سورة طه مكية أيضاً مثل سورة مريم, ومحور السورة يتمثل في الآية الأولى من السورة: (طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) آية 1 و 2 وكأنما سبحانه يريد أن يطمئن رسوله r وأمته من بعده أن هذا المنهج لم يأت حتى يشقى الناس به؛ إنما هو منهج يضمن السعادة لمن تبعه وطبّقه, وإنما هو تذكرة وهوسبب السعادة في الدنيا والآخرة, فلا يعقل أن يكون المؤمن شقياً كئيباً مغتمّاً قانطاً من رحمة الله مهما واجهته من مصاعب ومحن في حياته وخلال تطبيقه لهذا المنهج الربّاني, فلا بد أن يجد السعادة الأبدية بتطبيقه. وهذا هو هدف سورة طه.
وهذا المنهج الذي أنزله الله تعالى لنا إنما جاء من عند (الرحمن) فكيف يعقل أن يكون فيه شقاؤنا. وكلنا يعلم معنى كلمة الرحمن. وقد تكررت في السورة كثيراً فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما يرحم خلقه أجمعين.
وهذه الآية تؤكد وجود مصاعب في الحياة ومحن وتذكر لنا قصة موسى u وتعرض لنا ما واجهه لكن دائماً تأتي الآيات فيها رحمة الله تعالى بين آيات الصعوبات والمحن, قال تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) آية 39. فالمؤمن القائم على منهج الله تعالى في سعادة ولو كان في وسط المحن, فالسعادة والشقاء مصدرها القلب وقد يعتقد البعض أن من سيلتزم بهذا المنهج والدين سيكون شقياً لا يخرج من بيته ولا يضحك ولا يخالط الناس, وهذا هو السائد في أيامنا هذه, وقد يكون هذا السبب الوحيد الذي يمنع الكثير من المسلمين من تطبيق المنهج؛ لأن عندهم فكرة مغلوطة عن حقيقة السعادة والشقاء في تطبيق منهج الله.
سيدنا موسى u عرف هذا المعنى فكان دائماً يدعو ربه ليشرح له صدره مهما كانت الصعوبات التي سيواجهها (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) آية 25، حتى سحرة فرعون لمّا آمنوا بالله تعالى, ورغم أنهم تعرضوا للأذى من فرعون إلا أنهم علموا أنهم سيحصلون على السعادة الحقيقية بتطبيق المنهج في الدنيا والآخرة قال تعالى: (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) آية 72 و(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) آية 75 مع أن الموقف كان شديداً في مواجهة فرعون لكنهم أحسوا بالسعادة التي تغمرهم باتباع الدين.
أما فرعون فكان في شقاء حياً وميتاً وعندما تقوم الساعة أدخوا آل فرعون أشد العذاب. إذن موسى والسحرة كانوا سعداء وفرعون هو الشقي, وذلك لأنهم استشعروا السعادة في قربهم من الله تعالى وتطبيق منهجه الذي فرضه.
التعقيب على القصة:
قال تعالى: (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ) آية 100 و101 تعلّق الآيات على مفهوم السعادة وتعطي نموذج لمن لا يطبق منهج الله تعالى كيف سيكون في شقاء, وفي نفس المعنى يقول سبحانه وتعالى: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ) آية 111-112
قصة آدم وحواء : السعادة في المنهج:
تعرض الآيات نموذج آدم u وكيف أن السعادة الحقيقية تكون في طاعة الله تعالى فلا شقاء قال تعالى: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) آية 117.
الشقاء بترك المنهج:
قال تعالى: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) الآيات 123 إلى (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) آية 126. ونلاحظ تكرار كلمة يشقى في السورة كثيراً. فالله تعالى يقول: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) وهذا كلام الله أفلا نصدقه؟ يجب أن نصدقه لأنه القول الحق وأنه من يَعرض عن ذكر ربه سيكون شقياً في الدنيا والآخرة. فعلينا أن نتبع هدى الله تعالى لنحظى بسعادة الدارين؛ فالمؤمن في سعادة في الدنيا وسعادة في الآخرة.
التعقيب الأخير:
رضا الله تعالى هو أعلى درجات السعادة التي علينا أن ندركهها قال تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) آية 130.
سبب التسمية:
سميّت السورة (سورة طه) وهو اسم من أسماء المصطفى الشريفة على بعض الأقوال تطييباً لقلبه وتسلية لفؤاده عما يلقاه من صدود وعناد ولهذا ابتدأت السورة بملاطفته بالنداء (طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى).
سورة طه: قال تعالى في أولها: (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)) إذن إنزال القرآن، وفي آخرها قال تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130))
هناك (قراءة قرآن) وهنا (تسبيح)، في الأول قال: (لتشقى) وفي الآخر قال: (لعلك ترضى) والرضى نقيض الشقاء، إذا كان راضياً يعني ليس شقياً، إذا رضي عليه فليس شقياً، هذا أولاً لعلك ترضى لا لتشقى. ثم قال تعالى: (لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)) من رزقه الله هل يكون شقياً؟ لا والله. قال في أواخر السورة: (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)) يعني هم أرادوا تذكرة وقالوا: (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) وقال: (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) فالتذكرة جاءتهم، هم أرادوا التذكرة وقد جاءتهم التذكرة. ثم قال: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)) وهو قال تعالى: (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4)) ما سألتموه موجود: أردتم التذكرة، تذكرة لمن يخشى أردتم الرسول r، أنت يا محمد سبِّح ولعلك ترضى وما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ونحن نرزقك والعاقبة للتقوى.
قال تعالى في خواتيم سورة مريم: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)) والضمير هنا يعود على هذا القرآن, وقال في بداية سورة طه: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2)) أي ما أنزلناه إلا لتبشر به المتقين لا لتشقى. وكأن الرسول r كان يحمِّل نفسه الكثير.
وقال سبحانه في خواتيم سورة مريم: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)) وفي سورة طه قال سبحانه: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)) فما فيهما ومن فيهما له سبحانه، فكل ما في السموات وما في الأرض له سبحانه ومن فيهما هم عباده, ولهذا قال (إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) الكل سوف يأتي الله سبحانه وتعالى, وجملة (له ما في السموات والأرض) يعني الملكية, ومن في السموات هم عباده.
وفي ختام مريم قال (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)) وفي بداية سورة طه ذكر (قصة فرعون) إلى أن قال سبحانه: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)) فقوله تعالى: وكم أهلكنا، أي خذوا فرعون مثلاً .
ومن ثم فإن السورة وحدة واحدة, كل سورة تسلم لما بعدها.
قال تعالى في خواتيم طه: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)) ما هو الأجل؟ الأجل هو القيامة وفي أول الأنبياء قال: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)). قال في خواتيم طه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)) نسيتها يعني أعرض عنها وفي الأنبياء قال: (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) إذن ذكر الإعراض في السورتين.
قال تعالى في طه: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)) وقال في الأنبياء: (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)) ذكر ماذا قالوا فاصبر على ما يقولون. قال في أوائل الأنبياء (فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)) وفي طه قال: (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)).
سورة مريم تضرب لنا أمثلة من أولياء الرحمن وكيف أعطاهم الله عز وجل جزاء عظيماً وهدايات عظيمة وعطاءات كريمة لبطولاتهم الإيمانية والتعبدية لله عز وجل وفي ختام السورة ذكر كيف عاقب الله عز وجل أهل الطغيان والنكران الذين ادّعوا لله عز وجل الصاحبة الولد وكيف أن المخلوقات عندها الولاء والبراء عندها الغضب لله والحب في الله والبغض في الله وهي أوثق عرى الإيمان كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ﴿٨٨﴾ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ﴿٨٩﴾ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ﴿٩٠﴾ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ﴿٩١﴾) الجبال والسموات والأرض تأثرت بهذا القول على الله عز وجل.
