الله فهو جاهل وليس المقصود أنه لا يعرف الحكم الشرعي لكن عندما أكذب أو أغشّ أو أنظر نظرة محرّمة أو أغتاب إنساناً أنا جاهل بحقيقة من أعصيه، جاهل بحقيقة المصير وإن كنت أعرف الحكم لكن هذا نوع من الجهل المؤقت هذا الجهل قد تعقبه يقظة من رحمة الله بالعبد (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ) ما هي المدة؟ قالوا كل ما دون بلوغ الروح الحلقوم فهو قريب، الأيام تمر سريعاً جداً فكل ما دون الموت قريب فمن تاب قبل أن تبلغ ه الحلقوم وقبل أن تطلع الشمس من مغربها فقد تاب من قريب وإنما لو الإنسان نظر إلى ظهر الأرض السوء بجهالة يحس أنه لا بد أن يكون جاهلاً ومن قريب يعني يوم يومين ثلاثة لكن الله سبحانه وتعالى كريم سبحانه وتعالى. ثم قال (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) هذه توضح الآية التي قبلها، وصل للمرحلة التي لا تنفعه فيها التوبة نسأل الله السلامة. ما علاقة هذه الآيات عن التوبة بآيات الأحكام؟ قبلها آيات أحكام وبعدها آيات أحكام، قبلها آيات مواريث وأحكام في الزنا والعياذ بالله ونحوه وبعدها آيات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا (19)) لماذا آيات التوبة هنا؟ وتتكرر بعد ذلك أيضاً بعد نداء آخر يقول الله سبحانه وتعالى (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)) وبعد النداء الثالث يقول الله سبحانه وتعالى (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا (41)) قال قبلها (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)) هذه ليست أحكام شرعية وإنما في مراقبة الله والحساب (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا (42)). وبعد النداء الذي بعده يقول الله سبحانه وتعالى (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)) ثم يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (29)). قد أكون قدّمت في بعض الآيات وأخّرت لكن القصد أنه كلما جاء نداء وقبل النداء الآخر تأتي موعظة وكلام في الإيمان ومراقبة الله في العقاب والحساب وفي الجنة والنار لأن القلب لا يستطيع أن يمتثل أحكام الله إلا بهذه الموعظة، لا يكفي حتى تمتثل أن تعرف الحكم قد تعرف الحكم لكنك لا تميّز يحتاج إلى إيقاظ، يحتاج إلى تذكير، يحتاج إلى تنبيه ويحتاج إلى التذكير بالله أولاً وهذا يستمر في كل الآيات غالباً إذا سمعت آية من آيات الأحكام تجد في نهايتها (إن الله كان بكل شيء عليما) (والله على كل شيء شهيد) ونحو ذلك حتى ترتبط بالله ثم تأتي الموعظة لترقق القلوب وتعين على امتثال أمر الله سبحانه وتعالى.
يقسم بعض العلماء هذه السورة إلى قسمين:
القسم الأول فيه نداءات ثمان، لن نذكرها لكن تتوسطها آية تشمل هذه النداءات كلها يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)) وهذه الآية سبقتها أربع نداءات كلها لها علاقة بمسألة الأمانة ومنها آيات المواريث لأن إعطاء كل من كتب الله له حظاً وحقاً في الميراث وإن كان هذا لا يعجباً بعض الناس، كيف أعطي امرأة أو كيف أعطي ضعيفاً أو يتيماً أو من لا يقدر أن يساعدنا بشيء؟! وهذا كلام نسمعه كثيراً فكيف يحرمإنسان امرأة من حقها؟ أو يحرم أيّ مخلوق من حق أوجبه الله له في كتابه، هذه مسألة عظيمة. (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) جاءت قبلها أحكام شرعية تتعلق بإعطاء كل ذي حق حقه. قال الله (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) فما بعد هذه الآية نداءات متساوية في العدد مع التي قبلها، قبلها أربع نداءات وبعدها أربع نداءات تتكلم عن الحكم بين الناس بالعدل وأول ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ (59)) ومنه الاحتكام إلى كتاب الله وإلى النبي صلى الله عليه وسلم وجاء فيها (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65)) لو أن أفضل القضاة والأذكياء والحكماء اجتمعوا ليحكموا في مسألة من المسائل وخالفوا حكم الله فهؤلاء لم يحكموا بالعدل وإن سموا أنفسهم محكمة العدل الدولية! هذا لا يغير من الحقيقة شيئاً فالعدل إنما هو في دين الله سبحانه وتعالى. ومن إقامة العدل القتال في سبيل الله ولذلك ذُكر هنا وإلا كيف يأخذ المظلوم حقه؟! كلما أتى واحد ذبح الناس قالوا لا يمكننا أن نفعل له شيئاً!! قال الله سبحانه وتعالى (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا (75)) تقاتل في سبيل الله وتقاتل في سبيل المستضعفين. فالقتال في سبيل الله هو من إقامة العدل وليس ظلماً، القتال بما شرع الله، الجهاد في سبيل الله ليس ظلماً وإنما هو من إقامة العدل في الأرض ولذلك لا ينبغي فيه تجاوز الحدّ ولذلك جاءت آيات في السورة تبين أن الإنسان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ (94)) لا تقاتل في سبيل الله كلما رأيت شخصاً ذبحته وأخذت غنيمته! قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) في الجهاد (فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) رجل يسلّم عليك تقول لست مؤمناً لأنك تريد ما عنده من مال (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ).
وضمن هذه الايات ذكر حكم القتل الخطأ للمؤمن والقتل العمد للمؤمن وحكمه وهذا كله من إقامة العدل أعني إعطاء القصاص وقتل من قتل نفساً بغير حق إلى غير ذلك من أحكام.
أما القسم الثاني من السورة فجاءت فيه تثبتات للمؤمنين وفضائح للمنافقين ودعوة لأهل الكتاب وكأن الآيات السابقة بعد أن بينت دين الله وبينت كماله وبينته عدله وبينت كيف يعطي كل ذي حق حقه احتاج المؤمنون إلى التثبيت وإلى معرفة أحوال المنافقين الذين ذُكوا من قبل في آيات القتال ولكن فُصّل فيهم هنا فقال (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)) وذُكر أهل الكتاب وخُتمت السورة بقوله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ) أسأل الله أن يجعلنا منهم (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا).
ثم ذُكرت آية من أحكام المواريث وقد كانت آيات المواريث قد ذُكرت في أول السورة ثم ذُكرت هنا لتذكّر بعظم هذا الأمر وأهميته وأنه لا ينبغي التساهل فيه وأنه بيان من الله. وانظر إلى المشاكل العائلية الآن في أماكن كثيرة تجد مشاكل كبيرة في عائلة بسبب أنهم من ثلاثين سنة ما وزّعوا الميراث! بينهم خصومة وخلاف وعوائل أخرى بينهم مودة ومحبة وأعرف أناساً أشرفوا على توزيع تركة لبعض المليونيرات الكبار في البلد أناس يبقون عشر سنوات يتضاربون في الميراث وأناس ينتهوا في أيام بتوزيع الله سبحانه وتعالى وهو أرحم الراحمين وهو العليم الحكيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
بدأت بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)) هذه أوائل السورة وقال في خاتمتها: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)) يستمر في المواريث. بدأت السورة بخلق الإنسان وبثّ ذريته في الأرض (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) إذن بدأت بخلق الإنسان وبثّ ذريته في الأرض وانتهت بهلاكه من دون عقِب (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) انتهت بنهاية الإنسان، ليس هذا فقط وإنما بدأت بإيتاء الأموال للنشء الجديد (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) واختتمت بتقسيم التركات، هذا تناسب. إذن هذا الترتيب توقيفي مع أن القرآن نزل منجّماً على مدى ثلاث وعشرين سنة.
قال تعالى في خاتمة آل عمران: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)) وفي بداية النساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ (1)), إذن صار الخطاب عاماً للمؤمنين في خاتمة آل عمران (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ), وأنتم يا أيها الناس اتقوا ربكم إذن كلهم مأمورون بالتقوى. المؤمنون هم فئة من الناس والناس أعمّ، المؤمنون أمرهم بأكثر من التقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ), ثم التفت إلى الناس لأن ليس كلهم بهذه الاستطاعة فقال اتقوا ربكم الناس فيهم وفيهم (اتقوا ربكم) هذه مطالبين فيها, أما المرابطة فليس كلهم مطالبون فيها, فمنهم الضعيف والمريض. هنا علاقة الخاص بالعام المؤمنين والناس وبين التقوى وغير التقوى إذن صار ارتباط الأمر للمؤمنين ولعموم الناس.
تبدأ المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ (1)) وأخبر ربنا في النساء في أواخرها أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها الله عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم فقال (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا (160) النساء) إذن حرّم عليهم الطيبات لأنهم نقضوا المواثيق وقال في المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) لأن أولئك نقضوها أنتم أوفوا بالعقود لذلك في أوائل المائدة قال: (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ (4)) مقابل (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ (160) النساء). يخاطب المؤمنين في سورة المائدة لما قال أوفوا بالعقود قال أحل لكم الطيبات أما أولئك حرم عليهم الطيبات لنقضهم المواثيق أنتم أوفوا بالعقود أحل لكم الطيبات. هذا أمر، والأمر الآخر أنه في خواتيم النساء تقسيم الإرث (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ (176)) فإذن خاتمة النساء في تنظيم العلاقة المالية بين الأقرباء، في أول المائدة العلاقة مع الآخرين، تلك العلاقة المالية مع الأقرباء والمائدة مع الآخرين والطبيعي أن تبدأ بالأقرباء ثم تعمم، فذكر العلاقة بين الأقربين في النساء وتقسيم الإرث بينهم وأول المائدة ذكر العلاقة مع الآخرين وتبدأ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) والعقود مع الآخرين (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى (2)) هذه مع الآخرين. إذن صار خاتمة النساء وأول المائدة تنظيم العلاقة بين أفراد المجتمع عموماً كلهم من الأقربين إلى عموم المجتمع، تنظيم العلاقة كلها بين الداخل والخارج. ثم خاتمة النساء في تقسيم الأموال وأول المائدة في صرف الأموال ابتداء من الأطعمة أول ما يحتاج إليه الإنسان الطعام فذكر ما يحل له (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)) وما يحرم عليه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ (3)). إذن خاتمة النساء في تقسيم الأموال والمائدة في أوجه صرف الأموال، إذن هي مترابطة. خاتمة النساء في هلاك الإنسان والاستفادة من ماله والاستفادة مما ترك وبداية المائدة في إهلاك الأنعام والاستفادة منها من صوف ولحم، تلك استفادة مما ترك وهذه استفادة مما تركت من صوف ولحم وأشعار، إذن الرابط الاستفادة مما ترك ومما تركت، تلك استفادة في الأموال والاستفادة من هذه بالأصواف والأشعار واللحم، إذن ترابط أكثر من موضوع في العقود وإحلال الطيبات وتنظيم العلاقة والاستفادة مما ترك ومما تركت.
د. رقية العلواني
تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نريد اليوم أن نتدبر في سورة النساء، هذه السورة التي نزلت بعد سورة الممتحنة ولكن في ترتيب المصحف هي السورة الرابعة بعد سورة آل عمران مباشرة. ولو تأملنا في هذا الترتيب العظيم وكنا قد قلنا في مناسبات سابقة أن ترتيب القرآن بالشكل الذي هو عليه اليوم وبين أيدينا توقيفي جاء بالوحي وليس للبشر فيه شيء على الإطلاق. هذا الترتيب بين السور في كتاب الله عز وجلّ، هذا النظم القرآني، هذا البناء المتكامل ربي سبحانه وتعالى أراد منه أن يُحقق حكمًا ومقاصد ما كانت لتتحقق لو أن هذه السورة وضعت في مكان سورة أخرى ولذلك اهتم منذ القدم العلماء لسابقون والمفسرون بقضية التناسب بين السور، التناسب بين نهايات السور وفواتحها، التناسب بين الآيات، التناسب بين أول الآية وآخر الآية، أشكال متنوعة من التناسب، وكل أنواع وأشكال البحث في المناسبات لتحقيق ذلك المقصد التربوي العظيم في كتاب الله عز وجلّ (التدبر). التدبر الذي لا بد أن يلحق به العمل والتنفيذ والتطبيق. هذا القرآن العظيم على عظمته وعلو منزلته ند الله سبحانه وتعالى وعند الخلق إلا أنه ما جاء ليبقى فقط بين دفتي كتاب جاء ليطبق جاء ليحقق وأول مكان ووعاء يمكن أن يتحقق فيه القرآن وتنزل فيه معانيه العظيمة إنما هو ذلك القلب الإنساني (نزله على قلبك) إذا لم يتحقق ويطبق القرآن وآيات القرآن العظيمة والأحكام والتعاليم في قلوبنا أولًا لا يمكن أن تجد محلًا في مجتمعاتنا ولا في أُسرنا ولا في محاكمنا ولا في شوارعنا ولا في مؤسساتنا ولذلك أول ما كان ينبغي أن تنصرف الهمم إليه القلوب وأين موضع القرآن فيها؟ ولذلك قلنا في أوقات سابقة أنه على الإنسان المؤمن المتدبر الذي ينوي أن يأتي بهذا الكتاب العظيم أن يطهّر قلبه، أن يخلّص عقله وفكره، أن يجعل ذلك القلب والعقل الذي هو فعلًا محل الإدراك والتفهم والتبصر والتأمل في كتاب الله أن يجعل هذه الأوعية المستقبلة لهذا الخطاب الرائع العظيم على قدر من التفهم والتبصر والنقاوة والصفاء لكي تليق تلك الأوعية لاستقبال هذه المعاني العظيمة تصبح قادرة على أن ترتقي لتصل فعلًا إلى جزء من هذه المعاني في كتاب الله سبحانه وتعالى.
سورة النساء سورة من الاسم تتكلم عن حقوق النساء ولكن قبل أن ندخل فيما جائت به سورة النساء دعونا نستذكر ونستحضر بقية السور التي جاءت قبل هذه السورة العظيمة. ربي سبحانه وتعالى افتتح كتابه الكريم بسورة الفاتحة تلك السورة التي جاءت بكل معاني القرآن الأساسية التي لا يمكن للإنسان أبدًأ أن يعيش بدونها أو بعيدا عنها، وقلنا فيما قلنا أن هذه الحكمة واحدة من أسباب أن الفاتحة لا بد للإنسان المسلم من أن يقرأ بها ويأتي بها في كل ركعة من ركعات صلاته. ثم جاءت سورة البقرة سورة مدنية سورة تكلمت عن التقوى في كل تجلياتها في الحياة، التقوى المحور الذي يقوم عليه الدين، صحيح أن سورة البقرة حوت الكثير من الأحكام المتعلقة ببناء المجتمع المسلم بدءًا من الأسرة، بدءًا من الكلام عن المال وصولا إلى قصايا متعلقة بالمجتمع، قضايا متعلقة بالأحكام، تتعلق بالسياسة، تتعلق بالقضاء، بالديون، عشرات الأحكام ولكن جعلت المحور الذي تدور عليه كل الأحكام: التقوى، التقوى التي تُبنى في القلوب. الحكم الشرعي ليس مجرد حكم، الحكم الشرعي ليس مجرد حُكم خالي من الحِكَم وإلا أصبحت الأحكام مجرد أشكال مجردة، أشكال تنظيرية كما هي حال القوانين والصيغ والأحكام التي يضعها البشر وحاشا لله سبحانه وتعالى أن تكون الأحكام التي أنزلها في كتابه العظيم بهذا الشكل التنظيري أو التجريدي! أحكام القرآن جاءت فيها تلك المعاني، معاني التقوى لتجعل منها أحكامًا حية في واقع الإنسان، أحكام تعبّر عن الإنسان في شعوره وخلجات نفسه، أحكام حقيقية أحكام تعالج الإنسان، أحكام انبثقت تمامًا من معنى أن يكون للإنسان حاجة في التعامل مع نفسه أو مع الآخرين من حوله ولذلك هي صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان لأنها قامت على وضوح وبيان من الخالق الذي خلق الطبيعة البشرية الإنسانية التي لا تقبل التغيير ولا التبديل، تتغير الأزمنة، صحيح، تتغير المجتمعات، تتغير الأشال، تتغير الصور، قضايا جزئيات متعلقة بالحياة الإنسانية، ولكن الطبيعة البشرية لا تتغير، طبيعة الرجل وطبيعة المرأة لا تتغير، طبيعة الاحتياجات البشرية والإنسانية لا تتغير لذلك ربي سبحانه وتعالى لما وضع تلك الأحكام جعلها متناسبة تماما مع تلبية احتياجات النفس البشرية وما يصلحها وما تقوم به عبر الأزمنة.
ثم جاءت سورة آل عمران تعلم الإنسان الثبات، سورة البقرة علّمته التقوى وعلمته كيف يقوم بتطبيق التقوى في حياته وسورة آل عمران جاءت تعلم الإنسان الثبات في وسط كل التحديات الداخلية والخارجية التي يمكن أن يواجهها في رحلة الحياة سواء كانت تحديات من قِبل الأمم المختلفة التي تعايشها المجتمعات المسلمة أو تحديات داخل النفس البشرية تحديات داخلية أو خارجية تستدعي تمامًا عامل الثبات، عامل الاستقامة الذي بنته وأسسته سورة آل عمران. وفي ختام سورة آل عمران ربي عز وجلّ أمر عباده المؤمنين بالتقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٢٠٠﴾) خطاب رباني يذكّر الإنسان بأن كل الأنشطة البشرية التي يقوم بها في واقعه إذا خلت من التقوى أصبحت جوفاء، مجرد صور وأشكال ولكن إذا أردنا فعلًا أن تحقق تلك الأحكام والتطبيقات النتائج وتؤتي الثمار فعلًا فعلينا بالتقوى، مفتاح كل شيء في الإسلام وفي القرآن: التقوى.
وصلنا إلى سورة النساء السورة التي بدأها ربي سبحانه وتعالى بقوله (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) ودعونا نقف عند الآية الأخيرة في سورة آل عمران يقول الله عز وجلّ فيها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) الخطاب للمؤمنين (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ثم سورة النساء في أولها (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) خطاب لكل الناس. خطاب سورة آل عمران وصية للمؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) والخطاب في مفتتح سورة النساء يبدأ (يَاأَيُّهَا النَّاسُ). التعاليم العظيمة التي جاءت في كتاب الله عز وجلّ تذكّرنا سورة بعد سورة أن رسالة هذا القرآن رسالة عالمية لا تختص بالمسلمين فحسب، لا تختص بالقوم الذين شرفهم الله بنزول القرآن فيهم أولا بل إن مهمة هؤلاء الأساسية أن يحملوا هذا النور لكل الناس، العالم ولذلك الأمانة الكبيرة جدًا هي رسالة القرآن والحمل لهذه الرسالة ليس بالضرورة يكون بأن يقرأوا القرآن على الناس قد تمر عليهم أوقات كما هو الحال اليوم ليس أمة من الأمم بحاجة إلى أن تستمع إلى الآيات أو السور، الحاجة الحقيقية إلى رؤية التطبيق، النموذج الذي جاءت به الآيات القرآنية التعاليم الربانية المنزّلة في كتاب الله سبحانه، اِسماع الأمم وتبليغ رسالة القرآن لا يكون فقط من خلال التلاوة أو القرآءة المجردة بل يكون من خلال تنزيل هذه الأحكام التي جاءت في الآيات واقعا يبصره ويراه القريب والبعيد. ولذلك لما أدرك المسلمين الأوائل، الجيل الأول هذه الحقائق طاروا بها في شرق الأرض وغربها بتعالميها، بتطبيقها، بشعورهم وإحساسهم بالمسؤولية والأمانة تجاه أمم الأرض، حملوا تعاليم القرآن في أخلاقهم، في تعاملهم بالدرهم والدينار، تعاملهم فيما بينهم، الأخلاق، السلوك، الأقوال، القضاء، المعاملة المالية، كل أشكال التعامل هذا نوع من أنواع حمل الرسالة وهذا الحمل للرسالة لكي يؤدي فعلًا النتيجة والمقصد التي لأجله كان لا بد أن يكون له رصيد عميق جدًا من التقوى، رصيد التقوى. ورصيد التقوى يذكرني القرآن به مرة بعد مرة ولذلك جاء التذكير به في أول سورة النساء (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) التقوى والتقوى لكي تتحقق في ذات الآية الأولى من سورة النساء تكلمت عن كيفية بناء التقوى، التقوى تبنى حين يستحضر الإنسان رجلًا كان أو امرأة الطبيعة والخِلقة التي خلقه الله سبحانه وتعالى عليها.
سورة النساء سورة تتكلم في كل آياتها عن العدالة وتحقيق العدالة بكل صورها ولذلك السورة سورة مدنية نزلت لكي تُطبّق في المجتمع المسلم الأول في المدينة، القرآن وأحكام القرآن تنزل لأجل أن تطبق، التطبيق العملي للآيات هو التفسير الحقيقي لهذه الآيات العظيمة. ولذلك نجد أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت التفسير لهذه الآيات طريقة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في التعامل كانت التفسير لهذه الآيات التطبيق التنفيذ في الواقع. السورة بكل آيات 176 آية كل هذه الآيات تحدثنا عن العدالة، عدالة في المشاعر، عدالة في القول، عدالة في الظن، عدالة في العمل والسلوك، عدالة مع النساء، عدالة مع الصغار، عدالة مع الكبار، عدالة مع الأقوياء، عدالة مع الضعفاء، عدالة أول ما تبدأ تبدأ في النفس ولذلك أعظم أنواع العدل أن يتقي الإنسان ربه. صورة العدالة تتجسد في النفس الإنسانية على قدر ما يحمل الإنسان من التقوى ترجمة حقيقية لمعاني العدالة في النفس. الإنسان إذا لم يتقي ربه كيف يمكن أن يكون عادلًا مع الآخرين سواء كان في الأسرة أو في المجتمع؟! كيف يمكن أن يكون منصفًا وهو لم يحقق معاني العدالة مع خالقه سبحانه وتعالى؟! فالنفس البشرية لكي يكون لها رصيد حقيقي من العدالة لا بد أن تحمل رصيدًا من التقوى ولذلك بدأت السورة بالحديث عن التقوى أول وصية، أعظم وصية لكل البشر: تصحيح العلاقة مع الربّ.
سورة النساء تكلمت عن العدالة بكل صورها كما سنأتي عليها: عدالة في الحكم، عدالة في السياسة، عدالة في الاقتصاد، عدالة في المال والاقتصاد، عدالة في المجتمع، عدالة في الأسرة، عدالة في النفس، كل شيء. ولكن العدالة لو أردنا أن نرسم لها مثلثًا كما جاءت في سورة النساء سنجد أن معها أطرافًا أخرى في المثلث، على رأسه العدالة ثم على الجانب الآخر الرحمة ثم على الجانب الثالث الأمانة. بمعنى آخر لو رسمنا مثلث العدالة كما جاء في سورة النساء لوجدنا على رأسه العدالة ثم الرحمة ومعها بنفس المستوى الأمانة، وكل واحد من هذه القيم العظيمة القرآنية يؤدي إلى القيمة الثانية وبدون أن تتكامل الثلاثة قيم هذه لا يمكن أن تتحقق العدالة وفي القلب وفي المحور والمركز تمامًا هناك مكان التقوى، هذه العدالة التي تصنعها سورة النساء.
لفت انتباهي وأنا اقلّب في التفاسير المختلفة سواء كانت القديمة أو المعاصرة أن الكثير من المفسرين يتكلمون عن سورة النساء وفي كلامهم عن العدالة يقولون بأن سورة النساء قد بدأت بالكلام عن العدالة مع النساء ومع اليتامى ومع الضعفاء لأن السورة تتكلم عن العدالة مع الضعفاء، وهذه الفئات من النساء واليتامى فئات ضعيفة في المجتمع والإنسان حين يكون في موطن ضعف فإنه مما لا شك فيه أن يمكن أن يكون محلًا لوقوع الظلم عليه فجاء الكلام في هذه السورة عن العدالة لحماية هؤلاء الضعفاء ولكن حين قرأت في الآية الأولى من سورة النساء لم أجد مكانًا للحديث عن الضعف، وجدت حين تدبرت في الآية أن الله سبحانه وتعالى يعلّمنا أن ننظر إلى خلقه جميعًا رجالًا ونساء، صغارًا وكبارًا، أغنياء وافقراء، يتامى حُرموا من الأب أو اشخاص لديهم أُسر ومكتفين بهم، يتحدث عن الجميع في آية واحدة وكلمة واحدة فيقول (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) وهذه الكلمة لها مقصد ولها معنى، المعنى والله أعلم معنى المساواة، بمعنى آخر أن قيمة العدالة التي تتحدث عنها سورة النساء فيها محور آخر قائم على المساواة بين الخلق، المساواة في القيمة الإنسانية (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) التي جاءت بها سورة النساء. ولذلك لا أجد فيها كلامًا عن الضعف، بالعكس هناك كلام عن العدالة مع القوة لأن العدالة لا بد لكي تتحقق فعلًا أن تقوم على الشعور بأن الخلق متساوون فيما بينهم، متساوون في أصل خلقتهم، متساوون في أن الذي خلقهم سبحانه واحد وهذا معنى عظيم نحتاج أن نستحضره ونحن نتدبر في آيات سورة النساء.
ثم بعد ذلك ونحن ننظر في الايات نجد أن في الآية الأولى في سورة النساء أن الكلام عن التقوى يأتي في موضعين (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) وفي نفس الآية (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) الأولى (اتقوا ربكم) والأخرى (واتقوا الله). الرب الذي يربّي سبحانه، الرب الذي خلق الرجل والمرأة، الصغير والكبير، الرب الذي يربي خلقه والتربية ليست مجرد تغذية جسدية، الرب الذي خلق من نفس واحدة وأعطى كل مقومات الحياة وسخّر الشمس والقمر وحفظ للإنسان ما يمكن أن يقوم به معاشه على الأرض، هو الربّ الذي يربي الإنسان بالتعاليم والشرائع، فمن تمام التربية أن يشرّع لنا وهذا معنى عظيم جدًا. الكثير من الناس اليوم في علاقتهم مع أبنائهم في التربية يتوهمون أن التربية مجرد تغذية جسدية، قيام بالاحتياجات التي يحتاج إليها الولد أو البنت: طعام، ملابس، مدارس، لكن القرآن يعطيني بعدًأ آخر للتربية: الشرائع التعاليم والقيم والأخلاق التي لا تستقيم بدونها الحياة البشرية، لا يمكن للإنسان أن يُربى بدون قيم، بدون أخلاق، بدون تعاليم، بدون شرائع وأعظم وأصلح من يمكن أن يقدم لي هذه الشرائع هو الرب الذي خلق ولذلك جاءت (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) فالخالق هو الذي يربّي، الذي أوجد من العدم، الذي خلق الرجل والمرأة هو الرب سبحانه وتعالى القادر العالم اللطيف الخبير الرقيب الذي يعلم سبحانه ما تصلح به حياة الرجل وحياة المرأة وحياة البشر على هذه الأرض.
ثم إن الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى من سورة النساء أوكل الرقابة الحقيقة وكل أجهزة الرقابة على المرأة والرجل، على الخلق، على العنصر الإنساني فقال (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) وبدون استشعار الإنسان لهذه الرقابة الإلهية الدائمة التي لا تنقطع لا في ليل ولا في نهار لا في سر ولا في علانية، بدون استشعارها فعلًا لا تستقيم الحياة. كل أجهزة المراقبة في العالم، كل الكاميرات التي توضع في المؤسسات والشوارع والمحلات التجارية لا يمكن لها أن تؤدي دورها الحقيقي إذا لم يكن هناك رصيد من الشعور بالرقابة الذاتية، الرقابة الذاتية مكمّلة وتكملها وتحميها تلك الرقابة التي يصنعها البشر بمختلف الأجهزة التي نراها ولكن بدون استكمال الاثنين معًا لا يمكن أن تتحقق العدالة. وتدبروا عظمة هذا القرآن في كل كلمة من كلماته: العدالة تحتاج إلى رقابة، لا يمكن أن تتحقق عدالة في أسرة أو مؤسسة أو مجتمع بدون عنصر رقابة بمعنى آخر لا تتكل أن يكون هناك مجرد عدالة بين الناس فتترك موضوع الرقابة، لا بد من الرقابة والمتابعة وهذا تنبيه وتنويه لكل المؤسسات المجتمعية في الواقع الإنساني، دور الرقابة دور مهم جدًا دور لا يمكن الاستغناء عنه لأجل أن تستكمل العدالة التحقق في تلك المؤسسات وفي تلك المجتمعات.
ثم تبدأ بعد ذلك السورة بتحقق أشكال العدالة وتفاصيلها واللافت للنظر أنها أول ما تبدأ تبدأ بالكلام عن اليتامى، شيء عجيب جداً! أول ما تبدأ بعد هذه المقدمة الواضحة بقوله عز وجلّ (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) جرت عادة البشر حين يضعون القوانين يبدأون بالأهم ثم الأقل أهمية، حسب الأهمية، ولله المثل الأعلى ربي عز وجلّ بدأ بهذه الفئة لكي يتحقق معنى ومفهوم وقيمة العدالة المطلقة التي جاء بها هذا القرآن العظيم.
أيضًا لفت انتباهي قضية أخرى وأنا أقلّب في السورة، هناك مقولة قديمة تقول أن العدالة عمياء وهي مقولة يقصد بها معنى إيجابي، يقصد بها أن العدالة لا تنظر إلى جنس ولا تنظر إلى لون ولا تنظر إلى عرق ولا تنظر إلى تفاوت بين الناس في الأموال ولا في الأجناس ولا في أي شيء. فأطلقت هذه الكلمة “العدالة عمياء” ولكن العدالة التي يؤسسها القرآن عدالة مبصرة عدالة لا تحتاج أن يكون الإنسان معصوب العينين لكي يحققها في الواقع بل على العكس تمامًأ يحتاج أن يكون مبصرًا يرى الأشياء، يراها كما هي ولكنه يُخضع قلبه ووجدانه وأحكامه لميزان العدالة، العدالة التي يدعو الناس إليها القرآن عدالة مبصرة. مهم جدًا أن نتعرف وأن نقارن ونحن في سياق التدبر، التدبر من أعظم معانيه أن الإنسان يتعلم كيف ينظرإلى القرآن وكيف ينظر إلى واقعه الذي يعيش ويحيى، ينظر إلى الأمرين، والقرآن بصائر بدون هذه البصائر لا يستطيع الإنسان أن يبصر واقعه كما ينبغي أن يكون فالرب عز وجلّ بدأ بالحديث عن اليتامى واللافت للنظر في الآية الثانية (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴿٢﴾) بدأ باليتامى، بدأ بالعنصر الأهمّ في المجتمع، السؤال لماذا؟ لأن قيمة العدالة التي يؤسسها القرآن وسورة النساء عدالة لا ترتبط بأوضاع الناس الاجتماعية، أبدًأ، عدالة ترتبط بإنسانية الإنسان، عدالة ترتبط بالإنسانية، عدالة ترتبط فعلًا بأن هذه الفئة من الناس اليتامى الموجودة في المجتمع قد يحدث نتيجة لتقلبات الزمان والتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أن هذه الفئة تُهدَر أموالها لسبب أو لآخر فأراد القرآن أن يبدأ بهذه الفئة لأن المجتمع الذي يتعلم فيه أفراده كيف يحققون العدالة مع هذه الفئة هو المجتمع الأقرب إلى تطبيق العدالة الأُممية مع كل أمم وشعوب الأرض، المجتمع الذي يمارس العدالة مع اليتامى في أموالهم وحقوقهم هو المجتمع الأمثل الذي يبنيه القرآن ويصنعه القرآن لأجل أن يحمل ويكون جديرًا بحمل رسالته إلى الأمم كافة. بمعنى آخر إذا أردت أن تقيس هل هذا المجتمع يستحق أن يقود أمم الأرض أو لا يقود انظر إلى أحوال اليتامى وأموال اليتامى والقاصرين والمؤسسات التي تقوم عليها في مجتمعك ثم احكم بعد ذلك، تأملوا في هذا المعنى العظيم! مقياس، القرآن يعطيني مقياس أقيس به تقدم الأمم وتقدم الشعوب ومقدار الأمانة المتحققة فيها وبالتالي لا أغتر بالمقاييس الظاهرية أو الشكلية للأمم والشعوب وإنما أبحث في الجذور والأعماق، أبحث عن حقوق هذه الفئات في المدتمع لكي أدرك حقا هل هذا المجتمع أو تلك الأمة تمارس العدالة أم لا تمارسها؟ وتدبروا ذلك القول العظيم في الآية (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) المال الخبيث وإن كثُر فإن الخبث كصفة يبقى ملازمًا له لا يغادره ولأنه خبيث فسيأتي قطعًا على الحياة الإنسانية يهدرها هدرًا يجعلها حياة شقية حياة لا تعرف طعم السعادة بعكس الطيب وإن كان قليلًا أو بسيطًا أو محدودًا.
وهنا كعادة القرآن، القرآن يصحح الأوضاع بكلمة وبجملة وبجزء من آية فتأملوا لو أننا كمجتمعات إنسانية حققنا هذه القاعدة (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) إياك أن تفرّط بالطيب لصالح الخبيث! بكل الأشياء، قاعدة عامة ليست فقط في الأموال، في الكلام، في التعامل، في الأخلاق خبيث، الميزان ليس بواحد. لماذا القرآن يصحح لي هذا المقياس؟ أنا بحاجة إلى تصحيحه في التعامل الإنساني، لا تستقيم الحياة حين يرتقي الخبيث على الطيب لأي سبب من الأسباب، فلأجل أن أحقق العدالة فعلًا لا بد أن أدرك أن الخبيث وإن كثر وإن زاد وإن قوي فهو يبقى على خبثه، والطيب مهما كان بسيطًا أو قليلًا أو محدودًا فهو طيب ولن تتغير هذه الصفة فيه، هذه الصفة ملازمة فيه.
ثم بعد ذلك تبدأ الآيات تنتقل إلى الكلام عن النساء وفي كلامها عن النساء تعالج عشرات الممارسات الاجتماعية التي كانت موجودة في البيئة الأولى بيئة نزول القرآن، ممارسات في المجتمع الجاهلي الذي كان يقوم على خرق هذه القيم، قيم العدالة، قيم الرحمة قيم الأمانة، قيم المساواة، ولماذا كانت هذه الخروقات في المجتمع الجاهلي؟ إذا أردنا أن ندرك السبب الرئيس وهو أسّ هذه الخروقات سنجد أن العلاقة بين الإنسان والخالق كانت علاقة شركية قائمة على اتخاذ الشركاء فحين أخطأ وتخبط الإنسان الجاهلي في علاقته مع الله عز وجلّ نتج عن ذلك كل أشكال وصور التخبط في مجال العلاقات والسلوكيات الإنسانية فوقع في الظلم ظلم اليتامى، ظلم النساء، ظلم العبيد، ظلم كل الطبقات الموجودة في المجتمع وأوجد الطبقية لا عدالة في الحكم ولا عدالة في الأسرة ولا عدالة في المال ولا عدالة في الميراث ولا عدالة في أي شيء ولو أردنا أن نفهم السبب الرئيس وراء كل هذا لوجدنا أن الإنسان حين لا يكون عادلًا ويصحح العلاقة مع الرب الذي خلق كما جاء في أول آية في سورة النساء: ربّ وخَلَق، إذا لم أصحح العلاقة مع ربي الذي خلقني فأنّى لي أن أصحح العلاقة مع أي أحد؟!. ولذلك تتابعت الآيات بعد ذلك وعرضت صورًا مختلفة للظلم الاجتماعي الذي كان يقع في الجاهلية ولو تأملنا اليوم وحاولنا أن أن نقرأ مجتمعات اليوم لوجدنا أن عامل الزمن ليس هو السبب وراء الوقوع في الظلم الاجتماعي بمعنى آخر كما يقول بعض المفكرين أن الجاهلية هي ليست فترة زمنية أو تاريخية وإنما الجاهلية هي حالة فكرية ثقافية اجتماعية اقتصادية يقع فيها الإنسان حين يبتعد عن خالقه سبحانه وتعالى ولذلك صحيح الآيات عرضت لنا صورًا من الظلم الاجتماعي ومنه قضية المهور أن النساء في العصر الجاهلي كانت بعض القبائل لا تعطي المرأة مهرًا أصلًا أو أن المهر في الأصل يكون من حق الولي ولو نظرنا إلى مجتمعاتنا اليوم لوجدنا الكثير من الممارسات لا تختلف بقليل ولا كثير عما كان عليه الوضع في الجاهلية. إذن الجاهلية ليست فترة زمنية، هي ممارسة اجتماعية وثقافية وفكرية وأنا عليّ أن أصحح هذه الممارسات وأن أبني الأساسات الصحيحة على بناء متين من القيم والتقوى وأن أجعل لها عنصر رقابي ذاتي حتى أستطيع أن أصل إلى عنصر المحافظة عليها.
ثم تنتقل بعد ذلك الآيات إلى الكلام مرة أخرى عن اليتامى والقرآن يطلق كذلك ويستعمل لفظة “السفهاء” الإنسان الذي لا يعرف كيف يمكن أن يتصرف في ماله، كيف يكون التعامل مع هذا النوع من البشر في قضية المال؟ الله سبحانه وتعالى أوجد لنا السبيل، الكلام في سورة النساء موجه للحديث عن الأولياء والأوصياء وعادة يكونون من الأعمام لأن أولياء الإنسان حين يفقد الصغير أباه فالذي يقوم على الوصاية هم الأقارب من جهة الأب وغالبًا ما يكون العمّ، لكل هؤلاء الأصناف ربي سبحانه وتعالى يوصي بالتقوى في التعامل حين يكون التعامل قائمًا على المعروف حين يكون التعامل قائمًا كما تحدده الآيات (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) ثم بعد ذلك (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) حساب ورقابة حتى في الكلمات المستعملة والألفاظ التي جاءت في سورة النساء.
ثم بعد ذلك تنتقل الآيات للكلام عن الميراث، حقوق الأموال في إطار من العدالة والرقابة والحساب، الحساب الحقيقي الذي توجده سورة النساء. وتأتي مع ذكر هذه الآيات بطبيعة الحال في سورة النساء لتعالج صورًا من الممارسات القائمة على الظلم الاجتماعي في المجتمع الجاهلي الذي كان يحرِم النساء ويحرِم الصغار من حق الميراث على اعتبار باطل جدًأ أن الفئات تكون أولى بالميراث على اعتبار أن هذه الفئات هي التي تقوم بواجب الحماية والدفاع عن العشيرة والأسرة والقبيلة فهي الأحق بالمال بينما تلك الفئات من النساء والصغار لا يقومون بأيّ حماية فعلى أي أساس تقسم لهم الثروة أو يعطوا مالًا من الميراث؟! فكانت المجتمعات الجاهلية تحرم هذه الفئات من الميراث فجاء القرآن العظيم بتعاليمه في سورة النساء ليعطي حقا لم يعط من قبل للنساء وللصغار (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴿٧﴾) “نصيبًا مفروضًا” تدبروا في هذه الآيات. ولنا أن نتخيل وأن نعود بذاكرتنا إلى الوراء لندرك طبيعة البيئة التي نزل فيها القرآن، الكثير الآن يجادل بغير علم، يتكلم عن حقوق المرأة وحقوق النساء ويتكلم عن حقوق المرأة وكأنها فتح جاء على يد الأنظمة والمجتمع في الغرب والكلام فيه ظلم واضح بيّن. هذه الشواهد العظيمة، هذا القرآن العظيم الذي نزل قبل مئات السنين نزل بحقوق وتعاليم وأحكام لم يخطر على بال أحد في المجتمع آنذاك أن يطالب بها وهذا فارق جوهري بين الأحكام التي جاءت في كتاب الله عز وجلّ وطبقت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفي المجتمع الذي بناه وبين أحكام وحقوق اليوم والتاريخ يشهد تاريخ المرأة أو النساء على سبيل المثال في أوروبا مليء بالانتهاكات، قضية حقوق النساء أصلا ما جاءت إلا بعد عشرات المطالبات من قبل النساء لكي يأخذن جزءا يسيرا من الحقوق أما القرآن العظيم فقد أعطى للمرأة وللنساء وللكل حقوقًا بدون مطالبة، حقوقًا قائمة على الإنسانية، حقوقًا من قِبَل الرب الذي خلق ولذلك إذا أرادت النساء فعلًا أن يحافظن على حقوقهن فعلًا فعليهن التمسك بالمصدر الحقيقي لهذه الحقوق: الرب سبحانه وتعالى، الشرع، الدين لأنه هو الذي أعطى والرب حين يعطي عطاؤه سبحانه غير منقوص وغير ممنون بينما الخلق حين يعطون فهم كذلك يمنّون وإن أعطوا أعطوا عطاءً منقوصًا غير كامل، وهذا فارق جوهري علينا أن نفهمه حق الفهم لندرك الفوارق العظيمة الهائلة التي لا وجه للمقارنة بين الحقوق التي أعطاها القرآن للنساء في سورة النساء تحديدًا وبين الحقوق التي يتحدث عنها العالم ويتحدث عنها البشر للنساء.
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴿٩﴾) معادلة صعبة بالنسبة للبشرية أن يدركوها. نحن في التدبر لا نقف عند كل آية نحن نريد أن نعرف فقط من الآيات ماذا تريد الآية مني أن أحققه في حياتي في واقعي ومجتمعي؟ هذا معنى من معاني التدبر العظيمة.
ربي سبحانه وتعالى يقول هنا (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ) واقع إنساني، الإنسان بطبيعته يخاف على أبنائه يريد أن يؤمن مستقبلهم ولكن اللافت للنظر أن هذه الآية العظيمة تعطيني وصفة لكل من يخشى على أولاده ويريد حقًا أن يؤمن مستقبلهم ماذا يفعل؟ (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) بينما نحن في واقعنا إذا أردنا أن نتأمل في الواقع إذا أردنا أن نؤمن على مستقبل أولادنا نزيد لهم في الحسابات في البنك ونزيد في الشراء ونزيد في الأموال ونزيد في الأراضي والقرآن يقول لي (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) حِزام ضابط. المفروض لا تعارض بين الاثنين بمعنى آخر الإنسان يعقل ويتوكل، يتقي الله ويقوم بما يقدره الله سبحانه وتعالى ويمكنه فيه من العمل وأن يترك أولاده فعلًا وهم ليسوا بحاجة لأحد ماديًا أفضل بكثير من أن يتركهم وهم عالة على أنفسهم وعلى مجتمعاتهم ولكن علينا ضبط الأمور ووضع الأمور في نصابها كما يضعها القرآن العظيم. إذا أردت فعلا أن تؤمن مستقبل أولادك فعليك بالتقوى والقول السديد وهذا المعنى العظيم وهذه اللفتة التربوية جاءت في سور عديدة في كتاب الله عز وجلّ ومنها سورة الكهف (وكان أبوهما صالحا) لفتة رائعة لكل الآباء والأمهات: إذا أردت صلاح الأبناء وتأمين مستقبل الأبناء فعليك بالتقوى في نفسك والعدالة في القول مع الآخرين، العدالة في القول والعمل لأن الآية التي تليها مباشرة (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴿١٠﴾). وتدبروا اعجاز اللفظة القرآنية في تصوير العمل الحرام البشع أولًا جاءت كلمة (يأكلون) أكل، هل المال يؤكل؟! في زماننا المال أوراق نقدية، فهل تؤكل؟! هل رأينا فعلًا أكل حقيقي للمال؟! الإنسان يأكل أوراقا؟! لا، إذن لماذا القرآن يعبر عنها بالأكل (يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى)؟ يمكن أن يكون أحد الأسباب أن الأكل هو أكثر ما تقوم به حياة الإنسان بالمال يتصرف به بالأكل الذي هو قوام الحياة البشرية. ويمكن أن يكون لتنفير الإنسان من هذا الفعل ومزاولته ولذلك جاء بها مرتين في آية واحدة (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) أكل! الإنسان الذي يأكل حقوق الآخرين إنما هو يأكل نارًا فهل يعقل لإنسان عاقل فعلًا أن يستسيغ أكل النار؟! المال الحرام نار، المال الحرام لا يمكن أن تقوم به حياة بشرية ولا تستقيم به حياة بشرية وتدبروا ربي سبحانه وتعالى جاء بلفظة نار (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) لأن طبيعة النار تحرق وتأكل كل شيء تأتي عليه، ربي سبحانه وتعالى بهذه اللفظة العظيمة المعجزة في هذه الآية أراد أن ينفرنا من الحرام، أراد أن يجعل الإنسان قبل أن يأخذ من المال الحرام ولو فلسًا واحدًا يتأمل فيه يدرك ويستحضر أن هذا الدينار الحرام سيأتي على كل ماله كما تأتي النار على كل شيء فتأكله وتجعله أثرًا بعد عين. المال الحرام يأتي على قوام الحياة البشرية يفسدها يجعلها فعلًأ أثرا بعد عين، فهل هذا الذي تريده لنفسك؟ القرآن يعالج ظاهرة اجتماعية الإنسان حين تكون عنده أسرة ويكون عنده أولاد يبدأ يحمل همّ الرزق وهمّ العيال وكيف أؤمن ملبسهم وكيف أؤمن مدارسهم؟ هذا الخوف الذي ما أراده القرآن أن يكون لأنه خوف سلبي، الرزق بيد الله، والآيات في سورة النساء ستعالجه، هذا الخوف السلبي قد يدفع بالإنسان إلى أن يقع في الحرام والمحظور فنتيجة لذلك الخوف غير المبرر على الأبناء ومستقبل الأبناء ولماذا وكيف وماذا سأفعل وراتبي لا يكفي والحياة غالية والأسعار في ارتفاع وعشرات المبررات! هذه المبررات والمخاوف لا ينبغي أن تكون في نفس الإنسان الذي يدرك أن الرزق بيد الله وأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، هذا الخوف قد يدفع الإنسان بأن يسلك مسلكًا حرامًأ فتمتد يده إلى الحرام مبررًا ذلك لنفسه أنه يريد أن يؤمن مستقبل الأولاد وتدبروا بالله عليكم في حياتنا المعاصرة اليوم كم من أب اختلس أو وقع في الرشوة أو أكل مال اليتيم من أبناء إخوته أو من قريب أو بعيد تحت مبرر أولادي لا أريد أن أتركهم فقراء وأن ألبي احتياجات أولادي؟! عالجها القرآن بهذه الكلمة. تفكّر تدبر هل يمكن أن تقوم حياة الأولاد أو حياتك أنت بأكل النار؟! نار حقيقية! المال الحرام نار لا يمكن أن تستقيم به الحياة فهل تُدخل النار على بيتك وأسرتك وأولادك؟ هل تقبل؟ نحن نحمي أنفسنا وأبناءنا وبيوتنا من النار إذا اشتعلت الآن في بيتك نار لا بد أن تحرص أشد الحرص على أن تطفئها لأنك تدرك بحسّك الإنساني خطر النار فما بالنا لا ندرك ونحن نقرأ ونتدبر في كتاب الله خطر النار الحقيقية: نار الحرام هل لأننا لا نرى لهيبها؟! القرآن يرينا النار في هذه الآية لهيب نار المال الحرام حين يصورها أبشع تصوير (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) آية عظيمة آية حين يقف عندها الإنسان يستحضر معانيها يدرك حجم الخطأ المهول الذي يقع فيه حين تمتد يده إلى حرام قلّ أو كثُر ولذلك خسرنا كثيرًا حين ابتعدنا عن التدبر في كتاب الله أيّما خسارة ولسنا نحن فقط من خسرنا، نحن وقعنا كذلك في وصول شعوب العالم اليوم إلى الخسارة التي يعانون منها اليوم، خسارة حقيقية، حتى الخسارة الاقتصادية، حتى ما يعاني منه العالم اليوم من فقر، العالم اليوم مستويات الفقر والبطالة فيه بلغت أدنى مستويات الإنسانية وأعلى مستويات الفقر والبطالة! من أين جاءت هذه المستويات؟ من عدم إدراك هذه المعاني التي جاءت في كتاب الله عز وجلّ.
ولذلك الآية التي بعدها في الكلام عن الأولاد وتقسيم الميراث بين الذكور والإناث (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) تأملوا الآية الأولى قالت (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) ثم بعد ذلك (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) ثم الآية (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) آيات مترابطة. الآية الأولى تكلمت عن الخوف غير المبرر خوفي على أبنائي وحذرتني من الوقوع في الحرام نتيجة الخوف غير المبرر والآية الثالثة قالت (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) الرب الذي أعطاني كل هذه الأوامر رب رحيم رب يوصيني بأولادي خيرًا فهو حينًا يحذرني من إدخال الحرام على نفسي وعلى أولادي وأسرتي إنما لأجلي لصالحي هو الرب الذي يوصيني في أولادي هو الرب الذي شرّع لي هذه التعليمات لذلك اللافت للنظر في الأحكام في سورة النساء وفي سائر القرآن أن فيها بعد رحمة لا تجده في كل القوانين التي وضعها البشر. أحكام وتشريعات القرآن العادلة مبنية على الرحمة الرحمة لا تغادرها، في الحقيقة هي منطوية على الرحمة، عدالة القرآن، العدالة التي يصنعها القرآن وتبنيها سورة النساء عدالة قائمة على الرحمة، الرحمة في كل جوانبها، ما عليك إلا أن تتدبر في الآيات لترى جوانب ولمسات الرحمة في كل شيء. ربي حينما حرّم الحرام وحرّم أكل أموال اليتيم وأكل أموال الناس بالباطل وأكل حقوق الآخرين إنما رحمة بنا رحمة بضعفنا وعجزنا رحمة بنا من إدخال النار على حياتنا وأُسرنا وقلوبنا وأموالنا وأنفسنا ومجتمعاتنا النار التي إن لم ننتبه إلى لهيبها وأصبحنا اليوم نعاني من ويلاتها تحت نيران الأزمات الاقتصادية التي بدأت تطيح بالدول المختلفة، تطيح بدول وليس فقط أفراد، تطيح بهم الأزمات الاقتصادية بسبب مخالفة هذه التعاليم الربانية السامية القائمة على العدالة والرحمة. ولذلك نهاية الكلام في آيات الميراث تقول (آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) فإذا أنا لم أعلم كبشر لمحدوديت أيهم أقرب لي نفعًا الفروع أم الأصول أيّ واحد من أبنائي ومن أقاربي؟ عدالة التشريع وعدالة التوزيع تنصرف لمن وتكون بيد من غير الخالق الرب الذي يعلم ما كان وما سيكون وما هو أقرب لي نفعًا وما هو أعظم لي نفعًأ في ديني ودنياي وآخرتي ولذلك جاءت الآية (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) وسورة النساء من أكثر سور القرآن التي جاءت فيها سلسلة من الصفات والأسماء لله سبحانه وتعالى يدور معظمها حول العلم والحكمة والرحمة والرقابة والحسيب وطبعًأ هي صفات لها معنى وقصد في نهاية كل آية من الآيات. من الذي هو أحق بالتشريع؟ الله الرب الذي يعرف ومطّلع على خفايا النفوس وطبيعة النفوس وما يصلح لها وما لا يصلح أم البشر الذين إن علموا شيئا جهلوا أشياء وإن أحاطوا بأمر لم يحيطوا بأمور كثيرة؟! من هو الذي هو أولى بالتشريع؟ من هو الذي يحق له أن يشرّع؟ من سوى الخالق الرب سبحانه وتعالى؟! ولذلك قلنا في بداية الكلام عن سورة النساء أعظم شكل من أشكال العدالة أن تكون عادلًا مع نفسك ولا يمكن أن أكون عادلًا مع نفسي إن لم أصحح علاقة نفسي بخالقها عز وجلّ. قمة العدالة أن تصحح العلاقة مع الله وعن تلك العدالة تنبثق كل قيم العدالة الأخرى في التعامل ولكن إن لم أكن عادلًا مع نفسي كيف لي أن أحقق العدالة بكل مستوياتها مع الآخرين؟! عدالة منقوصة! لأني لم أدرك كيف أحقق تلك العدالة مع الله سبحانه وتعالى.
وتبدأ الآيات بالكلام عن قضية الميراث (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) كل هذه الوصايا في تقسيم الأموال ونحن نرى في واقعنا الإنساني قديمًا أو حديثا كثيرًا من الخلافات التي تقع بين البشر بل بين أفراد الأسرة الواحدة مردّها المال وعدم العدالة في التوزيع فإذا استطاع الإنسان أن يحل هذه النزاعات القائمة على تقسيم وتوزيع الثروة المالية نستيطع أن نقول أكثر من خمسين بالمئة إن لم يكن أكثر بكثير من مشاكل الأُسَر والمجتمعات والدول ستُحَلّ. لو نظرنا حتى إلى النزاعات بين الدول لوجدنا من أهم أسباب النزاع توزيع الثروات، المال، من الذي يملك حق التوزيع؟ الذي يملك حق التوزيع فعلًا الرب سبحانه وتعالى لذلك جاء بكلمة (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) الرب الغني الرب الذي هو سبحانه أعطى المال وهو الغني عنا وعن أموالنا وما جعل المال إلا لتقوم به حياة الإنسان. الرب الرحمن الرب الذي حتى حين شرع لنا شرع لصالحنا وليس لأي شيء آخر أما البشر فحينما يشرّعون ويضعون القوانين والتشريعات لا يمكن أن تضمن إلى أي مدى استطاعوا أن يتخلصوا من النظر في مصالحهم ولذلك حال الأمم اليوم كما نرى في المجتمعات لأن تلك العدالة عدالة لم تستطع أن تُسقط المصالح الشخصية لنفسها أما عدالة الخالق سبحانه وتعالى العدالة التي يصنعها القرآن العظيم في سورة النساء عدالة مطلقة لأنها عدالة الغني سبحانه وتعالى عن عباده وهم الفقراء إليه.
وتنتقل بعد ذلك الآيات للحديث عن نوع آخر من العدالة الاجتماعية العدالة في إقامة الحدود، العدالة في الجرائم الأخلاقية الجرائم المتعلقة بالعلاقات خارج إطار الزواج الذي وضعه الله سبحانه وتعالى ليكون الإطار الحقيقي لكل علاقة بين رجل وامرأة وخارج تلك العلاقة لا يكون الإنسان إنسانًا (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) كل العلاقات أسقطها خارج إطار العلاقة المشروعة بين الرجل والمرأة ضمن الأسرة في الزواج. ولذلك قلنا ونقول ليست الجاهلية فترة زمينة ما نراه اليوم في بعض المجتمعات من تدهور وانحطاط إنساني قبل أن يكون أخلاقي أو ديني: علاقة رجل برجل وعلاقة رجل بنساء خارج إطار الزواج هذا التدهور قيمي، هذا انحطاط إنساني قبل أن يكون أخلاقي. هذه العلاقة ربي عز وجلّ أراد لها أن تكون مصانة تليق بإنسانية الإنسان فإذا نزلنا بها وجعلناها تكون أقرب ما تكون إلى الحيوانية والبهيمية كل ما يشتهيه الإنسان يسعى إليه ويحصل عليه، إذن حصل انحطاط في الجانب الإنساني، ما عاد الإنسان إنسانا وإنما عاد كبهيمة لأن البهيمة تنظر فقط إلى قضية الغريزة والشهوة فهل هذا هو الرقي الذي نريده في مجتمعات اليوم؟! للأسف الشديد حتى في قضايا العلاقات الجنسية اليوم المدتمعات في الغرب على سبيل المثال بدأت تروج لها هذه العلاقات المحرمة بدعوى المساواة لأنه يفترض عندما يكون هناك مساواة أن هؤلاء الذين يمارسون العلاقات من هذا النوع لهم الحقوق في أن يمارسوا ما يريدون! تزييف! تزييف حتى للطبيعة الإنسانية الفطرة التي خلق الله الناس عليها. والسؤال: يا ترى ما هي طبيعة الويلات والكوارث الاجتماعية والإنسانية التي ستأتي على المجتمعات التي تسكت على هذا النوع من التردي الإنساني والانحطاط؟!! ماذا سيفعل البشر؟! أريد أن أقف معكم عند قضية قضية معاناة المجتمعات المسلمة اليوم إزاء هذه العلاقات لأن الكثير من القوانين باتت تُفرض عليها فرضًا من الأقوى. السؤال: يا ترى لماذا اليوم أصبحت المجتمعات المسلمة تعاني وتقع تجت طائلة هذه الوصاية التي هي لا تريدها فعلًا؟ المجتمعات المسلمة للأسف أصبحت تدفع ضريبة عدم إيصالها لهذا الخطاب القرآني الذي بدأت به سورة النساء، ربي عز وجلّ يقول (يا أيها الناس) ما دورنا نحن كمجتمعات مسلمة وكأفراد في إيصال هذا الخطاب للعالم؟! فشلنا في إيصاله وحين فشلنا كان لا بد أن ندفع الثمن والثمن سيدفع غاليًا!!. تكلمنا قبل قليل عن قضية تأمين مستقبل الأولاد بالأموال والتركات والميراث وما شابه، كيف سأؤمن يا ترى مستقبل أولادي وأحفادي وهم يعيشون في مجتمعات ويذهبون إلى مدارس ومؤسسات الطبيعي فيها أن تكون هناك علاقات شاذة أو محرّمة، أين الأمان هنا؟! كيف سأؤمن أولادي في مثل هذه المجتمعات؟! هل سأحجر على أولادي وهل سيصل بي المقام وينتهي بي أن أضطر أن أحبس أولادي في البيت لكي لا يختلطوا بالآخرين؟! ماذا سأفعل؟ الأمان الحقيقي هو الذي تكلمت عنه سورة النساء (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ) تقوى الله عز وجلّ ومن مقتضى التقوى أن أقوم بدوري في إيصال رسالة القرآن للبشرية التي تعاني اليوم وهي بحاجة إلى من ينقذها فعلًا بحاجة إلى من يقول لها لا، بحاجة إلى من يقف في وجه هذا الطوفان، هذه النار التي ستأكل كل شيء. هذه المواقف التي تأتي ونحن نتدبر في سورة النساء العظيمة.
د. رقية العلواني
تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
توقفنا في المرة السابقة – ولا زلنا في سورة النساء العظيمة – توقفنا عند الحديث عن العدالة المطلب الرئيس الذي جاءت به سورة النساء العظيمة، العدالة في كل تجلياتها وصية الله سبحانه وتعالى لخلقه رسالة للناس أجمعين، لا يمكن أن يتحقق استقرار دون وجود عدالة. ولكن اللافت للنظر أن العدالة التي تدعو إليها هذه السورة العظيمة ليست عدالة مطلب بمعنى آخر أن العدالة كما هي في سورة النساء ليست مطلبًا يطالب به الناس وليست حقًا مكتسبًا يسعى وراءه الناس، العدالة التي تبنيها سورة النساء عدالة واجب بمعنى آخر واجب علينا أن نحققه نحن كبشر في أنفسنا أولًا، في بيوتنا وأُسرنا، في مؤسساتنا وعلاقاتنا الاجتماعية والعملية ومن ثمّ ستتحقق تلك العدالة على كل المستويات المختلفة وهذه قضية في غاية الأهمية خاصة في الوقت الذي نعيش فيه الكل ينظر إلى العدالة كأنها مطلب وكذا الحرية وكذا المساواة، أما القرآن العظيم الرسالة الخالدة التي جاءت لتعمّر وتبني الإنسانبدون بناء وعمارة الإنسان لا يكون هناك عمران حقيقي على وجه الأرض، بدون أن يتحضر في نفسه وقيَمه وعقيدته وتصوراته لا يمكن أن تتحقق هذه القيم خارج الإنسان، لا تُبنى خارج الإنسان تبنى في داخل الإنسان أولًا وهذا واضح جدًا في العلاقة ما بين العدالة التي تقيمها وتدعو إليها سورة النساء وما بين التقوى.
ولو نظرنا إلى سورة النساء في آياتها، كل آيات سورة النساء ولا زلنا في بداياتها نجد أن المطلب الرئيس والمقصد الأول في السورة: العلاقات الأسرية وتحديدًا العلاقات الزوجية، الكلام عن المهر، الكلام عن الحقوق المالية، الكلام عن الحقوق النفسية، الكلام عن كل شيء يتعلق بتلك العلاقة المصونة الميثاق الغليظ بين الرجل والمرأة. ولنا أن نتساءل ونحن نتدبر في السورة لِمَ كل هذا الاهتمام بالأسرة؟ دون الحفاظ على مؤسسة الأسرة وإقامة العدل وتحقيق العدل فيها لا يمكن أن نتكلم عن عدالة خارج الأسرة. لا يمكن أن أتكلم عن عدالة اجتماعية ولا عدالة في الحكم ولا عدالة في القضاء ولا عدالة في مستوى العلاقات بين الدول وأنا كإنسان ضيّعت العلاقة في أسرتي الحصن الأول، اللبنة الأولى في المجتمع. لا يمكن أن أكون إنسانًا عادلًا قادرًا على أن يحقق العدالة ويقدمها للبشرية كما دعت سورة النساء في أول آية لها دون أن أتمكن من تحقيق العدالة فيما بيني وبين نفسي وطبيعي جدًا أن تنعكس تلك العدالة على العلاقة مع الزوجة، على العلاقة في نطاق الأسرة ولذلك لا أنا أستغرب وأنا أتدبر في كتاب الله وأنظر إلى الواقع فأرى سلسلة من المظالم التي ترتكب في بعض المجتمعات في بعض الدول، ذلك الظلم الجماعي الذي بات يئن منه العالم بأسره! لا أستغرب أبدًا لأني حين أنظر إلى الأسرة اللبنة الأولى في المجتمع أجد عشرات الصور التي ضيعت العدالة في مجال الأسرة في العلاقة بين الزوجين. ولذلك ربي سبحانه وتعالى في الآية 21 على سبيل المثال يقول (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) يتكلم عن المهر والحقوق المالية في إطار الزوجية طبعًا (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴿٢١﴾) هذه الآية تهز وجدان الإنسان ليستيقظ الضمير فيه ويتأكد تمامًأ ويتحقق أن العدالة ليست قضية مرتبطة بالأمزجة وليست مرتبطة بالرضى أو بالغضب، تلك الحالات الإنسانية التي تعترض كل إنسان في الحياة، وليست كذلك مرتبطة بالمحبة أو الكره، المحبة والكراهية مشاعر إنسانية ولكن قيمة العدالة قيمة مطلقة والمشاعر الإنسانية نسبية تتغير، الإنسان قد يحب ولكن بعد فترة من الزمن قد يقع في كره نفس الإنسان الذي كان قد وقع في حبّه وهذا واضح في المشاكل الأسرية بين الزوجين ولكن العدالة التي تصنعها سورة النساء عدالة غير مرتبطة بمشاعر الحب والكراهية، عدالة قيمية عدالة مرتبطة بتقوى الإنسان عدالة مرتبطة بذلك الرصيد الإيماني الذي بنته التقوى وتبنيه سورة النساء العظيمة.
ثم بعد ذلك تنتقل الآيات لتتحدث عن المحرّمات من النساء في العلاقات ربي سبحانه وتعالى وضع سياجًا، شيء طبيعي، الأسرة والبيوت والعلاقات لا بد لها من سياج لا بد لها من سور وهذا السور بطبيعة الحال يؤدي غرض الوقاية والحماية وهذا السور لأجل أن يحقق فعلًا مقصد الحماية ومقصد الكفاية الذي نتكلم عنه لا يمكن أن يكون من يضع ذلك السور والسياج أحد من البشر. البشر بطبيعته مهما يحاول لا بد أن تعتريه نواحي ضعف نواحي نقصان بشري ولكن هذا السياج أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون هو الذي يشرّعه هو الذي يضع الأسس والمبادئ لذلك للسياج فيحمي به ليس فقط الأسرة وإنما كل منظومة العلاقات الاجتماعية وذلك ليخرج بالإنسان عن غريزيته، لا يجعل الإنسان الذي صانه بهذا العقل وكرّمه على كل شيء لا يجعله كغيره من مخلوقات، صانه بهذه العلاقات صانه بتلك التشريعات لأنه ربّ وقلنا أن الرب يربي بالنعم الحسية وبالنعم المعنوية والنعم المعنوية من قبيل هذه النعم التكالي والأوامر والتشريعات والنواهي والمحرمات وافعل ولا تفعل هذا من قبيل التربية ولذلك التدبر يعطي بعدًا أعمق وبعدا آخر في قضايا الشتريعات، الناس في بعض الأحيان خاصة حين يأتون إلى قضية الأوامر والنواهي والمحرمات ينظرون إلى الجانب الضيق فيها أحيانًا ينظرون إلى جانب أنه يمكن أن يكون فيها جانب من التضييق ونوع من أنواع التحديد ولكن القرآن يعطيه ذلك البُعد التربوي بُعد الحماية، بُعد التربية، بُعد الرعاية، بُعد الكفاية، بُعد أن هذه التشريعات جاءت بالفعل لتحقيق غاية لتحقيق مقصد لتحقيق تكريم الإنسان على أعظم صفة من صفاته وهي الإنسانية ولذلك هذه المحرّمات (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿٢٣﴾) هذه السلسلة من التشريعات حفاظًا على إنسانية الإنسان حفاظًا على تلك الكرامة الإنسانية التي أراد القرآن لها أن تصان وترفع وأن يجعل تلك العلاقات علاقات الأقارب تعلو فوق قضية الغرائز وما شابه التي وضع لها القرآن الحدود والمصارف وجعل لها المصارف الخاصة التي تليق بإنسانية الإنسان وأتى في سياق ذلك على تلك العلاقات الجاهلية التي كانت منتشرة في جاهلية المجتمعات قبل نزول القرآن (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ﴿٢٢﴾) مجتمعات فعلًا برزت فيها تلك المعالم الجاهلية ولذلك قلنا ونقول بأن قضية الجاهلية هي ليست فترة تاريخية أو زمنية، ليست بُعد زمني، البعد الواضح فيها بُعد التعامل والسلوك ولذلك ما نراه في بعض المجتمعات اليوم من إهدار لتلك المحرمات من تجاوز لتلك الحدود من تحطيم الإنسان لهذه الأسوار والسياجات المختلفة على دعوى الحرية والمساواة هي في واقع الأمر كما نراها ونحن نتدبر في كتاب الله عز وجلّ ما هي إلا مرحلة انحطاط بالإنسانية نحو الجاهلية، انحطاط واضح، انحطاط لا يقيم وزنًا لسياج ولا يقيم وزنًا لسور يحمي إنسانية الإنسان. ولذلك يخشى الإنسان بالفعل وهو ينظر في هذه المجتمعات التي بدأت فعلًا تتسرب إليها تحت دعوى الحرية وحقوق الإنسان الممارسات الجاهلية بكل ما تحمل الكلمة من معاني.
والقرآن العظيم في سورة النساء حين يأتي على أشكال في ذلك السياج الذي يبنيه لا يترك صغيرة ولا كبيرة في العلاقات بين الرجل والمرأة إلا ويضع لها الحدود وقلنا في مرة سابقة قد يسأل سائل – وخاصة في زمننا هذا – الدنيا تغيرت والأحوال تبدّلت والإنسان تطور وتقدم، المسألة ليست تطور وتقدم، المسألة أن القرآن حين يخاطب بآياته ويضع هذه الأحكام إنما يتكلم عن طبيعة بشرية للرجل والمرأة غير خاضعة لتقلبات الزمان ولا المكان غير خاضعة لكل هذه التغيرات التي نمر فيها ولذلك المدخل إلى تغيير هذه العلاقات مدخل غير صحيح أبدًا، ولذلك آيات سورة النساء تكلمت عن قوانين وعن تشريعات وعن أحكام متجاوزة لعنصر الزمان والمكان ترتبط بالطبيعة البشرية للرجل والمرأة أما ما يثار اليوم أو يقال تحت نفس الدعوى التي تكلمنا عنها: الحرية أو المساواة أو حقوق الإنسان فهذه الأشياء إنما جاءت نتيجة لتخبط الإنسان المعاصر بعيدا عن منهج الرب. هذا التخبط هو الذي ينتج هذه السجالات غير المبررة لأنها لا تنظر إلى طبيعة الرجل والمرأة وإنما تنظر إلى تلك القشور التي بات يعاني منها الإنسان المعاصر في مجتمعه نتيجة للبعد عن منهج الله سبحانه وتعالى المنهج الرباني الذي وصفه الخالق سبحانه وتعالى اللطيف الخبير العليم بعباده بما يُصلحهم وما يصلح لهم.
ولذلك في ختام هذه الآيات التي تكلمت عن سلسلة العلاقات في الزواج وما شابه وتحديدًا في الآية السادسة والعشرين يقول الله عز وجلّ (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿٢٦﴾) وقلنا أن سورة النساء جاءت بعشرات الأسماء والصفات لله سبحانه وتعالى وكل واحدة تتناسب مع سياق الحديث في الآيات عن التشريعات. الله سبحانه وتعالى حدد هنا (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ليس فقط بيان وإنما هداية وتوبة لأنه العليم الحكيم سبحانه وتعالى. وفي نفس الوقت وتدبروا في الآية التي تليها مباشرة (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴿٢٧﴾ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴿٢٨﴾) وتدبروا معي يا ترى – هكذا يعلّمنا التدبر أن نتساءل أن نبحث في التناسب بين واقع الآيات في السورة وبين مواضع حتى الكلمات – (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) ما الذي جاء بالحديث عن هؤلاء وسط هذه الآيات ووسط هذه التشريعات والأحكام؟ هذا إعجاز في حد ذاته، كل ما طرأ في مجتمعاتنا المعاصرة وتغير العلاقات بين الرجل والمرأة وإباحة المحرمات وتلك التشريعات التي خرقت واخترقت إنسانية الإنسان، جاءت من قِبل من؟ هل هي جاءت من تشريعات ربانية أو تعليمات دينية حتى لو كانت محرفة كما هو واقع في الديانات اليهودية والنصرانية وما طرأ عليها؟ أبدا، إذن جاءت من لدن من؟ من الذي يروج ويسوق لها؟ من الذي يخصص لها آلآف وملايين من الأموال والحشود الإعلامية تنفق لأجل أن تصب في هذه التوجهات وفي هذه السموم، من الذي يمولها؟! من الذي يسوق لها؟! من الذي يروج لها ويريد أن يغلفها بغلاف المساواة والحرية وحقوق الإنسان؟! القرآن يعطيني الإجابة (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ) فكل خدش في مجال العلاقات هذه التي وضع الله سبحانه وتعالى في شريعته للعلاقات بين الرجل والمرأة تلك الحدودو ووضعها في سياج كل من يحاول أن يفكك ويقترب من تلك الشريعات ويغير فيها إنما هو يغير من قبيل الشهوات، من قبيل الغرائز وشيء طبيعي جدا أن الإنسان حينما لا يخضع في غرائزه ومشاعره وعلاقاته وعواطفه لتعاليم الله سبحانه وشرائعه فهو خاضع لنداء آخر ذاك النداء الذي يحدثنا عنه القرآن (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) شيء طبيعي أن الإنسان حين لا يمشي وراء ما شرّعه الله له سيحدث الميل سيحدث الزيغ سيحدث الانحراف ستحدث الجرائم، سترتفع نسب الجرائم بالشكل المهول الذي نراه بات يهدد المجتمعات المعاصرة بل الأدهى والأمر أنه بات كذلك بات يهدد –إذا كنا على قدر من الشجاعة والصراحة مع أنفسنا – حتى المجتمعات العربية والمجتمعات المسلمة من أين جاءت كل هذه النسب الرهيبة التي باتت بالفعل تقض مضاجع الآمنين تهدد الإنسان في أمنه الاجتماعي، هناك أمن يسمى الأمن الاجتماعي وهناك أمن يسمى الأمن الأُسري، الأمن الاجتماعي والأمن الأسري لا يمكن أن يتحقق بعيدا عما أراده الله سبحانه وتعالى ووضعه لخلقه، وضعه للبشر وهو يريد أن يتوب عليهم ولذلك جاءت الآية التي تليها يقول فيها الله عز وجلّ (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴿٢٨﴾) عجيب! يخفف عنا بالتشريع؟! يخفف عنا من قبيل النواهي والمحرمات والمنع؟! كيف يكون المنع تخفيفا وكيف يكون غلق الأبواب عندما تقتضي الحاجة تخفيفًا على الإنسان؟! كيف؟! عظمة القرآن، اعجاز القرآن حين نتدبر في معانيه ونتأمل في آياته ونقف عند تلك الآيات والأحكام، المنع من قبيل التخفيف. ربي عز وجلّ وضع حين يقتضي الأمر تلك الموانع والحواجز في العلاقات بين الرجل والمرأة وتلك الحدود من قبيل التخفيف لأنك حين تفتح الأبواب هكذا ولا تجعل هناك أي نوع من أنواع الحدود بدعوى الحرية على سبيل المثال كما هو حاصل إنما تثقل كاهل الإنسان تثقله بذلك الإطلاق غير المبرر للجانب الغريزي في داخل الإنسان وهو ما لا يريده القرآن. القرآن جعل لها مصارف معينة تليق بكرامة الإنسان تليق بإنسانيته مصرف الزواج ولكنك حين تطلق وتفتح الباب هكذا إنما أنت بالفعل تثقل كاهل الإنسان ليس كفرد فحسب وإنما كمجتمع وكأمة. وإذا أردنا دليلا أو شاهدا على ذلك العبء الذي بات فعلا يئن تحته الإنسان المعاصر فقط ننظر إلى نسب الجرائم والاعتداءات المختلفة التي تقع في مختلف المجتمعات المعاصرة اليوم إذا كان فعلا هذا من باب التخفيف والحرية والمساواة فلماذا ترتفع نسب الجرائم والاعتداءات؟ لماذا بلغت مستويات مخيفة هددت بل نستطيع أن نقول أنها قتلت جوانب الأمن الاجتماعي والأمن الأسري لماذا إذا كان فيها خير فعلا؟ طبعا ليس هناك إجابة لأن الذين يتبعون الشهوات لا يقدمون حلولا ولكنهم في واقع الأمر يزيدون من حجم المشاكل والضغوط التي تقع على البشر.
ثم اللافت للنظر بعد ذلك أن الله سبحانه وتعالى يتوجه الخطاب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) مباشرة بعد الحديث عن العلاقات بين الرجل والمرأة يأتي الكلام عن الأموال، أكثر الأشياء التي تهدد أمن الأسر وأمن المجتمعات وأمن الإنسانية هي هذه القضايا التي يحدثنا القرآن عنها في سورة النساء. الإنسان القادر على أن يقول لنفسه حين يقتضي الأمر:لا، هو الإنسان الذي لا يمكن أن تحدثه نفسه بأن تمتد يده إلى الحرام وأكل أموال الناس بالباطل، أما الإنسان الضعيف المهزوز الذي لا يضع لنفسه ولا لغرائزه حدودًا ولا أسوار ولا يعترف بمنطق السياج للبيوت فهذا إنسان أعجز ما يكون عن الوقوف عند المنع أو الحرام، هو أكثر إنسان لا قدرة لديه على التحكم في نفسه إزاء أموال الآخرين وأكل حقوقهم. وربما يقول قائل ما الدليل على ذلك؟ الدليل هو ما نراه في مجتمعات اليوم، المجتمعات المعاصرة حتى المتقدمة، هذا النهب الجماعي لأموال ومقدرات الشعوب من قبل القوى الأقوى من أين جاء؟ّ وتحت أي مبرر؟ ما الذي يبرره؟! هذا الأكل الجماعي لأقوات الشعوب وترك مجموعات من البشر تئن تحت الجوع والحصار ولا تجد حتى ما يليق بوجودها كبشر في نفس الوقت الذي يرمي به العالم وترمي به المجتمعات المتقدمة بأكداس وأكوام من الطعام والغذاء والشراب في بطون وأعماق البحار والمحيطات! هذا التناقض كيف يمكن أن نفهمه بعيدًا عن هذه الآيات التي يحدثنا القرآن عنها؟ القرآن يعلمنا بالآية بالحرف، بالكلمة وذكرنا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) ثم قال في نفس الآية (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴿٢٩﴾ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴿٣٠﴾) هذا التوجيه الرباني في وسط هذه الآيات في سورة النساء التي جاءت لتحقق وتقيم مقصد العدالة العدالة التي لا تقوم بعيدا عن الحفاظ على سياج الأعراض والأموال، سياج وسورة النساء وضعت حدود ذلك السياج حول الأعراض وحول الأموال. أعراض الناس محرّمة أن تنتهك محرمة أن يتعرض إليها الغير بأي شكل من أشكال المهانة التي لا تليق بإنسانية الإنسان بصرف النظر عن كون هذه العلاقات قائمة مع مسلمين مع غير مسلمين، هذه علاقات إنسانية وكذلك الأموال فالرب سبحانه وتعالى حينما يشرّع إنما يشرّع للإنسان يشرّع للخلق بقطع النظر عن معتقداتهم أو ألوانهم أو أشكالهم أو الفروقات الموجودة فيما بينهم.
ثم تأتي بعد ذلك الآيات التي وللأسف الشديد نتيجة لبعدنا الشاسع عن كتاب الله عز وجلّ أصبحنا تُذكر سورة النساء لا يذكر منها إلا بعض أجزاء مقتطعة من آيات مثال (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) مثال آخر (وَاضْرِبُوهُنَّ) وانتهى! بعض المسلمين لا يعرف من سورة النساء إلا أجزاء من آيات قد لا يستطيع أن يكمل بقية الآيات فيها وهذا ما يمكن أن نُطلق عليه القرآءة العضين قرآءة مجتزأة قرآءة تقتطع، تتخير، تقطع من الآيات دون السياق بل تقتطع من الكلمات كذلك دون الآيات، ثم بعد ذلك تأتي إليها وتسوق هذه الآيات وتستشهد بها في سياق الحديث عن قضية هي موجودة وحاضرة في ذهني وعقلي قبل أن آتي إلى القرآن بزمن. والقرآن يعلمني ويربيني على أن أتأدب حين آتي إليه بمعنى آخر أن آتي إلى القرآن بمنتهى التواضع الذي يليق ببشريتي ويليق بمن قال هذا القرآن العظيم وأنزله علينا، هناك فارق أن حين آتي إلى القرآن بنفسية الإنسان الذي يريد أن يجد في القرآن علاجًا لأمراضه، أن يجد في القرآن إجابة على أسئلته، أن يسأل القرآن ليهتدي بنوره وبصائره وأحكامه وتشريعاته، هذه نفسية مختلفة تمامًا عمن يأتي بآراء مسبقة وجاهزة وإنما جاء إلى القرآن لينتقي ويتخير ويحاول أن يصل فعلًا إلى أدلة يستشهد بها على آرائه وأحكامه الصادرة أصلًا قبل أن يأتي إلى القرآن. الطريقان مختلفان لا يشبه أحدهما الآخر ولذلك الفارق سيترتب كذلك في النتيجة. أنا إن جئت إلى القرآن -وهكذا ينبغي أن آتي – لأن عندي مشاكل أسرية، لأن عندي اضطرابات وأشعر فعلًا بالخوف على ذلك الأمن الأُسري الذي نتكلم عنه وأريد أن أحقق الأمن في بيتي، في أسرتي، في مجتمعي، سؤالي للقرآن سيختلف تمامًا عمن يأتي ليبرر الوضع الذي هو فيه بأخطائه بمساوئه بمشاكله، الفارق شاسع! ولذلك نجد اليوم للأسف في مجتمعاتنا المسلمة –أنا لا أتكلم عن المجتمعات غير المسلمة- من أكثر المحاكم فعلًا التي يأتي إليها الناس نساءً ورجالًا وأحيانا أطفالًا هي المحاكم المتعلقة بالقضايا الأسرية، أصبحنا لا نستطيع أن نحلّ مشاكلنا الأسرية في بيوتنا، عجزنا عن حلّها في بيوتها وذهبنا إلى المحاكم والآن حتى المحاكم والقضاة ربما لا يتمكنون فعلًا من حل هذه الإشكالات والنزاعات والخلافات، السؤال لماذا؟ هل لأننا بحاجة إلى أحكام وتشريعات؟ هذا سؤال نطرح نفسه: هل نحن بحاجة إلى مزيد من التشريع والأحكام؟ هل المشكلة في النقص في التشريعات والأحكام والقوانين؟ أين النقص؟ أين المشكلة؟ تدبروا معي في كتاب الله عز وجلّ في هذه السورة العظيمة التي وضعت سياجًا على العلاقات الزوجية ومع ذلك السياج وضعت كافة الإرشادات والتعليمات لحلّ النزاعات والصراعات. القرآن كتاب يعلم الشعوب كيف تستطيع أن تحل إشكالياتها وصراعاتها بعيدًا عن منطق الحروب وسفك الدماء الذي لا يليق بالمنطق الإنساني الواعي السديد الذي يليق بإنسانية الإنسان، وشيء طبيعي الإنسان حين لا يتمكن من حل صراعاته ونزاعاته بالطريقة الإنسانية التي تليق بكرامته وأخلاقياته كإنسان سيلجأ إلى العنف والقوة فهل يتخيل في ضوء هذا الفهم لمقاصد القرآن العظيم أن القرآن يشرّع لاستعمال العنف أو القوة كمن يتكلم ومن يبرر ويقتطع الآية (وَاضْرِبُوهُنَّ) ويقول القرآن يشرّع استعمال القوة!. هل يُعقل هذا الفهم المغلوط الذي أثر على طبيعة العلاقة والتقبّل لأحكام القرآن وتشريعاته الذي وضع تلك الأسوار الموهومة بيننا وبين كتاب الله عز وجلّ وأنا أتكلم وأوجه خطابي هنا ربما لفئة النساء أكثر في هذه الجوانب في هذه الآيات: إذا أردنا فعلًا حياة أسرية تليق بنا كبشر كنساء كزوجات كأمهات علينا أولًا أن نفهم هذا القرآن العظيم، أن ندرك هذه الأحكام والتشريعات والآداب الكفيلة بتحقيق الأمن الأُسري. القرآن يشرّع للأمن الأُسري، القرآن كتاب يصنع السلام، القرآن كتاب يصنع العدل والرحمة، القرآن كتاب يعلّم الناس كيف يصنعون السلام والعدالة وكما ذكرت العدالة ليست طلبًا، العدالة ليست حقًا تخرج الشعوب لتطالب به على اللافتات أو تكتبه هنا وهناك! العدالة واجب علينا أن نحسن جميعًا القيام به في أنفسنا أولًا في بيوتنا وفي أُسرنا في مؤسساتنا وشوارعنا في كل ما يمكن أن يقع تحت أيدينا ويوكل إلينا أن نقوم بصيانته، هكذا تبنى العدالة وهكذا يبنى الأمن وهكذا يبنى السلام ولذلك القرآن كتاب يعلم الناس كيف يصنعون السلام والاستقرار. واضح أن الإنسان الذي ينعم بالسلام والاستقرار والقادر على حل خلافاته ونزاعاته في داخل أسرته قادر على أن لا تخرج تلك النزاعات جدران البيت والغرفة قطعًا هو الإنسان القادر على أن يحلّ تلك الصراعات والنزاعات حين تقع مع الجيران أو مع الأبعد فالأبعد. وفي نفس الوقت الإنسان العاجز عن ذلك في بيته فهو الأعجز عن ذلك في محيط مجتمعه وقطعا مع الدول الأخرى والمجتمعات الأخرى وهذا يفسر ما وصلنا إليه. لمَ وصلت المجتمعات المعاصرة على تفوقها في الجانب التقني لم وصلت إلى هذا الحال من عدم القدرة على إدارة الصراعات والنزاعات وإيجاد الحلول لها؟ لمَ؟ لمَ أصبحت لا تفهم إلا منطق الحروب وسفك الدماء والاعتداء على الآخرين؟! قطعًا هناك عجز واضح في الجوانب الأسرية في جوانب البيوت ولربما ذلك العجز أدّى إلى هذا العجز الدولي عن تحقيق الاستقرار والأمن والسلام والقرآن يعلمنا كيف نعيد الأمور إلى نصابها. هو في بداية الآيات قبل الحديث عن قضية الرجل والمرأة والأسرة وقوامة الرجل في الأسرة قال (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) الكلام عن التفاضل والكلام هنا عن التفاضل كلام عن طبيعة الأدوار طبيعة الأشياء التي لا يتحقق تكامل في الحياة بدون وجود شيء من ذلك التفاضل، كلنا نتفاضل على بعضنا البعض في أشياء معينة حتى يحدث تكامل حقيقي، القرآن كلام يعالج الإنسان بواقعية، يعالج الواقع الإنساني من منطلقات واقعية وليس من منطلقات المثالية، فوجود التفاضل لغرض التكامل لأنه بدون تفاضل لا يمكن أن يكون هناك تكامل على وجه الحقيقة، لا يمكن أن يحدث احتياج من جانب إلى آخر وبالتالي لا يمكن أن تستقر ولا تستمر الحياة على هذه الأرض ولذلك ربي سبحانه وتعالى قال (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴿٣٢﴾) عليم بأيّ شيء، بالطبيعة البشرية، عليم بطبيعة الرجل والمرأة وإدراك جانب الرجل وجانب المرأة أن هناك نوع من أنواع التفاضل الذي لا يعني أبدًا بالضرورة أن هناك أحسن أو أن هناك أخير، لا، إحداث تكامل. وبالتالي لا ينبغي للمرأة ولا ينبغي كذلك للرجل أن ينظر إلى الأمور من منطلق الشعور بالنقص أو الدونية ولذلك في بدايات سورة النساء قلت أني لا أميل إلى ما يراه أو يقوله بعض المفسرين وخاصة في وقتنا الحاضر أن سورة النساء جاءت لتحقق العدالة للفئات المستضعفة في المجتمع وأولها النساء واليتامى، لا أميل إلى هذا الرأي أبدًا، لماذا؟ من منطلق الآية الأولى في سورة النساء (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) القرآن يعالج النفس الإنسانية ولا يُحدث عند المرأة ولا عند اليتامى ولا عند أي أحد شعور بالنقص أو الدونية، لا، الكل متساوون في الجانب الإنساني، التفاضل بمعنى التمايز أو التميز النوعي إنما يكون في مجالات العمل والإسهام والاستخلاف على هذه الأرض والقيام بالمسؤوليات والتكاليف التي ربي عز وجلّ أوكلها للبشر ولذلك جاءت هذه الآية العظيمة (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) ليست مسألة دونية، وإذا بقيت المرأة في مجتمعاتنا تعاني من عقدة الشعور بالنقص والدونية عن الرجل فسنبقى ندور في تلك الحلقات المفرغة ولن نتخلص منها وسيهيأ إلينا كما يُصور لنا على أن الحياة صراع بين الرجل والمرأة وحياة الصراع حياة هدم وليست بناء والقرآن ما جاء ليهدم القرآن جاء ليبني ولذلك القرآن لا يقبل بمنطق الصراع ويقدم كل العلاجات لأجل جعل الإنسان إنسان قادر على أن يدير صراعاته وخلافاته ونزاعاته بطريقة تليق بإنسانيته وتليق بالمهمة التي أوكلها الله إليه، مهمة الاستخلاف. ولذلك جاءت الآيات بعد هذا التمهيد جاء الحديث (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) والآيات هنا تتكلم عن مسؤوليات، تتكلم عن مؤسسة وكل مؤسسة ونحن الآن في مؤسساتنا لدينا نوع من أنواع المسؤوليات وتوزيع الأدوار والمهام ولا أحد من البشر يعترض على قضية توزيع المهام ولا الأدوار ولكن العجب العجاب أن يعترض ذلك الإنسان الضعيف رجلًا كان أو امرأة على الربّ الذي يعطي لعباده ما يصلح به شأنهم وحياتهم! ولذلك للأسف الشديد ما شاع نتيجة للجهل، نتيجة لقضية بعدنا عن الله، شاعت تلك الأشياء التي فعلا بدأت تهدد طبيعة علاقتنا اليوم مع هذا الكتاب العظيم وهذا خطر جسيم جدًا إن لم ننتبه إليه ونحاول أن نتداركه في الوقت المناسب.