اليوم نتحدث عن سورة طه وهي من السور المكية العظيمة التي فيها جو مهيب ينضح بالأمل الخارج من قلب الألم، كيف أن الإنسان يكون في عذاب ويرى أنه في خير وليس في شقاء ولهذا علينا أن تكون بداية السورة راسخة في قلوبنا معتقدين إياه. البعض يظن لو تقرب من الله عز وجل والتزم بالدين سيعيش في عذاب وشقاء وهذا في الحقيقة مخالف لما ذكره الله عز وجل في بداية سورة طه (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) هذا الكتاب ليس للشقاء ولا للعنت. القاعدة في الحياة أن الإنسان يعيش في كبد (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) البلد) لكن الخروج من هذا الكبد يكون من خلال الدين والعيش في كنف دين الله عز وجل وتقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
تكرر في سورة طه مفردات الشقاء والضنك أكثر من مرة، ورد ثلاث مرات: (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) والموضع الثالث (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى). نُفي الشقاء في موضعين وأُثبت في موضع واحد.
نُفي الشقاء حال ملازمة القرآن (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) لن تشقى مع القرآن ولن تتعب ولو أن ظاهر الأمر كان فيه تعب وعنت فمع القرآن أنت كأنك تعيش في جنة
ونفي الشقاء حال اتباع منهج الله عز وجل (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) الضنك مرادف من مرادفات الشقاء. الشقاء للذي سيعرض عن جنة الدنيا وهي ذكر الله عز وجل سيعيش حياة ضنكا
وأُثبت الشقاء حال الخروج من الجنة (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) وجنة السماء لما نزل منها آدم عليه السلام أثبت الشقاء.
الشقاء خارج الجنة والنعيم داخلها في الدنيا والآخرة، هناك جنة في الدنيا وجنة في الآخرة، جنة الدنيا وتستطيع أن تلمس الكثير من متاع الجنة ولذاتها وأنت في الدنيا، ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لو أن أهل الجنة يجدون ما نجد فما أطيب عيشهم. وجود شعور إيماني في لحظة ما، سجدة خاشعة بين يدي الله عز وجل. وقال الحسن البصري: لو يعلم أبناء الملوك والسلاطين ما نحن فيه لجاهدونا عليه بالسيوف. هناك في الدنيا من يتلذذ بالجنة، قال تعالى في سورة النبأ عن أهل الجنة (لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا (36)) وفي آية ثانية (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) الواقعة) هذه من صفات أهل الجنة لا يسمعون لغواً ولا تأثيماً ومن يعش في الدنيا معرضاً عن اللغو فقد تمتع بنعيم من نعيم الجنة. ومن نعيم أهل الجنة (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) الحجر) الأخوة في الله ونزع الغل لو طبقته في الدنيا ستتمتع بنعيم من نعيم أهل الجنة. من نعيم أهل الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم: “يُلهمون فيها التسبيح كما تُلهمون النَفَس” وفي رواية ” يُلهمون فيها التسبيح والتحميد كما تُلهمون النَفَس وفي رواية ثالثة “يُلهمون فيها التسبيح والتكبير كما تُلهمون النَفَس” أهل الجنة يسبحون ويكبرون ويحمدون الله جل وعلا كما نتنتفس نحن هذا من متعهم ونعمهم فنفهم أن الذكر نعمة ولذة من لذات أهل الجنة. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة. معناه أننا يمكن أن ندرك شيئاً من نعيم الجنة ونحن في الدنيا وأن نزيل شقاء من شقاء الدنيا بذكر الله ولذلك ذكر الله عز وجل في سورة طه متكرر، الذكر والنسيان متكرر في السورة لأن هذا نعيم الدنيا والذي يزول به الشقاء في الدنيا وجنة الآخرة لا نصب فيها ولا تعب ولا لغوب ولا أذى ولا شقاء من شقاء الدنيا. والذكر ليس مجرد الذكر اللساني وإنما يجب أن يكون فرعاً عن معرفة الله عز وجل لا ينفع ذكر إذا كان مجرد تكرار للكلام فقط، الذكر الحقيقي لا يكون إلا بمعرفة الله سبحانه وتعالى، فإذا تعرّف الإنسان على الله عز وجل حينئذ فقط يتلذذ بالذكر ويشتاق إلى الذكر وينعم بالذكر وهنا يعيش جنة الدنيا.
كيف نزيل هذا الشقاء من الدنيا؟ من خلال جنة معرفة الله وذكره والتقرب إليه ومناجاته وعبادته وشكره وحمده وهذا يكون من خلال معرفة الله عز وجل ولذلك آيات السورة تمتلئ بالكلام عن معرفة الله من خلال ثلاث طرق وهي الطرق الرئيسية للتعرف على الله عز وجل في سورة طه:
أولها وأهمها وأخطرها أن تتعرف على الله عز وجل من خلال كلامه من خلال آياته المقروءة والمسموعة، أن يعرّفك سبحانه وتعالى بنفسه من خلال وحيه المنزّل. وفي السورة كلام طويل عن تعريف الله عز وجل لنفسه من خلال كلامه
الطريق الثاني للتعرف على الله عز وجل من خلال آياته المرئية (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (50) الروم) تستدل على آثار رحمة الله عز وجل من خلال خلقه وتنر إلى آثار هذه الرحمة وكيف يحيي الأرض بعد موتها وهذا موجود في سورة طه.
الطريق الثالث كيف تتعرف على الله عز وجل من خلال معاملته
فإذا عرفت الله عز وجل تأتي نتائج، كيف تكون بعد معرفة الله عز وجل وما هي ثمرات ونتائج هذه المعرفة وثمرات التمتّع بجنة الدنيا التي فيها معرفة الله عز وجل
أول طريق من طرق معرفة الله عز وجل أن يعرّفك الله عز وجل بنفسه من خلال كلامه من خلال وحيه المنزّل وآياته المقروءة والمسموعة والسورة تحتشد بهذا النوع. في السورة تجد فيها كلاماً لربنا سبحانه وتعالى عن نفسه فتبدأ السورة (طه ﴿١﴾ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ﴿٢﴾ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴿٣﴾ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا ﴿٤﴾) صفة الخَلْق، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) اسم الله الرحمن، (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) الملك الكامل له، شمول تام لملك الله عز وجل له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) صفة العلم، يذكر الله سبحانه وتعالى لنا صفاته تباعاً (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) سواء جهرت بوتك أو أخفيت أو أسررت فالله عز يعلم السر ويعلم ما هو أخفى من السر ويعلم ما تخفي الصدور ويعلم ما تنوي أن تفعله (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى). (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى) التعرف على الله من خلال أسمائه الحسنى، يعرّفك الله سبحانه وتعالى بنفسه. يعرّف الله سبحانه وتعالى نفسه لموسى عليه السلام (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) تعريف بنفسه وفي آية أخرى (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) وفي آية أخرى (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴿١١٠﴾ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ﴿١١١﴾) ويعرفنا بنفسه بقوته من خلال آياته التي ذكرها في سورة طه، آياته في الآخرة وأفعاله في الآخرة (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ﴿١٠٥﴾ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ﴿١٠٦﴾ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ﴿١٠٧﴾ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ﴿١٠٨﴾) ترسيخ في السورة لأسماء الله، لمعاني أسماء الله لرحمة الله ولقدرة الله ولتمام العلم وتمام الملك. أفضل ما تتعرف به على الله سبحانه وتعالى هو من خلال كلامه أن تقرأ القرآن بنية معرفة الله عز وجل تجد أن أغلب آيات القرآن تنتهي بصفة من صفات الله تتعرف على الله عز وجل من خلال آياته المقروءة أو آياته المرئية.