أما ما ورد من حديث عن قضايا متعلقة بالنشوز فكما ذكرنا والحقيقة لا ينبغي أن يكون هناك وجه للمقارنة فلله المثل الأعلى في كل شيء ولكن نذكرها من باب سوق الأمثلة. كل مؤسسة وكل تشريع وكل قانون هناك أحكام وجزاءات والأحكام والجزاءات والعقوبات والتعزيرات هي وسائل لأجل الحفاظ على ما هو أكبر، على ما هو أدوم، على ما هو أهم فقضية الإسراف والتوغل في الحديث عن قضية النشوز والهجر في المضجع والضرب وتخصيص عشرات المؤلفات في المكتبة الإسلامية لأجل فقط الرد على تهمة أن الإسلام يشرّع لضرب المرأة والعنف الأسري، لا أراها في حقيقة الأمر لا أراها أبدًا انعكاسًا لواقع صحي في التعامل مع كتاب الله عز وجلّ. ينبغي لنا أن نعيد النظر في أطروحاتنا التي نطرح ينبغي لنا أولًا وقبل كل شيء أن نتخلص فعلًا من عقدة الشعور بأننا نُتهم وأننا علينا أن نقف موقف الدفاع عن الدين وعن القرآن وعن الأحكام، علينا أن نتخلص من هذه العقدة أولًا وإذا لم نتمكن من التخلص منها ذاتيا قبل أيّ شيء سنبقى ندور في تلك الحلقات المفرغة سنبقى نقدم تبريرات ومسوغات لأحكام وآداب وتشريعات جاء القرآن بها ليصلح بها من شأننا ومن حياتنا وإذا أردنا فعلًا أن نرى تفسيرًا عمليًا لهذا القرآن العظيم ما علينا إلا أن ننظر إلى واقع حياة النبي صلى الله عليه وسلم كيف عاش؟ هل ضرب يومًا امرأة؟ هل ضرب يومًا طفلًا أو خادمًا؟ هل شرّع لعنف أُسري فعلًا؟ كيف أصبح المجتمع المدني الذي كان يعيش فيه ويطبّق تعاليم وآيات القرآن العظيم وكان مجتمعًا حديث عهد بجاهلية الناس كانوا فيه لا يزالون مخلفات الجاهلية ورواسب الجاهلية وتفكير الجاهلية كان يفترض أن يكون له أثر ولكن جاء القرآن العظيم فعالج كل هذا الواقع. يا ترى لو استطعنا فعلًا أن ننظر وأن نقلب في الحوادث والأشياء التي كانت تحدث من خلال المرويات والآثار عن نِسَب العنف الأسري في ذلك المجتمع كم كانت ستكون النسبة؟ ودعونا نقارن بين تلك النسبة وبين النسب ليس في مجتمعاتنا بل النسب في المجتمعات الغربية على سبيل المثال التي يفترض فيها أن تكون تكلمت على قضية العنف وأنهت الموضوع وليس هناك أي إشكالية تتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة على الأقل من الجانب النظري. إذن المسألة ليست مسألة الآيات المسألة ليست مسألة الآداب والأحكام التي يدعي البعض أنها قد شرّعت لعنف أسري، على العكس تمامًا، الواقع الإنساني الذي لم يستطع أن يتمثل آداب وأحكام التشريع، الذي لم يستطع أن يطبّق تلك الأحكام كما ينبغي أن تُفهم من حياة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يمثل النموذج التطبيقي لآيات هذا الكتاب العظيم. القرآن في هذه الآيات العظيمة يعالج قضية العنف الأسري في واقع الأمر، تأملوا معي في قوله عز وجلّ (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) ثم بعد هذه الآية (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴿٣٦﴾) التي بدأت تؤسس لوصاية اجتماعية، إقامة نظام اجتماعي نظام علاقات اجتماعية قائمة على تطبيق التوحيد وعلاقة الإنسان بربه في واقع الحياة من خلال إحسان تعامله مع الآخرين فبدأ بقضية الزوجة أولًا في داخل الأسرة ثم انتقل من الأسرة، البيت إلى البيت الأكبر، المجتمع، الأسرة الأكبر المجتمع أسرة ولكني إذا لم أُحسن التعامل داخل أسرتي الصغيرة مع الزوجة ومع الأولاد كيف لي أن أحسن مع الأسرة الأكبر المجتمع أو المؤسسة؟! هكذا سورة النساء هكذا تقرر وتصنع السلام وتعالج ظاهرة العنف والنزاع والشقاق وتعلم الإنسان، الرجل والمرأة، الزوج والزوجة كيف يمكن أن يديروا الصراع أو النزاع أو النشوز وما شابه، ولماذا جاء بها؟ جاء بها كما ذكرت تعاليم القرآن ليست تعاليم مثالية القرآن حين يعالج الواقع الإنساني لأنه من الله سبحانه وتعالى العليم الخبير الحكيم العايم البصير بعباده يعالج واقعًا معاشًا والواقع المُعاش أنت تجد فيه كل شيء وتجد فيه كل أصناف البشر تجد فيه الإنسان الذي يميل بطبعه إلى سرعة الغضب، تجد فيه الإنسان الذي يميل بطبعه إلى الهدوء والتسامح والتعامل باللين والرفق تجد فيه أشكال متنوعة بطبائع مختلفة رجالا ونساء إذا أردت أن تتعامل معه بواقعية وليس بمثالية عليك أن تحيط به علمًا ومن ذا الذي يحيط به علمًا كما يحيط به الرب الذي خلق سبحانه وتعالى؟! خلق الطبائع خلق النفوس وهو أعلم وأدرى بها فحين شرّع ووضع هذه التعاليم شرّعها لأجل أن يستمر الاستقرار الأسري لأن الاستقرار الأسري مطلب من المطالب التي جاءت بها سورة النساء وعملت على تحقيقها من خلال تشريعات الآيات والأحكام والآداب، استقرار الأسرة بقطع النظر عن طبيعة الأزواج والزوجات تلك الطبيعة التي قد تختلف من إنسان لآخر من أسرة لأسرة من امرأة لأخرى من رجل لآخر، هذه الطبائع المختلفة كان لا بد لها أن تقدّم لها علاجات وتعاملات مختلفة بحسب الحالة التي تتعامل بها ونحن كلنا نعلم أن طبيب الجسم وهو طبيب لا يتعامل مع الأمراض حتى لو تشابهت في أعراضها بشكل واحد ولا يصف لمرضاه دواء واحدًا وإنما يأخذ كل حالة من الحالات إذا كان حاذقًا وناجحًا في عمله يأخذها على حدة ينظر فيها حتى لو كان هناك متشابهات فيما بينها، فهو يحاول أن ينظر إلى جانب الفروقات، هذه في الحالات الفيسيولوجية فما بالنا حين ننظر إلى حالات النفسية، حالات علاقات أسرية وعلاقات اجتماعية، القرآن في هذه الآية العظيمة أراد للخلافات الزوجية أن تبقى منحصرة في إطار البيت والحجرة ولا تجاوزها إلى خارج الحجرة الحجرة الخاصة بالزوجين أراد لتلك العلاقات أن تقتصر على جانب الزوج والزوجة لا تخرج خارجها لأن هناك عدد من المشاكل إذا خرج خارج هذا النطاق يتفاقم، لا ينقص لا يعالج وإنما يتفاقم. الصراعات والنزاعات إذا أردنا أن نتعلم كيف نقوم بحلّها ومعالجتها علينا أولًا أن نفهم طبيعة النزاعات والصراعات، الصراعات تحتلف والنزاعات تختلف والخلافات تختلف في درجاتها وفي طبيعتها وفي أسبابها وفي العوامل الباعثة إليها تماما كالخلايا المختلفة. لا أدري لماذا اعتدت أن أسوق أمثلة تتعلق بالجانب الطبي ولكن يحضرني الآن وأنا أتكلم حول هذه القضية الخلايا السرطانية نسأل الله أن يشفي كل مريض وأن يشافي كل المرضى من كل داء ومن كل بلاء وأن يرزقنا جميعًا العفو والعافية، الخلايا السرطانية الطبيب حين يقوم بمعالجتها حتى بعد الاستئصال يلجأ إلى العلاج الكيماوي ليحاصر وليتأكد تمامًا أن تلك الخلايا لن تذهب إلى مكان آخر في الجسد فتهاجمه وتبدأ بعملية التكاثر يحاول أن يحجّم منها قدر ما يستطيع حتى لا تنتشر. نحن نتكلم عن خلافات ونزاعات أسرية القرآن بهذه الآية العظيمة أراد أن يحجّم يحاصر تلك النزاعات التي وقعت بين الزوجين ما أراد لها أن تخرد خارج هذا النطاق لأن هناك أسرار وقضايا في العلاقات بين الزوجين إن خرجت تفاقمت إن خرجت يمكن أن تصل في بعض الأحيان إلى حد الفضائح والقرآن لا يريد لا للرجل ولا للمرأة أن يحدث ما يمسّ أو يمت بأي نوع من الإهانةلكرامة أي واحد منهما لأن الأصل في العلاقة الزوجية المحافظة على الكرامة كل واحد منهم كما أوضحت الآيات (وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) هذه الآيات تؤسس الكرامة بين الزوجين وحرص كل واحد منهما على كرامة صاحبه لتحقق مطالب الأسرة التي يبنيها القرآن والأسرة التي يصون كرامة كل فرد من أفرادها، الإنسان حين يهان يهان أمام نفسه وأمام الطرف الآخر الزوج أو الأبناء في محيط الأسرة يصبح أكثر هوانًا على نفسه، تهدر الكرامة الإنسانية فبالتالي حين تهدر الكرامة الإنسانية تصبح أسها إهانة في الشارع أو خارج البيت أو خارج نطاق الأسرة والقرآن لا يريد أفرادًا في المجتمع يشعرون بالمهانة أو يشعرون بالذل أراد القرآن أن يصنع إنسانًا كريمًا على نفسه كريمًا في أسرته كريمًا على زوجه كريمًا ويشعر بتلك الكرامة لأن الإنسان الذي يشعر بتلك الكرامة هو الأقدر على الحفاظ على كرامته وكرامة الآخرين والإنسان مخلوق مكرّم في كتاب الله عز وجلّ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ)[الإسراء: 70] وخلقه في أحسن تقويم كيف يمكن أن يحافظ على تلك الكرامة الإنسانية إذا كانت الأسرار والأحداث الزوجية التي تقع أثناء الخلافات تخرج خارج نطاق الزوجين، في بعض مجتمعاتنا كل شيء يحدث بين الزوجين يُنشَر، النتيجة ليس فقط خلافات وإنما نسب مرتفعة في الطلاق!!. إذن متى يعلمني القرآن أن أخرج بالمشكلة خارج الإطار؟ إذا فقط أردت أن أجد حلًا ولم يتمكن الزوجان من الوصول إلى ذلك الحل ي الداخل عندها فقط يكمن أن يستعان بأطراف أخرى ولا بد لتلك الأطراف أن يكون للزوجين فيها حكمة ونظر بأن فعلًا يكون التحري عمن يريد الإصلاح وليس عمن يريد النزاع أو يريد الشقاق أو يريد الخلاف أو يريد تهديد الحياة الأسرية. هكذا سورة النساء تبني الاستقرار الأسري على أرض صلبة على أساس متين أساس واقعي يتعامل مع مشاكل الناس بواقعية.
ثم جاءت مباشرة الآية التي تليها يقول فيها الله عز وجلّ (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) قد يقول قائل ما وجه التناسب بين الحديث عن آيات تتكلم عن الأسرة والنزاعات بين الزوجين ثم بعد ذلك: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا؟ القرآن يعلّمنا أن العبادة واحدة وإن تعددت أشكالها أو صورها. بمعنى آخر الإصلاح بين الزوجين عبادة أيّما عبادة وكذلك السعي في الإصلاح بين الناس، صبر المرأة على الزوج وصبر الزوج على المرأة عبادة، إرادة حل الخلافات والنزاعات عبادة وكذلك العبادة التي يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجلّ في علاقته معه صلاة أو زكاة أو صيامًا أو ما شابه بمعنى آخر أن المؤمن يتعبد ويتقرب إلى الله عز وجلّ بإحسان علاقاته مع الآخرين وأولًا في محيط الأسرة (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا). في هذه الآية العظيمة القرآن يعلمني كيف أن مفهوم التوحيد مفهوم عملي وليس مفهومًا تنطيريًا، مفهوم ومقتضى كلمة لا إله إلا الله وعدم الشرك بالله سبحانه وتعالى وتنزيه الرب سبحانه وتعالى عن الشرك يقتضي من الإنسان المؤمن أن يكون راقيًا في تعامله، أن يراعي في تعامله الرقي الذي يليق بعلاقته مع الله عز وجلّ فكلما ارتقى المؤمن في علاقته مع ربه عز وجلّ انعكس ذلك إيجابًا على علاقته مع الآخرين وخاصة الأسرة والمحيط الداخلي الذي يعكس صدق تلك العلاقة مع الله عز وجلّ ولذلك تسقط كل تلك الأوهام التي يروج لها البعض: فلان يذهب إلى الصلاة إلى المسجد كذا مرة ولكنه يضرب زوجته ويفعل كذا ويتكلم يكلمات نابية ووو، الدين براء من هذا كله، الدين لا يمكن أن نوجه له اللوم ولكن فهم بعض الأشخاص للدين وللتوحيد وللعلاقة مع الله عز وجلّ هو الذي ينبغي أن يوجه إليه اللوم، الفهم حدثت فيه أخطاء فادحة ولكن الدين الذي هو من عند الله عز وجلّ يأمرني بهذا (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) في لُبّ وفي وسط كل تلك التعاليم والأحكام التشريعية الخاصة بالأسرة وبتنظيم العلاقة والزواج والمال والأعراض يأتي الحديث عن عبادة الله وتوحيده لأنها لا تنفصل لأن العبادة والتوحيد والعلاقة مع الله هي الشيء الأساسي التي تدور حوله كل تلك العلاقات، إن صحت علاقتك به فلا بد أن تنعكس تلك الصحة على علاقتك بالآخرين وإن كان ثمة مرض وخلل في علاقة الإنسان بربه عز وجلّ فقطعًا سينعكس ذلك المرض على علاقاته بالآخرين.
د. رقية العلواني
تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لا زلنا في تدبر سورة النساء العظيمة تلك السورة التي جاءت بقيمة العدالة وأقامت تلك القيمة العظيمة على دعائم من التوحيد والإيمان بالله سبحانه وتعالى وأعطت منهجًا في تطبيق هذه القيمة وغيرها من قيم الحرية والمساواة الملازمة للعدالة في داخل ضمير الإنسان وفي داخل البنية الصغيرة من الأسرة، البيت الصغير، اللبنة الأولى التي بناها القرآن لأجل أن يؤسس المجتمع والدولة والعالم ويقيم كل هذه التأسيسات على دعامة الإيمان والتوحيد لا ضمانة لقيمة العدالة والحرية والمساواة دون رصيد كاف من الإيمان بالله والتوحيد.
وكنا آخر ما قد توقفنا عنده قضية حل النزاعات في محيط الأسرة وقلنا كيف أن القرآن العظيم علم الرجل والمرأة تطبيق إدارة الصراعات أو الخلافات فيما بينهما في الحقيقة ليس هناك صراعات، فالقرآن يقيم العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس التكامل والتعاون والتعصاد فينا بينهما لا الضدّية أو الندّية أو الصراع أما النزاعات والخلافات فهي أمور طبيعية يمكن أن تحدث في أي محيط اجتماعي في أي تفاعل إنساني بين الإنسان وغيره فكيف لا يكون في محيط الأسرة. لكن القرآن لأنه كتاب من عند الله سبحانه وتعالى العليم الخبير وهي الكلمة التي ختم الله سبحانه وتعالى بها الآية التي علّمنا فيها كيف ندير الخلافات فيما بيننا (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء: 35] لأن القرآن من لدن عليم خبير أعطى لهذا المنهج البُعد الواقعي، البعد الإنساني فالله سبحانه عالمٌ بأن الطبيعة التفاعلية بين الإنسان، رجل وامرأة في محيط الأسرة في محيط الزواج في محيط المجتمع والتعامل لا يمكن إلا أن يحدث فيما بينهما أنواع من الخلافات أنواع أحيانا ممكن أن يكون نزاع ولكن الخلاف والنزاع لا يعني أبدا أبدية الصراع ولا يعني وقوع الخلافات أنه ليس من سبيل لحلّها والتعامل معها ومحاولة الاستمرار في بناء ما هو أهم، بناء الأسرة.
لذلك في الآية التي تليها ربي عز وجلّ ذكّر الإنسان الرجل والمرأة بأن القيمة الحقيقية التي يمكن أن تحكم محيط العلاقات الأسرية والعلاقات الاجتماعية قيمة التوحيد، العلاقة بالله سبحانه وتعالى ولذا جاء في قوله (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴿٣٦﴾) التذكير بعبادة الله عز وجلّ في خضم الحديث عن العلاقات الأسرية والعلاقات الاجتماعية، إحسان العلاقة في محيط الأسرة، إحسان العلاقة مع الوالدين، إحسان العلاقة مع الأقارب والجيران والزملاء في محيط العمل والحلقات الأخرى في المجتمع (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) أبدًا لا تخرج عن عبادة الله سبحانه والتوحيد. العلاقات الاجتماعية سلسلة من سلسلات العلاقات والعبادات التي يتقرب بها المؤمن لخالقه عز وجلّ، بمعنى آخر العبادة التي تبنيها سورة النساء ليست عبادة محصورة فقط في الصلاة كما سيأتي ذكرها أو في الزكاة أو الصدقات أو ما شابه وإنما هي سلسلة من الروابط والعلاقات الاجتماعية. علاقاتنا بالآخرين نوع من أنواع العبادة والتقرب لله محكومة بإطار التوحيد فكلما ازداد الإنسان تقرّبا وتوحيدًا لخالقه ازداد إحسانًا واتقانًا في مجال العلاقات والروابط الاجتماعية والأسرية هكذا يربينا القرآن. الروابط الاجتماعية لا تقام إلا على عين التوحيد فكلما ازداد الإنسان توحيدًا لخالقه، مراقبة لخالقه استشعارًا بأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليه رقيب على ضميره، رقيب في اتقانه لمديات تلك العلاقات الاجتماعية ازداد إحسانًا، انعكس ذلك إحسانًا واتقانًا في مجالات العلاقات الاجتماعية. ولذلك ربي عز وجلّ في هذه الآية العظيمة (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) جاء بلفظ الإحسان والإحسان أعلى مستويات الاتقان ليس فقط في العلاقات الاجتماعية وإنما حتى في محيط العمل ولذلك القرآن يحفل كثيرا بفضيلة الإحسان ويجعل الإحسان أعلى مرتبة من مراتب التقرّب لله سبحانه. ولربما حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين عرّف الإحسان فقال: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”. أعظم مؤشر على مجالات الإحسان في العلاقات العلاقات الاجتماعية التي جاءت بذكرها الآية. ثم اللافت للنظر أن الله سبحانه وتعالى ختم هذه الآية التي حوت كل العلاقات الاجتماعية: الإحسان في التعامل مع الوالدين قولًا وفعلا حياة وموتًا الإحسان للوالدين والبر بهما لا يتوقف عند حياتهما فقط بل يمتد إلى ما بعد الوفاة ليجعل الإنسان المؤمن في قمة الوفاء ولا يتوقف الوفاء عند حياة الوالدين بل يمتد لما بعد الوفاة بعد الموت حين يكونان الوالدن فعًلا أشد ما يكونان حاجة إلى ذلك البر والوفاء. هذه السلسلة من علاقات الوفاء تغذيها مبادئ الإحسان يمتد إحسان الإنسان إلى والديه بعد الوفاة برًا وصدقة ودعاء وإحسانًا لأهلهما وإحسانًا لكل من يعرفانهما أو ممكن أن تربطه بهما علاقة صدقة أو علاقة جيرة أو معرفة، هكذا يربي القرآن الإنسان. ثم تمتد سلسلة العلاقات الاجتماعية إلى الجار القريب الملاصق للإنسان في مسكنه والجار البعيد وتمتد من الجار إلى الصاحب وتمتد من الصاحب إلى الإنسان الغريب الذي انقطعت به السبل ابن السبيل إنسان لا أعرفه ولكن فضيلة الإحسان التي تبنيها سورة النساء لا تجعل ذلك الإحسان مرتبطًا بزمان أو بشخص أو بمعرقة أو مكان تجعله للإطلاق أقرب منه للتقييد “ابن السبيل” الإنسان الذي لا نعرفه يمتد إليه إحسان المؤمن فإن كنت لاتعرفه فإن الله سبحانه يعرفك ويعرفه وطلب منك وأراد منك أن تُحسن إلى هؤلاء، كل تلك الفئات في المجتمع. ثم قال (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) حلقة من الحلقات التي كان المجتمع الجاهلي ينظر إليها على أنها الحلقة الأضعف ولكن المجتمع الجاهلي الذي جاء القرآن ليقيم العلاقات فيه ولكن ليس على مبدأ القوة والضعف ولا على مبدأ السيادة والعبودية كما كان ينظر إليها المجتمع الجاهلي بل على مبدأ الإحسان. حتى هذه الفئة القرآن في سورة النساء أوصى بها إحسانًا فقوّض بذلك كل قيم المجتمع الجاهلي وذكرنا فيما سبق أن الجاهلية التي يعالجها القرآن ليس جاهلية فترة تاريخية أو زمن ولكنها جاهلية القيم جاهلية المبادئ الظالمة التي جاءت تقوّض قيمة العدالة والحرية والمساواة. أسّس القرآن لقيمة العدالة وجعل بالإحسان تلك الفضيلة الممتدة لكل فئات المجتمع وأقامها على عين التوحيد ثم بعد ذلك جعل حارسًا ورقيبًا عليها من ذات الإنسان وربطها بمحبة الله سبحانه ثم قال (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) واختار القرآن أعظم وأخطر الصفات الإنسانية التي تنتشر حين يصبح الناس في جاهلية: الاختيال والبخل والأمر بالبخل والرياء والتعالي على الناس، قوّض تلك الصفات قوّض تلك الممارسات التي كانت منتشرة في المجتمع الجاهلي آنذاك تعالي الإنسان على أخيه الإنسان وتغافله ونسيانه بأنه إنسان يشترك معه في الإنسانية، قوّضها القرآن بالتوحيد بالإيمان بالله سبحانه تأملوا (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) والمؤمن حين يأتي الإيمان والتوحيد فيبني قمة العلاقة فيه يحب محبة الله سبحانه، الإنسان المؤمن الموحد لا يرتضي سوى محبة الله عز وجلّ مطلبًا وغاية وإذا أراد تلك المحبة فهو لا ينال هذه المحبة من خلال التعالي على أخيه الإنسان لا على حلقة أقوى ولا على حلقة أضعف. القرآن يعطينا بُعدًا آخر لمفهوم القوة بُعدًا لم يعرفه أبدًا المجتمع الجاهلي، القوة الحقيقية التي يأتي بها القرآن هنا قوة الإحسان القوة المبنية على فضيلة الإنسان يصبح الإنسان أقوى في المفهوم القرآني حين يكون أقوى إحسانًا أكثر إحسانًا، يده تمتد بالإحسان لمن عرف ولمن لم يعرف، مفهوم جديد للقوة يخالف كل المفاهيم الجاهلية حتى الجاهلية التي نعرفها في عصرنا وفي زماننا التي طغت على المجتمعات المادية، التي فرضت ظلالها الكئيبة الحزينة السوداء القاتمة في ماديتها وعنصريتها على مجتمعاتنا. القرآن يقدم مفهومًا آخر للقوة قوة الإحسان، قوة العطاء، وينهي بذلك كل العلاقات المبنية على الاختيال والتفاخر الذي لا يليق بالإنسان المؤمن، الإنسان الذي يصوغه التوحيد لا يمكن أن يكون إنسانًا فخورًا أو متعاليًا على الآخرين مغترًا بما أنعم الله سبحانه وتعالى به عليه النعم: المال، الجاه، المكانة الاجتماعية ما هي إلا وسائل يفترض أن تقرّب الإنسان المؤمن لخالقه عز وجلّ ولا يمكن أن تكون في خضم الكلام والحديث عن التوحيد مسوغات أو مبررات لتعالي الإنسان على أخيه الإنسان. تدبروا معي كيف أقامت سورة النساء قيمة العدالة على عين التوحيد. والقرآن وسورة النساء بعد قليل ستحدثنا عن قيمة العدالة حين تطبق في علاقات الحاكم بالمحكوم في علاقات الدولة بالدول الأخرى، في علاقة الشعب بالشعوب الأخرى والأمم الممتدة، إذا كان هناك خيط من تفاخر أو غرور أو اختيال في نفس الإنسان لا يمكن أبدا أن تحقق العدالة التي أراد لها القرآن أن تتحقق فجاءت سورة النساء لتعالج هذه الصفات النفسية من جذورها وربطت تلك الصفات فقال (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) إذا أردت محبة الله فعليك أن تتخلص من ذلك الداء النفسي الكامن في النفس التي تنظر إلى الآخرين بإزدراء أو باحتقار بسببب قلة مال أو جاه أو عنصرية مبنية على لون أو عرق أو ما شابه. ومما لا شك فيه أن هذه الصفات النفسية التي تأتينا الآن الدراسات الحديثة وتبين أن داء التكبر أو التعالي أو التفاخر يأتي من عقدة يشعر بها الإنسان بالنقص فيحاول أن يغطيها من خلال التفاخر أو التعالي أو الاغترار أو التظاهر على الآخرين.
ثم إن القرآن العظيم في سورة النساء يربط بعد ذلك فيأتي على صفة أخرى ذميمة وممارسة سلوكية خطيرة كفيلة بأن تهدم كل العلاقات الأسرية والعلاقات الاجتماعية: البخل، التقتير، المنع، الحرص الذي هو نابع من قبل الإنسان بناء على شعوره بأن ما وهبه الله من نعم أو مال أو ما شابه هو ملك له، صرف، لا ينبغي للآخرين أن يشاركوه فيها فيأتي القرآن في سورة النساء على ممارسة وصفة نفسية لا تقل خطورة عن قضية الاختيال والفخر: البخل، التقتير، المنع، والتي هي ممارسة عملية، الإنسان البخيل يمنع ما وهبه الله سبحانه وتعالى من مال من جاه من قوة من سلطان من علم عن الآخرين لأنه يتوهم أن ما أعطا الله سبحانه وتعالى من هذه النعم ملك صرف له وحده لا ينبغي للآخرين أن يشاركوه فيه ومما لا شك فيه أن هذا الشعور والإحساس كفيل بأن يحطم كل العلاقات الاجتماعية بما فيها العلاقة بين الزوج والزوجة. ولو نظرنا إلى واقعنا في أُسرنا اليوم لوجدنا أن كثيرا من المشاكل التي باتت تحدث اليوم بين الزوج والزوجة واحد من أهم أسبابها البخل، البخل من الجانبين أو من أحد الجانبين. لو أخذنا على سبيل المثال الجانب المادي: المرأة تعمل والرجل يعمل ولأن المرأة تعمل والرجل يعمل في كثير من الأحيان فالرجل ينظر إلى ما تنفقه المرأة والمرأة تنظر إلى ما ينفقه الرجل: أعطيتَ وأعطيتِ، أخذتَ وأخذتِ، وامتد بنا الأمر حتى إلى الحد الذي وصلنا فيه إلى حساب الكلمات والتعبير عن المشاعر، أصبحنا نحاسب بعضنا البعض على الكمّ في الكلمات وفي الجمل وفي المجاملات وفي العلاقات الإنسانية، أنت ابتسمت، فلان ابتسم وفلان لم يبتسم أو لم يسلّم، أو، أو…. لو بحثنا فعلا في جذور هذه الأمور اليومية التي باتت تحدث في محيط الأسرة أو في الزمالة في العمل أو في المجتمع لوجدنا أن واحدًا من أهم الدوافع لهذه الممارسات البخل لأن البخل لا ينحصر فقط في قضية المال البخل يصل بالإنسان إلى البخل بكل أشكاله وصوره، البخل حتى في التعبير عن المشاعر الإنسانية، البخل حتى في التبسم البخل حتى في العواطف في التعبير عنها والمواساة والمشاركة الوجدانية. منع العطاء بكل صوره وأشكاله وهذا ما لا يريده القرآن لأن أجواء البخل تحطّم العلاقات الاجتماعية والعلاقات الأسرية، إذا أردنا لعلاقاتنا الزوجبة وعلاقاتنا الأسرية وعلاقتنا المجتمعة أن تصح وأن تستقر وتهدأ وننعم جميعا بالسعادة في ظلها بحاجة إلى كم هائل من العطاء. وقبل الكمّ علينا أن نتفكر في القيمة التي تدفعنا إلى العطاء، نحتاج إلى نفوس معطاءة، نحتاج إلى نفوس تدرك أن العطاء لا يمكن أن يعود علينا بالنقص أو الائلاف بل على العكس تمامًا كلما ازددت عطاء كلما ازددت إحسانًا زادك الله سبحانه وتعالى قوة ومنعة ورزقًا حلالًا طيبًا حسنًا ورفعة في كل شيء، هكذا يعلمنا القرآن. وربما قائل يقول الآية لتي نزلت (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء: 37] آية نزلت كما ذكرت كثير من كتب التفسير في اليهود ولكننا تعلمنا من تدبر كتاب الله عز وجلّ أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وسياق الآيات ومقاصد الآيات الي نتحدث عنها في الكلام عن التدب يعلمنا أن النهي الذي جاء في السياق عن البخل لما لهذا المرض النفسي الاجتماعي من أثر خطير في هدم العلاقات الأسرية والاجتماعية وأنا لا أرى أن مشاكلنا الأسرية زوجية كانت أو على الأسرة أو على المجتمع بأسره لا أراها تُحل في أروقة المحاكم وإنما أراها تحل في أروقة النفوس المفعمة بالإيمان والتوحيد. نحن لا نحتاج لمزيد من القوانين والتشريعات، كل التشريعات هنا في هذا الكتاب العظيم، نحن لا نحتاج إلى مزيد من التشريعات الدولية التي نستوردها من هنا ومن هناك لكي نحل بها الإشكاليات التي تقابلنا في محيط الأسرة أو العمل أو المجتمع بقدر ما نحن بحاجة إلى تصحيح العلاقة مع الله عز وجلّ ذاك التصحيح الذي سينعكس إيجابًا على علاقاتنا الأسرية والاجتماعية بكل تأكيد.
ثم تنتقل بعد ذلك الآيات العظيمة في سورة النساء لتعرض لنا داء خطيرا جدا داء كفيلا كذلك بهدم العلاقات الاجتماعية، داء عرفته الجاهلية ولا تزال الجاهليات المعاصرة تعرفه، داء الرياء. الرياء يعطي صورة وشكل العمل الصالح الخيّر ولكن هذا الشكل القرآن العظيم جاء ليعلمنا أن العمل الخيّر لا يقف فقط عند الشكل والصورة، العمل الخيّر الذي فعلا أراد القرآن أن تؤتى ثماره هو عمل يحفل بالمضمون وبالظاهر ولذلك كان لا بد من الاهتمام بباطن العمل، بداخل العمل. يقول الله عز وجلّ (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ﴿٣٨﴾) الآية بدأت بقوله عز وجلّ (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ) في إطار العلاقات الزوجية والأسرية والمجتمعية الفرد يحتاج إلى الإنفاق إنفاق المال لا يمكن أبدًا أن تصحح العلاقات بدون قدر من الإنفاق، إنفاق مادي حقيقي، إنفاق للمال. لذلك لو نظرنا وتأملنا في كثير من المبادئ والتعاليم النبوية لوجدنا إنفاق المال عنصر مهم جدًا فيها: الهدية، الإحسان إلى الجيران، الإحسان إلى الأقارب، الإنفاق، الصدقات، إنفاق مال. ولكن القرآن لا يريد مني إنفاقًا صوريًا فقط في الشكل، خاوي، فارغ لا تصاحبه سلسلة من العلاقات الإيمانية المنبثقة من التوحيد، لا تصاحبه سلسلة من المشاعر الإنسانية. وتدبروا لو ربطنا بين قضية الإنفاق الشكلي وما قاله الله عز وجلّ في سورة البقرة (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) [البقرة: 263] لدينا صورتان متقابلتان: صدقة حقيقية بالمال، إنفاق ويقابلها قول معروف ومغفرة، مشاعر إنسانية، سلوكيات وعلاقات إنسانية، يا ترى أيهما أجدى نفعا للطرف الآخر حتى لو كان ذلك الطرف الفقير أو المسكين أو المحتاج؟؟ المسكين أو المحتاج؟ أيهما أنفع؟ أيهما أجدى؟ أيهما أقرب إلى مقاصد القرآن وقيم التوحيد؟ الصدقة والإنفاق بالمال، الجانب المادي أو الجانب الإنساني؟ قطعًا الجانب الإنساني ولذلك قال تعالى في سورة البقرة (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى). وهنا في هذه السورة وفي الآية العظيمة (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ) القرآن يريد منا الإحسان ويطلب منا الإنفاق بالمال ولكن ما يطلبه ليس إنفاقًا صوريًا شكليًا يريد منا إنفاقا حقيقيًا إنفاقا في المشاعر الإنسانية عطاء تجود به النفس البشرية الإنسانية التي صاغها التوحيد وليس عطاءً شكليًا فما قيمة أن يعطي وينفق الإنسان ولو حتى الآلآف والملايين من الدنانير والدراهم ولكن في نفس الوقت لا تصاحب ذلك الإنفاق مشاعر إنسانية عطاء، جود، حُبّ، إحسان، مشاعر؟! إذا كان الأمر لا يصاحبه ذلك العطاء الإنساني فقد الإنفاق مخزونه الذي أراد القرآن. والأمر كذلك في قضية الأسرة، والزوج والزوجة أراد الله سبحانه وتعالى أن تنبني العلاقات الأسرية والاجتماعية بينهما على عين العطاء النفسي، الرجل على سبيل المثال ملزم بالإنفاق وسورة النساء وردت فيها العديد من الآيات قبل وبعد على قضية النفقة لكن أي نوع من النفقة؟ هل فقط النفقة المادية غير المصحوبة بالعطاء الإنساني والمشاعر الجياشة التي أراد القرآن أن يبنيها؟ أبدًا. النفقة في القرآن ليست نفقة مادية فحسب فالزوج حين ينفق على زوجته وأسرته وأبنائه المطلوب منه ألا يتوقف فقط عند الإنفاق المادي من مطعم ومشرب ومسكن وملبس وما شابه، المسألة ليست مادية لا بد أن يصاحبها عطاء نفسيا وجودا وسخاء في المشاعر والعواطف، هذا ما صنعته هذه الآيات العظيمة في النفس وكيف يصنع ذلك من قلب لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ينتظر العطاء من الآخرين؟! ولذلك الآية هدمت صفة الرياء القبيحة لأن الإنسان المرائي حين يعطي يعطي وهو ينتظر المقابل من الآخرين مدحا، ثناء، والقرآن العظيم يريد من الإنسان المؤمن أن يعطي ولكنه حين يعطي لا ينتظر المقابل أو الأجر من الآخرين، ينتظره من الرب الذي يؤمن به ولمنهجه ولتوحيده يخضع في حياته، نوع من أنواع التحرير للإنسان. ولذلك قلنا سابقا أن التوحيد جاء ليحرر الإنسان ليس فقط من عبادة الأحجار والأصنام ولكن كذلك من الخضوع للبشر وما يعطونه وما لا يعطون، الإنسان حين يتحرر من هذه الإشكالية يعطي بسخاء وهو بالضبط ما نحتاج إليه في عالمنا المعاصر.
ولذلك الآية التي تليها جاءت مباشرة بتفنيد الحجة النفسية التي يمكن للإنسان أن يبرر لنفسه قضية عدم الإنفاق أو البخل أو الرياء وهذه لفتة عجيبة تعالج عشرات الأمراض النفسية، كثير من الأزواج وكثير من الأفراد في محيط العلاقات الاجتماعية حتى بين الأقارب المشكلة الخطيرة في تلك العلاقات أنها أصبحت تقام على أساس المعاملة بالمثل: أعطاني أعطيه، سلّم عليّ أسلم عليه، وصلني أصله، منعني أمنعه والقرآن لا يريد هذا النوع من التعامل! يريد القرآن أن تقام العلاقات الأسرية والعلاقات الاجتماعية على محبة غير مشروطة عطاء غير مشروط بتعامل الطرف الآخر وهذا هو الإحسان. هناك شيء يسمى التعامل بالمثل أعطاني سأعطيه لكن هذا التعامل بالمثل إذا طبق في مجال العلاقات الزوجية والعلاقات المجتمعية يمكن أن يصل بها إلى مرحلة لا تستقيم بها تلك العلاقات، لا تدوم!. إذا منع على سبيل المثال القريب عن قريبه الفضل أو الإحسان أو السلام أو الزيارة أو التواصل الاجتماعي إذا قوبل المنع بمنع مثله السؤال إلى أين سنصل؟ لن نصل إلى أقل من القطيعة أبدًا بكل الأحوال هذا ما يحدث للأسف اليوم في كثير من المجتمعات. إذن القرآن يريد أن يرتقي بالنفوس المؤمنة إلى درجة أرقى، مستوى أعلى، هذا المستوى الأعلى لا يمكن أن يتحقق إلا بالإحسان والعطاء غير المشروط، العطائ الذي لا ينتظر المقابل من البشر بل ينتظر من رب البشر. وتدبروا هذه الآية (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ﴿٣٩﴾) تأملوا لو أننا طبقنا هذه الآية في محيط التعامل الذي تكلمنا عنه وماذا عليك لو آمنت بالله وأنفقت وأعطيت دون أن نتنظر المقابل من البشر؟ ماذا على الزوج أو الزوجة لو أنهم آمنوا أن الله سبحانه هو المعطي هو الرزاق وأنفقوا برًا وخيرا وإحسانا عطاء ماديا ومعنويا ماذا عليهم؟ ما الذي سيخسر الإنسان؟ ماذا ستخسر حين تعطي دون أن تنتظر المقابل من البشر، ماذا ستخسر حين تسلم حتى لو لم يرد عليك الآخرين التحية والسلام؟ ماذا عليك لو أنك وصلتهم حتى لو قطعوا ومنعوا؟ ماذا ستخسر؟ هل أنت بالفعل ستخسر أم ستربح؟ وتدبروا نهاية الآية (وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا) عليمًا بما تعطي عليمًا بما سيقابل ذلك العطاء، عليمًا بنفسيات الآخرين إن منعوا عنك العطاء وإن قابلوا إحسانك بالإساءة إن قابلوا عطاءك بالمنع. وتأملوا التناسب بين الآيات في السورة، الآية التي تليها (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿٤٠﴾) تدبروا كيف يعالج القرآن العظيم الشح في النفوس كيف يُطلق ويحرر تلك النفوس من جانب الشح والبخل إلى فضاء العطاء الواسع (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) يجعل التعامل الأسري والاجتماعي ليس تعامل علاقات بين فرد وفرد بين إنسان وآخر وإنما علاقات مبنية على تعامل بين إنسان وبين خالق سبحانه وتعالى ليحرر الإنسان من النظر إلى جزاء الآخرين أو انتظار الجزاء من الآخرين ويجعل الإنسان المؤمن لا ينتظر الجزاء إلا من الخالق سبحانه الذي لا يضيع ولو كان مثقال ذرة (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) الإحسان لا يضيع عند الله سبحانه وتعالى وإن ضاع عند الخلق وإن ضاع عند الناس وإن ضاع في محيط الأسرة وفي محيط الأقارب، وأنا أقول أحوج ما نحتاجه اليوم في الوقت الذي نعيش فيه هذه الآيات العظيمة لأن ما نمر به ظروف مختلفة على مستوى العالم جعلت ظاهرة الشح وانتظار المقابل من الآخرين ظاهرة عالمية بامتياز ولكن هذه الظاهرة ظاهرة الشح لو تأملنا فيها حقيقة لوجدنا أنها ما زادت من غنى الإنسان شيئا بالعكس زادت الإنسان المعاصر فقرا على فقره زادت الإنسان فقرا فعلا والفقر ليس فقط في المجال المادي وإنما حتى في المجال الإنساني أصبح الإنسان المعاصر أكثر شحا حتى في المشاعر الإنسانية، حتى في مجال التعاطف مع أخيه الإنسان والإحساس بآلآمه وأمراضه ومعاناته. ولو تأملنا لماذا وصلنا إلى حالة الشح العالمية هذه وما الذي أوصلنا إليه لوجدنا في كثير من الأحيان أن التعامل الإحسان المشروط بمقابل ما يتعامل به الآخرون تجاهنا هو الذي أدى بنا إلى هذه الحالة التي وصلنا إليها.
ثم إن القرآن عالج في آيتين بعد هذه الآية هذه الظاهرة الخطيرة التي هي بالفعل أخطر ما تكون على العلاقات الإنسانية بقوله عز وجلّ (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴿٤١﴾) من الذي سيشهد على كل هذه العلاقات الإنسانية؟ الرسل والأنبياء الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى بهذه القيم العظيمة، قيم العطاء غير المشروط، قيم الإحسان، قيم البذل، قيم الجود قيم الكرم قيم الإحسان التي غابت في كثير من المجتمعات الإنسانية عن مسرح الحياة فإذا ما غابت أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل وأنزل الكتب ليعيد للإنسانية إنسانيتها. هذه الآية العظيمة (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) التي حين قرأها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم التفت إليه فإذا به ينظر إلى عينيه عليه الصلاة والسلام تذرفان بالدموع وهو مستشعر عظمة المسؤولية الملقاة على عاتقه، عظمة الشهادة، الشهادة الخاتمة التي ختم بها الرسالات السماوية. ولو تأملنا في رسالته صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنها جاءت لتتمم مكارم الأخلاق جاءت بالإحسان جاءت بالعطاء غير المشروط العطاء الذي عاشه النبي صلى الله عليه وسلم واقعا في الحياة، عطاء النبي صلى الله عليه وسلم ما كان عطاء مشروطا، منعه أهله في مكة فأعطاهم، منعوه من الدعوة إلى الإحسان وإلى الحق وإلى الخير والعطاء فما كان منه إلا بعد سنوات أن يقابل ذلك المنع بالعطاء وأن يقابل تلك الإساءة بالإحسان وأن يقابل ذلك الصراع والنزاع والقطيعة بالبر والعفو والتسامح، هذه القيم التي شهد بها على كل الأمم وهي بالذات تلك القيم التي تبنيها سورة النساء لتشهد بها أمة القرآن على غيرها من الأمم. شهادة أمة القرآن على أمم الأرض وشعوبها لا تكون بالقوة المادية التي جاءت بها الحضارة المعاصرة وإنما ستكون بقوة الإحسان بقوة القيم بقوة العدالة بقوة السخاء الذي يحرر الإنسان من العبودية لنزواته وشحّه طغى عليه قيم الحضارة المعاصرة.
هكذا يعلمنا القرآن ويصور ويعطي لنا في خضم الحديث عن هذه القيم مشهدًا من مشاهد يوم القيامة (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ﴿٤٢﴾) أيّ كتمان؟ وأيّ حديث؟ وما مناسبة الحديث عن مشاهد يوم القيامة وهذه الصورة التي يحدثنا بها القرآن عن الجزاء في خضم الحديث عن العلاقات الاجتماعية والإنسانية؟ القرآن في خطابه لا يفصل بين الدنيا والآخرة يعطي للإنسان دائما وهو يحدثه عن العلاقات والسلوكيات الاجتماعية يعطيه البعد الأخروي ليقرب له صورة يوم القيامة ويجعل تلك الصورة صورة الجزاء حاضرة في واقعه حتى يستعذب العطاء. المؤمن الذي يعطي ولا يجد المقابل لعطائه عند البشر يا ترى ما الذي سيجعله يعطي أكثر فأكثر إلا استحضار تلك المشاهد العظيمة يوم القيامة المشاهد التي تفتح له جزاء العطاء ما تعطيه اليوم ستجده غدًا. وأولئك الذين يمنعون ويأمرون الناس بالمنع والبخل على كل المستويات المختلفة سيتمنون يوم القيامة أن تسوى بهم الأرض يتمنوا أنهم لم يكونوا أبدًا، هذه الصورة الحية تنبض بالحياة تدفع بالإنسان إلى مزيد من العطاء والتحرر من كل قيم الشح والبخل والفردية وتعطي وتقدم قيم السخاء والعطاء في أبرز صورها وأعظم عطاءاتها.
د. رقية العلواني
تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقفنا في آيات سورة النساء في الحلقة السابقة التي تكلمت عن طهارة النفوس من أمراضها، من التعالي والتباهي والتفاخر على الآخرين والبخل والشح والرياء، تلك الأمراض والعقد النفسية التي تنعكس سلبًا على علاقاتنا الأسرية وعلاقاتنا الاجتماعية فتأتي عليها من جذورها فتحطّمها. وإذا بكتاب الله عز وجلّ في سورة النساء يقدّم العلاج الأنجع والأمثل، علاج عن طريق الإحسان وبناء فضيلة الإحسان، الإحسان مع الكل، الإحسان في كل سياقاته الأسرية والاجتماعية، الإحسان الذي لا يمكن أن يبنى في قلب الإنسان ونفسه إلا إذا استعشر عظمة الجزاء الأخروي المترتب عليه ولذلك ربي سبحانه وتعالى جاء بتلك الآية فقال (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿٤٠﴾) فإذا نسي الناس وظلموا وإن نسي الناس إحسانك فإن الرب جلّ وعلا كل شيء عنده بمقدار، كل شيء عنده مكتوب في كتاب يجازي بالإحسان إحسانًا ويجازي بالحسنات من المزيد والتفضّل والكرم ما لا يسعه تصور الإنسان!. عندها فقط إذا استحضر المؤمن هذه المنزلة تحرر من قضية الخضوع لأهواء الناس وما يفعلون في تقديم علاقاتهم الأسرية أو الاجتماعية فأصبح بالفعل لا يطلب الجزاء من أحد إلا من الذي خلق الواحد الأحد الذي فعل يتوجه إليه بالخضوع لمنهجه وأوامره وتشريعاته.
ثم إن الله سبحانه وتعالى بعد ذلك جاء بالموضع العظيم للشهادة شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وشهادة الأنبياء على أممهم بأنهم قد أدّوا الرسالة، رسالة التوحيد رسالة الإحسان، رسالة القيم والعدالة. واللافت للنظر في خضم الحديث عن هذا من العلاقات الأسرية إلى العلاقات الاجتماعية إلى أمراض النفس وتطهيرها والتخليص من أدناسها إذا بالحديث يأتي عن الصلاة، والصلاة في سورة النساء ذُكرت أكثر من مرة وفي أكثر من موضع، صلاة في السفر والإقامة، صلاة في الخوف وفي الأمن، صلاة في الحرب وفي السلم، كل هذا الوقوف الطويل في آيات سورة النساء عند الصلاة يدل على قيمة هذه العبادة العظيمة، أهمية هذه العبادة العظيمة في إرساء قيمة العدل والحرية والأمانة والمساواة وتجديد العهد الذي هو التوحيد بين العبد وربه واللافت للنظر والذي يتضح فيه التناسب بين آيات الكتاب العظيم، وقلنا سابقًا أن من أعظم قواعد التدبر في هذا الكتاب أن يدرك المؤمن المتدبر أشكال المناسبات بين الآيات.
الآية التي تتحدث هنا عن الصلاة يقول الله عز وجلّ فيها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) وكانت الخمر في ذلك الوقت الذي نزلت فيه الآية لم تُحرّم بعد والناس كانوا قد اعتداوا على الخمر، ألفوها، أصبحت الخمر جزءًأ لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية والأُسرية والمجتمعية بشكل عام في ذلك العصر ولذلك القرآن عالجها بحكمة وتدرج لكن الذي يلفت النظر فعلًا أن الحديث عن أشكال الطهارة قبل الوقوف أمام الله سبحانه وتعالى في الصلاة واضح في هذه الآيات حدثتنا أولًا عن تطهير النفس من التباهي والعالي والتفاخر على الآخرين والبخل والشح والرياء وطلب السمعة والجري وراءها من خلال الناس وتلك أمراض تدنّس القلب تطمس التوحيد في قلب الإنسان المؤمن تحول بينه وبين النظر إلى القيمة العظيمة الموجودة ي التوحيد، قيمة التسليم لله سبحانه وتعالى قيمة الخضوع لأهواء البشر وطلب الجزاء منهم إلى طلب الجزاء من الله سبحانه وتعالى الذي لا يضيّع مثقال ذرة. ثم انتقلت بعد ذلك إلى طهارة العقل فجاء النهي عن الخمر فقال (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) الخمر تدنس العقل، العقل الذي هو محط التكليف، محط تشريف الإنسان، الإنسان ربي سبحانه وتعالى شرّفه وكرّمه بالعقل فكان على هذا الإنسان العاقل الذي خوطب بالتكليف وبهذا القرآن بناء على أنه إنسان عاقل مدرك مسيطر على القوى الإدراكية التي أعطاها الله سبحانه وتعالى له كان لا بد أن يتخلى عن الخمر، فالخمر تخامر العقل وتغيبه، تطمس معالم التعقل والتفكر فيه، فالله سبحانه انتقل من طهارة النفوس من تلك الأمراض إلى طهارة العقل من الخمر ثم إلى طهارة الجسد أو البدن عن طريق الصلاة والتيمم والطهارة والوضوء. هذا التدرج من طهارة النفس والقلب من الشرك ومن الأمراض التي تحول بين القلب وبين الوصول إلى رضا الله سبحانه وتعالى وطهارة العقل من الخمر وكل ما يمكن أن يُسكره ويصرفه عن التعقل في معاني الصلاة ولقاء الله سبحانه وتعالى من خلالها. ثم بعد ذلك الحديث عن طهارة البدن. قيمة الصلاة، الصلاة من أعظم العبادات التي ينبغي للمؤمن أن يتحرى فيها تلك الأشكال من الطهارات ولذلك كان الحرص على طهارة البدن واستشعار أن الإنسان حين يستعد من خلال الوضوء للقاء الله سبحانه وتعالى في الصلاة عليه أن يستحضر ويستذكر أنه لا بد له أن يطهر القلب والعقل من الخواطر والشوائب وسوء الظن بالآخرين ويُقدم ويُقبل على الله سبحانه وتعالى بقلب نقيّ وجسد وبدن نظيف طاهر يليق بذلك اللقاء الذي ينبغي أن يكون من خلال الصلاة، لقاء العبد بربه، ذاك اللقاء الذي يجدد فيه القدرة على الاستمرار في الحياة، القدرة على العطاء، القدرة على البذل والإحسان وبناء تلك الفضيلة التي جاءت سورة النساء لتبنيها في النفس وفي المجتمع. لا يمكن لعلاقات زوجية أو أُسرية أو اجتماعية أو العلاقات الاقتصادية والسياسية التي ستحدثني عنها سورة النساء لا يمكن أبدًا أن تستقر من دون وجود فضيلة الإحسان، وفضيلة الإحسان لا تُبنى إلا على نفوس طاهرة وعقول نظيفة واعية مدركة لعظمة الأمانة التي حمّلت إياها من قبل الله سبحانه وتعالى. وختمت الآية بقول الله عز وجلّ (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) مساحة العفو والمغفرة لأننا ونحن نحاول ونبذل كل ما نستطيع لأجل أن نطهر نفوسنا وعقولنا وأبداننا بالشكل اللائق بالله سبحانه وتعالى. ونحن في كل هذه الرحلة إنما هي محاولات جهود بشرية لا يمكن في كثير من الأحيان إلا أن يعلو فيها جوانب الخطأ والنسيان والتقصير والزلل فكان الحديث عن العفو والمغفرة مناسب تمامًا لتلك المعاني العظيمة.
ولأن الآيات ستنتقل بعد مواضع بسيطة إلى الحديث عن الأمانات، الأمانات بكل أشكالها ومن أعظمها بناء قيم العدالة والحرية والحقوق والمساواة في الأسرة وفي المجتمع قدمت الآيات سلسلة من المواضع تتحدث عن نموذج لناس عاشوا وكان لهم منهج كتاب كانت تنزل عليهم الآيات وأُرسل إليهم الرسل بالمنهج ولكن الموقف الذي كانوا يقفونه إزاء ذلك المنهج كان موقف السمع والعصيان والخروج على ذلك المنهج الرباني الإلهي فأراد الله سبحانه وتعالى أن يقدم في الآيات من الآية 44 إلى الآية 57 أكثر من عشر آيات تحدثنا عن أهل الكتاب، لماذا الحديث عن أهل الكتاب؟ أهل الكتاب في سورة النساء نموذج لقوم لم يحسنوا التعامل مع كتابهم المنزّل. فسياق الآيات مناسب تمامًا لتنبيه لأمة القرآن أن يا أمة القرآن إن لم تحسني التعامل مع هذا المنهج القرآني، مع منهج الكتاب، مع القرآن الذي نزل وتقومي بتطبيق ذلك المنهج سلوكًا وعملًا وأخلاقًا وتعاملًا في مجالات الحياة المختلفة فانتظري الجزاء، والجزاء ليس فقط جزاء أخرويًا ولكن هو جزاء دنيوي وقفت موقف المخالف لذلك المنهج، تدبروا هذه الآيات (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ﴿٤٤﴾) ثم بعد ذلك (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) والآية بطبيعة الحال وهي تكلمنا هنا عن أهل الكتاب وعن بني إسرائيل اليهود لا تخرج أبدًا عن سياق العدل في الحديث عن الآخرين وهو أدب قرآني بامتياز واضح قال الله سبحانه وتعالى (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) ليس كل الذين هادوا واليهود يحرفون الكلم عن مواضعه (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) وربما خصّت كثير من الايات سواء آيات سورة النساء وسور أخرى فئة العلماء أحبار اليهود هؤلاء العلماء الذين حُمّلوا أمانة نقل العلم وتأديته لأمتهم وأهلهم ومجتمعهم لكنهم كانوا في ذات الوقت كانوا يتميزون بمنهج التحريف، التحريف الذي ذكرته الآيات هنا تحريف الكلم عن مواضعه، تحريف بالكلمات. ولذلك هناك آيات أخرى في سورة البقرة وغيرها من سور القرآن حدثتنا عن أشكال وأصناف من تحريف أهل الكتاب (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴿٧٩﴾ البقرة) شكل من أشكال التحريف. ولماذا الحديث عن التحريف في المنهج والله سبحانه وتعالى سيعطيني بعد قليل آيات ستحدثني عن الأمانة؟! تنبيه لنا جميعًا، نحن حُمّلنا أمانة أمانة هذا الكتاب العظيم علينا أن نحسن أداء تلك الأمانة بدون تحريف ولكن التحريف ربي سبحانه وتعالى تكفل بأن يحفظ هذا القرآن من أيّ تحريف فهو الذي نزّل الذكر وهو الذي تكفّل بحفظه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴿٩﴾ الحجر). إذن فلماذا ربي سبحانه وتعالى يؤكد هذه المعاني ويحذّر من الوقوع فيما وقع فيه علماء بني إسرائيل؟! التحريف ليس شكلًا واحدًا، صحيح التحريف الذي وقع هنا والذي جاء سياق الحديث عنه كان تحريف كلمات، تحريف الكلم عن مواضعه كان كتمانًا للحق وخاصة بما يتعلق بمواضع نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ربي يحذرنا من شكل آخر من أشكال التحريف، شكل أن تأتي أفعالي وسلوكي وأخلاقياتي وتعاملاتي اليومية مناقضة لما في كتاب الله عز وجلّ، هذا تحريف! بمعنى آخر: أن يقول لي المنهج شيء ولكني أفعل شيئًا آخر ولذلك ربي سبحانه وتعالى عاتب عباده المؤمنين فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٢﴾ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٣﴾ الصفّ) من أعظم قواعد التدبر أن نتعلم كيف نربط بين الآيات ولو كانت في مواضع مختلفة في كتاب الله، فكتاب الله عز وجلّ يفسر فيه الآية بآية أخرى في موضع آخر وعلى المتدبر أن يدرك تلك المعاني العظيمة ولذلك حذرنا من هذا المسلك في التعامل مع المنهج، مع الكتاب فقال عن أهل الكتاب (وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ) المناسبة واضحة، سياق تحذير ولذلك ربي عز وجلّ في خواتيم سورة البقرة قال عن المؤمنين (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴿٢٨٥﴾). إذن هناك أشكال للتعامل مع المنهج، هناك شكل كالشكل الذي وقع هنا في بني إسرائيل (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) وهذه هي العاقب والنتيجة جاءت في الآيات، وهناك شكل آخر ينبغي أن نقوم به وهو الذي ينبغي أن تقوم به أمة القرآن (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ولكن والذي سنأتي عليه بعد قليل في آيات في موضعها في سورة النساء السمع والطاعة ليس عملية ادّعاء، السمع والطاعة ليست كلمات تقال باللسان، السمع والطاعة اتباع وسير على المنهج الذي جاء به هذا الكتاب العظيم وطبقه نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم في حياته وتعاملاته وسلوكياته المختلفة. وبالتالي سيأتي عدد كبير من الآيات في سورة النساء كلها تتحدث عن أهمية طاعة الله وطاعة رسول صلى الله عليه وسلم، المنهج، السمع والطاعة ليست مجرد كلمات، السمع والطاعة تطبيق في واقع الحياة ولذلك حذار حذار أن نقول بألسنتنا سمعنا وأطعنا وتصبح الكلمات والآيات حُجّة علينا ونأتي إلى واقعنا وتعاملاتنا في محيط الأسرة والعمل والحياة اليومية والاجتماعية وحتى في علاقاتنا مع الأمم الأخرى وإذا بمنهج التعامل الذي نقوم به ليس فيه أي شكل من أشكال الطاعة لما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى وإلا فالعاقبة أوضحتها هذه الآيات العظيمة (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) عاقبة واضحة!.
وتدبروا في الآية التي تليها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴿٤٧﴾) ولنا أن نقف طويلًا عند هذه الآية. الآية تقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) والسؤال: وهل هذا الكتاب جاء ليخاطب الله سبحانه وتعالى به الذين أوتوا الكتاب؟! وتدبر في أول آية في سورة النساء (يا أيها الناس) هذه الخطابات والنداءات في كتاب الله تدل على أي شيء سوى عالمية هذا القرآن العظيم؟ عالمية رسالته وقيمه، عالمية تعاليمه ومبادئه وتشريعاته وتوجيهاته. وبالتالي ربي بعد قليل في الآيات التي تليها بعد عدد من الآيات سيأتي الحديث عن الأمانات (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) نحن حُمِّلنا أمانة أن نحمل رسالة القرآن إلى أمم العالم بأسرها ولكن الحمل ليس بالضرورة فقط أن يكون من خلال الكلمات أو من خلال تبليغ الرسالة فقط شفهيًا، الحمل الحقيقي لرسالة القرآن وقيمه أن تصبح واقعًا في مجتمعاتنا وأُسرنا أن نقدّم أنموذجًا لأمم العالم وشعوب العالم، أنموذجًا للعدالة أنموذجًا فعليًا وتطبيقًا عمليًا لواقع هذا القرآن وتعاليمه في حياتنا حتى لا يُفتن الناس، حتى لا ينظر الناس إلى مضمون الكتاب فيرون شيئا وينظرون إلى واقعنا فيرون أشياء أخرى لا تمت إلى ذلك المنهج بصلة فتحدث فتنة كهذه التي تحدث اليوم. اليوم العالم بأسره – وسنأتي عليها في سياقاتها – ينظر إلى القرآن فيرى شيئا ويسمع شيئا وينظر إلى واقعنا في داخل أُسرنا ومجتمعاتنا ومؤسساتنا فيرى شيئا يصل إلى حد التناقض في بعض الأحيان فيحدث الفتنة هذه الفتنة هي فتنة الصد عن منهج الله سبحانه وتعالى فتنة أشبه ما تكون بالتحريف ولكنه شكل جديد من أشكال التحريف الذي وقع فيه من قبل بنو إسرائيل، تحريف بمعنى أيّ شيء؟ تحريف ليس بالكلمات فالقرآن مصان ومحفوظ من قبل الله سبحانه وتعالى تكفّل بحفظه، بحفظ حروفه وكلماته لكن التحريف جاء من قبل من يناقض في سلوكياته وأعماله منهج القرآن، القرآن يقول اعدلوا وهو يظلم القرآن يقول أدوا الأمانة وهو يخون الأمانة هذه الازدواجية والتناقض في حياة بعض منا شكل من أشكال التحريف، تحريف المنهج الرباني الذي نزل على هذه الأمة لتحمل به الرسالة إلى أمم العالم. ولذلك جاء الحديث عن الشهادة (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴿٤١﴾) النبي صلى الله عليه وسلم شهيدًا على أنه قد أدّى الرسالة ووفى بالأمانة وبلّغ الرسالة ونصح الأمة وسنُسأل وسيشهد علينا إن كنا قد قمنا بأداء تلك الأمانة أم لا.
ثم تنتقل بعد ذلك الآيات العظيمة تعلمنا وترينا أشكالا وصورا من العقوبات التي دمغ الله سبحانه وتعالى بها بني إسرائيل نتيجة لتحريفهم لكتابهم، نتيجة لعدم قيامهم بأمانة حمل المنهج منهج التوراة في سلوكياتهم وحياتهم، وتدبروا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴿٤٩﴾ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ﴿٥٠﴾ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ﴿٥١﴾) صور لمخالفات حقيقية، ممارسات عملية في الواقع كان يراها المسلمون لأنهم كانوا كما نعلم يعيشون مع اليهود في المدينة فكانوا يرون ويشهدون ذلك التناقض في حياة بني إسرائيل، التناقض الذي ما أمر الله سبحانه وتعالى به أن يكون فكان افتراء على الله لذلك قال (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) مناقضة (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) يفتري الإنسان على الله الكذب حين يأمره الرب الذي يعبده ويوحده بشيء ولكن تأتي أفعاله وسلوكياته مناقضة لذلك الأمر مناقضة للمنهج الرباني الذي ربي سبحانه وتعالى أنزله لعباده هدى ورحمة. ولذلك قال ربي (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) السياق سياق تحذير من السير على ذات المنهج والوقوع نفس المزالق والإشكاليات الخطيرة التي وقع فيها بنو إسرائيل (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الحديث عن ممارسات عن سلوكيات وقع بها بنو إسرائيل. ثم ختمت الآية فقالت (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿٥٦﴾) والكفر بالآيات ليس شكلًا واحدًا، الكفر بالآيات كما ذكرنا في التحريف ليس على شكل واحد، الإيمان الحقيقي بالآيات أن تصبح آيات الكتاب واقعًا وتطبيقا في الحياة بكل مجالات الحياة المختلفة. ولذلك تدبروا في الآيات التي تليها كيف جاءت تحكي عن الإيمان (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ﴿٥٧﴾) آمنوا وعملوا الصالحات، آمنوا بالمنهج فكان العمل الصالح إيمانًا بذلك المنهج، العمل الصالح جزء لا يتجزأ من الإيمان ولا تكاد تذكر في كتاب الله في آياته كلمات عن الإيمان إلا ويذكر معها العمل الصالح، التطبيق، الفسير الحقيقي لمعنى الإيمان، الرصيد الحقيقي للمؤمن، أن يجعل من ذلك الإيمان المستقر في سويداء قلبه واقعًا أخلاقًا تعاملًا سلوكيات، فجاءت الآية مقابل ذلك المنهج المنحرف الذي كفر بآيات الكتاب، كفر بها في واقعه كفر بها من خلال أخلاقياته السيئة وسلوكياته المنحرفة حسدًا وبخلًا ورياءً وكفرًا وبُعدًا عن منهج الله وتضليلًا وشراء للضلالة على حساب الهدى.، هذا منهج مناقض وتأتي السورة بعد ذلك بالأمر.
وتدبروا اعجاز القرآن وعظمة التناسب بين آياته! مباشرة بعدها (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿٥٨﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) تدبر واقرأ الآيات وأنت فعلًا مستحضرًا لكل مبادئها ومعانيها العظيمة، قيمها ومقاصدها (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) إيمانك أمانة. وتدبروا جاء الحديث عن الأمانة بعد الآية التي قالت (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) انظر إلى الربط، إيماني بالله سبحانه وتعالى أمانة عليّ أن أحسن أداءها وجزء من ذلك الأداء أن أعمل بمقتضى الإيمان، آمنت بالله وآمنت برسوله صلى الله عليه وسلم فعليّ بالتطبيق ولذلك جاءت الآية التي تليها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) إيمان دون طاعة أنّى له أن يكون إيمانًا! وتدبروا ذلك التلازم الواضح بين الإيمان والأمانة. الأمانة إيمان وكلما ازداد وترقى الإنسان في إيمانه ازداد أمانة، ازداد حرصًا على أداء الأمانات، وكل ما نقوم به في حياتنا أمانات، الكلمة أمانة، النظرة أمانة، الحواس المختلفة التي وهبنا الله سبحانه وتعالى أمانات كيف أقوم بوظائفها، كيف أوظفها في حياتي أمانة كيف أستعملها أمانة، كيف أحافظ عليها أمانة، العلاقات الزوجية والأسرية الاجتماعية أمانات، علاقات الجيرة والصداقة والزمالة والعمل أمانات، الأعمال أمانات. الأمانة في القرآن ليست أمانة درهم ودينار فحسب، هي جزء يسير شكل واحد من أشكال الأمانة ولكن الأمانة هي تلك الأمانة التي قال الله تعالى عنها في موضع آخر (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴿٧٢﴾ الأحزاب) أمانة، أداء المنهج والقيام بهذا القرآن العظيم في الحياة والتطبيق وحمله إلى أمم الأرض أمانة آن للمسلمين أن يسألوا أنفسهم قبل أن يُسألوا ويقفوا بين يدي خالقهم هل فعلًا أدينا الأمانة؟ هل استطعنا أن نحمل قيم القرآن إلى أمم الأرض؟ قيمة العدالة، هل فعلًا تمكنا من ذلك؟ هل أدينا الأمانة؟ لذلك تدبروا في نهاية آية الأمانات (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿٥٨﴾) من الذي يراقب مستوى الأمانة في قلبي وأخلاقي وسلوكي؟ الأمانة الفردية والأمانة الجماعية؟ السميع البصير. الكلمة أمانة بكل أشكالها وصورها سواء ما تحدّث به نفسك أو ما تقوله عن الآخرين، الكلمة أمانة. واعلم أن من يحاسِب على هذه الكلمة هو السميع البصير تدبروا كيف تنضبط قيمة العدالة في المجتمع، العدالة كقيمة يعرفها البشر، الآن على سبيل المثال في مجتمعات الدول المعاصرة تتشدق بالكلام عن العدالة والحرية والمساواة لكن من الذي يجرؤ أن يقول لدولة أو لقوة عظمى هنا أو هناك أنت تطبقين العدالة أم لا تطبيقينها، وكيف تُضبط؟! هذه لا تضبط بمقاييس البشرية، هذه تحتاج إلى رقابة ذاتية والرقابة الذاتية التي تصنعها سورة النساء: إن الله كان عليكم رقيبا، إن الله كان سميعا بصيرا، خبيرا عليما. تدبروا كيف تُبنى الرقابة على الضمير في نفس الإنسان المؤمن.
وتدبروا في نفس الآية (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) قبل أن يقول (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ونحن لا زلنا نتعامل مع القرآن بنفس تلك القرآءة التي أشرنا إليها فيم سبق القرآءة العضين المجتزأة المقتطعة من سياقاتها نقتطع من الآيات! ولذلك في بعض المؤسسات أو بعض المحاكم الآية تقتطع هذا الجزء من الآية فقط (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أين الجزء الأول من الآية؟! لا ينفصل عن أداء الأمانت لهم ثم إن الله سبحانه وتعالى قدّم أداء الأمانة على الحكم بين الناس والقضاء بينهم لماذا؟ ليجعل الفرد الإنسان المسلم رقيبًا على أمانة نفسه وإذا أصبح الإنسان المسلم المؤمن رقيبًا على ذاته في أداء الأمانة ما احتاج إلى القضاء، ولا احتاج إلى التحاكم ولا احتاج إلى أن يرفع مظلمته إلى محكمة هنا أو هناك. لو أقيمت فضيلة أداء الأمانات في بيوتنا وفي أُسرنا وبين الأزواج يا ترى هل كنا سنحتاج إلى الوقوف في تلك الطوابير المضنية ساعات لأجل رفع قضية طلاق أو ضرر أو نفقة أو ما شابه؟! لو أدى الناس الأمانات إلى أهلها فعلًا هل كان سيكون هناك فعلًا حاجة حقيقية لما يحدث في المحاكم الشرعية والمحاكم الأسرية محاكم الأحوال الشخصية وقضاياها التي لا تكاد تنتهي ولو قلبنا في إضبارات وملفات ودفاتر تلك القضايا المختلفة المرفوعة هنا وهناك في مختلف دول العالم ولكن نتكلم عن عالمنا الإسلامي ومجتمعاتنا المسلمة التي أُمرت ووجِّه لها خاصة هذا الخطاب القرآني أن تؤدي الأمانة إلى أهلها لو بحثنا لوجدنا فعلًا أن الكارثة الأصل غياب الأمانة! قضايا النفقة المرفوعة، المطالبات بالنفقة، الرجل يريد مخرج قانوني لأجل أن يتحايل على النصوص الشريعة والقانونية فيتخلص من النفقة على سبيل المثال! هذا جزء من مثال، هذا لو أدرك أداء الأمانة إلى أهلها أكنّا بحاجة إلى ما نحن فيه؟! أداء الأمانة إلى أهلها! لكن القرآن كتاب واقعي يعالج الواقع الإنساني ما كان من الممكن أن يترك الناس دون تحاكم دون وجود من يحكم بينهم بالعدل دون وجود من ترفع إليه المظالم، القضاء، نظام القضاء ولذلك جاءت الآية (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) الحكم بين الناس، قيمة العدل الحقيقية أمانة، القضاء أمانة.
وأنا أريد أن أقف – ونحن في سياق الحديث عن القضايا الأُسرية والمشاكل الزوجية وما شابه – تأخير العدالة ظلم وغبن، تأخير إعطاء الحقوق وردّ الحقوق إلى أصحابها، التأخير فقط في الأجَل، التأجيل في الزمن في المدة هذا ظلم، وهذا ليس من العدل في شيء. ولنا أن نقف طويلًا عند كل تلك طوابير الانتظار عند المحاكم في المجتمعات المختلفة في مجتمعاتنا المختلفة سنجد عشرات وربما مئات من القضايا أُجّل النظر فيها مرة بعد مرة، لماذا يؤجل؟ تدبروا في كل هذه المعاني (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) فمن العدل وتمام العدل أن يعجل الحاكم في رد الحقوق إلى أصحابها متى ثبت عنده ذلك. هذه العدالة التي تأتي بها آيات القرآن العظيم.
ولذلك جاءت الآية التي تليها بقول الله عز وجلّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) الطاعة والأمر بالطاعة سيأتي كثيرا في سورة النساء وتأملوا في التناسب بين ما قاله بنو إسرائيل (سمعنا وعصينا) وبين الأمر الذي يأتي مرة بعد مرة (أطيعوا)، لماذا؟ لذلك التناسب الذي ذكرناه قبل قليل، أنا لديّ أنموذج لأمة تعاملت مع المنهج بالعصيان قولًا وفعلًا وأخلاقًا وتعاملًا وسلوكًا فكانت العاقبة ما ذكرته الآيات العظيمة ونحن اليوم لدينا منهج، هذا المنهج أحتاج أن أتعامل معه بالسمع والطاعة ليس فقط قولًا ولكن تطبيقًا وتنفيذًا وسلوكًا ولذلك ربي قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) أصحاب المسؤوليات،علماء، حكام، رؤوساء، مسؤولين ولكن سياق الآيات هنا والترتيب الذي جاءت به الآيات أعطتنا ضابطًا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) إذن الدعوة إلى تلك الطاعة الربانية للمنهج هي طاعة عامة شاملة للجميع بما فيهم المسؤول والحاكم والرئيس والقاضي كلٌ في موقعه، هذه طاعة شاملة. ثم إن بعد ذلك هذا المسؤول حين يطلب الطاعة ممن هم تحت مسؤوليته عليه وقبل كل شيء هذه الآيات التي سبقت أداء الأمانة، القيام بالعدل، طاعة الله وطاعة الرسول r. ولكننا لأننا أصبحنا نتعامل مع هذا القرآن بانتقائية ننتقي منه ونتخير على الله سبحانه وتعالى نأخذ من القرآن أجزاء ونقتطع أحيانًا كلمات لا لأجل أن نعالج بها واقعنا ولكن لأجل أن نبرر بها واقعًا قد يكون قد وقعت فيه الكثير من الأخطاء والسلبيات، الفارق بينهما شاسع، أن آتي إلى القرآن بقلب واع سليم جاء ليسمع ويطيع وبين أن آتي إلى القرآن لأجد فيه ما يوافق هوى نفسي وآيات سورة النساء ستتحدث عن الهوى في أواخر الآيات لتبين لي أن آفة المجتمعات في اتباع الأهواء بكافة أشكالها، هوى النفس لا صورة واحدة له بل صورة متعددة، أشكال متعددة! وإذا اتّبع الإنسان هواه ضيّع قيمة العدالة، وضيع قيمة السمع والطاعة لذلك المنهج الرباني الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يُطبَّق في الأرض. وذكر ربي في هذه الآية (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) ذكرنا أن سورة النساء من أعظم السور التي تعلم الإنسان والمجتمع والأسرة المسلمة كيفية إدارة النزاعات والصراعات والخلافات الزوجية والشقاق بين الزوجين بكل هذه المفردات التي جاءت بها. فهنا قال (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) الكتاب والسنة وبخاصة ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم من السُنة الفعلية وطبقها في حياته سلوكًا وعملًا. النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك تفسيرا مكتوبا إلا بضع آيات ذكر لها معاني ولكن الحياة التي عاشها السنوات التي قضاها سلما وحربا، رجل أمة ورجل أسرة وزوج أب وأخ وجار وقائد في ميدان المعركة وأشكال عشرات الصور مربي معلم بائع مشتري حاكم هذه الصور بأكملها تشكل التفسير العملي لهذا المنهج الرباني القرآني الذي نحتاج إلى أن نرد الخلافات حين تقع فيما بيننا إليه لذلك المنهج نتعلم من حياته وسنّته كيف أدار النزاع لا نذهب بنزاعاتنا إلى الخارج! والآية العظيمة هنا تبين لي مبدأ عظيمًا جدًا: النزاعات والخلافات ينبغي أن تُحلّ في البيت الاجتماعي، بيت المجتمع، الأسرة هي البيت الصغير، والقرآن في الآيات التي سبقت في سورة النساء أكد أهمية أن يقوم الزوجان بحلّ الخلافات فيما بينهما إلا إذا وصلت إلى سقف وإلى حد لا يمكن إلا أن يتدخل فيه حكم من أهله وحكم من أهلها وفي حالة النزاعات في المجتمع في المؤسسات، في المصارف، مؤسسات الدولة، طوائف مختلفة في المجتمع فئات مختلفة في المجتمع، حدث النزاع، النزاع وحدوث النزاع ليس بالشيء المستغرب، هذا واقع إنساني من خلال التعامل والاحتكاك يحدث سوء فهم وسوء الفهم يؤدي إلى نزاع، لا إشكالية في ذلك، الإشكالية في أن لا نحسن التعامل مع نزاعاتنا وأن نذهب بنزاعاتنا إلى طرق من هنا ومن هنا بعيدًا عن الردّ إلى الله وإلى الرسول r، هذه هي الإشكالية الخطيرة! لأن ربي عز وجلّ ربطها بعد ذلك فقال (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) لا تذهب به إلى محاكم دولية هنا وهناك. النزاعات التي تحدث في واقعك وفي مجتمعك عليك أن تقوم بحلّها أنت حل داخلي ولكن لأجل أن تقوم بحلها وتحسن إدارة هذه النزاعات ومحاولة استيعابها واحتوائها عليك أن تؤمن بالله واليوم الآخر حتى تحسن الرد لأنك إن لم تؤمن بالله واليوم الآخر كيف ستقوم برد هذه النزاعاتومعالجتها من خلال الرجوع إلى الله والرسول r، إلى المنهج إلى القرآن وإلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة. هذا ما نحتاج إليه ولذلك آيات سورة النساء تعالج قضايا مجتمع، قضايا دول، قضايا أمم ونحن اليوم نتخبط هنا وهناك، لماذا التخبط؟ ذاك الضعف في ذاك الجانب؟! ليس لأننا لا نؤمن ولكن كما ذكرت سورة النساء قبل قليل، الإيمان إحساس وشعور وعمل وقول وتطبيق وتنفيذ وأخلاق وسلوك، كلٌّ متكامل لا يكفي أن تأخذ منه جزءًا وتقول يكفيني هذا الجزء لأعيش حياتي بطريقة صحيحة سليمة، لا يمكن! أنا بحاجة إلى أن آخذ المنهج كاملًا وأجعله منه مرجعًا لي في حياتي في سلوكي وتعاملي مع القريب والبعيد، مع الصديق ومع العدو، في السلم وفي الحرب في الاستقرار وفي الخلاف والنزاع، هذه حقيقة. ولذلك تدبروا في عظمة التناسب الواضح لكل من يتدبر في آيات هذه السورة الكريمة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿٦٠﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴿٦١﴾) صورة واقعية تجيب عن تساؤلاتنا تجيب عن خواطرنا حين نقرأ القرآن ونرى الواقع شيئًا يخالف القرآن! زعم، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) قد يزعم الإنسان أنه آمن بما أنزل الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، يزعم ولكن إذا كان هذا وأصبح مجرد زعم فالواقع سينبئك بذلك يتحاكم إلى الطاغوت، إلى مناهج مختلفة، مناهج ما أنزل بها من سلطان، مناقضة لهذا المنهج في الوقت الذي أمر أن يكفر بالمنهج الطاغوتي، هذا هو الضلال الحقيقي. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) تعال لديك منهج (رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) وتأملوا لأن الحديث عن النفاق سيأتي كثيرًا في سورة النساء، لماذا؟ عندي نفاق وعندي إيمان، تمام الإيمان أن يطابق قولي عملي ويطابق عملي قولي لا تناقض ولا ازدواجية، والنفاق ازدواجية، ازدواجية في السلوك، ازدواجية في التعامل، أقول آمنت بالكتاب ولكن قلبي مُعرض عن هذا الكتاب، واقعي يُعرض ويصدّ عن ذلك الكتاب، وتعددت الأشكال والصور ولكن المبدأ واحد، البعض يقول كتاب أُنزل قبل مئات السنين أكثر من ألف وأربعمئة سنة! اليوم بعد كل التطور الذي نحن فيه نعود إلى كتاب أنزل قبل مئات السنين؟! لا يصلح هذا الكلام! لا يصلح لو أن الذي أنزله بشر أما وأن الذي أنزله الخبير العليم الخالق البارئ المصور فهو العليم بما كان ويكون وسيكون، بما كان قبل مئات السنين وبما سيكون بعد مئات السنين. القرآن لا يخاطب المتغيرات التي يصنعها البشر في حياتهم والتقنيات والتغيرات الزمنية، القرآن يخاطبنا نحن كبشر والبشر في طبيعتهم وميولهم ونوعية تعاملاتهم وأصولها وعلاقاتهم الإنسانية لا يتغيرون، الطبيعة البشرية واحدة منذ أن خلق الله آدم وأعطاه المنهج (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٣٨﴾ البقرة) في سورة البقرة أعطاه المنهج (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) لم يتركه بدون منهج ومنذ لدن آدم عليه السلام أبو البشر إلى أن تقوم الساعة لن تتغير الطبيعة الإنسانية يتغير ما حول تلك الطبيعة، نعم، بشكل واضح في التقنية في الأدوات في الزمان في كل شيء ولكن ليست الطبيعة البشرية التي يعلوها أو يعتريها التغيير والقرآن يخاطب البشر لا يخاطب الأدوات ولا يخاطب الحجر ولا يخاطب التغيرات يخاطب البشر والبشر كما هم.
ولذلك الآيات التي جاءت بعد ذلك جاءت تبين لي أشكال وصور، صور من المجتمع حين يقع في آفة الازدواجية والتناقض بين المنهج وما يأمر به وبين الواقع الإنساني ولذلك ربي عز وجلّ قال (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) صحيح أوردت كتب التفاسير بعض أسباب النزول ولكن كما ذكرنا نحن في التدبر نقف على سبب النزول ونقرأ فيه ولكن دائمًا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والتناسب بين هذه الآيات، المصائب تحدث نتيجة لذلك التناقض في الواقع، بين ما يأمر به المنهج وبين ما يفعله البشر ولذلك ربي عز وجلّ أعطانا السبب فقال (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) مرض التناقض والازدواجية والنفاق. ولذلك الأحاديث لما أوردت صور وأشكال النفاق وآيات المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان، هذه الأحاديث التي تتكلم عن صور النفاق صور ازدواجية لأن القرآن يأمر بالعدل والصدق وأداء الأمانة فإذا رأيت إنسانًا يخون هذه الأمانات فاعلم أن هناك إشكالية في الإيمان، خلل في التوحيد الحقيقي الناصع النقي الذي تبننه سورة النساء وينبيه القرآن لا تناقض فيه لا شائبة تشوبه، عمل يصدق القول يصدّق الإحساس يصدّق التوجه فيصبح الواقع الإنساني مرآة تعكس معاني الإيمان، معاني التوحيد، انظر إلى الواقع فترى الناس يتعاملون فيما بينهم نزاهة وأمانة وصدقًا، مدينة أقرب ما تكون إلى المدينة الفاضلة ولكن ليس في الخيال بل في الواقع وقد حدث هذا فعلًا. ولكن المجتمع الإنساني لا يمكن أن يكون كاملًا بمعنى كل شيء يكون فيه تاما لا نقص ولا اعوجاج وإلا لما جعل الله تعالى وأنزل هذه الآيات لتعالج مختلف الحالات ولكن أن يصبح الغالب على المجتمعات المسلمة التناقض، هنا الإشكالية والخطورة! أن تصبح الخيانة هي الدارجة والأمانة هي العملة النادرة حتى يقال في قرية ما أو في بلد ما إنسان أمين، هذه الإشكالية الخطيرة لكن أن توجد حالات ما حالات فردية هذا شيء وارد لأنه واقع إنساني واقع بشري ولكن لا أن يصبح ذلك هو السائد وهذه هي الخطورة في واقعنا المعاصر!
ولذلك ربي سبحانه وتعالى في الآية بعد ذلك قال (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) الرسالات لا لأجل أن تكون فقط رسالة شفوية، القرآن لا لأجل فقط أن يحفظ ككلمات وآيات وسور، صحيح حفظ القرآن أمر عظيم جدًا ولكن الرسل جاءت بتلك الرسالات والمناهج لأجل الطاعة، لأجل أن يُطاعوا في رسالاتهم والنبي صلى الله عليه وسلم جاء ونزل عليه القرآن لأجل أن يطاع والطاعة سلوك وتنفيذ وتطبيق، تأمل (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) والذي يحدث أن يظلم الإنسان نفسه (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) تأملوا باب التوبة، الخطأ وارد، والنسيان وارد وصدور التناقض في حياتنا والإشكاليات المختلفة ووقوع الظلم فيما بيننا أمر وارد قد يحدث ولكن الإشكالية في حياتنا أن يبقى الإنسان مصرّا على خطئه أن يبقى الظلم على ظلمه فلا تبرأ ذمته من ذلك الظلم ولا يفكر في يوم أبدًا أن يعيد الحقوق إلى أصحابها ويرد المظالم إلى أهلها! تلك هي الإشكالية. أن نخطئ فيما بيننا ونقع في الخطأ في علاقتنا الزوجية والأُسرية والاجتماعية وارد ولكن المهم أن تصحح الخطأ المهم أن تستغفر الأبواب مفتوحة (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) تواب لأنه رحيم ومن رحمته بعباده أنه فتح باب التوبة للخاطئين، فتح باب التوبة لأولئك الذين يريدون أن يعودوا إلى المنهج من جديد، الباب مفتوح في أي وقت في أي زمن في أي لحظة ما عليك إلا أن تستدرك ما فات قبل فوات الأوان، هذا هو القرآن. تدبروا كيف يفتح القرآن باب الأمل، التوبة أمل، أمل للعاصين، أمل للمذنبين، أمل للظالمين، أمل للمخطئين، أمل لأولئك الذين لا يزال في قلوبهم شيء من الإيمان شيء من محبة الله عز وجلّ والرغبة في الرجوع إليه. الباب مفتوح، ارجع، استدرك ما فات، صحح، عدِّل أوضاعك، عدّل إيمانك، عدّل صلتك بالله سبحانه وتعالى، استسمح واطلب السماح من الآخرين ممن ظلمت في يوم من الأيام ولو بكلمة في سر أو علانية، صحح علاقاتك، صحح تصرفاتك، أمر مهم.
وتدبروا في الآية (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) تدبروا الإيمان عمل، الإيمان احتكام لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) وليس هذا فقط (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) مراحل الإيمان، مراحل الرجوع إلى الله سبحانه: أولًا توبة واستغفار (فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ) واستشعار أن الله تواب رحيم، التوبة لأجل أن تتم وتكون صادقة لا بد أن تليها خطوة التصحيح، أين التصحيح؟ (يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) على كل المستويات، علاقات زوجية علاقات مالية، مع الأقوياء مع الضعفاء مع يتامى مع أداء الأمانات إلى أهلها، علاقات اجتماعية علاقات أسرية، كل أشكال النزاعات الحكم فيها ليس لأهوائنا، الحكم لا بد أن يكون لله ولرسوله فيما يحدث بيننا من نزاعات. المشكلة في نزاعاتنا اليوم التي لا تحل، كثير من الناس تسمع له فيقول لك: أبدًا، هذه مشكلة عويصة أو مستعصية، صعب، حاولت كل الطرق ولم تحلّ! كل الطرق أحيانًأ هي تلك القائمة على أهواء النفوس. المشكلة في أننا لم نعد نستطع حل نزاعاتنا، أن الذي بات يتحكم فينا وفي نزاعاتنا الهوى وليس ما حكم به الله سبحانه وتعالى ورسوله، إشكالية خطيرة ولذلك قال (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ) سواء كان الحق لك أو عليك، إذا أردت أن تقيس مستوى الإيمان في قلبك لا بد أن لا يكون ضيق ولا حرج ولا انزعاج في نفسك إزاء ذلك الحكم الذي حكم الله به ورسوله (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) الإيمان تسليم، انقياد، خضوع لأمر الله عز وجلّ وهذا معنى الإسلام أن تسلم قياد روحك وقلبك وحياتك لخالقك عز وجلّ ليحكم فيها كلها لا أن يحكم في جزء منها ولا يحكم في الآخر فيحدث التناقض والازدواجية والنفاق بكل أشكاله وصوره. (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) إشكالية كثير من الأسر اليوم والأفراد والمجتمعات هذه القضية: عدم التسليم، وإذا سلّمنا في شيء لا نسلم في آخر.
ولذلك بعد هذه الآيات العظيمة والمقارنة كذلك والمقابلة مع اليهود وأهل الكتاب وكيفية التعامل مع المنهج (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴿٦٦﴾) من وسائل الثبات أن يتعظ الإنسان ولأجل أن يتم الاتعاظ عليه أن يفعل ما يوعظ به والقرآن موعظة، التطبيق (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) ليس هذا فقط (وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ﴿٦٧﴾ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴿٦٨﴾) نفحات، منح ربانية من الله عز وجلّ فقط حين يحسن الإنسان تطبيق المنهج في واقعه وحياته. وتدبروا كيف يكون الربط (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴿٦٩﴾) الآية العظيمة التي فرح بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّما فرح، صحيح يروى أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحبه حبا شديدا ومن ذا الذي لا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كان ملازمًأ له فكان يخشى إذا مات – كما أوردت بعض كتب التفاسير – يخشى إذا مات فالنبي صلى الله عليه وسلم مع النبيين ودرجته درجته وهذا الرجل بسيط من عامة المسلمين فأنّى له أن يرتقي بتكل المنزلة ويلحق به؟! فنزلت هذه الآية تثبيتًا وتطمينًا وفتحًا عظيمًا لباب الرحمة والمغفرة، ما الذي يريده الله سبحانه وتعالى؟ أن يطع الله ورسوله. ولأجل أيّ شيء ربي سبحانه وتعالى يطلب منا طاعته؟ ألأجل أنه سبحانه بحاجة إلى تلك الطاعة حاشاه؟! ربي هو الغني ونحن الفقراء يأمرنا بطاعته لأجل أن تصلح حياتنا وآخرتنا بتلك الطاعة ولا تصلح حياتنا ولا آخرتنا بدون تلك الطاعة. (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴿٦٩﴾ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴿٧٠﴾) تدبروا: عليم بما نفعل، عليم بفضائل الإحسان التي يمكن أن نقوم بها، الإحسان الذي بات في زماننا يسميه البعض تنازلات وتضحيات والقرآن يسميه إحسانًا ولك أن تتخيل الفارق بين الإحسان حتى في الكلمة وبين التضحيات! خسرنا كثيرًا حين فرطنا في مفردات هذا الكتاب العظيم، القرآن يسميها إحسان ونحن نسميها تضحية وتنازل!! ذلك الفضل من الله سبحانه وتعالى على عباده أن أنزل لهم منهجًا تستقيم به حياتهم وأُخراهم. المؤمن الذي يعيش في ظل منهج الله سبحانه وتعالى ويطبّق سيكون مع أولئك الذين طبقوا تلك الرسالة وحملوها حق حملها النبيين والصديقين والشهداء والصالحين صدقت أفعالهم إيمانهم، نحن بحاجة ماسة إلى هذا التصديق العظيم.