الطريق الثاني لمعرفة الله عز وجل هو طريق التدبر والتأمل والنظر في آيات الله الكونية وهذه طريقة من الطرق التي دلّ موسى عليه السلام عليه من خلالها ومن خلالها اهتدى السحرة التي ذكرت قصتهم بالتفصيل في هذه السورة اهتدوا من خلال النظر للآيات المرئية، السحرة سمعوا كلام موسى عليه الذي دعاهم ودلّهم على العقيدة الصحيحة لكن الإيمان الحقيقي والإيمان بالله عز وجل والتأثر كان بعد أن رأوا آيات الله عز وجل المرئية التي بدأت بقول الله عز وجل (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴿١٧﴾ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ﴿١٨﴾ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ﴿١٩﴾) آية عملية مرئية، (فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴿٢٠﴾) موسى ولّى مدبراً كما ذكر القرآن في آية أخرى ولم يعقّب، موقف صعب جداً، عصا تحولت إلى حية عملاقة جداً، فالموقف مرعب جداً. تستمر الآيات (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى) قيل تخرج بنور وقيل كان فيها مرض أو بصر فرجعت سليمة أياً كان المعنى فهي آية أخرى (آَيَةً أُخْرَى ﴿٢٢﴾ لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى ﴿٢٣﴾) نريك، والسحرة لما رأوا هذا وهم كانوا أهل سحر وعرفوا أن الذي جاء به موسى حقيقي أول ما رأوا الآية أمامهم خروا لله سجداً مباشرة (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴿٧٠﴾ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ).
وهنا وقفة: هل تحول العصى إلى ثعبان أعظم من تحول النطفة إلى إنسان؟ نسال أنفسنا هذا السؤال، أو البذرة لما تتحول إلى شجرة؟ أليست آية؟ لماذا سجد السحرة لله عز وجل لما رأوا آية العصى وكان إيمانهم راسخاً وضحّوا تضحيات عظيمة وصبروا على أذى شديد للغاية وكانوا يعلمون أن النطفة تتحول إلى إنسان؟! الفرق هو إلف العادة، فكلنا يعرف أن النطفة تتحول إلى طفل رضيع ثم يكبر وأن البذرة تتحول إلى شجرة لكن لو تفكرنا لحظة لن نجد فرقاً فهذه آية وهذه آية عظيمة من آيات الله عز وجل. الفرق هو العين المتدبرة فلك منا يمكن أن يرى آيات من آيات الله عز وجل في الكون في السماء لذلك لما أراد موسى عليه السلام أن يدل فرعون على الله عز وجل بدأ يذكر له هذه الآيات التي يعرفها فرعون (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ﴿٤٩﴾ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴿٥٠﴾) معرفة الله من خلال آياته التي يعرفها فرعون وغيره (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) أعطى السلحفاة خلقها ثم هداها إلى رزقها، أعطى النملة خلقها ثم هداها إلى رزقها ولو بقينا نتدبر في الإعجاز العلمي في الخلق وكيف أن كل مخلوق يعرف ما الذي يصلحه ويصلح له وكيف أن النملة تكسر البذرة المعينة إلى نصفين حتى لا تنبت حين تخزينها وتقسم بذرة ثانية إلى أربع، في الكون آيات عظيمة! (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ﴿٥١﴾ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴿٥٢﴾ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ﴿٥٣﴾ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴿٥٤﴾) أولي العقول الذين يتدبرون ويتأملون (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى). السحرة لما رأوا آيات الله عز وجل سجدوا ونحن نريد أن نسجد لما نرى آيات الله وننظر إلى آثار رحمته وهو الطريق الثاني لمعرفة الله عز وجل
الطريق الثالث نحتاج أن نتأمل فيه وننظر إليه. كلنا يعرف مدى حبّ والدته له، كيف عرفت؟ هل أخبرك أحد بذلك أو قرأته في كتاب؟ الجواب أنت عرفت من خلال معاملتك مع أمك، علمت من خلال معاملتها لك ومن خلال ما رأيته من محبتها، ومهما قرأت عن حب الأم أنت تعرفه عملياً ولله المثل الأعلى، فالله عز وجل من أهمل طرق معرفته التعرف من خلال المعاملة، من معاملة الله عز وجل ولذلك في السورة نجد أن الله سبحانه وتعالى يدل موسى عليه السلام على نفسه فيقول (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ﴿٣٧﴾ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ﴿٣٨﴾ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴿٣٩﴾) كلمات تذيب القلب، يذكره الله عز وجل لما كان مرمياً في التابوت في البحر فحفظه الله سبحانه وتعالى. في البداية ألقيت عليك يا موسى محبة مني حتى تحبك امرأة فرعون وتربيه عندها. الله عز وجل يعرّفك بنفسه من خلال نعمه عملياً من خلال المعاملة. (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ) في سورة مريم قال تعالى (وقري عينا) وهنا (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا) الودود سبحانه وتعالى يريد أن يقر عين عباده الصالحين. (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ﴿٤٠﴾ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴿٤١﴾) ما أجملها من كلمات: ولتصنع على عيني، وأنا اخترتك، واصطنعتك لنفسي، والقيت عليك محبة مني. لما تتأمل كل هذه الكلمات تعرف ربك سبحانه وتعالى بعد كل هذه المعرفة لا بد أن تكون هناك نتائج وثمرات. البعض يردد كلمة (أنا أعرف الله) ولكن لا يظهر على حاله ثمرات هذه المعرفة، لا يظهر رياء وإنما آثار معرفة الله عز وجل تظهر على حياتك تراها أنت في ثقتك بالله عز وجل وفي قوتك في التعامل مع أهل الباطل وفي عجلتك لارضاء الله عز وجل كما قال موسى عليه السلام (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى). في سورة طه سنجد آثار معرفة الله عز وجل: الثقة وعدم الخوف وقد ورد في السورة النهي عن عدم الخوف أربع مرات (قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ) (إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى) (قَالَ لَا تَخَافَا) (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى) (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى) (لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى) لأن من ثمار معرفة الله سبحانه وتعالى أن لا تخاف من أحد ولذلك موسى عليه السلام في بداية السورة ولى مدبرا ولم يعقب بجسده بعدها (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى) ذكر خوفه كلاماً ثم بعدها صار الخوف في نفسه (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى) ثم بعدها تمام الثقة بالله وعدم الخوف (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) الشعراء). والثقة واضحة في كلام السحرة لما هددهم فرعون بقطع ايديهم وأرجلهم من خلاف قال (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿٧٢﴾ إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴿٧٣﴾) الثقة بالله عز وجل والقوة والغضب لله عز وجل والغيرة. موسى عليه السلام لما رجع (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا) لما رآهم يعبدون العجل (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي) كلما ازداد معرفة الإنسان بالله عز وجل ازدادت غيرته على حرماته وازداد غضبه لله عز وجل والغب هنا شعور إيجابي على خلاف العادة فالغضب معظمه مذموم إلا الغضب لله عز وجل قال النبي صلى الله عليه وسلم إن المؤمن يغار والله أشد غيرة وغيرة الله أن تُنتهك محارمه. ومن آثار معرفة الله عز وجل أن تظهر هذه الآثار في العبادة، تظهر بالشوق إلى الله عز وجل ولذلك نجد التوجيهات الربانية بعدما عرّف نفسه سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) توجيه بالعبادة (لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى ﴿٢٣﴾ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿٢٤﴾) وتوجيه للدعوة إلى الله عز وجل هذه من أهم آثار معرفة الله عز وجل أن تعبده وتكون مقبلاً عليه بقلبك وتقول كما قال موسى عليه السلام (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) فتكون راغباً في التقرب إلى الله عز وجل وعبادته، موسى عليه السلام قال (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ﴿٢٩﴾ هَارُونَ أَخِي ﴿٣٠﴾ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ﴿٣١﴾ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴿٣٢﴾ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ﴿٣٣﴾ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ﴿٣٤﴾ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ﴿٣٥﴾) نريد أن نذكرك ونسبحك. وكلمة الذكر تكررت في السورة كثيرا (وَنَذْكُرَكَ) (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي) (وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) (فَنَسِيَ) النسيان والذكر موجود في السورة. التوجيه الثاني بعد التوجيه بالعبادة هو التوجيه للدعوة إلى الله عز وجل وأول ثلاثة أوامر في القرآن:
العلم: أن تعرف الله عز وجل (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)
ثم يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) توجيهات للدعوة وكذلك التوجيه لموسى عليه السلام بدعوة فرعون (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ) والدعوة للعبادة (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) كل هذا موجود من خلال المعرفة من خلال القرآن والسورة مليئة بالكلام عن القرآن.