وهنا وفي هذا الموضع تنتقل السورة إلى الحديث عن قضية القتال، لماذا؟ هذه القيم العظيمة: قيم الأمانة، قيم أداء الأمانة، قيم العدالة قيم الحرية، قيم المساواة، قيم إدارة النزاعات بين البشر وفق ما أراد الله تحتاج إلى حماية تحتاج إلى ما يمكن أن يكفل لها الحماية والرعاية والاستمرارية، فكان القتال، القتال في الإسلام ليس بالمعنى الذي يخيله البعض أو يصوره البعض على أنه سفك للدماء وأن الإسلام دين دموي، هكذا يطلق البعض من الافتراءات على هذا الدين العظيم! تدبروا هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ﴿٧١﴾ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ﴿٧٢﴾ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴿٧٣﴾ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ) إذن أنت لا تقاتل في سبيل أهوائك ولا في سبيل مطامع دنيوية ولا عروض زائلة ولا لأجل نهب ثروات الشعوب ونفطها ومصادرها ومائها وأنهارها وأقواتها، لا تقاتل لأجل كل تلك الترهات الزائفة القائمة على هوى النفس وعبادة الذات بل تقاتل لأجل من؟ وفي سبيل من؟ سبيل الرب الذي وضع المنهج فحتى حين تقوم ويؤذن لك بهذه القضية عليك أن تقاتل وفق منهج الله لا وفق أهواء النفوس، لا تحرك الجيوش الأهواء، في الإسلام في ذلك النهج والتطبيق الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم، جنود النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تحرّكهم الأهواء، حركتهم آيات الكتاب والمنهج الذي جاء في كتاب الله عز وجلّ، هذا الذي حرّكهم (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ) باعوا الدنيا بكل عروضها بكل أموالها ومكاسبها وأطماعها وأهوائها وشهواتها ليشتري الآخرة، والسؤال: الإنسان الذي يبيع الدنيا بكل ما فيها أهو إنسان يقاتل لإرضاء لنزوة أو شهوة أو تحصيل مطمع أو غاية دنيوية؟! لا يمكن، وهل يمكن أن يكون ذلك العمل الذي يقاتل لأجله سفكًا للدماء؟! لا، لأننا ستأتي علينا بعد قليل الآيات وهي تبين لنا تقديس الحياة الإنسانية ووضع تلك الحياة التي وهب الله سبحانه وتعالى للبشر في أعلى منزلة بعد الدين. وتدبروا الآية (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴿٧٥﴾) إذن هو قتال لأجل حماية حقوق المستضعفين، قيم، حماية العدالة، حماية الضعيف، نصرة للضعيف وتدبروا في واقع المجتمعات المعاصرة اليوم، اليوم الجيوش تخرج لكن السؤال ألنصرة الضعفاء أم الأقوياء؟ ألنصرة الضعفاء الذين ظُلموا أم لنصرة الأقوياء الذين ظَلموا؟ فارق عظيم بين مقصد ومغزى القتال في سبيل الله في الإسلام وبين القتال في سبيل الطاغوت ولذلك جاءت الآية (الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) طاغوت والظلم والعدوان والافتراء والكذب وسفك دماء ونهب أموال الشعوب وتخريب الأرض التي أمر الله أن تعمّر. الفارق شاسع والتناسب واضح ولذلك قال الله عز وجلّ (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) لماذا يا رب؟ لأن المعركة واضحة، لأن معركة الواقع الإنساني واضحة في الصراع بين الحق والباطل، هنا حق وهناك باطل، هناك قيم أمر الله بأن تطبق، حقوق حرية عدالة مواساة أمانة تؤدّى، وهناك قيم كانت موجودة في المجتمع الجاهلي والآن بدأت تعود للمجتمعات المعاصرة، الظلم، الاستعباد والاستبداد، التفرقة العنصرية لا المساواة، قيم تناقض القرآن فما هو الحل؟! من الذي ستكون له الكلمة فيالنهاية؟ ولذلك شرع هنا القتال لحماية القيم القرنية العظيمة المطلوب أن تطبق في الواقع ولكن إذا احتدم الصراع بينها وبين قوى الباطل وقيم الباطل فكيف يكون الحل؟! هؤلاء المستضعفون من النساء والرجل والولدان هؤلاء من يقوم بحمايتهم؟ من يقوم بنصرتهم؟ هل المنظمات الدولية فعلًا هي التي تقوم بنصرتهم؟! إلى أيّ مدى؟! إلى ايّ مدى بات الإنسان يظلم أخاه الإنسان ويعتدي عليه ويلبه كرامته وإنسانيته، اعتداء على الأعراض، اعتداء على الأموال اعتداء على الأرض، اعتداء على كل ما هو إنساني، من الذي يقف في وجه كل هذا الطوفان اللاإنساني؟! من؟! من الذي يقف في وجهه؟! الحق والعدل والحرية والمساواة لا بد لها من من يدافع عنها ولن يدافع عنها أولئك الذين لا يؤمنون بها ولن يدافع عنها أولئك الذين لا يطبّقونها في أُسرهم وبيوتهم وحياتهم وعلاقاتهم الأسرية والمجتمعية ومؤسساتهم المختلفة صغيرة كانت أو كبيرة ولذا ربي عز وجلّ قال – والآيات لا تزال تتكلم في سياق القتال – (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ) الحياة أجمل من القتال، القتال قد يفقد فيه الإنسان حياته وأغلى شي عند الإنسان الحياة الروح! ليست كل حياة غالية، الحياة القائمة على الظلم وقبول الاعتداء على الناس وأعراضهم وأموالهم وتصفية وسفك دمائهم هذه ليست بحياة تستحق أن يعيشها الإنسان! الحياة ليست مجرد أنفاس ولو كانت أنفاسًا مكتومة تكتم الحق والعدل والحرية والمساواة! هذه ليست الحياة التي يريدها القرآن، تدبروا في الآية (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ) الموت سنة من السنن مكتوب على كل الأحياء القوي والضعيف لظال والمظلوم المرأة والرجل الصغير والكبير المريض والصحيح. إذن إذا كان الأمر هكذا ربي سبحانه وتعالى شرع للبشر أن يعيشوا حياة إنسانية كريمة تليق بإنسانيتهم فإن لم يكن ذلك فهنا في هذا الموضع هنا يشرع لقتال لأجل أن تبقى الحياة الإنسانية ويبقى الإنسان على كرامته ولا تهان وتهدر كرامة الإنسان. القتال ما شرع في القرآن لأجل الموت في الإسلام، القتال شرع لأجل الحياة الكريمة. وهذا الفهم فهم غير صحيح أن يتصور البعض وينشر هكذا عن الإسلام أن الإسلام شرع القتال لأجل الموت في سبيل الله والواقع أن القتال شُرع لأجل إبقاء الحياة الإنسانية الكريمة. ولكن إذا مات الإنسان في سبيل هذه الحياة الكريمة وإعلاء قيمتها وإحيائها الحفاظ عليها فليكن فالموت نهاية كل حيّ ولكن موته عندئذ سيكون شهادة. الآية التي بعدها جاءت لتبين هذه القيمة (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) حتى لا يضعف الإنسان أمام حبّ الحياة، حتى لا يقع الإنسان في عشق الحياة وحبها حتى ولو كانت حياة ذليلة مهينة لا كرامة له فيها. ولذلك ختمت فقالت (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) رسولًأ بأي شيء؟ رسول السلام، رسول العدل، رسول القيم والمحبة ولذلك جاءت الآية (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴿٨٠﴾) الطاعة، التطبيق، المنهج والتحذير في نفس الوقت من النفاق والازدواجية (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) ازدواجية، يقولون بألسنتهم ما لا يفعلون بجوارحهم وفي واقعهم وسلوكهم لذلك قال (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا). (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴿٨٢﴾) هنا تدبر القرآن. لماذا جاء الكلام عن التدبر واستنكار على من لا يتدبر في هذا السياق؟ لأن التدبر يقودك إلى التطبيق والتنفيذ في الواقع فإذا لم يقدك التدبرإلى التنفيذ في الواقع ستجد الاختلاف ستجد الشجار والنزاع والصراع والحروب وسفك الدماء وانتهاك الأعراض وسلب الأموال والتشتيت والتهجير من قبيل عدم تطبيق المنهج، ولماذا لا يحدث عدم التطبيق؟ لغياب التدبر ولذلك خسر المسلمون كثيرًا في واقعهم حين أعرضوا عن تدبر هذا الكتاب، التدبر فريضة على كل مسلم عاقبل يقرأ هذا الكتاب أنزله لأجل أن نتدبره لأنه بدون تدبر لا يحصل طاعة وتدبر في حياتك أنت كلما ازددت قربًا من هذا الكتاب وتدبرا في آياته ازددت طاعة لله واستسلامًا لمنهجه وسيرا على هدى نبيه صلى الله عليه وسلم. التدبر يولّد فيك الطاعة يولّد فيك الانقياد والخضوع لأمر الله ومنهجه في الواقع وهو ما أراده القرآن (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ). قد يقول قائل لو ما أدرك التناسب بين الآيات، ما دخل الكلام عن التدبر في الآية؟ الكلام عن الطاعة (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴿٨٠﴾) التولي والصدود والإعراض عن منهج الله لا يكون إلا بالإعراض عن تدبر هذا الكتاب وعدم تفهّم معانيه نتيجة طبيعية والتدبر يقودك إلى الطاعة والانقياد والاستسلام لأمر الله نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه وأن يجعلنا من أهل القرآن الواعين المتدبرين المنفذين لأوامره وتعاليمه وأن يلحقنا بأولئك الرفقة الطيبة التي أدركت كيف يتدبر المؤمن القرآن وينفذ تلك الأوامر في واقعه وحياته.
د. رقية العلواني
تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لا زلنا في تدبر سورة النساء العظيمة ولكني وجدت أن هناك عددًا من آيات هذه السورة نحن فعلًا بحاجة إلى إفرادها بالتوقف والتدبر والتأمل لما أخذت تلك الآيات من مواقع في نفوسنا ومجتمعاتنا وبنيت عليها أحكام وتعاملات مع كتاب الله عز وجلّ وفي حياتنا لهذه الآيات، ولربما من أكثر الآيات مثالًا على ذلك تلك الآية التي عرفت في مجتمعاتنا بها سورة النساء فلا تكاد تُذكر سورة النساء إلا وتُذكر هذه الآية: آية التعدد. وواقع الأمر أن آية التعدد هي ليست بآية بل هي جزء من آية وهي الآية الثالثة من سورة النساء. ولكن قبل أن نبدأ بالحديث عنها نحتاج أن نستحضر عدة أمور تعكس طبيعة العلاقة التي باتت بينا وبين كتاب الله سبحانه وتعالى، العلاقة التي قلنا أنها أصبحت سطحية قائمة على الانتقائية، قائمة على التخيّر من كتاب الله عز وجلّ، قائمة على أن البعض منا وزاد هذا البعض حتى نستطيع أن نقول كثيرًا من المسلمين اليوم باتوا حين يأتون إلى كتاب الله لا يأتون إليه ليعالج مشاكلهم يسألونه لأجل أن يعالج أهواءهم ويخرجهم من حالة الهوائية التي باتت تسيطر عليهم اتباع أهواء النفوس بقدر ما أصبحوا يأتون إليه بأهوائهم لأجل أن يجدوا مبررات ومسوغات لتلك الأهواء وأحكامها وما بنيت عليه في واقعهم وسلوكياتهم والفارق شاسع بين الأمرين، فارق زاد في تلك الفجوة بيننا وبين كتاب الله، فارق واضح بيّن. القرآن العظيم جاء بآيات وتشريعاته وآدابه لا لأجل أن يبقى بين دفتي كتاب بل لأجل أن يُفهم لأجل أن يُعقل لأجل أن ينفذ ويطبق في الواقع يعالج الواقع الإنساني يعالج الواقع الاجتماعي ولهذا وعلى هذا الأساس لا ينبغي أن نغفل أن سورة النساء وكذا باقي سورة القرآن نزلت في بيئة لها سياقات معينة، في بيئة لها ظرفية معينة لكن القرآن العظيم نزل صالحا لكل وبيئة ومكان، نزل مفارقًا للزمان والمكان والتاريخ إذن فعليّ أنا حين أقرأ هذه الآيات وهي تعطيني نماذج أعالجها كأمثلة ونماذج لما كان عليه الوضع في المجتمع الجاهلي البيئة الأولى التي نزل فيها القرآن عليّ أنا كذلك حين أتعامل اليوم مع هذا الكتاب أن أنظر إلى واقعي الذي أريد تنزيل آيات وتشريعات الكتاب فيه، عليّ أن أكون ملمً بتلك السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والفكرية، عليّ أن أفقه الواقع الذي أنا أعيشه اليوم والذي أريد أن أطبق فيه تشريعات وأحكام الكتاب، فقه الواقع حتى يصبح التنزيل والتطبيق لتلك الآيات مصدقا فعلا له لا شيئا آخر حتى أستطيع أن أعالج أزماتي بشكل جيد يتلاءم مع مقاصد القرآن العظيم، ولكي أصل إلى تلك المرحلة لا يمكن أن آتي إلى القرآن بنفسية الإنسان الذي تحركه أهواؤه شهواته ونزواته، إنسان جاء إلى القرآن لأجل أن يبرر ما هو فيه من أوضاع غير صائبة، من أوضاع مناقضة لمقاصد القرآن ورسالته. سورة النساء العظيمة جاءت لتحقق وتنفذ قيمًا عالمية قيمًا حين نزل القرآن ما كان العالم يدركها ولا يحيط بها علمًا ناهيك عن أن يطالب به، قيمة العدالة بكل توجيهاتها وتجلياتها في النفس ومع الزوج والزوجة والأسرة والمجتمع والدولة. هذه العدالة هي القيمة الأساس في سورة النساء وإلى جانبها قيمة المساواة والحرية، بدون المساواة والحرية لا يمكن للعدالة أن تتحقق ولذلك كل هذه الحيثيات أنا أحتاج كمتدبر في كتاب الله وأنا آتي للقرآن العظيم محاولًا أن أتفهم مقاصد آياته لكي أنزلها في واقعي وأطبقها في حياتي وسلوكي وعملي وحقًا يمكننا أن نقول: إذا أردت أن تنظر إلى موقع أيّ أمة من الأمم من الناحية الحضارية وتتساءل عن ماهية موقع هذه الأمة في مستوى التحضر فعليك أن تنظر إلى موقع الأسرة وموقع المرأة والأبناء فيها بمعنى آخر انظر إلى نسائها انظر إلى أُسرها، انظر إلى العلاقات الزوجية والأُسرية، انظر إلى الأبناء في المحيط الأُسري والاجتماعي هذا مقياس من مقاييس التحضر لا ينبغي أن نغفله ولا أن نغفل عنه.
مشكلتنا اليوم في التعامل والتي انعكست على تعاملنا مع الآية الثالثة من سورة النساء أننا نأتي تقريبًا بعكس ما أشرنا إليه إلى كتاب الله سبحانه وتعالى. لذلك اليوم كثير من المسلمين حين يذكر سورة النساء لا يذكر منها إلا ذاك الجزء المتعلق بقضية التعدد، جزء من آية فيقول (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) ويسكت وربما العديد منهم لا يعرف لا بداية الآية ولا نهايتها ناهيك عن معرفة سياق السورة ومقاصدها! هذه المعرفة السطحية ليست معرفة إنسان أو فرد يريد أن يعيش بأحكام القرآن، ليست معرفة إنسان يريد أن يخضع واقعه الفردي والأسري والاجتماعي للقرآن العظيم! وإنما هو في واقع الحال هو تصور لإنسان يريد أن يُخضع القرآن العظيم وأحكام القرآن لأهوائه ورؤاه والفرق بينهما شاسع!! ولذلك أصبحت هذه القضية ينظر إليه وكأنها إشكالية القرآن أحدثها أو صنعها وواقع الأمر أن القرآن العظيم جاء ليعالج الواقع الإنساني والأزمات المتواجدة فيه ويضع الحلول ويضع الخطوات الاستباقية لعدم الوقوع في تلك الأزمات والمشكلات.
يقول الله عز وجلّ (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴿٣﴾)
هذه الآية لكي نصل فعلًا إلى تفهم بعض المعاني أو المقاصد العظيمة فيها لتعالج المشاكل التي نكر بها في مجتمعاتنا علينا أن نتفهم سياقات النزول التي نزلت فيها الآية. الآية نزلت كما ذكرنا قبل قليل في بيئة جاهلية في بيئة امتهنت الظلم والاعتداء على الآخرين وخاصة تلك الفئات التي يمكن أن ينظر إليها ذلك المجتمع الجاهلي لأنه مجتمع قائم على الطبقية وعدم العدالة إلى أنها فئات ضعيفة ومنها فئة اليتامى. اليتامى لأنه ليس لهم ظهر ولا سند يعينهم على العيش في خضم مجتمع جاهلي كذاك الذي نزل فيه القرآن أولًا كانت حقوقهم مهضومة، لا حقوق ولا واجبات تجاه أيّ أحد منهم من قبل الآخرين وكان المعتاد وكان هذا الأمر سائدًا وسائغًا في المجتمع الجاهلي أن الرجل يلجأ للزواج باليتيمات لأن الالتزامات التي عليه لليتيمة أقل بكثير من الزواج بغيرها، غير اليتيمة لها أولياء يطالبون بمهر، يطالبون بأموال ويطالبون باشياء كثيرة، أما اليتيمة التي لا وليّ لها ولا أب ولا سند فهذه لقمة سائغة سهلة! القرآن العظيم نزل في مثل هذه البيئة فأرادت هذه الآية أن تصحح وضعا اجتماعيا قائما على الظلم والعدوان. وتدبروا في كل كلمة من كلمات الآية الثالثة، على مرتين ذكرت كلمة (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) إذن لم يحدث عدم القسط ولم يحدث عدم العدل بعد وإنما كل الذي حدث هو خوف، حالة نفسية، لم يحدث عدم القسط بعد ولكن القرآن العظيم لشدة حفاظه على قيمة العدالة أراد سبحانه وتعالى أن يربينا وأن يعلمنا أنه حتى في حالة خوفك من وقوع ظلم أو عدم قسط فعليك أن تأخذ بكل الاحترازات التي تمنع من وقوع هذا الظلم وعدم القسط. تدبروا (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) حتى وأنت في مرحلة الخوف لم تتخذ القرار ولم يقع منك فعل عدم القسط وعدم العدل ولكن القرآن يطالبك في مرحلة التهيؤ النفسي وهو الخوف أن لا تقوم بهذا العمل، يالعظمة القرآن وعظمة تشريعاته! هذا التهيؤ النفسي لا يمكن أبدًا أن يُصدر تشريعًا أو أن يصدر ذلك التشريع من بشر لأن البشر لا يعرفون بخفايا الأمور قبل أن تقع، التشريعات والقوانين الوضعية البشرية لا تعرف الأشياء أو الإشكاليات التي يمكن أن تقع قبل الوقوع في عملية تطبيق القوانين والتشريعات والأنظمة المختلفة ولكن لأن هذا القرآن وهذا التشريع نزل من عند اللطيف الخبير الخالق العالم بما كان وسيكون وعالم بخفايا النفس البشرية وطبيعتها فهو سبحانه يعلّم هذه النفس كيف تحترز للشيء قبل وقوعه، كيف تفكر بمآلآت القرارات والأفعال قبل اتخاذها. القرآن يعلم الإنسان قبل أن تتخذ القرار فكّر بمآلآت القرار والفعل فإذن وجدت أن المآلآت سلبية وخفت فعلًا وخاصة فيما يتعلق بالظلم عليك أن تجعل بينك وبين الظلم حائلًا وحاجزًا فلا تقترب منه، سدا للذريعة، هنا يأتي فعلًا سد الذريعة، بمعنى سدًا لذريعة الاعتداء على الآخرين والوقوع في ظلمهم عليك أن تتجنب الزواج باليتميات من النساء وما سوى ذلك من فئات النساء فلا بأس أن تتزوج منهن، المعنى أصبح مختلفًا.
نقطة لا فتة للنظر في إعجاز الكلمة في القرآن هنا في الآية الواحدة الآية الثالثة استعمل ربي (تقسطوا) في اليتامى وفي قضية إباحة التعدد (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) هناك فرق بين القسط والعدل، القسط هو الحظّ والنصيب في الاستعمال القرآني في القسمة (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴿٩﴾ الرحمن) نصيب محدد تمامًا. أما العدل فهو شيء عام يطلب منك القرآن حين يأمرك بالعدل أن تساوي بين الناس في الأحكام مساواة، مساواة في أشياء مختلفة سواء ما كان فيها أنصبة مقررة محددة أو لم يكن، تأملوا في سياق استعمال اللفظة. فالخشية من عدم القسط واستعمال القسط في قضية اليتامى لأن الأمر يتعلق بالأنصبة وبالحقوق المالية لليتيمة ولكن حين جاء بقوله (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) في قضية إباحة التعدد العدل هنا مساواة في مختلف الأحكام المتعلقة بالزوجتين، الإنسان يتزوج من أكثر من امرأة فإذا تزوج فعليه أن يتحرى العدل والوضع هنا مختلف.
الآيات تنهى عن الظلم بشكل عام والآية التي قبل، الآية الثانية، ثم جميع الآيات في التي في سورة النساء ونحن قلنا جاءت سورة النساء ونزلت لتحقيق قيمة العدالة ومع قيمة العدالة ولأجل أن تتحقق العدالة هناك احتياج لتحقق قيمة الحرية والمساواة بين الناس كما يقدمها القرآن ولذلك القرآن أراد أن يصحح وضع الظالم الجاهلي الذي كان واضحًا في ذلك المجتمع وفي أيّ مجتمع آخر ولكن أعطانا نموذجًا للظلم كما هو موضح في هذه الآية. والخوف هنا الذي أراد القرآن وأرادت سورة النساء أن يتولد في نفس المكلف الرجل تحديدًا خوف محمود جدًا، خوف لا بد منه، خوف يدفع بالإنسان إلى أن يقف فلا يأتي شيئا لا ينبغي أن يأتيه، خوف يولد الإحجام عما لا ينبغي أن يقوم به الإنسان في كلتا الحالتين (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) وفي نفس الآية (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) سورة النساء تولد هذا الخوف المحمود في نفس المكلَّف الذي هو كفيل بأن يقوم فعلا بحجز المكلّف عن اتخاذ قرار أو الوقوع أو الإقدام على قرار سيوقعه في ظلم اجتماعي بيّن وواضح. هذا هو الخوف الذي يحول بين الإنسان وبين الاعتداء على قيمة العدالة والفوز بمكرمة العدالة التي جاء القرآن ليجعل من الإنسان الفرد المكلف وصيًا عليها محققًا لها قائمًا بها في ذاته أولًا وفي نفسه وفي مجتمعه وفي أسرته بطبيعة الحال. هكذا القرآن يصنع العدالة، العدالة التي يصنعها القرآن ليست عدالة مزيفة ليست عدالة مكتوبة على ورق، العدالة التي تصنعها سورة النساء عدالة تُصنع في قلب الإنسان وضميره ووجدانه، تتولد مع هذا الشعور في بداية الآيات ولنا أن نتدبر لماذا جاء الحديث عن الخوف في الآية الثالثة من سورة النساء والسورة 176 آية، الآية الثالثة تتكلم عن الخوف مرتين لماذا؟ لا يمكن أن تتحقق العدالة دون الخوف من الوقوع في الظلم، كيف أصنع هذا الخوف؟ كل من يتجرأ على الوقوع في ظلم الناس والاعتداء على حقوقهم إنما يحدث ذلك في غياب من الخوف، الخوف من الله عز وجلّ ولا يمكن أن يتولد الخوف من الله واستشعار رقابته بعيدا عن الخوف الذي تحدثني عنه هذه الآية العظيمة في سورة النساء. ولذلك أخطأنا كثيرًا حين وقعنا في تلك القرآءة العضين، القرآءة الانتقائية، القرآءة التي تجتزئ الآيات من سياقها أو تأخذ جزءا من آية بعيدا عن كل شيء وأخطأنا عدة مرات في مناهج تعاملنا مع كتاب الله عز وجلّ أخطأنا حين لم نتعلم أن القرآن في هذه الآية العظيمة يعلم الإنسان رجلًأ كان أو امرأة على استشعار المسؤولية قبل اتخاذ القرارات، على النظر في القرارات ومآلآت القرارات وأثر ذلك على نفسه وأسرته ومجتمعه، هذا قرار لا بد الإنسان أن ينتبه إليه قبل أن يقوم باتخاذه أو الإقدام عليه.
للأسف الشديد هذه القضية ونتيجة لقضايا أخرى مختلفة أوقعتنا في شباك أخرى لا أدري هل سنتمكن من الخلاص منها قريبًا أم لا؟ شباك الاتفاقيات الدولية. بعض الاتفاقيات الدولية وقعت في قضية التمييز ضد المرأة وهي إشكالية موجودة في الفكر الغربي والفكر المعاصر، إشكالية عميقة وتمتد جذورها في عمق التاريخ وتحديدًا التاريخ الغربي، تاريخ النظرة للمرأة، تاريخ نظرة الكنيسة للمرأة على وجه التحديد. الشاهد في الموضوع أن عددًا من المجتمعات المسلمة وبخاصة في ما يتعلق بالجمعيات القائمة على حقوق المرأة والمنادة بالمساواة وما شابه ذهبت وراء تلك الاتفاقيات التي في بعض بنودها تنص على أن قضية التعدد والزواج بأكثر من امرأة اعتداء على حقوق المرأة ونحن نقول أن قضية تقديم الموضوع هكذا في هذه السورة العظيمة والإشارة بوضوح إلى إباحة التعدد ذكرنا سابقًا أن القرآن جاء ليعالج واقعًا إنسانيًا غير مثالي، من أكبر مزايا الواقع أنه غير مثالي، هناك طروف هناك ملابسات لبعض المكلفين رجالًأ ونساء، هناك ظروف يمر بها المجتمع بكل فئاته: حروب، أمراض، اختلافات في قضايا معينة تقتضي أن يتزوج الإنسان بامرأة أخرى ولأن القرآن ليس كتابًا جاء يتكلم على مُثُل وإنما جاء ليعالج واقعًا فلذلك أباح هذه القضية في سياق الشروط التي وضعها لأن القرآن ربط فقال (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فواحدة) وتحري الإنسان للعدل حين يكون عنده أكثر من امرأة لا يقف فقط عند قضية الحقوق المادية ما يتعلق بسكن ومبيت وما شابه، قضية تحقيق العدالة بمعنى ما يحقق الاستقرار الأُسري للمرأتين وللرجل والأولاد وللأسرة، تحقيق استقرار، حل مشكلة وليس صناعة مشكلة جديدة فإذا أدرك المكلف هذه المسؤوليات فعلًا واستطاع أن يصل فعلًا أن الزواج بثانية حل لإشكالية أو قضية هو يمر بها وتم الاتفاق فيما بين أفراد الأسرة على ذلك وأنا أقول الاتفاق ليس بمعنى موافقة أو ترحيب المرأة الأولى بقضية التعدد لأننا لا نريد أن نبتعد عن الواقعية، المرأة شيء طبيعي أنها تشعر بشعور غير مرحّب به بزواج الرجل الزوج بامرأة أخرى، شيء طبيعي. ولكن نحن لا نبحث عن قضية الموافقة وعدم الموافقة كما يقول البعض في القضايا الفقهية لا تشترط موافقة الزوجة، نحن نتكلم عن أوضاع إنسانية، نحن نتكلم عن استقرار أُسري، نتكلم عن مقاصد جاء القرآن لتحقيقها. والنظرة – في تصوري والله أعلم- أننا أيضًا خسرنا الكثير حين ربطنا جوانب الحكم الفقهي فقط بالإباحة والجواز والوجوب والتحريم ولم نهتم كثيرًا بقضية تحقيق المقاصد الشرعية للأحكام المختلفة، القضية ليست هل تشترط موافقة الزوجة الأولى أم لا تشترط، ليست حكمًا شرعيًا، القضية قضية تحقيق مقاصد الاستقرار، التفاهم في الأسرة، تحقيق نوع من التوازن في مجال لأسرة وما حرص عليه القرآن حصرًا شديدًا، أنت لا تريد أن تتزوج بامرأة ثانية أو ثالثة وتخلق لك عشرات المشاكل في البيت الأول مع الزوجة الأولى وأولاد الزوجة الأولى ولا يمكن أن تنسلخ ولا يعني الزواج بأخرى أن تنسلخ من الزوجة الأولى وأبنائها، هذا لا يريده القرآن. القرآن لا يريد أن يصنع في الحقيقة أُسرًا مفككة، القرآن يريد أن يحافظ على الأسرة واستقرار الأسرة فإن كان بإمكانك أن تقيم فعلًا وتفتح بيتًا زوجيًا من خلال الزواج بامرأة أخرى وتحقق استقرارًا فيه وتحافظ على هذا المستوى في ظروف معينة وملابسات معينة تحددها مسؤوليتك أولًأ كإنسان مكلف وأنت تنظر إلى مقاصد التشريع وتحقيق العدالة وما شابه ومدرك تمامًا لمهمتك كخليفة على الأرض إذا أدركت وأحطت بكل هذه الجوانب فذاك الوقت الأمر يختلف والأزمة تختفي. الإشكالية، واحدة من إشكاليات التعدد أن هناك خلطًا واضحًا بين التنفيذ والقيام بالأمر القرآني المتعلق بقضية إباحة التعدد وبين ما قاله القرآن وما أوجده فعلًا كحل للأزمات المختلفة، كيف؟ تصرفات بعض المسلمين ممن يتزوجون بامرأة ثانية وثالثة تصرفات اشخاص لا يليق بهم أن يقال عنهم أنهم ينفذون أوامر الله عز وجلّ أو يطبقون بالفعل هذه الآيات التي أمر الله بها سبحانه.
ثم نأتي إلى سياقات المجتمع، تصرفات بعض النساء وإذا بها تحاسب القرآن والتشريعات المتعلقة بالتعدد وتضع اللائمة عليها باعتبارها أنها السر وراء هذه التصرفات غير المسؤولة من قبل بعض الرجال وهم يلجأون إلى قضية التعدد. هل يُلام التشريع والأمر الإلهي هل يلام على تصرفات بعض الأشخاص غير المسؤولة؟! ونحن قلنا في مرات سابقة كل الأنظمة والتشريعات التي وضعها البشر بما فيها الأنظمة المرورية كأبسط مثال، التشريع يضع قانونًا مروريًا وهذا القانون إذا تعداه الإنسان فعليه عقوبة، هناك إشارة ضوئية حمراء وُضعت في الشارع، كيف تحاسب من وضع نظام الإشارة الضوئية الحمراء على ما يقوم به البعض من تجاوز الإشارة الحمراء؟! كيف:! هل المطلوب لحلّ أزمة تجاوز الإشارة الحمراء وتخطيها من قبل بعض الأشخاص، هل الحل أننا نلغي نظام الإشارة الحمراء؟! بالله عليكم هل هذا هو الحل؟! هناك أشخاص يتجاوزون الإشارة الحمراء في كل البلاد وربما تزداد النسبة في بعض المجتمعات العربية ربما، هل الحل أننا نلغي النظام بأكمله أم أن الحل أننا نفكر مع أنفسنا كيف نستطيع الترقي بتفكير الأشخاص وتوعيتهم لأجل الالتزام بهذه القوانين والأنظمة؟! أيهما أول؟ أيهما أكثر تعقلًا ومنطقية؟! ولله المثل الأعلى. ربي عز وجلّ أباح قضية التعدد لملابسات محيطة بالمكلّف، محيطة بالرجل محيطة بالمرأة محيطة بالظروف لأنه واقعي يتعامل مع واقع إنساني ويتجاوز بعض المسلمين هذا الأمر بممارسات غير صحيحة لا يقبل بها الشرع الذي جاء ليحقق العدل وينهى عن الظلم فهل الحل أننا نلغي هذا التشريع أم أن الحل أننا نفكر في كيفية الترقي بالناس والترقي بالمكلفين رجالًأ ونساء لأجل الخضوع لهذه القيم الربانية التي جاءت سورة النساء بتحقيقها؟! المشكلة أننا وقعنا في إشكالية الجري وراء الاتفاقيات الدولية التي جاء البعض منها ينص على تحريم التعدد واعتقدنا وتوهمنا أن هذا الحل الذهبي السحري سيعالج كل الأزمات التي تمر بها كل النساء في مجتمعاتنا والواقع أن هذا الأمر سيزيد المشكلات الأسرية وسيزيد من نسبة العلاقات ربما خارج نطاق الزواج حتى والدليل ما يحدث في المجتمعات الغربية.
بالنسبة للمرأة قد يكون من المألوف جدًا وليس بالغريب أنها لا تستقبل مسألة زواج الرجل بأخرى بترحاب هذا متوقع جدًا وعلى الرجل أن يتفهم هذا الموقف ولكن في نفس الوقت إذا المرأة سواء كان الرجل قد وقع في مثل هذا الظرف أم لم يقع، مرّت هي وأسرتها بمثل هذا الظرف أم لم تمر، هناك بعض الأمور لا ينبغي أن تغيب عن أذهان النساء أذهان البشر ولكن كلمتي هنا للمرأة تحديدًا: ربي عز وجلّ خلق الرجل والمرأة لأجل غاية معينة، الفترة التي سنقضيها على هذه الأرض فترة محدودة جدا وإن طالت هذه الفترة المحدودة ليس من الحكمة ولا من العقل في شيء أن أقضيها ببعض الأمور التي قطعًأ التي ستخرجني عن جادة الطريق الواضح المستقيم الذي أمرني الله سبحانه وتعالى أن أسير عليه، بمعنى آخر أن تكون المرأة أكثر إدراكًا ووعيًا لدورها الحقيقي كإنسان قبل أن تكون زوجة ربي سبحانه وتعالى أعطى للمرأة كما أعطى للرجل هذه الوظيفة، وظيفة الاستخلاف وظيفة العهد بين الإنسان رجلا وامرأة بين وخالقه عز وجلّ والوقت محدود والعمر يجري فليس من الصواب في شيء أبدًا ولا من العقل ولا من الحكمة أن يبدأ الإنسان بتضييع وقته الذي هو بالفعل رأس ماله الحقيقي في الحزن وفي الألم وفي المشاكل وأحيانًا قد يصل الأمر إلى تخريب وهدم الأسرة باسرها وفي بعض الأحيان يكون هناك أبناء وبنات هم من يعانون من ويلات الانفصال وتفكيك الأسرة، مهما يكن الموقف الذي يمر به الإنسان هو بحاجة إلى زاد الصبر الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى بالتزود به. الصبر لأجل أن يكون الإنسان أكثر قوة وقدرة وصلابة على الاستمرار في سيره وأداء مهمته التي أراد الله سبحانه وتعالى وأمر الله بها أن تكون: المشاعر، الأحاسيس، الألم، هذه الأمور أمور مفهومة جدًا لكن ما ينبغي أن توقف المرأة عن القيام بدورها.
أمر كذلك مهم جدًا وأنا أقوله في الحقيقة على اعتبار أني امرأة وأدرك هذه المعاني وهذه المشاعر. كثير من النساء في زماننا هذا ترى أن الحياة رجل وهذا التصور تصور لو نظرنا إليه لما وجدنا أن القرآن يعززه، القرآن يعزز أن الحياة مزرعة توصلنا إلى الآخرة توصلنا إلى رضى الله عز وجلّ بمعنى آخر على المرأة والرجل – والحديث هنا في هذه الجزئية عن المرأة – أن تحدد الأولويات في حياتها، سلم الأولويات: رضى الله سبحانه وتعالى رقم واحد في حياتي. الرجل كأي بشر كأي إنسان تعرض له تغيرات حتى ممكن تكون في مشاعره، في تصرفاته، هذا أمر وارد يطرأ على البشر، لكن ما أُمرنا به نحن كخلق الله سبحانه وتعالى خلق من خلقه نساء ورجالا أن ترتبط قلوبنا وعقولنا والمعايير التي نحكم بها على أعمالنا وتصرفاتنا برضى الله سبحانه وتعالى الذي يغيّر ولا يتغير، فالمرأة إذا خرجت عن هذا التفكير المحدود المحصور وبدأت تنظر بنظرة أوسع أفقًا وأبعد ونظرت من هذه الزوايا المختلفة أعتقد أن هناك تغييرات ممكن أن تكون إيجابية كثيرة تقع في واقع الأُسر والبيوت التي تحدث فيها بعض الصعوبات أو المشاكل الناجمة عن قضية التعدد. بمعنى آخر الإنسان العاقل رجلًا كان أو امرأة قد يعرض له في طريق الحياة أي شيء لأن هذه الحياة في طبيعتها دار ابتلاء فكل ما يعرض لنا لا ينبغي أن يشكل عائقًا بالنسبة لسيرنا في هذه الحياة، الغاية واضحة، فما يعرض لي في طريقها علي أن أتعامل معه بالفعل كدرجة أستطيع أن أرتقي بها للسير خطوات في طريقي لرضى الله سبحانه وتعالى. وبهذا هناك عشرات الأمور التي يمكن أن تتحقق من خلال تغيير طبيعة نظرتي للأمور، من خلال أن يكون لديّ اهتمامات واسعة بأشياء تتعلق فعلًا بتحقيق الإنسان لذاته وقيامه بوظيفته، أما الانشغال بكثرة الصغائر والقيل والقال وفعل ولم يفعل وظلم ولم يظلم والدوران في فلك هذه التفاصيل والجزئيات وفي فلك الرجل والزوجة الثانية أو ثالثة أو ما شابه هذا لا يليق بإنسان لديه وقت محدود جدًا ومحسوب عليه بالثانية ولديه مهمة لا بد أن ينفذها على أتم وجه وأحسن طريقة ممكنة يلقى بها الله عز وجلّ.
https://www.youtube.com/watch?v=WYVWVhbWT6Q
د. رقية العلواني
تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقفنا في المرة السابقة في تدبرنا لسورة النساء عند الطاعة، فضل الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم معنى الخضوع والاستسلام القلبي المطلق والعملي لمنهج الله سبحانه وتعالى في الأرض ولذلك الإيمان الذي جاءت به سورة النساء إيمان يبني القيم لأنه على قدر ما يحقق في قلب المؤمن من ذاك التسليم والانقياد لله سبحانه وتعالى إحساسًا وشعورًا ويقينًا على قدر ما يولد كذلك في واقعه تسليمًا وطاعة وخضوعًا لمنهج الله وأوامره وتشريعاته. ولذلك كانت الآية (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴿٦٩﴾) رفقة الدرب، رفقة المنهج، رفقة الاعتقاد والإيمان واليقين بالله سبحانه وتعالى وتنفيذ أوامره وحماية القيم التي ارتكزت عليها كل التشريعات في هذا الدين العظيم ولذلك ربي سبحانه وتعالى في هذه الآيات ونحن تقريبًا قد وصلنا إلى ما يقرب منتصف آيات سورة النساء في هذا الموضع بالذات بدأ الحديث عن القتال، شيء يلفت النظر، بعد كل الحديث الذي تضمنته الأجزاء الأولى من سورة النساء عن القيم وبناء الحرية والمساواة في البيت المسلم وقبل البيت المسلم في الفرد المسلم وفي الأسرة وتحقيق العدالة بين الزوجين وبين أفراد الأسرة المختلفين وبين اليتامى وبين من يقوم على أمرهم وبين الحكم بين الناس انتقلت الآيات للحديث عن القتال، لماذا الحديث عن القتال في هذا الموضع بالذات؟ ربي سبحانه وتعالى أراد بهذا القرآن العظيم أن يؤسس فردً ومجتمعا وأمة ولكي يكتمل البناء لا بد للقيم التي أسس لها في نفس الفرد والأسرة والمجتمع من قوة تحميها، قوة تدافع عنها، القرآن لا يتعامل مع النفوس من برج عاجي مثالي بعيد عن الواقع، القرآن يتعامل مع ظروف إنسانية مختلفة ولأن الذي أنزله هو الخالق سبحانه وتعالى عالم بمجريات الأمور والأحداث لطيف خبير بعباده يعلم سبحانه أن الخلق ليسوا على درجة سواء في الاستجابة لمنهجه سبحانه، منهم من يسلم تسليما ولا يجد حرجا في اتباع ذلك المنهج العظيم وتطبيقه في نفسه وأسرته ومجتمعه ومنهم من يتردد ومنهم من يجد حرجا في تنفيذه وتطبيقه ومنهم من يعرض عنه ويصد صدودا فلأن هذه الفئات متباينة في تعاملها مع منهج الله سبحانه وتعالى شرع القتال لأجل أن يحمي تلك القيم التي يؤسسها القرآن فالنفوس ليست سواء، النفوس التي التي لا تستجيب للحق وتقف ضد الحق والعدل والحرية والمساواة وتنتهك حرمات الناس وتعتدي على أموالهم وأعراضهم ونفوسهم أتترك هكذا تعيث في الأرض فسادًا والله أنزل القرآن وأنزل الكتب وأرسل الرسل لأجل أن ينهى عن الفساد في الأرض لأجل أنه يأمر بالإصلاح والخير بين الناس فكيف لفئة قليلة أو كثيرة تستبد وتختطف تلك القيم العظيمة التي جاء القرآن لتأسيسها بين الخلق والناس، شُرع القتال شرع استعمال القوة في ظروف معينة للدفاع عن هذه القيم، للوقوف في وجه الفساد والإفساد والمفسدين، لردع أولئك الذين تسول لهم النفوس الضعيفة والأهواء والنزوات أن يختطفوا هذه القيم العظيمة، أن يحاصروا هذه القيم، أن يقاتلوا الآخرين ممن يدعون إلى الخير وينهون عن الفساد، كان لا بد لهم من قوة توقفهم، هذا معنى القتال في الإسلام ولذلك جاءت الآيات العظيمة منذ هذه البداية في سورة النساء بعد الآية 70 أولا لتؤكد الغاية من القتال، الغاية من القتال واستعمال القوة في الإسلام في القرآن كما تصورها سورة النساء ليست لأجل نزوات أو أهواء فردية أو جماعية ليس لتحقيق مصالح فردية، ليس لأجل انتهاك حرمات الشعوب ونهب ثرواتها ومقدراتها ومنافستها في أرضها، لا، تدبروا هذه الآية (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿٧٤﴾) القتال في سبيل الله لا في سبيل نفسك ولا في سبيل أهواء ولا في سبيل شهوات ولا في سبيل الحصول على مناصب هذه ليست الغاية التي لأجلها شرع القتال وليؤكد الحقيقة منذ البداية تأكيد هذه الحقيقة أتت على كل شي كان يقاتل عليه الناس في الجاهلية، الناس في الجاهلية كانوا يقتتلون فيما بينهم لكنهم كانوا يقتتلون ويسفكون الدماء لا لأجل إحقاق حق ولا لحماية قيم جاء القرآن لبنائها في النفوس، كانوا يقاتلون في بعض الأحيان من أجل الكلأ والماء، ولأجل منافع مادية ولكن القرآن لا يريد الناس أن تسفك دماؤهم لأجل هذه المنافع أو هذه المصالح القريبة العاجلة لا بد أن تكون الغاية عظيمة فجاء بهذه الآية والنفوس التي تستيطع أن تتخلص من هذه النزوات والمصالح هي تلك النفوس التي باعت الدنيا واشترت الآخرة (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ) فالإنسان الذي يدرك قيمة الآخرة وما فيها وقيمة الدنيا وما فيها ويقارن بين الاثنين ويقرر أن الحياة التي يريدها حقًا هي حياة الآخرة هو ذلك الإنسان الذي يستطيع أن يتحرر من القتال لأجل مصالح فردية أو ثمرات قريبة عاجلة. وتدبروا في الآية التي تليها (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) كلمة عظيمة (في سبيل الله) تختصر المسافة على الإنسان، تحرره من القتال في سبيل أي شيء آخر إلا الله، (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴿٧٥﴾ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) تأكيد الغاية العظيمة. الآية (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) تبين أن القتال في القرآن شرع لا لأجل تحقيق مصالح الأقوياء الظلمة بل لأجل حماية المستضعفين الذين لا يجدون من ينصرهم في عالم تحركه المصالح والأهواء والشهوات (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) القتال لأجل حماية هؤلاء الفئات في المجتمع في العالم، لنصرة حقوقهم والدفاع عنهم والكلمة في الآية (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) ما قال ضعفاء قال مستضعفين بمعنى أنهم لم يُخلقوا ضعفاء، ربي لم يخلق البشر ضعفاء بطبيعتهم أو بخلقتهم وإنما تسلط الأقوياء على الضعفاء وحرمانهم من حقوقهم ووجود الظلم بين الناس وانتهاك تلك القيم التي جاء القرآن ببنائها وإرسائها هو الذي ينشئ طبقة من المستضعفين في المجتمع، فهذه الطبقة المستضعفة من يحميها؟ من يدافع عنها؟ أتترك هكذا لتزداد تلك الطبقة في المجتمع وفي العالم وتهدد بقاء الإنسانية وبقاء القيم فيها؟! الوجود الإنساني ليس وجود يتمثل في العدد، يتمثل في موارد بشرية، لا، الوجود الإنسان الذي أراد القرآن العظيم أن يصنعه وجود قيمي وجود مرتبط بإدراك الإنسان لوظيفته ومهمته على الأرض وتحقيق هذه المهمة فإذا تخلف الناس عن هذه المهمة وما عاد الإنسان مدركًا لوظيفته على الأرض وتحول من الإصلاح والإعمار إلى الفساد والتخريب أيترك هكذا بدون منهج؟! لا، ولذلك القرآن باقي إلى يوم القيامة، لأن القرآن منهج يعيد الإنسانية إلى صوابها، يعيدها إلى رشدها. ولكن هذا المنهج لا يمكن أن يكون أبدا قائما لوحده لا بد أن يكون هناك أناس يحملونه في نفوسهم، يقيمونه في بيوتهم وأسرهم ومجتمعاتهم حتى يتمكنوا من إخراجه إلى العالم الإنسان الذي يعجز عن تحرير نفسه بآيات القرآن العظيم والخضوع عليها هو إنسان أعجز أن يحرر غيره. القتال فيه إرساء وبناء لقيم الحرية الحرية التي يصنعها القرآن ليست حرية مزعومة أو موهومة، ليست حرية شكلية، كل القيم التي تكلمت عنها هذ السورة العظيمة سورة النساء وبنتها في الفرد والأسرة والمجتمع ليست قيم صورية، ليس قيم شكلية وإنما قيم حقيقية، فالإنسان الذي يخرج لأجل هذه الغاية العظيمة لا بد أن يكون قد تحرر من الخضوع لشهواته ولذلك جاء الحديث عن القتال في سبيل الله في أكثر من مرة في ثلاث آيات تحديدًا حين يتحدث القرآن عن الغاية من القتال ليؤكد أن المؤمن الذي لم يتمكن بعد من التحرر من أن يخرج في سبيل أهواء نفسه أو في مصالح عاجلة أو آجلة كتلك المصالح الدنيوية هذا الإنسان لا يمكن أن يحقق النصر ولذلك جاء الحديث بعدها عن فئة المنافقين فالنفاق الذي يحول بين الإنسان وبين الغايات العظيمة التي جاء القرآن لتحقيقها.
فبعد أن استقرت القضية في النفوس قال مرة أخرى (الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴿٧٦﴾) إذن هكذا هي المسألة وتدبروا قال في سبيل الطاغوت في سبيل كل أشكال القيم التي تبني الفساد وتقويه طغيان، ظلم، عدوان، انتهاك لأعراض الناس وحرماتهم، سبيل الطاغوت، منهج واضح. فإذا ما استقرت هذه الغاية في النفوس جاءت الآية التي تليها (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ) قبل القتال المؤمن طريقة الاستعداد لديه للقتال وللمواجهة بكل أشكالها مواجهة القيم الفاسدة وأصحاب المناهج الفاسدة المنحرفة الذين يعيثون في الأرض فسادا لا يكون الاستعداد فقط بنفسه، ليس مجرد استعداد مادي وإنما لا بد أن يصحبه إستعداد إيماني، زاد روحي، تعلق بالله سبحانه وتعالى، تحقيق معاني التعلق بالله عز وجلّ وتدبروا (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) لم يحن الوقت بعد، مطلق الطاعة والتسليم. الإذن بالقتال وبساعة القتال تحديدا وانطلاقه إذن مرتبط بطاعة الله سبحانه وتعالى. (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ) إقامة صلاة وإيتاء زكاة، إقامة الدين في نفسك ومجتمعك إن كنت خرجت لنصرة العدل فلا بد أن يتحقق العدل في واقعك أولًا قبل أن تنطلق به إلى أرجاء الدنيا (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ) تشريعات، لكن حين يكتب القتال وتحين فعلا ساعة المواجهة الحقيقية هنا تبدأ عملية الفرز الناس ليسوا سواء عندما تحق الحقائق ليسوا سواء عندما تصبح الكلمات وقائع ليسوا سواء عندما يرون من خلال المواجهة حقيقة الموت، الموت حقيقة ولكن الإنسان يراه ساعة القتال ينظر إليه يراه أمام عينيه، هنا تبدأ عملية الفرز هنا تتحقق معاني الإيمان هنا يظهر الرصيد الحقيقي للإيمان في القلب. إن كان الإيمان حقيقيا كان الثبات في تلك الواقعة هو النتيجة الطبيعة وإن كان الإيمان مكذوبا أو مزيفا أو ضعيفا قطعا سيتلاشى ويتخاذل ويتراجع فيكون النفاق ويكون الفرار ويكون التخاذل والتراجع والتقاعس عن الاستمرار. وهنا تأتي الآيات بأصناف الناس حين تحق الحقائق (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) الخشية، الرهبة، الخوف، المحبة، الطاعة، المعاني الإيمانية العظيمة التي لا بد أن تتحقق قبل أن يقوم المؤمن لأجل أن يحمي تلك القيم العظيمة، الرصيد الحقيقي في القلب ذالك الرصيد القادر على أن يواجه الناس. وقضي الخوف أو الخشية من الناس هنا الآيات تتحدث عن واقع، كثير من الناس اليوم يحبون الحق فعلًا ولكن هذا الحب حب ضعيف لا يصمد أمام الآخرين في ساعة المواجهة، لا يستطيع أن يواجه الآخرين به، لا يستطيع أن يفصح أبدا عن تلك القيم المكنونة في نفسه، خشية الناس تتنوع الأشكال فيها، يمكن أن تكون خشية النقد، خشية من أن يقع الإنسان في شرور من قبل الآخرين أو مكائد وبعض الأشخاص إن واجههم هذا الإنسان يمكن أن ينافسوه في وظيفته وفي عمله، خشية، والقرآن يصنع الحرية صناعة حقيقية، يصنع الحرية في داخل المؤمن، يتحرر من الخضوع للناس ليس في يد أحد من الناس صغيرا أو كبيرا قويا أو ضعيفا غنيا أو فقيرا رجلا أو امرأة قوة عظمى أو لا قوة ليس بيد أحد منهم لا رزق ولا عمر ولا أي شيء من الأشياء التي يخاف الإنسان عليها، كل هذه الأشياء جعلها الله سبحانه وتعالى بيده وحده لا شريك له. أما وأنها بيد الله تعالى فليتحرر الإنسان من الخوف وليكسر عنه تلك القيود ويحطمها، وتحطيم تلك القيود هي أعظم خطوة من خطوات الحرية وبنائها في النفس. لذلك جاءت الآيات تعالج قضية الخوف من الموت. الإنسان شيء طبيعي خلق وهو يحب الحياة ويخشى الموت ويخاف الموت ويحب أن يحتفظ بالحياة ويحب النفس لكن القرآن عرف كيف يعالجها معالجة ذاتية تبدأ مع الإنسان في نفسه تدبروا (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) متاع الدنيا وإن طال فهو قليل، ضئيل، بسيط سرعان ما ينتهي أما الدنيا فعلينا أن نفهم ما معنى الآخرة وما معنى الدنيا؟ لكي نتعلم من خلال ذلك بأيهما نحتفظ؟ أيهما فعلا يستحق أن يسعى الإنسان ويحرص عليه: الدنيا ذات المتاع القليل أو الآخرة ذات البقاء والخلود خاصة وأن الميزان لا ظلم فيه (وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا).
ثم تدبروا كيف يعالج القرآن العظيم خوف الإنسان على نفسه وعلى روحه، الروح غالية، الروح عزيزة والقتال يعني إنهاء روحه بنفسه، قضية ليست سهلة، كيف يعالجها القرآن؟ قال (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) الموت قدر قدّر على البشر لا مفر منه أبدًا وواقع الأمر أن هذا الموت الذي كتب على الإنسان (كل نفس ذائقة الموت) لا يرتبط بطبيعة عمل الإنسان يزاوله الإنسان ولا بمكان يتواجد فيه فحتى لو أنه وفر لنفسه كل أسباب الحماية بروج مشيدة عالية محكمة محمية تماما إذا كان الموت كتب عليه في ذلك المكان وفي تلك اللحظة فسوف يأتيه لا مفر منه. وساحة القتال التي يخشاها الناس غالبا باعتبار أنها الساحة التي يتعرض فيها الإنسان بسهولة للموت ليس فيها أي وسيلة من وسائل الحماية المادية يمكن أن تكون أبعد ما تكون عن لقاء الموت لأنه لم تحن ساعة الإنسان بعد ببساطة شديدة. الفرار لن يجنب الإنسان وقوع قدر الموت والمواجهة والقتال إن اقتضى الأمر أن يكون هناك قتال في سبيل الله وطاعة وأمر وتنفيذ لأمر الله سبحانه وتعالى لن يقرب الإنسان من الموت إن لم تحن الساعة بعد. حقيقة يحتاج الإنسان لاستحضارها لأجل أن يتخلص من كل عناصر الخوف والجبن والجبن مذموم فلا نامت أعين الجبناء لأنه يحجب الإنسان عن الانقياد والخضوع لأمر الله سبحانه وتعالى عن نصرة حق أو دفاع عن قيمة وعدالة يمنع الإنسان من أن يقوم بواجبه الذي أمره به الله سبحانه وتعالى يحول بينه وبين القيام بالواجب والقرآن لا يريد أن يصنع من الإنسان إنسانا ضعيفا متخاذلا جبانا يدفع به الخوف على الروح أن يسلك كل السبل غير المشروعة بعيدا عن أمر الله سبحانه، تدبروا كيف يخلص القرآن النفس البشرية من تلك الأخلاقيات التي لا تليق بإنسانيتها الجبن لا يليق بالإنسان يدفع به لأن يكون عالة على غيره في الجانب الإنساني والقيمي والقرآن يريد أناسا يقومون بتلك القيم، قوامين لله، الآيات ثلاث مرات في سورة النساء ذكرت قضايا تتعلق بقضية القوامة القيام بالأمر على أتم وجه وعلى أكمل وجه، فالمؤمن قوّام لله وهذا القوام لله لا يمكن أن تستقيم معه صفة الجبن والتراجع والتخاذل.
ثم تعالج الآية والآية التي تليها قضية إنسانية تقع لنا جميعا يقول الله سبحانه وتعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) استشعار الإنسان بمسؤوليته وشدة الإيمان بالقضاء والقدر الذي يكون الإنسان أحوج ما يكون إليه في ساعة المواجهة. هذه الآية والتي تليها تبني في المؤمن وترسخ عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر، (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الحسنة والسيئة الأقدار التي تعجبك والتي لا تعجبك لا تحدث إلا بأمر الله سبحانه وتعالى المسؤولية الإنسانية مسؤولية الإنسان كفرد أن يأخذ بالأسباب، يباشر الأسباب ويبذل كل ما يتمكن من بذله في سبيل التحقق من أن يكون الأمر الذي يخوض فيه على الوجه الذي أمر الله به سبحانه وتعالى ولكن إذا حدث شيء آخر فهذا لا يخرج عن الإيمان بالقضاء والقدر ولا ينبغي أن يحدث زعزعة ولا بلبلة الزعزعة في نفس المؤمن أو قلبه، الزعزعة التي يحدثنا عنها القرآن في سورة النساء فيما يتعلق بالنفاق والمنافقين (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) بلبلة زعزعة والإنسان المؤمن بحاجة إلى ثبات إلى رسوخ وهو يدافع عن القيم ويحميها، بحاجة ماسة إلى أن يثبت في نفسه معنى الإيمان بالقضاء والقدر (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) كل ما يحدث لنا في هذه الحياة من عند الله سبحانه وتعالى بأمره ولكن ذلك لا يعني أبدًا أن يخلي الإنسان مسؤوليته الفردية، يتخلى عن الشعور بالمسؤولية، لا، تدبروا في الآية التي تليها (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) كيف يستقيم الأمر؟ وهل هناك أي نوع من أتواع التعارض بين هذه الآية والآية السابقة؟! القرآن ليس فيه تعارض إطلاقا، هذه الآية تفسرها هذه الآية كل شيء يحدث في الكون حلوه ومره مكروهه ومحبوبه لا يخرج عن أمر الله سبحانه وتعالى ولكن أفعالي وتصرفاتي أنا كإنسان وما يحدث لي في الحياة شيء طبيعي أن أكون مسؤولا عنها أنا أحتاج قبل أن أخطو أي خطوة في حياتي وأتخذ أي قرار في حياتي أن أتخذ كل التدابير أن أتساءل عن النتائج عن المآلآت عن الأحكام عن التصرفات بمعنى آخر يكون لي تخطيط في حياتي القرآن لا يريد الإنسان المؤمن أن يخبط خبط عشواء في الدنيا، يخطو خطوات ويقدم على اتخاذ قرارات غير مسؤولة بدعوى أنه يتوكل على الله وأن كل ما يصيبه قضاء وقدر، صحيح كل ما يصيبنا قضاء وقدر ولكن على سبيل المثال لو تجاوزت إشارة حمراء وتسبب في وقوع حادث مؤلم ذهب نتيجته نفوس بريئة لا أستطيع في ذلك الموقف أن أحتج بالقضاء والقدر وأخلي نفسي من المسؤولية الفردية وأخلي نفسي من مسؤولية تجاوزي للإشارة الحمراء، لا، صحيح كل شيء قضاء وقدر ولكن أنا لا ينبغي أن أستعمل الأشياء في غير مواضعها ولذلك جاء في الآية (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) عليك أن تستشعر فضل الله عليك وأنت تباشر الأسباب وتدرك أن كل ما أنت فيه من خير إنما هو من فضل الله ولكن ما أصابك من سيئة فمن عندك وما أصابك فمن تقصير من عندك نقصير في اتخاذ التدابير، تقصير في حساب النتائج والنظر في مآلآت الأفعال، تحمّل المسؤولية، هذا ما يريد القرآن أن نتعلمه في هذا الدرس العظيم ولذلك الله تبارك وتعالى جاء بهذه القضايا والجزئيات قبل الحديث عن القتال بتفاصيلها. هذه أبجديات المواجهة اقدامك على الحق ونصرة الحق والقيم لا ينقص من عمرك شيئا ولا يقلل من رزقك شيئا ولا يحول بينك وبين تتمناه لنفسك من الخير والاستقرار والعطاء وإحجامك عن نصرة الحق والقيم والعدالة والحرية والمساواة ونصرة المظلوم ونصرة الضعفاء، لا يزيد في عمرك شيء ولن يأتي برزق ولا بزيادة رزق في شيء، إطلاقا ولن يحقق لك مصلحة زائدة، هذه أمور موهومة فتدبر في حياتك وتأمل في نتائج تصرفاتك وأفعالك واجعل يقينك وإيمانك بالله سبحانه وتعالى وبأن الأرزاق والأعمار والآجال والأقدار كلها بيد الله لكي تتحرر من تلك المخاوف التي تحول بينك وبين إرساء الحق والعدل والإصلاح الذي به تعمر الدنيا والوقوف في وجه الفساد الذي به تخرب الديار وتخرب النفوس.
ولذلك أعطانا الله تعالى هنا آية أخرى نموذجا لأناس لا يدركون هذه الحقائق (فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) الفئة من المنافقين الذين لم يتمكنوا من أن يتحرروا من تلك المزاعم (بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) والقرآن يريد منا أن نؤمن بما نفعل وأن نفعل ما نؤمن به ونقول ما نؤمن به وندافع عن ما نؤمن به بدون ازدواجية والنفاق عكس هذا تمامًا ولذلك القرآن يقول (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) لأنك في كل زمن وفي كل مجتمع ستجد الكثير من هؤلاء المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون ويقولون شيئا ويفعلون شيئا آخر، اترك هؤلاء وركز على ما لديك من إمكانيات وقدرات ولذلك جاءت الآية العظيمة في التدبر في هذا الوضع تحديدا (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴿٨٢﴾) التدبر هو الكفيل بتخليص النفس من أوهامها ومزاعمها وأمراضها وازدواجيتها وتخاذلها وضعفها ونفاقها.
ثم تمضي الآيات (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) كلما ذكر القتال ذكر في سبيل الله ليؤكد الحقيقة أنك لا ينبغي أبدًا تحت أي ضغط من الضغوط أن تخرج للقتال في سبيل أيّ شيء سوى الله سبحانه وتعالى! القتال في سبيل الله هو الذي يحرر الإنسان من المطامع البشرية، هو الذي يحرره من أهواء النفوس، هو الذي يجعله حرًا لا يخضع لغرب ولا لشرق لا لصديق ولا لعدو لا يخضع إلا للذي خلقه لأن منهج الله سبحانه وتعالى هو الكفيل بأن يحقق العدل و كل المناهج لا يمكن أن تتكفل بتحقيق ذلك العدل.
ثم يأتي الحديث عن السلام والشفاعة في خضم الحديث عن القتال ليؤكد لنا أن القرآن كتاب ومنهج حياة لا يدعو إلى الحرب يدعو إلى السلام يدعو إلى الاستقرار، إلى سلام قائم على القيم وهو الذي يصنعه القرآن وليس السلام القائم على التخاذل والظلم وعدم الحرية والمساواة هذا ليس بسلام حقيقي، هذا سلام مزيف، الاستقرار الحقيقي هو الذي يبنيه القرآن القائم على القيم ولذلك جاء ربي سبحانه وتعالى بالحديث عن التحية والسلام هنا، الإنسان المؤمن إنسان مسالم ولكن مسالم مع من؟ مع من يلقي إليه السلام وليس مع المعتدين ولا مع الظلمة ولا مع الذين ينتهكون القيم التي جاء القرآن ببيانها وإرسالئها.
ثم تأتي الآيات في الحديث عن المنافق (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) كثيرة الآيات عن المنافقين والنفاق لأنها قضية من أخطر القضايا التي يتعرض إليها المجتمع المجتمعات والدول والحديث في سورة النسا ءعن قيمة العدالة والنفاق هو من أخطر الأمراض التي تصيب الأفراد والمجتمع والدول فتقوض قيم العدالة والحرية والمساواة. ونضرب مثالا معاصرا واقعيا: كم في مجتمعنا المعاصر الذي يدعي الحرية والعدالة والمساواة؟ كم من أولئك الذين يرفعون شعارات الحرية والعدالة والمساواة؟! كُثُلا! ما هي أفعالهم؟ ما هي تصرفاتهم؟ كيف هي نصرة هؤلاء لمن يدعون أنهم يناصرونه؟ ضعيفة غير موجودة! يقولون ما لا يفعلون! قضية النفاق قضية خطيرة ولذلك اهتم بها القرآن اهتماما عظيما في هذه الآيات ليؤكد أن من أخطر الأشياء على القيم قضية النفاق، القرآن يؤكد أهمية الأفعال أهمية إحقاق الحق والحرية والمساواة وليس ادعاء نصرة هذه القيم فارق شاسع بين أن يدّعي الإنسان شيئا وبين أن يقوم به حقًا في الواقع والسلوك، الفارق شاسع! ولذلك القرآن العظيم جاء بالحديث عن النفاق في هذا الموضع تحديدًا في نفس الوقت الذي يحدثنا فيه عن السلام، في نفس الوقت الذي يحدثنا فيه عن السلام، يحدثنا القرآن عن القتال ويحدثنا عن السلام ليؤكد أن القتال والسلام كِلا الأمرين شُرعا لأجل حماية تلك القيم العظيمة التي جاء بها القرآن، تدبروا: القتال والسلام لحماية القيم قيم العدالة والمساواة والحرية قيم الارتقاء بالإنسانية والإنسان ولذلك جاء الحديث في الآية (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) قتال وسلام كلاهما حينما يكونا في سبيل اللة يحققان غاية واحدة غاية القيم والعدالة والحرية والمساواة. وعلى الإنسان المؤمن وعلى المجتمع المسلم الذي اتخذ القرآن منهجًا في الحياة أن يكون ملمًا بهذه الحقائق مدركًا متى يدعو إلى السلام ومتى يلتزم بالسلام ومتى يتخذ قرار القتال. القرار بالقتال أو السلام قرار مرتبط بهذه القيم وحمايتها ولذلك جاء الحديث عن (في سبيل الله) في كل هذه الآيات أما فيما عدا ذلك فالنفس الإنسانية مصونة لا ينبغي للمؤمن بأي حال من الأحوال أن ينتهكها، لها حرمة، مقصد من مقاصد الدين والتشريع الحفاظ على النفس لأن حق الحياة حق لم يهبه إنسان لآخر، الذي وهبه واهب الحياة ربي سبحانه وتعالى، ولأن الذي وهب هو الله فلا ينبغي للإنسان أبدًا أن يحاول أن يعتدي على تلك النفس بأي وسيلة دون أن يأذن الله سبحانه وتعالى بتلك الوسيلة ولذلك جاء الحديث عن القتل الخطأ (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وتدبروا ما العلاقة بين قضية القتل الخطأ وبين تحرير الرقاب، تحرير العبيد؟ القرآن دين جاء ليحرر الناس ولكن الناس في فترات كثيرة في الحياة الإنسانية والتاريخ البشري عرفوا أشكالًا مختلفة من العبودية، عبودية الإنسان للإنسان لم يسلم منها حتى الزمن المعاصر الذي نعيش فيه والقرآن نزل في بيئة كان متعارفا على نظام الرق فيها فدعا إلى تحرير الرقيق بخطوات عملية وليس فقط بقرارات صورية أو شكلية كما اعتاد عليها البشر في عالمنا. فالإنسان الذي يقتل مؤمنا عن طريق الخطأ جعل الكفارة لذلك القتل تحرير رقبة، العبيد، القرآن يريد أن يعطينا فكرة عظيمة أن الحرية قيمة عظيمة تساوي قيمة الحياة، أنت قتلت مؤمنا خطأ فمقابل هذا القتل الخطأ وانتهاك الإنسان لنفس إنسان آخر ولو عن طريق الخطأ عليك أن تحيي نفسا أخرى بتحريرها الإنسان لا يستطيع أن يحيي لأن الذي يحيي ويميت هو الله لكنك تحيي بأن تهب الحياة من جديد لنفس أخرى بتحريرها، تدبروا المساواة بين الحياة والحرية. أي دين عظيم هذا الدين الذي يعلي من شأن الحرية الإنسانية! هذا هو القرآن حرية حقيقية ليست حرية مزعومة أعلا من شأن البشرية والحياة ولكن ليست ايّ حياة، هي حياة تليق بالإنسان الحياة الحرة التي تصان فيها حرمة الإنسان يصان فيها عرضه ويصان فيها ماله وتصان فيها كرامته، هذا ما أراده القرآن. ولذلك جاءت الآيات العظيمة محذرة المؤمنين من انتهاك حقوق الإنسان بأي شكل من الأشكال ولو في ساحة المعركة. ساحة المعركة تختلط فيها الأوراق فقد يقع الإنسان في قضية قتل عن طريق الخطأ، القرآن حذر أشد التحذير من هذا القتل الخطأ ونحن ليل نهار نسمع في محطات الإذاعة والتلفزة قتل مدنيين عن طريق الخطأ، قتل عشرات، قتل مدن، البشرية عرفت في تاريخها المعاصر سحق وتدمير مدن كاملة عن طريق الخطأ!. تدبروا كيف يعالج القرآن كيف يحيي القرآن ضمير الإنسان الفرد في أن لا تمتد يده إلى نفس إنسان أو حياة بشر (أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) تأكيد مرة بعد مرة، لا تخرج إلا في سبيل الله، لا تضرب في الأرض إلا في سبيل الله، لا تخرجك أهواؤك لا تخرجك مطامعك، انتهى ذلك العهد الذي كان يخرج فيه الناس لحماية أهوائهم ومصالحهم، تحركهم نزواتهم وشهواتهم والمطامع القريبة العاجلة، هذا لا يريده القرآن قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿٩٤﴾) تبيّن، تأكد، ابحث، لا يمكن أن يكون القتل هكذا جزافًا، النفس البشرية مكرمة النفس البشرية مكرمة كرمها الخالق وأمرنا بالحفاظ عليها فالتبين قضية مهمة جدًا. هذه الأبجديات التي يحدثنا القرآن عنها في سورة النساء حول قضية القتال قتال لأجل حماية القيم العظيمة التي تقيم وزنًا للحياة الإنسانية بكل أشكالها وصورها تحميها تحقق إنسانية الإنسان ولا تهدر كرامة البشر، ما أعظمها من غايات!. وتدبروا، التدبر لا يمكن أن يكون بعيدا عن الواقع، حين نتدبر القرآن لا يمكن أن نعتزل الواقع الذي نعيشه، لماذا يخرج الناس اليوم للقتال؟ الناس اليوم يقاتلون قوى كبيرة عظمى وصغرى، أشكال متنوعة من البشر يخرجون للقتال اليوم، دعونا نتساءل بين ما يطرحه القرآن هنا من أسباب مشروعة للقتال وبين ما يقاتل الناس لأجله اليوم، يقاتلون لأجل مصالح، يقاتلون لأجل حماية مصالح دنيوية لأجل حماية آبار نفط ومصالح دنيوية عاجلة، كم من الناس يقاتلون اليوم لنصرة هذه القيم التي جاء بها القرآن العظيم؟! أين موقع وحظ تلك القيم التي أمر القرآن بالخروج لأجلها (والمستضعفين من النساء )، أين تلك القيم؟! نقطة نحتاج أن نستحضرها ونحن نتدبر في آيات هذا الكتاب العظيم.
ولأن القرآن العظيم يقيم وقائع يريد أناسًا أقوياء ولكن هذه القوة ليست قوة قائمة على الظلم، هناك قوة تقوم على الظلم والقوة التي يريدها ويصنعها القرآن قوة قائمة على العدل والقيم فارق شاسع بينهما فقال (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿٩٥﴾) تدبروا هناك فارق بين القاعد وبين القائم، فارق بين الإنسان الذي نذر حياته ونفسه ووظفها لإقامة منهج الله في الأرض، لحماية الإنسانية والكرامة الإنسانية هناك فارق بينه وبين الإنسان القاعد والقرآن حدد قال (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) القرآن يريد أن يصنع أناسًا يقومون بهذه القيم الحق يحتاج إلى نفس تفديه ولسان عدل يدافع عنه ويفديه، قلب يحميه، ويد تدافع عنه وتغليه، الحق لا يقوم بالضعفاء. القيم العظيمة التي دعت إليها سورة النساء لا تقوم على أكتاف الضعفاء والقاعدين والعجزة. وماذا يحدث حين لا يقوم هؤلاء الأقوياء بتلك القيم حماية ونصرة ودفاعا؟ الذي يحدث أن تنتشر رقعة الفساد والمساحة التي يتبؤها أصحاب الحق والقيم تصغر شيئا فشيئا حتى تضيّق عليهم المساحة فلا يجدون مكانا يلجأون إليه فيلجأون للهجرة وتدبروا كيف جاء الحديث عن الهجرة بعد الحديث عن القعود والجهاد. قيمة الجهاد في سبيل الله والجهاد ليس كما يتصور البعض فقط يكون بأن يحمل الإنسان أدوات القتال ويخرج لا غاية ولا تخطيط ولا استراتيجية، هذا ليس ما يدعو إليه القرآن أبدا. ولكن القرآن يعلمنا أن الجهاد بكل أشكاله بالكلمة بالنفس بالمال بالنصرة بالدفاع عنه بكل أشكاله المتعددة بنصرة الحق في نفسك وفي مجتمعك وفي مؤسستك وفي أسرتك بالدفاع عن القيم في حياتك منهجًا وسلوكًا، أنت حين تتمثل القيم قيم الأمانة والحرية والمساواة في بيتك وفي أسرتك ومع طلابك ومع جيرانك ومع أصدقائك ومعارفك ومع من لا تعرف أنت تحقق هذا المعنى العظيم من معاني الجهاد التي للأسف الشديد غفل عنها الكثيرون. ماذا يحدث حين لا نقوم بهذا الأمر الإلهي؟ الذي يحدث أن رقعة الصلاح تضيق وتضيق وتشتد وتضيق الخناق على أهلها حتى لا يجدوا في الأرض مكانا يقيمون فيه هذه القيم العظيمة، ولا مكانا يمارسون فيه هذه القيم العظيمة فلا يجدون مفرا إلا أن يهاجروا وهنا جاء الكلام عن الهجرة في سبيل الله. الإنسان الذي أريد منه وطلب إليه أن يقيم تلك القيم في كل مكان يتواجد فيه فإذا ما قام بتلك الأوامر، ضاقت عليه الأرض بما رحبت وهذا حاصل في زماننا وفي كل زمان حين لا يقوم الناس بما أمر به الله سبحانه وتعالى من إحقاق للحق ونصرة للعدل.
بدأ الكلام عن قضية الهجرة (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) تدبروا كل ما ذكر في سورة النساء: مستضعفين، استضعفوا، كلمة مقصودة لذاتها، الإنسان لا يولد ضعيفًا، لا يخلق ضعيفًا، لا يُخلق عاجزًا ولكن هو الذي باستسلامه وخضوعه للآخرين يعطي من نفسه ذلك الضعف حتى يصبح فعلًأ ضعيفا لا يؤبه له ولا يقام له وزن (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ظلم النفس أن لا يحقق الإنسان لنفسه الغاية التي لأجلها خلق، أعظم ظلم للنفس! ربي عز وجلّ خلقنا لغاية قال (إني جاعل في الأرض خليفة) فإذا لم أحقق الغاية التي لأجلها خلقت أيّ ظلم هذا؟! (قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) الهجرة، نا فتح باب الهجرة لأن القرآن يعالج واقعًا إنسانيًا. هب أنك كنت في مكان كما كان المسلمون وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قضوا تلك الفترة وهم يحاولون كل ما يستطيعون القيام به لأجل نصرة القيم التي جاء بها القرآن في ذلك البلد الأمين في ذلك الوطن الذي هو بالفعل وطن لهم لكنهم لم يتمكنوا من تحقيق ذلك، استمروا، ثبتوا، حاولوا عشرات المرات، لم يتسللل إلى نفوسهم ولا إل قلوبهم العجز أو الياس! القضية قضية رسالة، قضية حق، قضية حياة تكون أو لا تكون، فحين ضاقت عليهم الأمور ولم يجدوا بعد ذلك مكانًا يمارسون فيها ذلك المنهج الذي نزل في كتاب الله هاجروا في سبيل الله، الهجرة لأن هذه الأرض شرقا وغربا شمالا أو جنوبا هي أرض الله وهي واسعة للإنسان لأجل أن يقيم منهج الله فيها. فالمكان لا ينبغي أن يكون عذرًا وهو ليس بعذر مقبول بمعنى آخر عليك أن تمارس المنهج الذي أنزله الله في كتابه في اي مكان كنت ولا تجعل قضية المكان هي التي تقف حجر عثرة في تطبيقك لمنهج، إن لم يكن بوسعك، هاجر فأرض الله واسعة. وتدبروا (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ﴿٩٨﴾) مساحة للواقع الإنساني، القرآن جاء ليعالج واقعا إنسانيا، الناس ليسوا سواء، يتفاوتون في قدراتهم، يتفاوتون في ضعفهم، يتفاوتون في أحوالهم والقرآن كتاب عظيم يخاطب كل النفوس في ضعفها كما في قوتها في عجزها كما في قدرتها في صحتها كما في مرضها جاءت هذه الآية رخصة (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴿٩٩﴾) ولكن لا يعني ذلك أن يتحول السواد الأعظم من البشر إلى فئة مستضعفة! الفئة الغالبة لا بد أن تكون تلك الفئة القوية القادرة على أن تحقق الرسالة العظيمة ذلك المنهج القرآني العظيم. (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لا يهاجر في سبيل أطماع مادية ولا يهاجر في سبيل ثمرات عاجلة دنيوية أو منافع أو مكاسب عاجلة وإنما يهاجر في سبيل الله (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) يجد بدائل متعددة، يجد مغانم، يفتح الله سبحانه وتعالى بها عليه على قدر ما في قلبه ونيّته من صدق وتوجه لله سبحانه وتعالى.
وهنا قد يقول قائل: هل الهجرة لأجل الكسب المادي أو لأجل حياة أفضل ممنوعة أو محرمة بناء على هذا الكلام في كتاب الله عز وجلّ؟ كتاب الله سبحانه وتعالى لا يقف بنا فقط عند قضية الممنوع أو المحظور أو المباح أو المفتوح أو المسموح به ليس فقط الأمر هكذا، يعطينا أبعادًا عظيمة للفعل الإنساني للفعل التكليفي كما يطلق عليه في عرف الفقهاء، الفعل الإنساني، الحكم التكليفي يعطيه أبعادا عظيمة واسعة أبعادا لا تخرج عن المقصد الذي لأجله خلق الإنسان إطلاقاً، القرآن يعطيك الغاية التي لأجلها خلقت كإنسان، نحن لم نخلق لأجل أن نأكل ونعيش ونلبس ونسكن،لا، نحن خُلقنا وسُخّر لنا ما في الأرض جميعًا من طعام وشراب ومسكن وغير ذلك من حاجيات لا تستقيم حياتنا إلا بها والحصول عليها لأجل أن نكون خلائف الأرض، أن نحقق هذا المنهج الذي أنزله الله في حياتنا وفي واقعنا وفي كل مكان نكون فيه، فلا تلهينا الوسلية عن الغاية ولا يشغلنا ذلك السبب عن المقصد الذي لأجله خُلقنا، هذا هو القصد، بمعنى آخر أنت حين تتخذ قرار الهجرة والفسر قف مع نفسك وقفة صادقة واسأل نفسك: لم تهاجر؟ هب أن تهاجر لأجل عيش كريم، قضية محمودة تمامًا لا غبار عليها ولكنها غير كافية لأجل أن تجعل منك إنسانًا مصنوعًأ على عين المنهج الذي أنزله القرآن العظيم، إذن ماذا أفعل؟ صحح مقصدك قبل أن تسافر وقبل أن تهاجر اِجعل لك حظًا من هذه الآية العظيمة (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ما هو حظك من هذه الآية؟ هل هجرتك فعلا في سبيل الله؟ فإن لم تكن في سبيل الله فاجعلها في سبيل الله، وما معنى أن تهاجر في سبيل الله؟ ليس هناك تعارض بين أن تعيش عيشة كريمة تليق بإنسانيتك تكسب منها لقمة حلال شريفة كريمة وبين أن تحقق هذا المنهج الذي دعا إليه القرآن، ليس هناك نعارض أبدًا. إذن قدّم ورتب الأولويات في حياتك، هاجِر، اخرج بنفسك، بأسرتك، بأهلك إذا ضاق بك المقام ولكن لا تنس وأنت تهاجر أن تأخذ معك إيمانك، أن تأخذ معك المنهج، أن تأخذ معك الكتاب الذي يبنيك من جديد، الكتاب الذي يهديك في ذلك الطريق الشاق الطويل الذي عزمت أن تسافر فيه، لا تنس أن تأخذه معك. وأنا لا أقصد بالمنهج أن تأخذ مصحفًا للتبرك به فحسب كما يفعل بعض المسلمين ولكن أقصد أن تأخذه في قلبك يقينا أن تأخذه في سلوكك أفعالا وأخلاقا وقيما ومبادئ وأمانة، أن تأخذه في أسرتك تعاملا وقياما بالأمن والأمانة والعدالة فيها، أن تكون أنموذجا لغيرك في تلك البلد التي هاجرت إليها. ولنا وقفة هنا وقفة في التاريخ: المسلمون حين كانوا فعلًا قوامين لله قوامين بالمنهج سافروا، هاجروا، هاجر أعداد كبيرة منهم إلى منطقة جنوب شرق آسيا المنطقة التي هي تشكل اليوم الأغلبية العظمى من تعداد المسلمين أندونيسيا وماليزيا، خرجوا كتجار، خرجوا يضربون في سبيل الله، خرجوا أصحاب تجارة ولكنهم أخذوا المنهج معهم سلوكا أفعالا وقيما ومبادئ فكانت النتيجة أن تلك البلدان دخل أهلها في الإسلام عن طريق هؤلاء التجار والتاريخ يشهد، وفي نفس الوقت لدينا نحن كذلك في تاريخنا المعاصر من عشرات السنوات من يهاجر من بلداننا العربية والإسلامية إلى بلاد الغرب السؤال: ماذا فعل هؤلاء في الغرب؟ وبعيدا عن التعميم هل حملوا منهج القرآن كما حمله السابقون؟ هل امتزجوا بتلك الأقوام التي هاجروا إليها لأجل أن يقيموا وفعلًا ينقلوا بأمانة قيم هذا المنهج العظيم؟! هذا سؤال مهم جدا، سؤال هذا هو وقته الآن والمسلمون يواجهون تلك الحملة العنيفة عليهم في بلدان الشرق والغرب من هنا ومن هناك، سؤال وجيه جدًا: لماذا الآن ما يعرف بالإسلاموفوبيا نراه بذلك العنف والشدة والقوة؟ ما الذي جعلها هكذا؟ التقصير في حمل هذه الرسالة، شُغلنا بأسباب العيش عن هذه الكلمة العظيمة (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ولا تعارض بينهما قال (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) ولكن عليك أن تكون الحركة التي تتحرك بها في سبيل الله، خسرنا كثيرا حين هاجرنا ولكننا لم نهاجر في سبيل الله، خسرنا كثيرا حين أقمنا وقمنا بوضع أماكن وكأنها أماكن عزلة عن المجتمعات التي نعيش فيها والبلدان التي هاجرنا إليها، القرآن ما طلب منا هذا، القرآن طلب من الإنسان أن يندمج في المجتمع الذي يعيش فيه، ولكن يندمج لا بمعنى أن ينصهر ويذوب وينسى كل تلك المبادئ والقيم التي يحملها في قلبه وفي حياته وسلوكه ينسى المنهج، لا، يندمج بسلوكه يقدم ذلك الأنموذج العظيم الذي جاء القرآن ليكون واقعا وسلوكا وحقيقة, هذه الآية آية عظيمة تشعر الإنسان بمسؤوليته التي غفل عنها كثيرون في زماننا هذا. ولذلك تدبروا (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) هجرة إلى الله، ما جعل الهجرة إلى مكان، لم يحدد مكانًا، قال (مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وهل ربي سبحانه وتعالى يُهاجر إليه؟ وهل رسوله صلى الله عليه وسلم يُهاجر إليه؟ تدبروا وفي آية أخرى على لسان إبراهيم عليه السلام قال (إني مهاجر إلى ربي) هجرة إلى الله هجرة بأن يترك الإنسان ذلك العجز والتخاذل وعدم القدرة على القيام بأمره سبحانه إلى مكان يستطيع أن يقوم بما أمر به الله سبحانه وتعالى مهاجرا إلى الله ورسوله. (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) لم يحقق شيئا بعد، في الطريق أدركه الموت، (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) وهنيئا لمن وقع أجره على الله. (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) آية عظيمة توقظ الإنسان الذي غفل ونام عن هذه الحقائق العظيمة التي جاءت في كتاب الله سبحانه.
وفي تلك الآيات وفي ذاك الموضع جاء الحديث عن الصلاة (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) لماذا الصلاة؟ إقامة شعائر الله. كم من القصص والوقائع الحقيقية التي أثبتها أصحابها من المسلمين عن مسلمين أفراد يقفون في بعض الأماكن في البلدان التي هاجروا أو أقاموا فيها في الغرب لإقامة شعيرة الصلاة وإذا بهؤلاء القوم من حولهم يتوافدون عليهم يسألون ما هي هذه الحركات؟ قيام قعود سجود؟ كيف أيها الإنسان تضع جبهتك على الأرض؟ ماذا تفعل؟ ولماذا تفعل؟ فكانت بابًا عظيمًا من أبواب الدعوة إلى الله سبحانه. الصلاة العظيمة، إقامة الشعائر، الصلاة بمعناها العظيم وغاياتها العظيمة التي جاءت هنا في سورة النساء لا لأجل أن تقام وراء أبواب مغلقة لا أحد يراها ولا ينظر إليها، الصلاة أريد لها أن تكون ظاهرة واضحة هنا في هذا المقام تحديدا، الكلام هنا عن صلاة الخوف في ساحات القتال لأن الإنسان المؤمن مطالب أن يقيم هذه الشعيرة العظيمة يريها للناس ليس من باب الرياء والمرآءاة وإنما من باب إظهار عظمة هذه الشعيرة ومدى تمسك هذا الإنسان المؤمن بقيمتها وحقيقتها في كل الأحوال في الأمن كما في الخوف في القيام كما في القعود في السفر كما في الإقامة، تدبروا هذه المعاني العظيمة.
ثم قال (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) إقامة الصلاة في الأمن كما في الخوف، الحرص الشديد على الصلاة، ولماذا الصلاة وموضع الحديث عن الصلاة في أثناء الكلام عن القتال والهجرة والقيم وحماية القيم؟ الصلاة هي تلك المحطة العظيمة التي يتزود بها المؤمن فردا أو جماعة، رحلة الحياة رحلة شاقة، رحلة القتال رحلة شاقة، رحلة الهجرة رحلة صعبة والطريق وعر يحتاج إلى زاد يحتاج إلى محطات نتوقف فيها وعندها وأيّ محطة أعظم من محطة الصلاة حيث يحط المؤمن رحاله على أبواب الصلاة، على أبواب المساجد والأرض كل الأرض جعلت لنا مسجدًا وطهورا يحط رحاله لأجل أن يقف على الباب يسأل مولاه يسأل خالقه القوة (إياك نعبد وإياك نستعين) أنا أتحرك في الأرض وأضرب فيها يمينا وشمالا في سبيلك مستعينا بقدرتك، أنا عاجز ولكن استعانتي بحولك وقوتك يجعلني قويًا، أنا ضعيف كإنسان ولكن استعانتي بحولك وقوتك وتبرؤي من حولي وقوتي يقويني يعيد لي الحياة، أنا فقير ولكن استمدادي وطلبي للعون والغنى بك يغنيني ويحييني ويصرف عني كل الشرور والأوهام والعقبات التي تعترضني في طريق الحياة، الصلاة، ولذلك جاء الحديث عن الصلاة (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا).
(وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) تدبروا الترابط والتناسب: بعيدًا عن الضعف والوهن يكون المؤمن بإقامة الصلاة، الصلاة تقويك، الصلاة تمنحك القدرة على مواصلة الطريق، الصلاة تمنحك الثبات على القيم وحمايتها والسير وفق المنهج العظيم الذي أراده الله سبحانه أن يكون واقعا ولذلك جاء الحديث هنا عن القرآن (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴿١٠٥﴾) تدبروا هنا جاء الحديث عن الخيانة لأن حركة الإنسان المؤمن في الحياة حركة محكومة بحماية الأمانة ومنازلة الخائنين ومخاصمة المعتدين أولئك الذين يعيثون في الأرض فسادا، بدحر القيم الحقيقية التي جاء القرآن بتثبيتها وبنائها الحرية، العدالة والمساواة هؤلاء لا تكن للخائنين خصيما. تدبروا الآيات كل الآيات التي جاءت فيما بعد تتحدث عن هذه القضية في خضم الحديث عن الصلاة. (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿١١٠﴾) التوبة، العودة، الرجوع لله سبحانه وتعالى، باب التوبة المفتوح هذه هي القيم التي تُبنى بها مناهج الدنيا وتبنى بها الكرامة الإنسانية وتبنى بها قيمة الحياة الإسانية على وجه الأرض وهذا ما أراده القرآن.
وتدبروا هنا (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿١١٤﴾) أعمال الخير والبر وتدبروا الأعمال التي اختيرت هنا (أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) قيم اجتماعية، قيم تحقق العدالة الإجتماعية وتحفظ الكرامة الإنسانية هذا هو المنهج الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يحقق في الواقع أما أولئك الذين يشاقون الرسول r من بعد ما تبين لهم الهدى ويريدون أن يقيموا ويدافعوا عن قيم تعاكس ذلك المنهج وتخالفه فهنا يقول الله سبحانه وتعالى (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) هذا هو السبيل، هذا هو المنهج. وما الذي يحول بين الإنسان وبين القيام بمنهج الحق في واقعه؟ جانب منها قضية الشيطان اتباع أهواء النفوس والمنهج الشيطاني ولذلك جاء الحديث هنا عن الشيطان (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ﴿١١٧﴾ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴿١١٨﴾ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴿١١٩﴾ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴿١٢٠﴾) صراع بين القيم العظيمة التي جاءت في القرآن وأراد الله سبحانه وتعالى أن تحقق في الأرض وتقام وبين أهل الباطل على الناصية الأخرى الذين تحركهم أهواؤهم ويحركهم هذا المنهج الشيطاني (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) هذه النهاية المحتومة.
ثم تدبروا ذاك الترابط العظيم بين آيات القرآن في السورة الواحدة لتحقيق المقصد (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) إيمان وعمل صالح، في المقابل ليس هناك خط بينهما، هو سبيل الله أو سبيل الطاغوت والطريق واضح فإذا قررت اتخاذ سبيل الله والسير فيه فعليك بالإيمان والعمل الصالح (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) الإيمان ليس بالتمني ولكنه ما وقر في القلب وصدّقه العمل (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) إذن هو العمل، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴿١٢٤﴾) الإيمان ليس أماني، كثير من الناس اليوم يقول أنا أتمنى أن يكون بيدي أن أنصر الحق والعدل والحرية والمساواة، أتألم، الإيمان ليس بالتمني، الإيمان (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) هذا هو الإيمان. أما أن لا أعمل وأبقى أتكل على ذلك الإيمان الضعيف في النفس الذي لا يحقق منهجًا ولا يصلح فسادا ولا يوقِف ظلما ولا عدوانا ولا يحمي إنسانًا ولا ضعيفًا ولا ينصر مظلوما ولا رجلا ولا امرأة ولا ولدًا ولا يدافع عن عرض هذا ليس بإيمان!! ولذلك جاءت الآية (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) آيات عظيمة والتناسب بينها واضح، أسلم وجهه أسلم حياته أسلم قياد أمره لله وحده لا شريك له ثم اتباع اتبع ملة إبراهيم حنيفا.
ثم قال (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ﴿١٢٦﴾) كل شيء بأمر الله، هذا العالم، الأرض، السماء، الملك كل شيء بأمره وملكه. فإذن منهج من ينبغي أن تتبع في حياتك؟! منهج الله المالك الذي يملك كل شيء أم منهج الإنسان الضعيف العبد الذي يشابهك في الإنسانية وفي العبودية وفي الخضوع لله الواحد الأحد؟ منهج من أولى بالاتباع؟!