هذه الطرق الرئيسية لمعرفة الله سبحانه وتعالى الطريق الأول أن تعرف الله من خلال كلامه، الطريق الثاني من خلال آياته المرئية في الكون والتدبر والطريق الثالث أن تعرف الله من خلال معاملته عندها تأتيك الثقة بالله عز وجل فلا تخاف إلا من الله عز وجل، تتوكل على الله عز وجل، تغضب لحرمات الله عز وجل، تدعو إلى الله عز وجل، تعبد الله وتعجل إليه وتشتاق إليه.
🔸سورة طه نموذج دعوة طاغية عصره فرعون الذي تربى موسى في قصره منذ كان وليدا إلى أن خرج هاربا.. وفي مثل هذه الدعوة قد يعتري الداعية الخوف وهو شعور طبيعي من مقتضيات الطبيعة البشرية لكن السورة أرشدت إلى الزاد المعين على التغلب على الخوف ألا وهو الدعاء لله عزوجل (رب اشرح لي صدري ويسّر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي)
الصحبة المعينة على أداء المهمة (هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري)
(كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا)
كل هذا الدعاء لأداء مهمة (اذهب إلى فرعون إنه طغى) ومن طغيانه أنه قتّل أبناء بني إسرائيل ليوقف ميراث الكتاب فأبى الله إلا أن يستمر الميراث رغما عنه وفي قصره وتحت عينه ثم يقضي الله أن يقطع ميراث الظلم بغرق فرعون وتستمر الرسالة بأمر الله عزوجل…
(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ (16) طه)
ملخّص الحياة والمهمة وعوائق الطريق ثم المآل…
📮رسالة سورة مريم وسورة طه:
الدعاء والرحمة والحنان والحرص على استمرارية ميراث الكتاب هي سلاح المؤمن الداعية في بيته وخارجه، بها يطرق القلوب وبها يقتحم أخطار الدعوة مستعينا بالله لا يخاف دركا ولا يخشى…
كلمات مفتاحية
افتتحت سورة مريم ((ذكر) رحمت ربك عبده زكريا)
تكرر فيها:
(واذكر في الكتاب مريم)
(واذكر في الكتاب إبراهيم)
(واذكر في الكتاب موسى)
(واذكر في الكتاب إسماعيل)
(واذكر في الكتاب إدريس)
(أولا يذكر الإنسان..)
والذكر عكس النسيان فناسب مجيء (وما كان ربك نسيّا)
هذا والله أعلم
#رمضان_١٤٤٢
#الجزء_١٧
#وقفات_تدبرية
#رمضان_١٤٤٢
#وقفات_تدبرية
#الجزء_١٧
(ذلك ومن يعظّم شعائر الله فإنها من [تقوى القلوب])
(ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)
لم ترد إلا في سورة الحج سورة معالجة القلوب بالتوحيد..
(ما قدروا الله حق قدره)
(وجاهدوا في الله حق جهاده)
لم ترد إلا في سورة الحج
من قدر الله حق قدره وحّده وعظّمه وعظّم حرماته وشعائره فهان عليه بذل النفس والمال جهادا في سبيله..
في سورة الحج:
(والقاسية قلوبهم)
ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)
في رحاب سورة
د. محمد صافي المستغانمي
قناة الشارقة – 1436 هـ
الحلقة 5 – تكملة سورة مريم والبدء بسورة طه
تقديم الإعلامي محمد خلف
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
يعرض مساء الأحد الساعة 9 ليلا بتوقيت مكة المكرمة ويعاد الإثنين الساعة 11.30 ظهرًا.
المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل الخير، هانحن نلتقي بكم مجددًا في حلقة جديدة من حلقات برنامجكم القرآني “في رحاب سور القرآن”، ولا زال الحديث حول “سورة مريم”، كنا قد توقفنا عندها في الحلقة الماضية مع ضيفنا فضيلة الشيخ الدكتور محمد صافي المستغانمي.
دكتور تقريبًا أتممنا “سورة مريم” إلا أن هناك بعض الإشارات البسيطة؛ من بينها حينما يقول الله -سبحانه وتعالى-: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا)[مريم: 62]، الاستثناء هنا؛ استثنى السلام من اللغو، فهل السلام من جنس اللغو، كيف يستقيم هذا؟.
د. المستغانمي: هذا النوع من الاستثناء -في الحقيقة- يراد به معنىً بلاغيًا رائعًا، عندما يقول: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا) في الجنة لا يوجد لغو أبداً، عندما يصف الجنة لا يوجد لغو؛ أي كلام لا قيمة له، لا معنى له، لا يوجد، (لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ)[الطور: 23]، وفي آية: (إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا)[الواقعة: 26]، هنا: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا) يعني كأنه يقول: لا يسمعون فيها لغوًا لكن سلامٌ سلام فقط. هذا في البلاغة العربية يُسمى “تأكيد المدح بما يشبه الذم” أقول لك بيتاً، النابغة الذبياني قديمًا في الشعر العربي – يصف قومًا ويمدحهم- يقول:
ولا عيب فيهم إلا أن سيوفهم ***
الواحد يسمع ويقول: عندهم عيب؟!
*** بهن فلول من قراع الكتائب
المقدم: هذا مدح كذلك.
د. المستغانمي: نعم، بارك الله فيك، هذا من هذا القبيل، هو يمدحهم يمدحهم ثم يقول:
ولا عيب فيهم إلا أن سيوفهم *** المستمع يتوقع يقول: لهم عيب، خير إن شاء الله!! ** بهن فلولٌ من قراع الكتائب.
فلولٌ: أي مقطوعة قليلاً. ترقى في مدحهم، القرآن أولى وأجل، (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا) ترقى(إِلَّا سَلامًا) هذا من تأكيد المدح بما يشبه الذم، هذا موضوع كبير.