د. رقية العلواني
تفريغ سمر الأرناؤوط لموقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلنا إلى بداية النهايات في سورة النساء العظيمة وكان آخر ما تحدثنا عنه تلك الوصية العظيمة التي وصّى الله بها عباده المؤمنين أن الإيمان لا يتجزأ، أن الإيمان الذي يستقر في سويداء القلب يصاحبه اليقين بالله وباليوم الآخر لا يمكن أن ينبثق عنه إلا كل عمل صالح يُضفي على الفرد وعلى الحياة وعلى الأسرة وعلى المجتمع كل القيم الراقية التي جاءت سورة النساء لبنائها في النفوس. ولذلك فرق الله سبحانه وتعالى في آية صريحة بين التمني وبين الإيمان والعمل. التمني مجرد أن يتمنى الإنسان شيئاً ولكنه لا يسعى ولا يحرص على تحقيقه وحصوله، بينما القاعدة التي ربي سبحانه وتعالى أراد أن يدعو الناس إليها أن الإيمان عمل (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124))ز ويلفت نظر المتدبر في كتاب الله عز وجلّ أن هذه الآيات جاءت بعد الحديث عن أعمال عظيمة: مواجهات، جهاد، هجرة في سبيل الله، ليأتي بعدها هذا الفصل في نهاية الخطاب عن الإيمان والعمل الصالح.
ثم بعد ذلك تبدأ الآيات في قضية ليست بالجديدة عن سورة النساء قضية النساء، قضية الميراث، قضية الحقوق، قضية الأسرة، قضية القيم، تعود عليها مرة أخرى سورة النساء، ولكن قبل العودة إليها جاء قوله عز وجلّ (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)) وقد ذكرنا أن من قواعد التدبر أن يتأكد المؤمن تمامًا وهو يقرأ هذا الكتاب العظيم أن لكل كلمة في الآية مقصد وموقع مهم جاءت به لتحقق شيئاً ينبغي أن يبنى في نفس المتدبر، فربي سبحانه في هذه الآية وقبل أن يعود بنا إلى الحديث عن قضايا ميراث النساء قال (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) الملك لله، المال، الأشياء التي سخّرها الله عز وجلّ لنا، ما منحنا وما أعطانا، الملك لله وحده. وحين تستقر في نفس الإنسان هذه الحقيقة ويعيشها لحظة بلحظة يدرك أن كل ما لديه إنما هو من قبيل من الودائع والأمانات وعليه أن يتصرف فيها وفق ما أراده من ملّكه إياها وهو الله سبحانه وتعالى ولذلك ختم الآية بقوله (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) عليم خبير لا يخرج شيء عن علمه سبحانه وتعالى. وبالتالي استحضار هذه المعاني في نفس المؤمن وتأكيدها مرة بعد مرة يحقق ذلك الصلاح في السلوك وفي أداء الحقوق إلى أصحابها.
ثم جاء الكلام (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ (127)) مرة أخرى قضية اليتامى وهنا تحديداً يتامى النساء. اهتمام آيات الكتاب العظيم في هذه السورة بالنساء واليتامى دليل على أن العدالة في كتاب الله عز وجل العدالة التي جاء القرآن ليبنيها في النفوس عدالة مطلقة لا تنظر إلى موقع الإنسان كإنسان ولكنها تنظر إلى قيمة الإنسان في إنسانيته فإذا ما أحاطت ظروف معينة يتعرض لها كل إنسان من يُتمٍ أو ما شابه في حياة ذلك الإنسان فهذا لا يعني أن تهدر حقوقه في المجتمع ولا يعني أن يسلب ما ينبغي أن تتم المحافظة عليه بل القرآن يجعل من أفراد المجتمع أوصياء على حقوق الناس، أمناء على أداء هذه الحقوق والحرص على الحفاظ عليها. ولذلك جاءت الآية تؤكد المعاني التي بدأت بها سورة النساء في البداية في قضية اليتامى وفي قضية الحديث عن تعدد الزوجات الذي وقفنا عنده ثم قال بعد ذلك في ختامها (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ) ليس فقط تقسطوا في اليتامى في بداية السورة قال (تقسطوا) وهنا قال (تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ) إذن تصبح قضية العدالة مع هؤلاء اليتامى في المجتمع ليست قضية عابرة وإنما هي قضية تشكل أمرا أساساً في حياة الإنسان يقوم له وتستقيم كل الأمور وكل الحسابات على أساسه ولا تهدر هذه الأمور بأي ظرف من الظروف (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا) ربط الحفاظ على حقوق اليتامى وعلى حقوق الناس وأداء هذه الأمانات بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، رصيد المؤمن في إيمانه بالله عز وجل قضية مهمة جداًز (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا) فعل الخير لا يضيع عند الله وإن ضاع بين الناس فكان من المناسب جدًا أن ينتقل الحديث من جديد عن القضايا الأسرية وقضايا الإصلاح والحفاظ على بنية الأسرة مهما كانت الظروف. القرآن يحافظ على الأسرة ويعلي من شأن الأسرة إعلاءً كبيراً جداً وهذا الاهتمام بالأسرة الذي بدأ به السورة وجاء بعده بالحديث عن المجتمع وبالحديث عن الدول وبالحديث عن حقوق الأمم والقتال والمواجهة والهجرة ثم يعود من جديد إلى قضية الأسرة، الأسرة هي الميدان الحقيقي الذي يثبت الإنسان فيه إيمانه وصدقه في التعامل مع الله سبحانه وتعالى، الأسرة هي الميدان التي فعلًا يبدأ يظهر فيها معادن البشر، الأسرة ليس فيها أفراد يمكن أن ينافقهم الإنسان أو يخادعهم في إظهار الجميل وإخفاء القبيح لأن البيت بيته والأسرة هي أسرته أقاربه أقرب الناس الذين يعيشون معه ويشاطرونه العيش، فكان الإحسان والصدق والتقوى إن ظهرت في ذلك البيت وفي ذاك المحيط ظهر معه المعدن الحقيقي لإيمان هذا الإنسان. وجاء القرآن في هذه الآيات بقضية تحدث في كثير من الأحيان ويمكن أن تهدد كيان الأسرة الذي أراد القرآن أن يحافظ عليه إلى آخر مدى لأن القرآن بمحافظته على بنية الأسرة إنما هو يؤسس لمجتمع قوي مجتمع صالح مجتمع يضمن فيه الأفراد نشأة سويّة صحيحة خالية من الانحرافات بعيدة عن المشاكل والعقد النفسية التي يمكن أن يُرفد بها المجتمع، والمجتمع إذا رُفد بتلك العقد النفسية وبأفراد لهم خلفيات معقدة جداً من أسر مفككة وأُسر فيها مشاكل وأُسر فيها اضطرابات لا يمكن أبدًا أن يحققوا نجاحًا أو صلاحاً أو ترتقي بهم المجتمعات والأمم وهذا ما لا يريده القرآن، فالقرآن في هذه الجزئية يعالج حقيقة واقعية أن الرجل والمرأة ولكن الحديث هنا عن قضية الرجل لأنه (تحدث في السابق عن النشوز بالنسبة للمرأة) هنا يعرض القرآن قضية أن الرجل قد يُعرض عن المرأة، قد يزهد في العلاقة بينه وبينها فما هو الحل؟ أمع ذلك الإعراض يمكن أن تُحطّم بنية الأسرة؟ أم أننا نلجأ إلى كل الوسائل الممكنة لانقاذ سفينة الأسرة؟ هذا ما يحدثنا عنه القرآن.
هذا الحرص الشديد على الحفاظ على الأسرة من قبل الرجل ومن قبل المرأة لا يمكن أن يحدث إلا من نفوس تعالت على الشحّ والشح أعمق وأشد من البخل، البخل مجرد أن يمسك الإنسان بما يمتلك الشح أعمق يبخل مع الحرص الشديد وأحيانًا قد يمسك بشيء لا يضره إذا أعطاه أو قدّم ذلك الشيء لشخص آخر ولذلك هو أعمق، الشح إذا وجد في الأسرة ذهبت معه الأسرة بكل تأكيد، تفككت الأسرة ولذلك العلاقات الأسرية والحفاظ عليها من قبل الرجل والمرأة وكذلك من قبل الدائرة الأوسع دائرة الأقارب تحتاج إلى أن يتخلص الإنسان من داء الشحّ (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فائزون. ولذلك قرر القرآن في هذه الآية (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ (128)) تدبروا هذه القاعدة العظيمة: كل العلاقات الأسرية كل العلاقات الإجتماعية كل العلاقات الإنسانية إدامة والمحافظة على العلاقة عن طريق الصلح هو خير دائما خير من قطع الوشائج، خير من قطع العلاقات، العلاقات المفككة لا يمكن أن يستيقظ بها مجتمع أو أمة، لا يمكن أن يقوى المجتمع بوجود علاقات مجتمعية مفككة مفرّقة ولأجل أن لا تتفكك هذه العلاقات نحن بحاجة إلى علاج الصلح (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ). وقضية الصلح تحتاج إلى أن يتخلص الإنسان من شح نفسه لأن كل المصالحات تحتاج منا لا نقول إلى تنازلات أو تضحيات نحن ناقشنا في مرة سابقة أن الصلح لا يمكن أن يكون تنازلًا ولا يمكن أن يكون تضحية حتى استعمال اللفظة أنك تنزل عن شيء بينما أنت حين تصطلح مع غيرك أنت لا تنزل وإنما ترتفع وترتقي، ترتفع بنفسك على شحّها وتتخلص من ذلك المرض الذي إذا جاء وتولد في النفس واستشرى فيها حرمها من خير كثير من عند الله عز وجل.
ولذلك ربي عز وجلّ بعد هذه الآية (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) قال (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) الحديث هنا عن يوم القيامة يحضرها ربي عز وجلّ لا تخفى عليه خافية. الإنسان في كثير من الأحيان يتوهم أن الصلح يعني التنازل أن الصلح يعني الضعف يعني التضحية يعني أن يتنازل الإنسان ويتراجع عن موقف أو يخسر نقطة لصالح الطرف الآخر الذي يريد أن يبني معه الصلح والقرآن يحطم هذا المفهوم تماماً ويعطينا درجة عالية للإصلاح بقوله سبحانه (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) الصلح رقيّ، الصلح ارتقاء، الصلح إحسان، الصلح تقوى، لا تأتي به إلا تلك النفوس الراقية التي لا تريد جزاء ولا تنتظر شكورا من الناس. الناس التي لا تنتظر الشكر من الناس النفوس المتعلقة بخالقها عز وجل المدركة أن الله سبحانه خبير بخبايا النفوس ولذا جاء الحديث مباشرة بعد هذه الآية (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ (129)) الكلام مرة أخرى عن قضية التعدد لأن الطبيعي والواضح أن الرجل حين يعرض عن المرأة ويزهد في استمرار العلاقة الزوجية معها فسيبحث له عن أخرى ولذلك جاءت هذه الآية (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)) الصلح المبني على تقوى الله عز وجلّ، الصلح الذي لا يخشى الإنسان فيه من أحد يخشى الله سبحانه وتعالى فقط، الصلح الذي يؤسسه في داخل بيته وأسرته، الصلح الذي يحافظ فيه على العشرة بالمعروف، الصلح الذي لا يجعل العلاقات الزوجية والأُسرية رهينة بعواطف أو مشاعر أو بأمزجة أو بأهواء، الصلح المبني على التقوى والإحسان، هذا التعامل الراقي في داخل البيوت هو ما نحتاج إليه اليوم. البيوت لا تؤسس وقد قلنا في السابق لا تؤسس على المشاعر والعواطف فحسب، اليوم نحن نلاحظ أن نسبة الطلاق وخاصة في الزيجات بين الشباب بين أبنائنا وبناتنا نسب مرتفعة نسب مخيفة نسب تنذر فعلًا بأن هناك خللاً حقيقياً يدكّ أبواب الأسر والبيوت إذا حدث هذا الخلل وهذا التصدع في كيان الأسرة فماذا بقي في المجتمع؟! وماذا بقي في الأمة؟! وماذا بقي لنا نحن اليوم كمسليمن لأجل أن نقدمه إلى العالم؟! نحن بحاجة إلى هذا الخلق الرفيع، بمعنى آخر أن يدرك الإنسان وهو مقبل على مشروع الزواج عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه هذه المسؤولية التي لا يمكن أن تتولد إلا على عين التقوى والإصلاح والإحسان والشعور بأن الله سبحانه وتعالى خبير محيط لطيف غفور رحيم وبالتالي هنا تنشأ الأجواء المناسبة جدًا لقيام الأسرة.
ولكن لأن القرآن يعالج واقعاً إنسانياً ليس أمرًا مثالياً ضاربًا في المثالية بعيداً عن الواقع جاء بالآية التي تليها فقال (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)) الزواج ليس عقداً أبدياً، إذا استفحلت الخلافات في الأسرة وفي البيت المسام وما عاد هناك مجال بين الزوجين رغم حرصهما على الاستمرار في العلاقة الزوجية أن يكون هناك استمرار فهل يغلق الباب؟ هل توصد الأبواب؟ ويصبح الشعار السائد في الأسرة التعاسة والخلافات التي لا تنتهي والصراعات والشقاق؟ لا، لأن كذلك هذا النوع من الأجواء أجواء غير صالحة لتربية أبناء ولو فرضنا لم يكن هناك أبناء فهل من قدر الزوج والزوجة أن يبقيا في هذه التعاسة الأبدية بدون مجال للخلاص؟! الزواج في القرآن ليس سجناً أبدًا، ليس عقوبة ولذلك جاءت هذه الآية العظيمة (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) الحياة الإنسانية لا تنتهي أبداً مع نهاية علاقة إنسانية، نحن نحرص على هذه العلاقات ونحرص على استمراريتها وديموميتها ولكن إن قدّر الله سبحانه وتعالى أمرا آخر وسارت الأمور على خلاف ذلك فلا ينبغي للحياة أن تتوقف ولا ينبغي للإنسان أن يحكم على نفسه وعلى غيره بالتعاسة الأبدية أبداً، هنا تأتي عملية إنهاء العلاقة الزوجية. (وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) الله سبحانه وتعالى يغني كِلا الطرفين لأن إنهاء العلاقة الزوجية لا يعني النزاع ولا الصراع ولا الاقتتال والمخاصمة التي لا تكون في صالح أيّ أحد من الأطراف (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ (229) البقرة) هذا هو القرآن.
ومرة أخرى جاءت الآية بقوله عز وجلّ (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (131)) ليعلّق القلب البشري بخالقه سبحانه وتعالى ليشعر القلب البشري بغناه عن البشر. عدد من النساء وربما حتى من الرجال يستمرون في علاقات زوجية وأسرية وهم يدركون تماماً أنها علاقات ميؤوس منها تماماً لا مجال للصلاح، ولكن الذي يدفعهم على الاستمرار فيها القضية المادية الحرص على قضية المعيشة وما شابه وهو أمر لا بد للإنسان أن يهتم به لكن عليه تماماً أن يدرك بأن كل هذه الأمور إنما هي أسباب وعليه أن يبقى دائمًا معلق القلب بمسبّب الأسباب الذي له ملك السماوات والأرض. ولذلك جاء الحديث في نفس الآية (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ) الوصية الخالدة العظيمة (أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا) ومرة ثانية (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)) تدبروا كم مرة في هذا الجزء فقط من الآيات وردت (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ليحرّر النفس من الشحّ يحرر النفس من الخضوع للآخرين لتوهم أن الآخرين يمتلكون لأنفسهم أو لنا نحن نفعاً أو ضراً إلا ما شاء الله. الأمر كله لله والتقوى هي المفتاح الحقيقي الذي يوصل الإنسان إلى الغنى فكلما زاد المرء تقوى لله سبحانه وتعالى ومراقبة لأمره ونهيه زاده الله غنى، غنى ليس بالضرورة فقط أن يكون غنى ماديًا، غنى النفس الشعور بالغنى، الشعور بالاستغناء عن الخلق، الخلق الشعور بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعطي وليس البشر والبشر في نهاية الأمر إنما هم أسباب يسخرها الله سبحانه وتعالى لمن يشاء ولذلك جاءت الآيات بعد ذلك (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ (133)) أصبح الخطاب للناس (وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا) ليخلّص النفوس من التعلق بالناس، من ذاك التعلق الذي يدفع الإنسان أحياناً إلى الخضوع للبشر الذي لا ينبغي أن يكون إلا لله وحده لا شريك له، هذا من تمام الإيمان، الخضوع الذي يعقبه الاستسلام في المنهج، السير على المنهج القرآني العظيم الذي جاء القرآن بترسيخه لا يمكن أن يكون هذا الخضوع إلا حين يستسلم القلب لله سبحانه وتعالى استسلاماً مطلقاً خالصاً يسلم معه التوحيد من النظر إلى أيّ أحد من البشر أو إلى أيّ أحد من الخلق ولذلك جاءت الآية الهيمة (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ (134)) أنت تريد الدنيا وحتى لو كنت تريد الدنيا وتسعى إليها عليك أن تدرك أن الدنيا والآخرة بيد الله ليست بيد أحد من خلقه. إذا استقرت هذه المعاني في النفس كما أراد القرآن في سورة النساء أن يقرّها يجعلها حقيقة يعيشها الإنسان إذا فعلًا استقرت هنا فقط يأتي ذلك الأمر العظيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ (135)) ولن يتحقق ذلك القيام بالعدل سواء كان في الفرد في نفسه أو في الأسرة في البيت كما تكلم عنها القرآن في الآيات قبل قليل أو في المجتمع أو في المال أو في اليتامى أو في النساء أو في الزواج أو مع الآخرين أو في الحكم على الناس لن يحدث إلا إذا استقرت هذه المعاني في النفوس الإيمان بالله سبحانه الإيمان بعظمته، الإيمان بقدرته، الإيمان بأنه الواحد الأحد الذي ينبغي أن يُتّبع ويطاع فيما يأمر فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) تشريفاً وتكريماً (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) وهو في آيات سابقة في بدايات سورة النساء قال (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ (34)) تدبروا كيف تفسر الآيات بعضها بعضاً. قوَّامون بأيّ شيء؟ كثير من المسلمين – نتيجة للفارق الكبير الذي أصبح بيننا وبين كتاب الله عز وجلّ – يقفون عند الآية (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) ويسكت ويعتبر القوامة درجة وهي كذلك ولكن هي تكليف هي مسؤولية هي أمانة في نفس السورة يأتي تفسير هذه القوامة بكل أشكالها، قوامة الرجل على زوجته في كيان الأسرة أو قوامة الإنسان المؤمن على نفسه وعلى الآخرين في المجتمع وفي العالم. (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) كيف تكون قواماً؟ عليك أن تقوم قوامًا بالقسط، (شهداء لله) في قيامك بمسؤولياتك بها بالعدل والإنصاف والتعامل إنما أنت تفعله لا لأجل أحد وإنما لأجل أنك تشهد بهذا القيام لله سبحانه وتعالى وحده. وكيف تتكون تلك الشهادة لله؟ بالآيات التي كانت قبل كم من مرة في هذه الآيات ربي عز وجلّ يقول (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وكم من الصفات ذكرها سبحانه: محيط، غفور، رحيم، حكيم، خبير، عليم، بصير، سميع، واسع، غني، قدير، حميد، تدبروا في مقطع واحد كم من الصفات ذكرها سبحانه، لماذا؟ ليؤسس معنى أن يكون الإنسان شهيداً لله سبحانه وتعالى، شاهداً له. كيف يكون ذلك والآيات في بدايات السورة (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41))؟ بهذه المعاني العظيمة: أن يترسخ في القلب ويستقر ذلك الإيمان بأسماء الله وصفاته وقدرته وسعة ملكه وقدرته التي لا يحدّها شيء، حينها تستقر المعاني فيقوم الإنسان بالعدل ويتحرر من الخوف. الإنسان لماذا يظلم؟ وقديماً وقد قيل لا يأتي بالظلم الا الإنسان الضعيف المهزوز المهزوم داخلياً لأنه إنسان خائف، الظلم لا يحدث إلا حين يخاف الإنسان، والعدل لا يحدث ولا يتحقق إلا حين يتحرر الإنسان من الخوف من كل أحد ومن كل شيء إلا الله عز وجلّ ولذلك جاءت الآية في موضعها تماماً (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) جاء الأمر هنا بعد أن ركّز دعائم الإيمان العميق في قلوبهم أمرهم بأن يقوموا بالقسط. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) تدبروا، درجة عالية، أمر عظيم، لا يمكن أن يأتيه إلا إنسان له رصيد عالي من الإيمان بالله سبحانه وتعالى كما أسسته سورة النساء العظيمة.
وقال في نفس الآية، القرآن هكذا: يقّدم الأمر، يأمر بالأمر، يقدّم العلاج ومع تقديمه للعلاج يقف بالإنسان على الداء أو على السبب الذي يمكن أن يحول بينه وبين أخذه لذلك العلاج، قال (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) تدبروا، إذن ما الذي يدفعني إلى عدم العدل؟ سواء كان في العلاقات الزوجية أو في العلاقات المالية أو في العلاقات الاجتماعية أو في كل شيء؟ اتباع الهوى. (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) الذي يمنع الإنسان من العدل اتباع الهوى وما من عدو أخطر على الإنسان من هوى نفسه، اتباع المزاج الذي يوهم الإنسان فعلا بأنه يريد مصلحة ذاته وهو في واقع الأمر أعماه الهوى فأصبح يرى الصالح ضاراً غير نافع ويرى الشيء الضار وكأن فيه الصلاح.
ولذلك الله عز وجلّ في الآية التي بعدها وصف علاج قضية اتباع الهوى. الهوى داء خطير يورِد الإنسان المهالك في الدنيا وفي الآخرة، يحطم كل العلاقات وإلا فبالله عليكم ما الذي يفسد العلاقات الاجتماعية ولا يدفع الناس لأن يصطلحوا فيما بينهم كإخوة وكأقارب وأولاد عم وأزواج وزوجات وأنساب؟ ما الذي يدفع بهم إلى عدم التصالح؟ غير اتباع الهوى؟ يورد الإنسان فعلا التهلكة في الدنيا والآخرة ما هو العلاج؟ قال الله عز وجلّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)) الإيمان بهذا الكتاب العظيم، هذا الكتاب هو الذي يعيد الإنسان إلى رشده يعيده إلى جادة الصواب، يعيده إلى الطريق الحق ينقذه من الظلمات، يخرجهم من الظلمات إلى النور، هو هذا الكتاب هذا عمل هذا الكتاب هذه قدرات هذا الكتاب العظيم أنزله الله هدى ونور وشفاء ليُخرج الناس به من الظلمات إلى النور.
ولذلك جاءت الآية بعدها لتؤكد أن إيمان الإنسان بالكتاب يعني أن يتّبع المنهج في حياته وسلوكه فإذا قال أنا آمنت به بلسانه ولم يؤمن بقلبه وتطبيقه في واقعه وحياته وسلوكه كان ذلك نفاقاً كان ازدواجية وادّعاء وهذا هو النفاق ولذلك جاء الكلام عن النفاق بعد ذلك (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)) لماذا الحديث هنا عن النفاق؟ التناسب واضح، طلب مني الإيمان فماذا بعد الإيمان إلا الكفر والضلال والنفاق؟ الذي قد تهيأ للإنسان أنه حلّ وسط يقول آمن بلسانه ولا يؤمن بلقلبه والقرآن لا يقبل بأنصاف الحلولّ هذا ليس حلًا، هذا إشكال كبير، ولذلك توهم المنافقون في المدينة أنهم فعلًا ينقذوا أنفسهم بهذه الطريقة يؤمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار ويكفروا آخره، هذا التذبذب والتزعزع لا يكون في صالح المنافق ولا أسرة المنافق ولا المجتمع ولا أيّ أحد، القرآن يريد إيماناً حقيقياً يريد إيمانًأ واضحاً يستقر في القلب فيفيض على الإنسان في واقعه وحياته أدباً وسلوكاً وعدلاً وصلاحاً ونهياً عن الفساد والمنكر.
ثم بعد ذلك عرضت الآيات جملة من التصرفات والسلوكيات التي يقوم بها المنافقون في المجتمع وتحديداً كمثال في المجتمع الأول المجتمع المدني لأن أوجه النفاق وصور النفاق صحيح حسب الوضع التاريخي يمكن أن قد تختلف بعض الشيء في أشكالها وصورها لكنها في حقائقها واحدة لا تتغير، والقرآن العظيم لو تدبرنا فيه لوجدنا أنه يأتي بالحديث عن المنافقين في مواضع كثيرة حتى خصص سورة كاملة للحديث عن هذه الفئة في المجتمع لخطورتها على المجتمع وعلى الأسرة وعلى القيم العظيمة التي جاء القرآن بتأسيسها لأن الإنسان المنافق إنسان غير واضح إنسان يتبنى المخادعة ولذلك قال سبحانه وتعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى) لماذا؟ (يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلً (142)) هنا القرآن يعالج قضية النفاق من جذورها، لماذا يحدث النفاق؟ لأن الإنسان حين ينافق فإنما هو ينظر إلى الناس ويرائي الناس ويسعى إلى رضا الناس والله سبحانه وتعالى يريد من الإنسان المؤمن الذي استقر الإيمان في نفسه وفي قلبه أن يُسقط الخلق من حساباته، بمعنى آخر أن يسقط النظر إلى رضى الناس أو عدم رضاهم في سلوكه ومنهجه في الحياة، هو يمشي وفق ما أراد الله عز وجل لا وفق ما يريده الناس لا يلبي رغبات الناس وإنما يسير وفق ما أراد الله سبحانه وتعالى ولذلك عاقبة النفاق خطيرة جداً لما تحدثه في المجتمع من تذبذب من ازدواجية من تصور أن الإيمان قول دون عمل وهذا عكس ما يدعو إليه القرآن العظيم تمامًا ولذلك أعطى الله عز وجلّ هذه النهاية الشديدة للمنافقين. ثم قال (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)) الإخلاص، تلك العملة النادرة التي بها تكبر الأعمال وبها يتفاوت الناس في قربهم من الله سبحانه وتعالى وفي جزائهم.
ثم بعد ذلك الآيات التي جاءت في سورة النساء حدثتنا عن أشكال النفاق، النفاق ليس شكلاً واحداً منه ما يتعلق بالإعتقاد ومنه ما يتعلق بالعمل منه ما يتعلق بالعمل حتى المجتمعي والعلاقات الإجتماعية ومن الأشياء والمسالك التي يحرص عليها المنافقون وأوضحتها الآيات في سور أخرى كما في سورة النور حين جاؤوا بحادثة الإفك وغيرها كثيرة جداً الأمثلة عليها، من صفات النفاق والمنافقين الحرص على إشاعة السوء، الشائعات، الحرص على الأخبار السيئة ونشر كل الأخبار السيئة عن الآخرين في المجتمع ولذلك القرآن في سورة النور على سبيل المثال قال (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا (19) النور) وهنا ربي سبحانه وتعالى يعالج واحدة من سلوكيات النفاق في المجتمع (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ (148)) الجهر بالسوء، إشاعة الأخبار السلبية السيئة الحديث عن الآخرين، الانتقاص منهم، هذه ليست من سمات المجتمع. ولماذا جاءت الآية بهذا الشكل (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)؟ المجتمع المسلم مجتمع راقي حتى في أحاديثه وسَمَره، أحاديث السمر حين يتسامر المؤمنون في مجتمع راقي يمشي وفق ما أراد الله له أن يمشي في كتاب الله سبحانه، راقي في حديثه حتى المزاح راقي، راقي حتى في الكلمات التي ينتقيها، راقي في سلوكياته راقي في أدبه راقي في طبيعة المحادثات التي تدور بين الإفراد (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) تدبروا: الحديث السيء لا ينبغي أن يشاع في المجتمعات سمعت حديثاً تفسد كل شيء ليست فقط تفسد العلاقات الاجتماعية في واقع الأمر ولكنها تفسد كذلك المزاج الإنساني والذوق الإنساني الذي ينبغي أن يكون راقياً مهذباً هذّبه القرآن.
الكلام على الناس ونحن في زمننا هذا الذي نعيش فيه ملاحظ جدًا انتشرت وسائل التواصل الإجتماعي المختلفة والخبر الذي كان يأخذ يومًا أو ربما يومين أو أكثر، شهر لأجل أن يصل باعتبار أن وسائل الإتصال ضعيفة في العصور الماضية الآن أصبح في ثواني يمكن أن ينتشر إلى عدد كبير جدًأ
من الناس وكلما زاد النشر والانتشار زادت العواقب الوخيمة المترتبة على ذلك فالجهر بالسوء اليوم قضية خطيرة جداً أفسدت على الناس ليس فقط علاقاتهم أفسدت عليهم القلوب، قلب المؤمن قلب خالص كالمرآة ينبغي أن يبقى نظيفاً طاهراً يعكس معاني الإيمان والتقوى والخوف من الله عز وجل، أما إذا شابته عشرات الشوائب على كل الوسائل المختلفة نشر خبراً وعلى اعتبار وهو اعتبار غير صحيح “ناقل الكفر ليس بكافر” من قال هذا؟ ناقل السوء وناقل الخطأ وناقل الفواحش وناقل الشائعات وناقل الأفكار المنحرفة هو مشارك في نقلها، هو لا يمكن أن لا تقع عليه مسؤولية النقل والنشر، أنت مسؤول ومساءل عما تنشر، أنت مشارك في المسؤولية فلننتبه إلى هذه النقطة الخطرة ولذلك ربي عز وجل ختم الله الآية بقوله (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) يسمع ويعلم.
تدبروا (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)) قدّم إبداء الخير، وفي الآية التي قبل قال (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) إذن فماذا يحب ربي عز وجل؟ يحب أن تُظهر الخير وتستر العيب وتُصلح ذات البين (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) والنتيجة هو ذلك الإيمان الذي يعود عليه القرآن العظيم مرة بعد مرة (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)) والسؤال ما وجه التناسب بين هذه الآية والتي قبلها؟ واحدة من الوسائل قضية الجهر بالسوء، قضية الكلام الحديث عن هذه الأقوال وهذه الأشياء وهذه الأفكار وهذه الإنحرافات ليس من باب معالجتها وإنما من باب إشاعتها ومن باب نشرها هذه أجزاء من الأشياء التي يمكن أن تُنشر بهذه الطريقة والقرآن العظيم يريد إيماناً مرتبطاً بسلوكيات راقية في المجتمع هذا الإيمان هو الذي يأتي بذلك الخير الذي أسس له القرآن.
تنتقل بعد ذلك الآيات إلى الحديث عن نموذج من أشخاص لم يحسنوا التعامل مع الكتاب الذي نزل عليهم ليؤكد حقيقة وهي أن هذه الآيات التي جاءت في هذه السورة وفي غيرها من سور القرآن جاءت لتنفذ في الواقع لتظهر في سلوك الإنسان فإذا لم تظهر فعليه أن يحذر أن ذلك قد وقع مع أهل الكتاب، ولذلك جاءت الآيات عن أهل الكتاب. ولذلك ربي عز وجل يحدثنا هنا عن قضية حدثت مع أهل الكتاب (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا (154)) ممارسات مارسها أهل الكتاب على رغم أن البينات قد جاءت إليهم وربي عز وجل قال (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) الحديث عن أهل الكتاب لتقديم نموذج وتحذير لهذه الأمة التي نزل عليها القرآن أنك يا أمة، يا فرد، يا مجتمع، إن لم تحسني القيام بهذا الكتاب وأوامره فالنتيجة لن تكون مختلفة عما حدث مع أهل الكتاب (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)) سياق تحذيري تمامًا ثم تعرض الآيات بعد ذلك أشكال لممارسات أهل الكتاب المبنية على نقض العهد والميثاق وعدم تنزيل آيات الكتاب في الواقع وتطبيقه في الواقع، فمنها قضايا تتعلق بالمسيح عليه السلام ومنها قضايا تتعلق بالممارسات الاجتماعية (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)) ممارسات هم نُهوا عنها في كتابهم ولكنهم لم ينتهوا، فكانت هذه هي النتيجة. إذن القرآن ماذا يريد مني في هذه الآيات؟ القرآن يريد مني في هذه الآيات أن أتجنب الازدواجية، يريد مني أن أنفّّذ هذا الكتاب في حياتي في واقعي أن يكون فعلًا التفسير العملي لهذا الكتاب العظيم هو الواقع الإنساني في مجال الفرد، الأسرة، الاقتصاد، التعامل البنوك، كل شيء ولذلك قال في الآية مباشرة بعدها (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ (162)) كعادة القرآن في العدالة حين يحدثنا عن الأمم لا يجمع ولا يعمّم ولا يُطلق أحكام عامة على الكل (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ) تدبروا، رسالة الإيمان واحدة، رسالة موسى عليه السلام لم تختلف عن رسالة عيسى عليه السلام ورسالة نبينا صلى الله عليه وسلم لا تختلف عن تلك الرسالات في التوحيد والإيمان والتشريعات التي نهت عن الظلم والتي جاءت بالأمر بها والوفاء بها لم تختلف أبداً. ولذلك الآية التي بعدها قال (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)) ثم بعد ذلك (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)) ثم الآية التي بعدها (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)) فإذا ربي سبحانه وتعالى شهد والملائكة شهدوا معه وكفى به سبحانه وتعالى شهيدًا فكيف لا يشهد الواقع الإنساني بكل تلك الشهادات؟! كيف لا يصدّق الواقع البشري ما شهد به الله سبحانه وتعالى وكل الأنبياء، كيف؟! هذا التنكس هذا التخبط الذي تشهده البشرية اليوم ما شهدته في تاريخها، يناقض كل ما جاءت به الرسل والأنبياء من عدالة ومن قيم ومن مُثُل ومن تعاليم ربانية (وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) كل الكتب كل الرسل كل من ذكرهم في هذه الآيات ما المناسبة لذكرهم؟ القيم التي جاءت بها سورة النساء فكانت أول آية من آياتها (يا أيها الناس) خطاب عالمي خطاب جاء به كل الأنبياء من قبل (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) الرسالات جاءت بهذه القيم العظيمة، جاءت بالعدل، جاءت بالحرية، جاءت بالمساواة، جاءت بالأمانة، جاءت بالحفاظ على حقوق الآخرين وتحريم كل ما سوى ذلك، ولذلك الآية التي بعدها قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) تدبروا خطاب (يا أيها الناس) مرة أخرى في سورة النساء، سورة النساء نموذج لخطاب عالمي خطاب قرآني عالمي، القرآن خطاب عالمي، القرآن ما جاء ليخاطَب به المسلمون فحسب ومن يؤمن به ولذلك عشرات الخطابات (يا أيها الناس) (يا أهل الكتاب) (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) لماذا؟ خطاب يخاطب كل الناس. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ (170)) خيراً لكم في كل شيء في دنياكم وأخراكم في اقتصادكم وفي سياساتكم في معاشكم وفي مآلكم في بيوتكم وفي مجتمعاتكم في حربكم وفي سِلمكم في قلوبكم وفي بيوتكم وفي أُسركم مطلقاً (فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ) الإيمان خير، القيم خير للبشرية. الذي خلق البشرية ما أراد لها من خلال تطبيق المنهج إلا الخير والدليل أن البشرية يوم تخبطت عن كل تلك الرسالات والمناهج التي أثبتها في كتابه سبحانه وأرسل بها الرسل أصبحت تعاني، تعيش في حالة شقاء، البشرية اليوم تشهد حالات تعاسة وشقاء على المستوى العالمي ما شهدته في تاريخها: حروب، تهجير، نكبات، مصائب، كوارث إنسانية، كوارث طبيعية، كوارث في كل شيء، كوارث حتى في الجو في الهواء في المناخ في كل شيء، من أين جاءت؟ جاءت من عدم اتباع المنهج (فآمنوا خيرا لكم).
(وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) تدبروا الملك لله، ربي حين يعطينا المنهج ليس لأنه سبحانه يريد منا أن نسدي إليه قضية المنهج هو الغني سبحانه، نحن الفقراء إلى المنهج، نحن بحاجة لتطبيق ذلك المنهج في حياتنا أما هو سبحانه فهو غني حميد عليم حكيم.
ثم جاءت الآيات التي بعد، بعد (يا أيها الناس) قال (يا أهل الكتاب) تدبروا القرآن لماذا هنا (يا أهل الكتاب) والحديث عن عن عيسى ومريم؟ لفتح باب العودة أمام العقلاء، أيها العقلاء من أهل الكتاب (انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ (171)) وتدبروا (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)) هذه الرسالة العظيمة لأهل الكتاب من سيحملها إليهم؟ من يوصلها إليهم؟ في الحلقة السابقة تكلمنا عن الهجرة، الذي يهاجر في سبيل الله هو من الأشخاص الذين ينبغي لهم أن يحملوا هذه الرسالة، يحملوها ليس فقط من خلال الكلمات وإنما من خلال أفعال، سلوك، تصرفات، أعمال، عدالة، قيم، هذا الذي يريده القرآن هذه أمانة.
قال في نهاية الآيات (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ (173)) كعادة القرآن ثم عاد من جديد فقال في سورة النساء في ثلاثة مواضع (يا أيها الناس) بدأها بـ(يا أيها الناس) والآن في ختامها يقول (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)). الآية الأولى من سورة النساء قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ (1)) والآيات الأخيرة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) لا يمكن للتقوى أن تتحقق بعيداً عن هذا البرهان العظيم، لا يمكن للتقوى أن تتحقق بعيداً عن القرآن العظيم (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ (175)) هو ما نحتاج إليه التمسك، وكلمة اعتصام هي أكثر من كلمة التمسك، يعتصم بالشيء يلجأ إليه لكي يعصمه من شيء، يحميه ويكفيه، يعصمه من أيّ شيء؟ يعصمه من كل أشكال التخبط والشرور التي تعرض له في الطريق إذا كان بعيداً عن كتاب الله سبحانه وتعالى. (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) يدخلهم في رحمة منه وفضل ليس فقط في الآخرة في الدنيا قبل الآخرة لا مجال لسعادة البشرية بعيداً عن هذا الكتاب العظيم، لا مجال، هكذا هو القرآن.
والملفت للنظر أن الله سبحانه وتعالى آخر آية في سورة النساء وبعد هذه الآيات قال (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) قضية الميراث لشخص ليس له ولد وله أخت، قضية ميراث، تقسيم أموال. لماذا تقسيم أموال بعد الحديث عن الكتاب أنه برهان والاعتصام به ليؤكد القرآن العظيم أن قضية الاعتصام بكتاب الله عز وجل والرجوع إليه ليست قضية شكلية وإنما هي تطبيق في كل جزئيات الحياة، في المال، في الاقتصاد، في الأعمال، في الحياة، في القليل، في الكثير، في كل شيء.
هذه الجزئيات المفصلة هذا تفصيل في آيات الميراث، لماذا القرآن يفصل في آيات الميراث؟ القرآن يفصل في آيات الميراث لأنها ليست آيات خاضعة لتاريخية معينة ولا لسياقات تاريخية ولذلك هي غير قابلة للتبدل نتيجة لتبدل ظروف الإنسان وحياته ومعيشته وأوضاعه الاقتصادية، بعض الأشخاص يقول لك اليوم على سبيل المثال (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فقالوا لا، الآن المرأة تغيرت أوضاعها الاقتصادية أصبحت كالرجل، وبالتالي الميراث ينبغي أن يوزّع بالتساوي! من الذي يفرض المنهج؟ تفرضه أهواؤنا وحساباتنا المتقلبة وأمزجتنا المختلفة المتباينة وأوضاعنا المعيشية والاقتصادية المختلفة من مكان لآخر أم الذي يفرضه من خلق الذكر والأنثى؟ ولذلك قال (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أنت كبشر تعلم شيئًا ولا تعلم آخر ولكن الله هو الذي بكل شيء عليم وعملية التنصيف هي ليست عملية انتقاص من حق المرأة ولا من قيمتها ولا نوع من أنواع الوصاية عليها وعلى الرغم من أني قد أشرت ربما في حلقات أخرى في تدبرنا لكتاب الله عز وجل أن أسلوب الدفاع عن أحكام القرآن وتشريعاته أسلوب آن له أن يتوقف، عدد من الكُتّاب ينظرون ويقدّمون ما يتعلق بتشريعات القرآن خاصة ما يتعلق بالميراث وغيرها وكأن القرآن وتشريعات الإسلام وأحكام الإسلام موضوعة في قفص اتهام وعليهم أن يدافعوا عنها! ما هكذا تُعرض الأمور، فهم فلسفة التشريع ومقاصد التشريع لا يكون بمنطلق دفاعي أبدًا، نحن لسنا في معركة، وإنما نحن في مجال تشريع وفهم لمعاني التشريع ومحاولة لتفهم مقاصده وحكمه وربما نلم بشيء ونغفل عن شيء آخر. القرآن أراد للناس أن يصححوا أوضاعهم الإجتماعية وفق منهجه لا أن يُخضع منهج القرآن لأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية وما شابه. صحح أوضاعك، قضية تقسيم الميراث قضية تتعلق بالوظائف قضية تتعلق بالأدوار التي ينبغي أن يقوم بها الفرد الرجل والمرأة قضية لا تخضع للحسابات البشرية التي يتعامل بها الناس اليوم.
ثم إن القرآن بعد كل هذا خاصة في سورة النساء يؤسس للأسرة المترابطة، الأسرة ذات العلاقات الاجتماعية والروابط القوية المتينة التي أصبحنا نفتقدها اليوم ولذلك كانت حتى في قضية توزيع الميراث والأنصبة هنا قضية تتعلق بأدوار الفرد في الأسرة بما ينبغي أن يقوم به في الأسرة. تقول ولكن الأمور تغيرت وبعض الرجال وبعض الإخوة يحرمون الأخوات من الميراث ويحرمون الأمهات ويفعلون كذا وكذا، قلنا في مرات سابقة ونقول: أنت لا تقيس المنهج وفق ما يمارَس به في واقعك وإنما أنت عليك فعلًا أن تعدّل تلك الممارسات هذا واجبنا كأفراد، ولذلك ربي أوكل لي مهمة قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ (135)) وإلا فما معنى قيامنا بالقسط؟! أنا مطلوب مني أن أصحح وأعدل في تلك الممارسات حتى تصبح وفق ما أراد ربي عز وجل في هذا المنهج العظيم، أن تُصَّحح العلاقات الفردية والاجتماعية أن يصبح من جديد الأخ يستشعر مسؤولية تجاه أخته مهما كانت سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة، المسألة ليست مسألة أموال، المسألة مسألة مشاعر، أحاسيس، مسؤولية. وجود الرجل سواء كان أب أو أخ أو زوج أو عمّ أو خال في حياة المرأة لا يشكل نوعاً من القهر أو الوصاية كما يهيؤ للبعض ولا حماية المسألة ليست خوف أو حماية وضعف وقوة، لا، منظومة لعلاقات إجتماعية إنسانية إذا فسدت فسد معها كل شيء كما هو حاصل اليوم، اليوم هناك العديد من المجتمعات لا أقول فقط في الغرب وإنما أتكلم عن مجتمعاتنا العربية والإسلامية تعاني تفكك في العلاقات انفصام، تمزّق في العلاقات في الأسرة الواحدة هذا ما لا يريده القرآن، القرآن يريد أن يعيد الأمور في حياة الفرد والأسرة والمجتمع إلى نصابها إلى وضعها السليم ولن يتحقق ذلك بعيدًا عن المنهج.
سورة النساء العظيمة التي بدأت بالوصية بالتقوى وختمت بالحديث عن (قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) تؤكد كل هذه المعاني والقيم، تؤكد هذه الرسالة التي ينبغي أن نقوم بها جميعا كل حسب ما هيأ الله له من أسباب، قوامين بالقسط، قوامين بتلك القيم، حريصين على نشرها، محاولين كل ما في وسعنا لأجل أن نعيدها من جديد إلى الواقع وإلى السلوك وإلى الحياة. ولذلك لا عجب أن تكون أول آية في السورة التي تليها رغم الفارق الزمني في النزول سورة المائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) المائدة) هذه القيم هي أشكال من العقود والعهود والمواثيق بيننا وبين خالقنا عز وجلّ الذي رضينا به رباً ورضينا بكتابه كتاباً منزّلًا ورضينا بنبيه صلى الله عليه وسلم نبيًّا رسولاً وناصحاً لهذه الأمة وشهيداً عليها.
القارئ لسورة النساء لا بد وأن يتوقف عندما يمر بآية (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) ويتذكر حديث ابن مسعود:
قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي)، قلت يا رسول الله: أقرأ عليك، وعليك أُنزل؟ قال: (نعم)، فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً..} (النساء:41)، قال:(حسبك الآن) فالتفتُ إليه، فإذا عيناه تذرفان.
ما الذي جعل ابن مسعود يختار هذه السورة تحديدا ليقرأها على من أُنزلت عليه صلى الله عليه وسلم؟ وهي سورة تفصل في الميراث والمحرّمات؟!
لا بد وأنها كانت من السور المحببة لقلبه فعادة الإنسان تقديم ما يحبه،
السورة كما أقرؤها اليوم سورة تشع عاطفة ورعاية ومحبة وفضلا وعدلا وطاعة وأمانة ونشرا للحق وأداء للحقوق حتى تصفو القلوب وترضى بشرع الله فلا تتحاسد ولا تتباغض ولا يظلم أحدا أحدا فإذا شاعت هذه المشاعر كانت حماية للمجتمعات من شرور النفوس وشحّها ومن إصلاح الشيطان لأصحاب النفوس الضعيفة.
فهي سورة حماية المجتمع من نفسه ومن أفراده إن لم يطيعوا الله فيما حكم به وإن لم يطيعوا الرسول في أمانته وعدله مع الناس جميعا، وفي السورة نزلت آيات في قصة الدرع المسروقة التي اتهم يهودي بها فأنزل الله قرآنا يبرئ اليهودي من التهمة! من قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا إليكَ الكتَابَ بِالحقِّ لِتَحكُمَ بينَ الناسِ بِما أراكَ اللَّهُ ولا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) إلى (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)
كل هذا العدل ثم يخرج من يتهم الإسلام أنه غير عادل ولا يعطي النساء حقوقهن وغيره من الشبهات التي يدلّسون بها على عقول شبابنا والله المستعان.
وإذا تتبعنا آيات السورة سنجد عددا من الآيات تتجلى فيها مظاهر العدل وإعطاء الحقوق ولا تقتصر على الحقوق المادية وإنما تتعداها للحقوق المعنوية حتى القول ينبغي أن يكون سديدا، معروفا، بليغا.
أيّ قانون في العالم يلزم بهذا الرقيّ؟!
ثم استوقفني ما الذي أبكى النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع الآية تحديدا؟!
أهي رحمته بأمته والناس أجمعين؟
أم استشعاره بعظم الأمانة والمسؤولية التي اصطفاه الله لأدائها؟!
اللهم صل وسلم على نبي الرحمة، الذي وصفه ربه (بالمؤمنين رؤوف رحيم)
سورة النساء كلما تدبرت آياتها وجدت فيها من الكنوز الاجتماعية والتربوية والنفسية والمشاعرية التي تصلح بها الفرد والأسرة والمجتمع والأمة وحري بنا أن نعيد قرآءتها باحثين عن هذه المعاني العظيمة..
وورد عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أيضا أنه قال: “إِنَّ في سورة النساء، لَخَمْسَ آيات، ما يَسُرُّنِي، أَنَّ لي بها الدُّنيا وما فيها:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}(النساء: آية 40)
و{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}(النساء:31)
و{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}(النساء: 48)
و{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}(النساء: 64)
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَمَا أَظُنُّ الْخَامِسَةَ و{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا}(النساء: 110)”
ولو تأملنا الآية الأولى فهي قمة العدل الإلهي لا يظلم مثقال ذرة!
والثانية قمة العطف الإلهي: من أعرض عن الكبائر، وحفظ نفسه منها، فقد ضمن الله له غفران زلاته، وتكفير سيئاته.
والثالثة قمة العفو الإلهي: كل الذنوب دون الشرك بالله تُغفر ولو كان العبد محملاً بملء الأرض خطايا، ومن عُذِّبَ مِن الموحِّدين فإنه لا يخلّد في النار. احرص على توحيدك لا تفرّط به!
والرابعة قمة الجود والكرم الإلهي والترغيب ودعوة الله تعالى للمنافقين الذين اقترفوا السيئات أن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروه ليتوب عليهم.
والخامسة قمة الكرم والترغيب والحب الإلهي والوعد للمؤمنين فمن تجرأ منهم على المعاصي ثم استغفر الله مقرا بالذنب نادما عليه عازما على أن لا يعود وعده الله الذي لا يخلف الميعاد بالمغفرة!
هذا غيض من فيض سورة النساء وفيها مزيد للمتدبرين…
أختم بسؤال أطرحه على نفسي وعليكم: لو أننا كنا مكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ترى أية سورة كنا اخترنا لنقرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
هذا وآلله أعلم.
استغرق الجزء الخامس معظم آيات سورة النساء والتي افتتحت بنداء للناس عامة (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴿١﴾) والسورة سميت بـ(النساء) والأرحام من الرحِم الذي هو خاص بالنساء ولعل هذا من التناسب بين مفتتح السورة واسمها والله أعلم.
مواضيع سورة النساء:
اشتملت السّورة على: بيان خِلْقة آدم وحوَّاءَ، والأَمر بصلة الرّحم، والنَّهى عن أَكل مال اليتيم، وما يترتَّب عليه من عظم الإِثم، والعذاب لآكليه، وبيان المناكحات، وعدد النساءِ، وحكم الصَّداق، وحفظ المال من السّفهاءِ، وتَجربة اليتيم قبل دفع المال إِليه، والرِّفْق بالأَقارب وقت قسمة الميراث، وحكم ميراث أَصحاب الفرائض، وذكر ذوات المحارم، وبيان طَوْل الحُرَّةِ، وجواز التَّزَوُّج بالأَمَة، والاجتناب عن الكبائر، وفضل الرّجال على النِّساءِ، وبيان الحقوق، وحكم السّكران وقت الصلاة، وآية التيُّمم، وذمّ اليهود، وتحريفهم التوراة، وردّ الأَمانات إِلى أَهلها، وصفة المنافقين في امتناعهم عن قبول أَوامر القرآن، والأَمر بالقتال، ووجوب رَدِّ السّلام، والنَّهى عن موالاة المشركين، وتفصيل قَتْل العمد والخطأ، وفضل الهجرةِ، ووزْر المتأَخِّرين عنها، والإِشارة إِلى صلاة الخوف حال القتال، والنَّهى عن حماية الخائنين، وإِيقاعُ الصّلح بين الأَزواج والزَّوجات، وإِقامة الشهادات، ومدح العدل، وذمّ المنافقين، وذمّ اليهود، وذكر قَصْدهم قتل عيسى عليه السّلام، وفضل الرّاسخين في العلم، وإِظهار فساد اعتقاد النَّصارى، وافتخار الملائكة والمسيح بمقام العبوديَّة، وذكر ميراث الكلالة، والإِشارة إِلى أَنَّ الغرض من بيان الأَحكام صيانةُ الخَلْق من الضَّلالة، في قوله: {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوْا} أي كراهة أَن تضلُّوا.
التفصيل في سورة النساء لعدد من المسائل منها:
تفصيل موضوع أموال اليتامى، وتفصيل الميراث وذكرت أيضًا تفصيل في التوبة والاستغفار في عشر مواضع (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿١٧﴾ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿١٨﴾)
وفي السورة تفصيل في موضوع الصلاة في مواضع عديدة تهيئة واستعدادًا لها ووجوبها في حال الأمن والخوف ومواقيتها والتحذير من التكاسل عنها وهذا لعظيم شأن الصلاة وهدف الصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ولعله من المناسب تفصيل الحديث عنها في سورة النساء تحديدا لأن من يحافظ على إقامتها كما أمر الله فإنه سيتحرى العدل ولن يظلم أحدا وسيعطي كل ذي حق حقه ولن يأكل أموال الآخرين ولن يتعدى على حقوق الضعفاء ولا حقوق أحد من البشر حتى أعداءه. فالصلاة مدرسة الأخلاق للفرد والمجتمع والأمة وبهذا المعنى توسطت الصلاة آيات الطلاق في سورة البقرة.
التهيئة للصلاة بحضور العقل وطهارة الباطن وطهارة الظاهر (بالوضوء أو التيمم إن لم يوجد الماء) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43))
الأمر بإقامة الصلاة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77))
حكم قصر الصلاة في السفر وهذا من رحمة الله تعالى بعباده وفي هذا تناسب مع مقصد السورة التي تجلى فيها الرحمة والعدل (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا (101))
تفصيل صلاة الخوف تأكيدًا على أن الصلاة لا تسقط بحال من الأحوال حتى في أشد المواطن في ساحة المعركة عند اشتداد الخوف (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْۖ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (102))
الصلاة حال الأمن ووجوب الصلاة في مواقيتها (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا (103))
تحذير من صلاة المنافقين (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142))
تزكية الله تعالى للراسخين في العلم وخصّهم بأنهم مقيمي الصلاة (لَّٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ۚ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ۚ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
المتأمل في سورة النساء يلحظ تكرار كلمة (فضل) ومشتقاتها فيها (13 مرة) وأغلبها منسوبة إلى الله عز وجل (فضل الله) فتذكر أيها العبد فضل الله تعالى عليك في كل أمرك وأدّ حقوق اليتامى والنساء والضعفاء كما أمرك الله تعالى لأن صاحب الفضل سبحانه قادر على أن يرفعه عنك متى شاء..
(وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32))
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34))
(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (37))
(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا (54))
(ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا (70))
(وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73))
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83))
(لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95))
(وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113))
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173))
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (175))
ورد المال في سورة النساء 14 مرة وهذا أعلى معدل في سور القران. ولعل مناسبة هذا التكرار لموضوع السورة أن المال عصب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والإعداد وإغاثة المستضعفين والمهور والمواريث.
فلسفة النظرة إلى المال في القرآن أنه قوام الحياة، ومادة امتحان، ورزق إلهي لقضاء الحاجيات الحياتية، وخادم معاون.. فحاذرِ أن يتحوّل إلى صنم، وحضارة اليوم حوّلته، فلنَعُد إلى النّبع (د. أحمد نوفل)
تكرر في السورة ذكر (في سبيل الله) عند الحديث عن الجهاد والهجرة للتأكيد على أنه ينبغي أن يكونا خالصين لله تعالى لا في سبيل الطاغوت ولا في سبيل مصالح شخصية وأهواء وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم “فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”
(فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۚ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74))
(وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا (75))
(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76))
(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا (84))
(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ۖ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89))
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94))
(لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95))
(وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (100))
وتكرر في السورة أيضًا كلمة (سبيلا)
- (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ ۖفَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15))
- (وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚإِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22))
- (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚفَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34))
- (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا(51))
- (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا ۚأَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88))
- (ِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚوَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا(90))
- (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا(98))
- (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا(137))
- (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۚفَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141))
- (مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚوَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143))
- (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا(150))
وتكرر في السورة وصف العذاب بالمهين أربع مرات وهو عذاب أعدّه الله عز وجلّ للكافرين.
- (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (14))
- (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (37))
- (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ۖ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (102))
- (أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (151))
ورد في السورة لفظ (معروف) بشكل لافت للنظر ولا بد وأن له ارتباطًا بمحور السورة ومقاصدها فالسورة جاءت لتبطل عادات جاهلية بغيضة كانت تبيح للقوي أكل أموال الضعيف وتستضعفه في كل الأمور ولا شك أن تشريعات الإسلام التي ستبطل هذه العادات الجاهلية والأحكام المجحفة التي سادت المجتمع الجاهلي هذه التشريعات تحتاج للقول بالمعروف لأن القول الغليظ لعله يسبب تمسكًا أكبر بموروث الجاهلية عنادًا واستكبارا أما القول اللين بالمعروف والتدرج في تصحيح المفاهيم الجاهلية فيُرجى منه إحداث التغيير المطلوب ليحل العدل مكان الظلم وتحل الحرية الفردية مكان العبودية للبشر. فالقول قول بمعروف والمعاشرة معاشرة بالمعروف وإيتاء الأجور بالمعروف وأكل من كان فقيرا مال اليتيم أكل بمعروف فهل من عاقل يتمسك بشريعة جاهلية مقيتة ظالمة ويرفض شريعة تتعامل مع الناس بالمعروف وتحثّهم عليه قولًا وفعلًا وعملًا؟! ما أكرم وأحكم هذا الإله الحق العدل سبحانه وتعالى جل في علاه!
- (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا(5) النساء)
- (وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖوَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ۚ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚوَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) النساء)
- (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا(8) النساء)
- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖوَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) النساء)
- (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚوَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ ۚ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (25) النساء)
- (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍأَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) النساء)
في السورة تسع نداءات للمؤمنين (يا أيها الذين آمنوا)
المتأمل لخواتيم سورة النساء يلحظ ذكر عدد كبير من أسماء الله الحسنى وصفاته تصل إلى 55 اسمًا فلنتأملها لأن الصفات التي تختم بها كل آية مرتبطة بسياق الآية ومعناها..
تكرر صفة العليم في السورة كثيرا حيث ورد 17 مرة منها ما هو مقترن بالحكمة (عليم حكيم) ومنها ما هو مقترن بصفة السميع (سميع عليم) ومنها ما هو مطلق (بكل شي عليم) وصفة العليم تتناسب مع سورة النساء فكم من الأحكام التي فيها من ميراث وحقوق وأمانات الله سبحانه وتعالى هو العليم بمن ينفذّها ويؤديها كما أمره الله فليحذر العبد من سعة علم الله وليتقه في كل أمره. وكلك تكرار صفة الحكيم في آيات التشريع تؤكد على مصدرية هذه التشريعات وأنها من الحكيم الذي يشرّع بحكمته ولحكمة لا يعلمها إلا هو وعلى العبد السمع والطاعة دون تشكيك ولا مجادلة في حكم من أحكام وتشريعات الله الحكيم سبحانه فلا تسل عن حكمة تقسيم المواريث بهذه الطريقة ولا عن حكم القوامة ولا غيرها.
(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11))
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17))
( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ۚ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24))
(يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26))
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56))
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92))
(وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104))
(وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111))
(وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130))
(بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158))
(رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165))
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170))
بدأت سورة النساء بـالنداء (يا أيها الناس) وختمت به وبينهما نداءات كثيرة والملاحظ أنه بعد كل نداء يأتي الحديث عن التوبة فلنتأمل الآيات… النداءات يكون معها أحكام واقتران الأحكام بالتوبة لأن الإنسان لا بد وأنه يقصر في تطبيق الأحكام فيفتح الله تعالى باب التوبة ليتوب..
فتبدأ السورة بنداء عالمي للناس جميعا يذكرهم بأصل خلقتهم ويأمرهم بتقوى الله تعالى الذي خلقهم جميعًا (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴿١﴾) وتختم بنداء عالمي (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴿١٧٤﴾) وما بين النداءين سلسلة من الأحكام التي نقضت موروثات الجاهلية الظالمة والمجحفة في حق فئات كثيرة في المجتمع والعاقل الذي يقارن ما طرحه الشرع من خلال آيات سورة النساء بما كان عليه المجتمع الجاهلي قبل الإسلام لا بد وأن يتضح له بشكل لا يقبل الجدل أن هذا القرآن وما فيه من أحكام وتشريعات هو حقا برهان من الله ونور مبين يخرج الناس من ظلمات الجهالة والظلم والتعدي على حقوق الآخرين إلى نور الإيمان والعدل والقسط والأمانة والوفاء، ومَنْ من الناس لا يطمح أن يعيش في مجتمع يقوم على أساس العدل والقسط والأمانة وإعطاء الحقوق لأصحابها وفق شرع إلهي لا يقبل التزوير ولا المداراة ولا المحاباة لأحد على حساب أحد؟! فإن كنا نريد العيش في مجتمع فاضل كهذا لا بد لنا من أن نحقق ونأتمر بأوامر الله وشرعه الذي جاءت به آيات سورة النساء وغيرها من سور القرآن.
سورة النساء تكرر فيها الحديث عن إضلال الشيطان (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) وعن توعّده وتهديده بإغواء بني آدم (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) لكن السورة ذاتها ذكرت آية تؤكد ضعف كيده فلا يظننّ ظانّ أن الشيطان يقوى عليه ويكيد له لأن كيده ضعيف، هذا كلام ربي سبحانه وتعالى وكلام ربي حق وصدق لا مرية فيه ومن أصدق من الله حديثا؟ ومن أصدق من الله قيلا؟. فإذا ما وسوس الشيطان لك أيها العبد فادفعه بالاستعاذة أولًا كما أمر ربك عز وجلّ (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَان نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) الأعراف) ثم ادفعه بيقينك بكلام ربك (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) واستعن بالله تقوى على وساوس الشيطان وتبطلها وتطردها عنك بكثرة اللجأ إلى الله تعالى والمداومة على ذكره تطرد وساوس الشيطان ووساوس النفس ونزعاتها التي قد تميل إلى هذه الوسوسة وهذا الإغراء وهذه الفتنة من عدو يترصد بها لحظة غفلة لينقضّ عليها وذكّر نفسك أن هذا العدو إنما يغرّر بك ليحقق مآربه في إخراجك من النور إلى الظلمات (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) ومن ظلمك لنفسك أن تتخذ عدو الله وعدوك قرينًا بعد أن بيّن الله عز وجلّ مغبّة هذا الاتخاذ (وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا).
وفي كل مرة تنتصر فيها على وساوس الشيطان المتربص بك فاحمد الله سبحانه وتعالى لأنك لولا فضله ورحمته بك لما قويت على دفع وسوسته ولا النجاة من فتنته وتذكر (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا).
(وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) النساء)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء)
(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) النساء)
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) النساء)
(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (119) النساء)
(يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) النساء)
وتكرر في سورة النساء لفظ (وكفى) عشر مرات ثمان منها في ذكر كفاية الله تعالى كفى بالله حسيبا وعليما ونصيرا وشهيدا ووكيلا
- (وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖوَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ۚ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚوَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) النساء)
- (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ۚوَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) النساء)
- (ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚوَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) النساء)
- (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖوَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ۚ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) النساء)
- (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ۖوَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ۖ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) النساء)
- (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚوَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) النساء)
- (لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖأَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) النساء)
- (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚإِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) النساء)
- (انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۖوَكَفَىٰ بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا (50) النساء)
- (فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ ۚوَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) النساء)
وفي سورة النساء تكرر وصف القول بأوصاف عديدة وبشكل عام تكرر لفظ (قول) ومشتقاته في السورة بشكل لافت وورد فيها أيضًا أنواع القول: قول وحديث وكلمة وجهر بالقول وتناجي وتحية ومجادلة وذكر وإصلاح بين الناس واستفتاء وغيرها فورد فيها قول الله تعالى (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) وورد (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) وورد فيها تكليم الله تعالى لموسى عليه السلام (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) كما ورد في السورة نهي أهل الكتاب عن قول غير الحق ووصف الله تعالى لعيسى عليه السلام أنه كلمته ألقاها إلى مريم (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴿١٧١﴾) وورد القول على عيسى عليه السلام في أكثر من آية وتحذير الله تعالى لهم من أقوالهم الفاسدة الباطلة (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿١٥٥﴾ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴿١٥٦﴾ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴿١٥٧﴾). وورد في السورة ذكر النجوى أيضًا (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿١١٤﴾). وورد فيها تبشير وإنذار الرسل لأقوامهم وهذا يكون بالقول والدعوة (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿١٦٥﴾) وورد ذكر التحية وردّها بأحسن منها (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴿٨٦﴾) وورد فيها النهي عن المجادلة إن لم تكن لأمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿١١٤﴾) وورد فيها النهي عن الخوض في آيات الله تعالى مع الخائضين (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴿١٤٠﴾) وورد فيها ذمّ المنافقين بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلا (وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) وورد فيها ذكر الشهادة وهي من القول أيضًا (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴿٤١﴾) وورد فيها السؤال (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) وورد فيها الوعظ (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ) (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) وورد فيها الإصلاح بين الزوجين (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴿٣٥﴾) والإصلاح يكون بالقول وورد فيها تحريف الكلم وليّ الألسنة به (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿٤٦﴾) وورد فيها تزكية النفس وهل تكون التزكية إلا بالقول (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴿٤٩﴾) وورد فيها ذكر افتراء الكذب على الله (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ﴿٥٠﴾) وورد فيها ذكر الأمانة والحكم بالعدل وهذا من القول أيضًا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿٥٨﴾) (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) وذكر الحلف (ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ) وورد فيها الاستغفار (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) وورد ذكر الحديث (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) وورد ذكر إذاعة الأمر (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) وورد ذكر الشفاعة (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا) وذكر إلقاء السلام (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) وورد فيها ذكر الله (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) وورد فيها ذكر الجدال (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴿١٠٧﴾) (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ﴿١٠٩﴾) وفيها تبييت ما لا يرضى الله تعالى من القول (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) وورد فيها رمي الناس بالبطل (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴿١١٢﴾) وفيها دعوة غير الله تعالى (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ﴿١١٧﴾) وورد فيها الاستفتاء (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) وذكر ما يتلى من الكتاب (وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ) وورد فيها جواز الجهر بالسوء لمن ظُلِم (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ﴿١٤٨﴾) وورد فيها الخفي من القول والظاهر منه (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴿١٤٩﴾) وورد فيها النهي عن قربان الصلاة في حالة السُكر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)
فكأن القول ثوب لفظي لسورة النساء تحديدًا والله أعلم.
الآيات التي ورد فيها ذكر القول وأوصافه وأنواعه في سورة النساء:
(وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴿٥﴾)
(وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴿٨﴾)
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴿٩﴾)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴿٦٣﴾)
وصف الضلال في سورة النساء بالبعيد أربع مرات في الآيات التالية ولعل في هذا –والله أعلم – مناسبة لمقصد السورة وحثّها على العدل والقسط وإعطاء الحقوق لكل الناس وأخصهم الضعفاء فكأن من لم يقسط ويؤدي الحقوق لأهلها فكأنما يبتعد عن أمر الله تعالى وحكمه وشرعه فالشرك بالله والشيطان يبعدان الإنسان عن تحقيق العدل والقسط في تعاملاته فالشرك يجعله معرضًا عن أمر الله تعالى فهو لا يؤمن بالله والعياذ بالله ولا يأتمر بأمره فيبتعد عن منهجه طواعية وكذلك الشيطان يضل الإنسان بالوسوسة والتزيين فيرى أكل حقوق الناس بالباطل حقًا مشروعا مكتسبا له فيضل ويظلم ويمنع الحقوق عن أهلها.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء)
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) النساء)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) النساء)
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) النساء)
سورة النساء تبيّن مسببات الضلال التي تبعد الإنسان عن تحقيق منهج الله في العدل وهي الشرك بالله والكفر به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والصد عن سبيل الله والشيطان يريد أن يضل الناس عن منهج الله عزوجل كما توعد آدم وذريته (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا (117) لَّعَنَهُ اللَّهُ ۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)) وقد يجزع ضعاف الإيمان من وعيد الشيطان فتأتي الآية في سورة النساء تهدم جدار الخوف والجوع من الشيطان وتؤكد أن كيد الشيطان كان ضعيفا. (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (النساء:76)) إذن علينا أن نبحث في أنفسنا وقلوبنا عن أسباب الضلال الحقيقية التي تختبئ تحت ستار اتباع الهوى وشهوات النفس الأمارة بالسوء ولنستعن بالله على أنفسنا ولنستعذ بالله من الشيطان ووساوسه.
فواصل آيات #سورة_النساء (م ل ا ن) تجمعها كلمة (لُمنا) أو (مِلنا)
اللام: آية واحدة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ﴿٤٤﴾)
النون: آية واحدة (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴿١٤﴾)
الميم: خمس آيات (وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴿١٢﴾) (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿١٣﴾) (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿٢٥﴾) (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿٢٦﴾) (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿١٧٦﴾)
الألف: باقي آيات السورة (رقيبا، كبيرا، تعولوا، سبيلا، حكيما، معروفا، حسيبا..)
سورة النساء افتتحت بالأمر (اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منهما رجالا كثيرا ونساء) الأمر بتقوى الرب الخالق خالق البشرية من أصل واحد، هو الأول ليس قبله شيء، وهذا أمر يدعو الناس إلى تذكر أصل خلقتهم وأنه واحد وهذه أجمع آية في دحض العنصرية وأشكال التفرقة البشرية تحت أي شعار كان!
ثم يأتي الأمر (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) اتقوا الله عز وجل الذي شرع وحكم وأمر ونهى هو الله لا إله إلا هو إيمانا بألوهيته وأنه ملك السموات والأرض ومالكهما ومن فيهما وما فيهما وأن بيده كل شيء وله الحكم والأمر يفعل ما يشاء ولا رادّ لأمره وحكمه.
(والأرحام) تدعونا آيات سورة النساء للتأخي والتآلف ونبذ كل ما يفرّق الأمة بحيث يكون أفرادها جميعا كالأرحام حقوقا وصلة وتأخيا وتآلفا ووحدة ومحبة وعطاء وإحسانا. وهي السورة التي ذكرت بالتفصيل الأرحام: الأم، الأب، الأبناء، الإخوة، الأخوات، أبناء الإخوة وأبناء الأخوات، العمات، الخالات، الأخوات من الرضاعة، زوجات الآباء، الأزواج، الزوجات، الربائب، الكلالة، ولم يرد في سورة غيرها مثل هذا التفصيل لتحث على أهمية حقوق هؤلاء وأهمية الحفاظ على الصلة بهم تحت إطار حدود الله وشرعه. ومما ذكرته السورة من الأسباب التي تؤدي إلى التآلف والتآخي بين الناس:
رحمة الضعفاء (وآتوا اليتامى أموالهم) (وآتوا النساء صدقاتهن) (وإذا حضر القسمة أولو القربى..)
التواصل بين أفراد الأمة وشعاره الإحسان بالقول والفعل والعطاء (تكرر ذكر القول بصفاته: قولا سديدا، قولا معروفا، قولا بليغا) (وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى….) وأداء الأمانات والعدل بين الناس والتعامل معهم بالعدل فلا بد من إقامة العدل واجتناب الظلم لكي تتآخى النفوس وتصفو القلوب وتتوحد (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) فالعدل لا يكون بالميل العاطفي للظالم بل من العدل أن يؤخذ على يد الظالم لكي لا يتمادى في ظلمه فيثير في النفس الضغائن والحقد (ولا تكن للخائنين خصيما) ومن التآخي الإحسان بالتحية (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) والبعد عن النفاق لأن النفاق ينخر في العلاقات بين البشر وهذا الإحسان في التعامل فيما بين الأفراد نابع من إحسان العلاقة مع الله عز وجل بالحفاظ على الصلاة والتي هي رمز لهذه العلاقة وهي التي تزكي النفوس وتطهرها وتعلم الفرد الأدب ونقاء السريرة والطهارة.
ومن أسباب التآلف والتآخي بين أفراد الأمة المحافظة على الجبهة الداخلية بالقضاء على أي خلاف وردّه إلى حكم الله ورسوله وأولي الأمر (أطيعوا الله وسوله وأولي الأمر منكم)
وكذلك تأمين الجبهة الخارجية عن طريق الجهاد في سبيل الله لرفع راية الدين والانتصار للضعفاء والمظلومين ولو اقتضى ذلك هجرة في سبيل الله من أرض الكفر والشرك إلى أرض الإسلام (فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) (وما لكم لا تهاجروا في سبيل الله والمستضعفين ) وللجهاد ضوابط وقوانين وحدود ينبغي مراعاتها فلا يتمنى الفرد لقاء العدو ابتداء لكن إذا حصل اللقاء قالثبات مطلوب وعدم الفرار مطلوب والمحافظة على الصلاة مطلوبة ولو في ساحة القتال. والحذر من المنافقين مطلوب لأنهم يفتون عضد الأمة ويفرّقون وحدة الصفوف ويبثون الخوف والرعب في قلوب الناس (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) والحذر من التفرق إلى شيع وأحزاب (فما لكم في المنافقين فئتين…) وينبغي الحذر من قتل المسلم فهو من أكبر الكبائر وذكرت السورة كفارة القتل الخطأ في أحوال مختلفة ليتطهر القاتل وتصفو النفوس ويعطى القتيل حقه في الديّة
ةمن أسباب التأخي الحذر من الشيطان ومن وساوسه وكيده واتخاذه عدوا لأنه يريد أن يوقع بين الناس العداوة والبغضاء وقد نبّهت السورة من توعّد الشيطان لبني آدم (لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) وتحذرنا السورة من محاولات أتباع الشيطان من بني البشر (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما)
ومن أسباب التآخي والتآلف بين المسلمين عدم اتخاذ الكافرين أولياء وإنما الأصل أن المؤمنون بعضهم أولياء بعض فالكافر لا يريد لك نفعا ولا يحب لك الخير وإنما هدفه أن يسقطك إلى قعر كفره وضلاله وضياعه فتخسر كما سيخسر هو (لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين)
ومن أسباب التآخي عدم الجهر بالظلم لئلا تُشحن القلوب على بعضها البعض وإنما الأصل في حال الخلافات وعلى سبيل المثال الخلافات الزوجية أن يؤتى بحكم من الطرفين يكون في نيتهما الإصلاح فيصلحوا والله يوفقهم ويسددهم إذا صدقت النية وكذلك بين المتخاصمين الأولى أن يكون هناك حكماء يسعون في التوفيق بينهم لا أن يتدخل أناس يزيدون الشرخ بين القلوب والعداوة والبغضاء.
ومن أسباب التآخي والتآلف وحدة الأمة على شرعها وعلى التوحيد الخالص لله وقد افتتحت السورة بتذكير الناس أن اصلهم واحد وفي هذا إشارة إلى أن خالقهم واحد وإنهم سيرجعون إليه وحده كما خلقهم وحده فينبغي عليهم أن يكونوا أمة واحدة تؤمن بإله واحد ورب واحد لأن هذه الأمة الموحدة هي الأمة الخاتمة التي ستشهد على باقي الأمم ورسولها شهيد على كل الأمم (وجئنا بك على هؤلاء شهيدا)
ومن أسباب التآخي البعد عن أسباب الضلال وقد ختمت السورة ببيان الله تعالى شرعه للناس حتى لا يضلوا (يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم). وقد تكرر في السورة (ضلالا بعيدا) 4مرات
ومن أسباب التآخي معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلا والتي حشدت في آيات السورة بشكل واضح فإذا تعلقت القلوب بالله عز وجل الذي له الأسماء الحسنى حق التعلق فإنها بلا شك وبعون من الله ستتخلق بشيء منها في علاقتها مع الله تعالى أولا وفي علاقتها مع الناس أرحاما وأقارب وضعفاء وحتى مع الأعداء.
سورة النساء أسست لمجتمع متآخي متآلف متقٍ لله تعالى مؤمن بالمساواة بين البشر ليس عنده أدنى معطيات التفرقة الاجتماعية ولا التمايز الطبقي مجتمع عادل في أقواله وأفعاله بعيد عن الظلم مجاهد في سبيل الله وفي إعلاء كلمة التوحيد ونشر العدل وإعطاء الحقوق لأهلها وأداء الأمانات. وفي الحديث: اتق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن. وكأن هذا الحديث موجز لهذه السورة العظيمة بكل ما حوته من تعاليم وأوامر ونواهي.
التآلف والتآخي الذي تحث عليه سورة النساء يتمثل جليا واضحا في صلاة الخوف: تخيّل مقاتلون مجاهدون في سبيل الله على أرض المعركة وأرواحهم على أكفّهم ومع هذا يتقدم بعضهم للصلاة ويتأخر الباقون لحمايتهم ثم تُعكس الأدوار حتى يتم الجميع صلاتهم. أيّ محبة ورحمة وتآلف يصوره هذا المشهد؟!
حتى الدعوة إلى القتال في سورة الدعوة إنما هي تتناسب مع مقصد العدل والرحمة في السورة (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا (75)) تقاتل في سبيل الله وتقاتل في سبيل المستضعفين. فالقتال في سبيل الله هو من إقامة العدل وليس ظلماً، القتال بما شرع الله، الجهاد في سبيل الله ليس ظلماً وإنما هو من إقامة العدل في الأرض ولذلك لا ينبغي فيه تجاوز الحدّ ولذلك جاءت الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) القتال ليس لأخذ المال ولا لمجرد الشبهة وإنما هو لإقامة العدل ونصرة المظلومين. وضمن هذه الآيات ذكر حكم القتل الخطأ للمؤمن والقتل العمد للمؤمن وحكمه وهذا كله من إقامة العدل أعني إعطاء القصاص وقتل من قتل نفساً بغير حق إلى غير ذلك من أحكام.
في صحبة القرآن
سورة النساء
كثير من الناس يتعامل مع سورة النساء تعاملاً خاطئاً فهم يحملون همّها لأنها سورة طويلة ومليئة بالأحكام الفقهية والمواريث ويعتقدون أنها سورة لن تغير سلوكياتهم أو أخلاقهم والبعض يعتقد أنها تتحدث عن النساء فقط كما يوحي اسمها ولكن من إجلال الله عز وجل وتقديره للنساء سميت سورة كاملة باسم النساء وسميت سورة باسم مريم.
سورة النساء ليست مجرد سورة أحكام وإنما هي سورة لها معنى أخلاقي خطير جداً ومعنى قلبي فالنبي صلى الله عليه وسلم لما طلب من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن يقرأ عليه شيئاً من القرآن فقال: أقرأه عليك وعليك أُنزل يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سورة النساء حتى بلغ موضعاً قال له النبي صلى الله عليه وسلم حسبُك فنظر عبد الله بن مسعود فوجد النبي صلى الله عليه وسلم وقد غرق وجهه بالدموع وهذا الموضع هو قول الله عز وجل (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا {} يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا) لأن النبي صلى الله عليه وسلم استشعر هذه المعاني الجليلة العظيمة في سورة النساء وما فيها من المسؤولية فكل أمة ستأتي بشهيد ويأتي صلى الله عليه وسلم شهيداً عليهم. إحساس النبي صلى الله عليه وسلم وحبه لأمته كان يجعله في مثل هذه الآيات يبكي.
فسورة النساء ليست مجرد سورة أحكام، ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: فيها ثمان آيات خير مما طلعت عليه الشمس وغربت منها: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا {} يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) و(إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا) و(إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)
آيات كثيرة في هذه السورة المباركة فيها هذه المعاني الجليلة تجعل بعض الصحابة رضي الله عنهم عندما سمعوا قول الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) بكوا جميعاً وحرّكت المشاعر والتأثر في قلوبهم وفي مكنون أنفسهم.
هذه مقدمات تجعلنا نشتاق للسورة وتشعر أنك بحاجة أن تتأثر بها. آيات الأحكام في السورة تظهر عدل الله عز وجل الواضح في السورة، العدل الإلهي الذي يأمر الله عز وجل به عباده (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)) ليس فقط بين المؤمنين والمحبين وإنما بين الناس. أحكام سورة النساء وأحكام سورة البقرة تُشعر بعظمة العدل وعظمة التشريع المعجز وكمال هذه الشريعة وإحكامها. ومن أسماء الله سبحانه وتعالى الحكيم العزيز عزة الله عز وجل وحكمته نستشعرها من خلال آيات الأحكام.
ذكرنا أن سورة البقرة بناء عظيم جداً للأمة الجديدة بعد أن اصبح لها دولة في المدينة المنورة وسورة آل عمران سورة لحماية هذه الدولة وهذه الأمة من الأعداء الخارجيين الذين يتربصون بالأمة وذكرنا حرب الشبهات والعقيدة من غير المسلمين وحرب السيف أو الحرب المادية التي يعتدي بها أعداء الله على عباده. سورة النساء سورة تحمي المجتمع من نفسه ومن العدو الداخلي وأخطر عدو داخلي يهدم الأمة من أساسها هو الظلم (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا) وأيّ مجتمع ينتشر فيه الظلم فهو مجتمع على شفا جرف هار، على شفا الانهيار. الإنسان الذي يُظلم في بلده ومجتمعه وأمته ستختلجه مشاعر لا يمكن أن تسمح له ببناء أمة ولذلك قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: “إنَّ اللَّهَ يُقِيمُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً ؛ وَلَا يُقِيمُ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً” في دولة الظلم تشعر أنك لن تنال حقوقك ولن يكون لك مقام ولا مال يوازي ما فعلته والظلم مدعاة للكراهية والحقد والبغضاء والغل والحسد ويورث اليأس. فالطالب المجتهد الذي حصل على مجموع كبير في الجامعة وكان من أوائل الطلبة ثم يجد من عُيّن مكانه فيشعر بالظلم وييأس ولن يُبدع ولن يُنتج ولن ترتقي الأمة على أكتافه بما أن الذي يرتقي هو الذي عنده شفاعة سيئة وقد ورد ذكر الشفاعة السيئة في آيات سورة النساء (وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا) كما نسميها في عصرنا (الواسطة) التي تجعل الإنسان يأخذ حقاً غير حقه. آيات سورة النساء تعلمنا إعطاء كل ذي حق حقه، العدل مع كل طوائف البشر (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) كل الناس، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)) هذه الآية تصدرت جدار محكمة كبيرة في الويات المتحدة الأميركية لما فيها من العدل الشامل المطلق على كل الناس، العدل على الأقربين، على الضعفاء، على كل الناس كما قال صلى الله عليه وسلم “أتشفع في حد من حدود الله والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها” قالها لزيد رضي الله عنه عندما جاءه يشفع في حد من حدود الله على المرأة المخزومية التي سرقت. العدل شامل وقيمة مطلقة على الجميع، لا يمكن أن تكون دولة مسلمة وتظلم! والعدل يكون حتى على الأعداء كما ذكرت بعض آيات السورة، العدل مع أبغض الناس إليك ومع أشد الناس عداوة للذين آمنوا، عدل مع اليهود لأن العدل قيمة جعلها الله عز وجل في عباده.
هذه المعاني واضحة جداً في سورة النساء كما أبرزت السورة معنى الظلم وخطورة هذا الظلم ونهي الله عز وجل عنه (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (40)) قال أحد المفسرين لو أن العرب يعرفون مقداراً أدنى من الذرة لنفى الله عز وجل ما يوازيه من الظلم عن نفسه، فالله عز وجل يعلمنا (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)) ونحن نتعلم من السورة هذه القيمة وهذا المعنى العظيم من معاني العدل.
العدل أربع أنواع في هذه السورة:
أول نوع من أنواع هذا العدل هو العدل مع الضعفاء وسميت السورة باسمه. سميت السورة بسورة النساء تقديراً للمرأة وقيمتها والنساء هنا رمز للكائن المستضعف من حيث البنية والقوة والقوامة (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ (34)) وهذا قد يغري بعض الرجال أن يظلموا المرأة ويأخذوا حقها كما فعل العرب في الجاهلية فكانوا يعضلون النساء ويذروهن كالمعلقة ويظلموهن فالأصل أن المرأة كائن رقيق فكان لا بد أن يؤتى بحقها وحق الضعفاء وتسمى السورة باسمها كرمز لمن تغريه قوته ويغريه بطشه أن يظلم الضعيف أو المرأة أو العبيد والجواري فتأتي السورة تدعو للعدل مع الضعفاء، إياك أن تغريك قوتك أن تظلم مثل هؤلاء. ضعف المرأة جِبِلّي ولا بد من حفظ حقوقها، يقول الله عز وجل (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)) لكل واحد حقه. (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ (3) وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا (4)) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ (19)) وللأسف هذا لا يزال موجوداً. المؤمن يجب أن يعدل مع الضعفاء. من الضعفاء الذين أكدت السورة على حقهم حق البنت في الميراث فهي لها حق لا بد أن تأخذه. ومن الضعفاء اليتامى (وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ (3)) للأسف كثير يحفظ القسم الثاني من الآية (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) ولا ينتبه لما قبلها (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى) هذا أساسه للقسط في اليتامى وللعدل في اليتامى ورعاية هذا النوع من الضعفاء (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ (6)). شرع الله القتال نصرة لدين الله عز وجل، سورة النساء فيها سبب آخر شُرع لأجله القتال (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا (75)) القتال يكون أيضاً لنصرة المستضعفين ولإنقاذهم من الاستضعاف حتى تحقق لهم العدل (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) عندما تشعر بهول الظلم الذي حلّ بقوم وجب نصرتهم لأنهم مظلومين وضعفاء.
النوع الثاني من أنواع العدل: العدل مع الأعداء. وهو أصعب أنواع العدل لأن طبيعة الإنسان والشنآن والكراهية يمكن أن تغريه أن لا يعدل خصوصاً مع أشد الناس عداوة لذين آمنوا، الذين ذاق المسلمون من أفعالهم الأمرّين وهم اليهود (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ (8) المائدة). العدل مع الأعداء نجده في سورة النساء بشكل واضح جداً في قصة نزلت آيات الله عز وجل يوجه كلاماً للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويعلمهم قيمة العدل حتى مع اليهود. القصة باختصار تروى سرقة قام بها رجل أنصاري يسمى بشير بن أبيرق لدرع رجل من الأنصار يسمى رفاعة بن النعمان لكن هذا الرجل اتضح فيما بعد أنه منافق لكنه أمام الناس رجل من الأنصار، فما ذاع الخبر بدأ الناس تشك أن هذا الرجل سرق درع رفاعة بن النعمان فقام بشير بن أبيرق وبعض أنصاره بخدعة فأخذوا الدرع الذي سرقه من رفاعة بن النعمان ووضعوه في بيت رجل يهودي اسمه زيد بن السمين – ليس له دية لكن في المجتمع المسلم العادل له ديّة وله قيمة ويأخذ حقه رغم العداوة بين اليهود والمسلمين- هذه قيمة لا بد أن نتعلمها. وجد الدرع في بيت اليهودي زيد بن السمين والمفترض أن يعاقب بالسرقة لكن تنزل آيات من الله عز وجل تبرئ يهودي على حساب رجل أنصاري ارتد فيما بعد واتضح أنه كان منافقاً لكنه أمام الناس من الأنصار ومن عائلة كبيرة (بني أبيرق) ومع هذا لأنه عصى واقترف سوءاً ورمى به بريئاً نزلت آيات تبرّئه وتجده يسمى في هذه السورة (بريئا) (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا (112)) البريء هو اليهودي. علينا أن نتعلم من الآيات (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً (105)) هذا كلام للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم بالحق ولا يكن للخائنين خصيماً (وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (106)) لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بما رأى، وجد الدرع في بيت اليهودي، لكن العدل الإلهي تنزل الآيات به (وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107 يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)) الآيات تبرئ اليهودي (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا (112) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)) موقف عجيب، موقف عدل مع أشد الناس عداوة لنتعلم أنه مهما بلغ الكره لأحد لا بد من العدل معه لا بد من التعامل معه من منطلق أخلاق الإسلام لا من منطلق العداوة معه، وهذا ما نتعلمه من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومن هدي أصحابه عندما جاء الرجل اليهودي احتكم إلى عمر بنالخطاب ضد علي ابن أبي طالب وحُكم لليهودي لأن هذا عدل مطلق مع الناس جميعاً.
النوع الثالث من العدل هو العدل مع الأولياء الأقربين كما في قول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)) وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم “لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها”
النوع الرابع من العدل: العدل مع أصحاب الحقوق، صاحب الحق يأخذ حقه ولصاحب الحق مقال ” إن لصاحب الحق مقالاً”. السورة تعطي كل ذي حق حقه فتقسم المواريث. بعض الناس للأسف يشكك ويقول كيف يكون للذكر مثل حظ الانثيين؟ لكن غفلوا عن الآيات قبلها (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ (34)) الرجال هم الذين ينفقون فالمرأة إما لها أب ينفق عليها أو ابن ينفق عليها أو زوج ينفق عليها أو أخ ينفق عليها وإن لم يكن لها أحد سترث لوحدها، في الأصل إن كانت المرأة غير معيلة فلا بد أن يكون لها من يصرف عليها، وليّ لها، فالمرأة عندما ترث النصف لا ترثه لأنها مكلفة بأن تصرف منه ولكن هذا قمة العدل أن المرأة في الإسلام ليست مكلفة بالإنفاق إلا ما طابت به نفسها. أما الرجل ينفق على زوجه وابنته ومن له ولاية عليهم. وهذا المعنى أهم من معنى فكرة المساواة التي يحاول بعض الناس نشرها، فكرة المساواة المطلقة خطأ، إذا كانت أمام القانون والحدود فهي واجبة حتى لو كانت مع أقرب الناس لكن كيف تكون المساواة في الحقوق بين من يتعب ويعمل وبين من لا يعمل؟! العدل الموجود في سورة النساء هو إعطاء كل ذي حق حقه لا مساواة مطلقة. العدل حتى مع الناس الذين أعتقوا بعد فترة (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)) حتى الذي يحضر قسمة الميراث (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا (8)) أعطوهم وأعينوهم على ذلك.
نتعلم من السورة أن أخطر ما يقوم عليه المجتمع المسلم هو العدل ومن أخطر الأعداء الداخليين الظلم. وذكرت السورة أعداء داخليين آخرين منهم المنافقون وعلاقتهم باليهود وبمن يريد أن ينخر جسد الأمة من الداخل فنجد في السورة كلاماً عن النفاق (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا (27)). من الأعداء الداخليين أيضاً مسألة التفكك الأُسري وهي موجودة في السورة.
أهم قيمة نقف معها في السورة قيمة العدل المطلق مع الجميع بأنواعه الأربعة العدل مع الضعفاء ومنهم النساء والعدل مع الأولياء الأقربين حتى الوالدين والعدل مع الأعداء والعدل مع كل صاحب حق. هذه القيمة يقوم بها المجتمع المسلم فإن لم توجد يكون الظلم والحقدد والغل والحسد الذي هو أساس نخر المجتمعات وهدمها.