المقدم: إذن الآن خلاصة “سورة مريم” قبل أن نلج “سورة طه”.
د. المستغانمي: أنت مستعجل على “سورة طه” ما شاء الله.
المقدم: أنا مستعجل على “سورة طه” وفي ذات الوقت “سورة طه” فيها الكثير كذلك من الأسرار التي يجب أن نقف عندها ونريد أن نعرف كذلك سياقها العام، لكن دعنا نُجْمِل الحديث الآن عن “سورة مريم” قبل أن نغادرها، ما الذي تتسق به “سورة مريم”؟
د. المستغانمي: في الحقيقة أشرنا إلى بعض من ذلك:
أولًا: “سورة مريم” محورها العام هو الرحمة، التي أفاضها الله على أنبيائه وعلى خلقه جميعًا:
– الرحمة التي تجلّت في مولد “يحيى”.
– الرحمة التي تجلّت في خلق عيسى عليه السلام.
– الرحمة التي تجلّت في حوار إبراهيم مع أبيه.
ثم العبودية من بدايتها إلى نهايتها، لو أننا فصّلنا فيها القول:
-(ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)[مريم: 2].
عيسى لما نطق: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)[مريم: 30].
– (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)[مريم: 95]،(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)[مريم: 93]، خط العبودية، فهؤلاء الكوكبة الذين ذكرهم من الأنبياء كانوا عبيدًا وعباداً لله سبحانه وتعالى.
الذي فقط أريد أن أشير إليه هو: أن قالبها اللفظي فيه تناسق عجيب، وأنا أُحضِّر لهذه الحلقة:
– نجد مثلاً في بدايتها زكريا يقول: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)[مريم: 4]، “إبراهيم” أيضًا لما خاطب أباه قال: (عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)[مريم: 48]، كرّرها.
– “زكريا” لما دعا قال: (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)[مريم: 6]، عن ابنه الذي سوف يهبه الله له، “يحيى”. لما تحدّث عن إسماعيل قال: (وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)[مريم: 55]، أضاف له الميم هنا إضافة في المبنى وإضافة في المعنى أيضًا.
– لما تحدث عن “يحيى” قال: (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا)[مريم: 7]، لما تحدّث عن اسم الله قال: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)[مريم: 65]، فثمة تناسق كثير.
– (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)[مريم: 21] في قصة “عيسى”، و(هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)[مريم: 9] في قصة “يحيى” ومولده.
– أوحى زكريا لقومه (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)[مريم: 11]، في الوقت نفسه: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)[مريم: 62] في الجنة.
نجد رد العجُز على الصدر، هذا من الاتّساق الجميل جدًا، (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا)[مريم: 14]، عن يحيى، (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا)[مريم: 44]، هذا يعطينا قالباً لفظياً تتميز به “سورة مريم”، فلو أن مستمعًا لم يكن حاضر الذهن؛ بمجرد سماعه هذه القوالب والتعابير اللفظية يعرف ويجزم بأنه مع سورة مريم.
أريد فقط أن أجزم للمشاهد الكريم حتى دائمًا يعيش مع القالب اللفظي لتلك السورة، لها ثوبها، لها إيقاعها الصوتي.
المقدم: أريد كذلك أن نقف وقفة سريعة عند نقطة معينة، أنت ذكرت بأن القالب العام والمعنى العام لسورة مريم: الرحمة، وهذا يتكرر كثيرًا، لكن في ختام السورة نجد ألفاظاً شديدة فيها إقراع قوي حينما يقول الله سبحانه وتعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)[مريم: 83] وتهزهم هزًا،(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا)[مريم: 84]، (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)[مريم: 85]، (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا)[مريم: 86]، (لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)[مريم: 87]، (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا)[مريم: 88]، (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا)[مريم: 89]، (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا)[مريم: 90]، (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)[مريم: 91]، فهذا لا يستقيم مع الرحمة!!.
د. المستغانمي: أنا أعبّر وأقول: لما اختلف الموضوع اختلف القالب اللفظي، في الحقيقة من بدايتها إلى حين ما قرأت، كانت كلها على وتيرة واحدة وهي الياء الندية؛ الشجية التي تبعث على شعور جميل جدًا، “سميّا”، “رضيّا”، تبعث في القارئ شعور ارتياح، لأنها من رحمة الله سبحانه وتعالى.
لما تعلّق الموضوع بهؤلاء الذين قالوا اتخذ الرحمن ولدا، بالعبودية وبأناس قالوا: اتخذ الرحمن ولدا، وجاءوا بشيء فظيع، ما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، هنا انقلب التعبير القرآني إلى الشدة.
المقدم: مع أن المقام مقام رحمة، لكن الأمر يقتضي
د. المستغانمي: يقتضي أن الأسلوب يختلف، وهنا اختلفت الفواصل القرآنية في أواخر سورة مريم، وهذا يؤكد ما كنا نقول، وجاء الثوب اللغوي يتناسب مع ماذا؟ مع موضوع نهيهم عن اتخاذ الولد وعن نهيهم عن أن يقولوا شيئاً شنيعًا في حق الله تعالى، وفي حق عيسى عليه السلام ثم تحدث؛ هددهم بأن الله سيؤزهم أزًّا وسيهزّهم وسيعاقبهم، فالقالب اللفظي دائمًا يتناسب مع المحتوى.
في رحاب سورة طه
المقدم: نبدأ سورة طه، بسم الله الرحمن الرحيم (طه)[طه: 1]، (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[طه: 2]، بداية هذه السورة هل هي مكية أم مدنية وعمَّ يدور الحديث في مجملها؟.
د. المستغانمي: بسم الله الرحمن الرحيم، سورة طه -كما يعرف المشاهد الكريم لأنهم يقرؤنها كثيرا “مريم” و “طه”- هي سورة مكية نزلت بمكة المكرمة، الأرجح أن تكون نزلت بحدود السنة الرابعة للبعثة سوف تقول: لماذا؟ على الرغم أننا لا نستطيع أن نجزم دائمًا في التاريخ لكن فيه مناسبة هنا، من أعظم المناسبات أنها نزلت قبل إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث إن أخته كانت تقرأ سورة طه مع زوجها. وعمر بن الخطاب لم يختلف علماء تاريخ الإسلام أنه أسلم في السنة الخامسة، فإذن إما أن تكون قد نزلت في السنة الخامسة أو قُبيلها -في السنة الرابعة- هذه هي الظروف. فهي مكية بإجماع العلماء، وتُعَدُّ السورة الخامسة والأربعين في عداد التنزيل، سبقتها سورة مريم، وأتت بعدها سورة الواقعة، فهي السورة الخامسة والأربعون.
هذه السورة عظيمة، نزلت في ظروف صعبة جدًا جداً، كان المسلمون يعيشون شدة ويعانون عناء رهيباً مع المشركين من التعذيب والتنكيل، قريش تقاطعهم، أثناء المقاطعة؛ إبّانها، كانوا يعذبون المسلمين الجدد، ياسر استشهد من عائلة عمار بن ياسر.
المقدم: ولم يكن أقوياء الصحابة أسلموا بعد كعمرو بن الخطاب فكانوا مستضعفين.
د. المستغانمي: بارك الله فيك، كانوا مستضعفين، ذاقوا الويلات من تعذيب صناديد قريش:
– حتى إنهم آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يصلي فأتى “عقبة بن أبي مُعيط” ورمى عليه القاذورات –سلى الجزور- شرّف الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم.
– أيضاً آذوا أبا بكر الصديق، وكان يخطب فيهم في الحرم.
– ضربوا عبد الله بن مسعود حينما جهر بسورة الرحمن، أوجعوه ضربًا حتى أثروا في وجهه.
ظروف قاسية، في تلك الظروف القاسية جاءت سورة طه تقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: لستَ وحدك يا محمد، لست وحدك في طريق الدعوة يا محمد، ونزلت سورة طه تُسليِّه وتمسح دموع الشقاء عنه وعن أصحابه، وأنت لست وحدك أنت واحد من كوكبة الرسل الكبار، وقصّت عليه قصة موسى عليه السلام، وما لاقاه أخوك موسى في دعوته سوف تلاقيه أنت ولكن مآلك هو مآله، كما نصره سينصرك، كما عظّمه سيعظمك، كما قوّاه وقوّى بني إسرائيل في كنفه سوف يقويك. إذن أطلّ جبريل عليه السلام بالوحي السلسل الرقراق ونزلت سورة طه العظيمة وخصوصًا مطلعها: بسم الله الرحمن الرحيم (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) طه).
المقدم: ما المقصود بـ طه؟.
د. المستغانمي: من الأحرف المقطعة.
المقدم: ليس اسمًا للنبي؟.
د. المستغانمي: بعض العلماء يقولون: يس وطه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن لا نستطيع أن نجزم بذلك، الأولى كما قلنا في: كهيعص، طه، يس، حم، حروف من الهجاء العربي؛ من حروف اللغة العربية، تحدّى الله بها العرب أن ينسجوا على منوالها وهذا الأرجح عند جميع العلماء، من يقول هي اسم من أسماء النبي قول من الأقوال.
المقدم: لأنه بعدها مباشرة يأتي الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[طه: 2]، فمن قال بأنها مناداة بـ”طه” للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: يا طه؛ استند إلى ما بعدها
د. المستغانمي: أنا أقول لك شيئاً آخر: بسم الله الرحمن الرحيم (حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) الشورى)، لماذا لا نُسمِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم “حم عسق” في الحقيقة الرأي مرجوح لكن سوف نناقشه.
المقدم: على كلٍ؛ يعني كذلك من الآراء التي ذُكرت.
د. المستغانمي: نعم من الآراء التي ذُكرت.
المقدم: هل ورد في قراءة سورة طه فضل في قراءتها؟.
د. المستغانمي: وردت أحاديث لكن ليست صحيحة وليست قوية في السند، روي أن الله تبارك وتعالى يقرأها يوم القيامة مثلًا، ولكن لا أميل إلى ذكر هذه الأحاديث، فقط يكفيها فضلًا؛ أو اشتُهرت سورة “طه” في الإسلام لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلام أحد العمرين، إذ أن جبّار الجاهلية اهتزّ لها، وسالت دموعه ودخل في الإسلام وأعزّ الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه.
المقدم: ما هي أهم المواضيع التي تقف عندها أو تعالجها سورة طه؟.
د. المستغانمي: المواضيع التي تعالجها بشكل عام، ثم نلِج إلى محورها -إن شئت- هي مواضيع جاءت تُسلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي إنعكاس لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قلت لك قبل قليل، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين معه يعانون من كِبر قريش ومن شدتها ومن الاتهامات التي كانت تُسلّط عليه: قالوا: ساحر، قالوا: مجنون، قالوا: كاهن، إلى غير ذلك، ازدجروه؛ آذوه، فجاءت السورة تعالج:
أولًا: ثبتته (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى).
ثانيًا: قصّت عليه قصة كليم الله موسى بالتفصيل في مواقف بينت كيف أن الله تبارك وتعالى حفظ ورعى موسى عليه السلام.
المقدم: أعتقد أكثر قصة فُصِّلت من قَصَص موسى هنا؟.
د. المستغانمي: هنا وفي القَصَص، حتى إن الآيات التي تحدثت هي أكبر شيء هنا، ثم في القَصَص بطريقة أخرى كما سوف نرى.
– ثم أعقب الحديث عن قصة موسى، الحديث عن القرآن، عن الذكر في أواخر سورة طه.
– ثم تحدث الله تبارك وتعالى عن بعض مشاهد يوم القيامة، (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا)[طه: 102]، (وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)[طه: 108].
– ثم جاء حديث عن الهداية، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)[طه: 123]، إلى غير ذلك.
المقدم: ولا ننسى كذلك ورود قصة إبليس وعدم السجود؟ وهذه سوف نقف عندها .
د. المستغانمي: بارك الله فيك، سوف نقف بإذن الله، لكن الذي أريده: هذه المواضيع المختلفة لكن ما الذي يجمع بين هذه المواضيع، هنا السؤال؟ هنا أقول: المحور العام لسورة طه من أولها إلى آخرها تقريبًا هي: رعاية الله لعباده المرسلين، ورعايته للمَدعوين، الله يحب الجميع.
المقدم: لا يتركهم في تلك الأوقات الكالحة.
د. المستغانمي: لا يرضى لعباده الكفر جلَّ ثناؤه، لكنهم إذا اختاروا هم وشأنهم، لكن الله (ولا يرضى لعباده الكفر)[الزمر: 7] يحب لهم الإيمان؛ يدعوهم؛ قيّض لهم الأنبياء والمرسلين. الخط العام للسورة أو المحور: هو رعاية الله لعباده الصالحين، للأنبياء، للمرسلين، كأني بالقرآن يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: كما رعى موسى عليه السلام يرعاك الله جلَّ ثناؤه، كما قال الله جلَّ ثناؤه في السورة وسوف نرى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)[طه: 39]، هل ثمّة عنايةٌ أكثر من هذه الآية.
– قال لموسى عليه السلام: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى)[طه: 13] اختيار، كذلك اختار محمداً صلى الله عليه وسلم.
– قال لموسى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)، قال لمحمد صلى الله عليه وسلم أكثر: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)[الطور: 48]، جَمْع، هنا (عَلَى عَيْنِي)[طه: 39] واحدة، تحت رعايتنا، هنا قال: تحت رعاياتنا وتحت كلئِنا وحفظنا، (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)[الطور: 48] ليس المقصود به لا نُجسِّم لله في خلقه، نقول: تحت رعاياتنا أو حتى أهل السنة يقولون: نثبت له ما أثبته لنفسه، لله عين ولكن لا نُجسِّم ولا نُمثِّل ولا نشخص ولا نُكيِّف إلى غير ذلك.
أعطيك فقط لقطات تحضرني الآن:
قال: لماذا جئت يا موسى لمّا عجل عن قومه، (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى)[طه: 83]، (قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[طه: 84]، لترضى عني، لكن محمد صلى الله عليه وسلم قال له: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)[الضحى: 5]، موسى يَعْجَل ليرضى عنه الله، بينما الله سبحانه وتعالى يُبشِّر محمداً يقول: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)[الضحى: 5]، مقام محمد.
ففي القرآن تثبيت، وهذه السورة نزلت تثبيتًا وسوف نرى من خلال تحليل بعض مشاهدها كيف ثبّته الله تبارك وتعالى.
المقدم: إذن هذه السورة محورها العام هو: رعاية الله سبحانه وتعالى لرسله وأنبيائه ومن اصطفى من خلقه والناس الذين يدعونهم هؤلاء الرسل والأنبياء الذين يدعونهم.
د. المستغانمي: نعم.
المقدم: دائمًا تقول بأن هنالك مناسبة ما بين السورة والتي قبلها والتي بعدها، فهل هناك بالفعل ارتباط؟.
د. المستغانمي: يعني ارتباطها بسورة مريم قبلها أولًا، سورة مريم في نهايتها، في التنزيل، (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ)[مريم: 97] تيسير القرآن (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا)[مريم: 97] في نهاية مريم، بداية طه: بسم الله الرحمن الرحيم (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) طه)، هذا هو اليُسر، لِتَسْعَد لا لتشقى، أنا أقرأ الآية كالآتي: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[طه: 2]، بل لِتَسْعَد، المفترض هكذا إذا كنا نتفاعل؛ لأنه مما روي في سبب النزول: أن المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم، وقالوا: ما بِهِ يُمرِّغ جبهته في الأرض وفي التراب، وفي الحرارة؟!.
المقدم: في شقاء؛ كأنهم يرون هكذا.
د. المستغانمي: نعم؛ قالوها، قالوا: (شقيت يا محمد بدينك)، “شقيت” هذه الكلمة حتى لا تؤثر في قلب وذهن محمد صلى الله عليه وسلم نزل القرآن: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[طه: 2]، بل لِتَسْعَد، ثم ما هو القرآن؟ (تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى) [طه: 4]، لذلك دائمًا أنا في محاضراتي أقول لطلاب العلم: (الكون خلقه الله بعجبٍ عُجاب، والقرآن عَجَبٌ عُجاب)، إذا كنا نرى المجرّات التي لا تنتهي والنجوم التي لا تنتهي فالقرآن لا تنتهي عجائبه ولا تنفذ غرائبه.
المقدم: طيِّب؛ لدي سؤال هنا: لماذا قال: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[طه: 2]؟ وهو قد لا يريد القرآن؛ قد يريد ما أرسلناك؛ ما أنزلنا عليك الهداية؛ ما بعثناك للناس، ما أنزلنا عليك الإسلام، فلماذا لخّص الإسلام بالقرآن؟
د. المستغانمي: لأن القرآن هو وعاء الإسلام، لأن القرآن هو كلمة الله الأخيرة التي التقت فيها السماء بالأرض، اقرأ، يعني نحن لو ضاع كل شيء لا يهمنا، إلا القرآن والسنة الصحيحة، القرآن يحفظ السنة أيضًا، (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الحشر: 7]، لذلك الكلمة التي التقت بها السماء بالأرض، وليست مُحرَّفة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9]، سورة الحِجر تفصِّل في الذكر وفي الكتاب والقرآن؛ هي كلمة الله، أحد الشعراء يقول:
هيهات أن يعتري القرآن تبديلُ وإن تبدَّل فتوراةٌ وإنجيلُ
الكتب الأخرى حُرِّفت للأسف الشديد، وإن كان فيها حكم عجيبة وجميلة، أما هنا: قرآننا باقٍ كما أنزله الله.
فقط أريد أن أشير إلى خط من خطوط السورة على ذكر (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى):
قد يقرأ واحد ويقول: فقط الرسول صلى الله عليه وسلم لا يشقى؟ فقط القرآن موجَّه للرسول صلى الله عليه وسلم لا يشقى؟!
المقدم: الحديث للرسول حديث لمن يتبعه كذلك.
د. المستغانمي: جميل جداً، خوطبت الأمة في شأن نبيها أو في شخص نبيها.
أستبق الأحداث: عندما تحدَّث الله مع آدم عليه السلام وزوجه، وقال له: لا تسمع الشيطان (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى)[طه: 117]، انظر هنا إلى التناسق.
أيضًا لما خاطبه، (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى)[طه: 116]، (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ)[طه: 117]، من الأوامر، من النواهي، من نظام الحياة الذي أعطاك فتشقى يا آدم.
واحد يقول: فقط رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقط آدم؟ لا؛ اقرأ الآية التي بعدها (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)[طه: 123] أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تشقى إذا اتبعت القرآن والسنة الصحيحة، إذن الخط من ملامح السورة؛ من شخصيتها: نفي الشقاء عن محمد صلى الله عليه وسلم، عن آدم عليه السلام، عن كل المسلمين.
المقدم: طيِّب؛ هل لها علاقة بما يليها من سورة الأنبياء؟.
د. المستغانمي: طبعاً لها علاقة، هذا مؤكد حتى ولو لم أعرف أنا.
المقدم: لم تكن في القرآن في هذا الموضع اعتباطًا.
د. المستغانمي: إلا لها سبب، أبداً لها سبب وحكمة سواء عرفنا أم لم نعرف، في أواخرها: (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى)[طه: 135]، وأعظم أصحاب الصراط السوي هم الأنبياء، سورة الأنبياء فصَّلت القول في الأنبياء، (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)[الأنبياء: 1]، لكن سردت القول في الأنبياء، وخصّها الله باسم الأنبياء هذا رقم واحد.
قبلها بقليل، (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى)[طه: 129]، العذاب، لما تحدثت أواخر سورة طه عن العذاب جاءت بداية الأنبياء عن العذاب، (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)، العلماء يذكرون هاتين العلامتين، بعض العلماء يقفون حيارى عند بعض السور وأنا أعذرهم لأن القرآن غلّاب كلما نظرت إليه تفتقت أكمام الإبداع والإعجاز. لذلك لها علاقة حتمًا وهذا سِرُّ ما قال الإمام الزركشي له: “نزل حسب الوقائع تنزيلًا وحسب الحكمة ترتيلًا”.
المقدم: دائمًا كذلك تقول بأن ما بين مطلع السورة وختامها هناك شيء من الارتباط، مطلع السورة تحدث حول تنزيل القرآن، وذكر: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[طه: 2]، (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)[طه: 3]، (تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى)[طه: 4] الحديث كله عن القرآن، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5]، (الرحمن) بَدَل هنا صحيح؟.
د. المستغانمي: نعم، (تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى) هو الرحمن، تنزيلًا ممن خلق للضمير “هو”، الفاعل المحذوف الرحمن، فإما نقول هو الرحمن أو الرحمن جملة استئنافية؛ نعم يجوز.
المقدم: تفسيرًا لمن خلق. في نهاية السورة، (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى)[طه: 135]
د. المستغانمي: أنا سوف أدلك على شيء، أول الآيات تقول: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[طه: 2]، (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)[طه: 3]، وآخر تذكرة في السورة: (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا)[طه: 135]، هذا آخر تذكير للمشركين، قل كلٌّ مُتحفِّز، قُل كلٌّ منتظر فانتظروا، (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) وسوف تفيئون إلى ظِلِّنا؛ وسوف تعودون إلى الحق، هذه آخر تذكرة، لمن أراد أن يذكّر أو يهتدي سبيلًا، هذا من الربط.
المقدم: كذلك قبلها هناك صورة جميلة؛ يعني حينما يقول: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124].
د. المستغانمي: ذكري، ما هو ذكري؟ القرآن، هذا رد العجز على الصدر.
المقدم: ويقول: (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)[طه: 126]؟.
د. المستغانمي: من رد العجز على الصدر.
المقدم: ذكرنا في سورة مريم وقلنا الله سبحانه وتعالى حينما قال: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا) [مريم: 62]، وتحدثنا عن “إلا” هذه وقلنا: حتى أنه فاجأ بأن ليس السلام من جنس اللغو لكن تأكيد المدح بما يشبه الذمّ، هل هناك شيء من هذا هنا: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[طه: 2]، (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)[طه: 3] على عكسها؟.
د. المستغانمي: هي في الحقيقة توضح معنى لكن لا نستطيع أن ننسبها لما نسبته: تأكيد المدح بما يشبه الذم، إنما هنا (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[طه: 2] النفي قاطع، إذن ما وظيفة القرآن؟ (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)[طه: 3].
المقدم: يعني كأنه يريد أن يقول: في غير القرآن ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى.
د. المستغانمي: نعم، (تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)[طه: 3] وفعلًا كل ما في القرآن تذكير، (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[الذاريات: 55]، وعندما بعث الله موسى عليه السلام، (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 44]، هنا قال: (تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)[طه: 3] والله أوصى موسى أن يقول لفرعون وما أدراك ما فرعون: قولًا لينًا؛ حتى ولو كان كافراً، أنت مطالب أن تُحْسِن الدعوة، نحن مطالبون أن نُحْسِن الدعوة، (قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 44]، انظر كلمة (يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 44]، (تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)[طه: 3]، فتناسق بين الألفاظ عجيب.
المقدم: الله سبحانه وتعالى يقول في مطلع السورة: (طه)[طه: 1] (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[طه: 2]، (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)[طه: 3] (تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى)[طه: 4]، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5]، هنا هذه من المسائل التي نريد أن نقف عندها: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5]، وأعتقد أن ابن حنبل له كلمة في هذه المسألة: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، إلا أن هناك بعض الضلاليين ممن فسَّر استوى بـ “استولى” وغير ذلك، نريد أن نقف عندها تنبيهاً للناس.
د. المستغانمي: هو القول الجميل والسديد كما تفضَّلت هو قول أهل السنة: الإمام أحمد بن حنبل والإمام مالك في القضية، يقول: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وقال للسائل: اخرج ما أراك إلا صاحب بدعة، فالعلماء كلهم يعودون لكلمة هؤلاء الفطاحل الذين فعًلا وقفوا؛ كانوا وقّافين، الذين يأوّلون يقولون: استوى بمعنى استولى؛ إلى غير ذلك، هذا تأويل بعيد أولًا، رقم واحد.
المقدم: لماذا أوّلوا هذا؟.
د. المستغانمي: لأن هناك الذين لا يقفون عند الآيات ويحبون أن يُعْمِلوا العقل في كل الآيات وبالتالي يفسرونها باللغة. الأولى أن الآية فعلًا الاستواء معلوم والكيف مجهول، ولكنها تفيد هنا أن الله سبحانه وتعالى استوى على عرشه بالطريقة التي تليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، هذا يدل على عظمة سلطانه جلَّ ثناؤه، كما جاءت الآية التي بعدها، (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى)[طه: 6]، بسط السلطان؛ ثم يقول: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)[طه: 7]، هذه أفادت انبساط سلطانه جلَّ ثناؤه؛ وهذه أفادت سعة علمه جلَّ ثناؤه.
المقدم: واضح منها: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)[طه: 8]؟.
د. المستغانمي: المقطع كله يصوِّر عظمة الله، عظمة سلطان الله؛ نستطيع أن نقول هذا بدون تأويل، عظمة علم الله وسعة علمه وطلاقة مشيئته جلَّ ثناؤه؛ بدون أن نقع في التأويلات.
المقدم: فمن باب أولى أن نقول: استوى.
د. المستغانمي: بارك الله فيك، فاستوى؛ الاستواء معلوم والكيف مجهول، ومهما كان العلماء في العصر الحديث لن يأتوا بأفضل من كلمة الإمام أحمد والإمام مالك رضي الله عنهم جميعاً.
المقدم: لا زلت عند هذا المعنى وأريد أن أبين بعض المسائل، لأن هذه من المسائل التي يتحدث فيها الناس كثيرًا، من قال: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5]، قالوا: مكان الله سبحانه وتعالى على العرش مستوٍ جلَّ في عُلاه، وتحدّثت قلت: الاستواء معلوم والكيف مجهول، من قال: استولى، لم يجعل لله سبحانه وتعالى مكانًا فوق العرش وإنما قال وفسّر الآية الأخرى من أن الله سبحانه وتعالى موجود في كل مكان (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)[المجادلة: 7]، فبالتالي كيف نوفِّق ما بين هذه وتلك؟.
د. المستغانمي: حتى الآية التي تلوتها (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)[المجادلة: 7] فهو معنا بعلمه جلَّ ثناؤه؛ برعايته؛ بحفظه، هكذا يأوّلها أهل السنة، لا نستطيع، ونمرِّر مثل هذه الآيات التي تتحدث عن الاعتقاد نمررها كما جاءت ونؤمن بها كما جاءت، هذا هو الرأي السليم، وليس رأيي، هذا رأي كل أهل السنة والجماعة، أما أن ندخل في التأويلات فسوف نتفرَّق طرائق قددا، وهذا التفرق الذي تشرذمت به الأمة ونحن الأولى -في مثل هذه المنابر العلمية- أن نجمع ولا نفرّق، نجمع القلوب ولا نفرق؛ أنا أدعو إلى ذلك.
المقدم: جزاك الله خيرًا، أنا هذا بالفعل الذي أريد أن أصل إليه، جزاك الله خيرًا على هذا التوضيح، وللأسف كثير ممن بالغ كثيرًا في تأويل القرآن فشطحوا شطحات كثيرة.
تحدثنا في مقدمة السورة، الآن دعنا نلج بعض الشيء في تفصيلها، السورة في مجملها تتحدث عن قصة موسى عليه السلام؛ بداية من قول الله سبحانه وتعالى – في مطلع السورة حتى في بدايتها في الآية التاسعة -: (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى)[طه: 9]، هل أتاك يا محمد، (إذا رأى ناراً)[طه: 10] وأنت قُلت بأن هذه السورة محورها العام: العناية الإلهية بأنبيائه وكذلك بالمؤمنين، أين تتجلى هذه العناية في قصة موسى عليه السلام؟.
د. المستغانمي: سوف نقرأ بعض الآيات؛ من البداية: (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى)[طه: 9]، انظر إلى هذه البداية المُشوِّقة، بداية مُشوِّقة (وَهَلْ أَتَاكَ)[طه: 9]، لم يبدأ له بـ “وإذ قال” مباشرة.
المقدم: الجملة الإنشائية دائمًا أجمل من الخبرية في مثل هذه المواضع.
د. المستغانمي: والسؤال بـ”هل” في مثل هذه المواضع: أن يُشوِّق (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ)[الصف: 10]، في آية أخرى (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضيف إبراهيم)[الذاريات: 24] فيها تشويق وحُسن العرض (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا (10) طه)، البيان القرآني هنا بدأ من رؤية النار، سورة القصص -إن شاء الله نسأل الله أن نصل إليها- تحدثت عن موسى عليه السلام من مولده، انظر إلى سورة طه بدأت من(إِذْ رَأَى نَارًا) في عودته من أهل مدين، بعدما قضى عشر سنوات، قضى أوفى الأجلين وعاد مع أهله، رأى بجانب الطور نارًا، من هنا بدأت الرسالة.
المقدم: (فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا).
د. المستغانمي: فقط نوضح شيئا للمشاهد الكريم: أن هنا القرآن أو البيان القرآني ابتدأ من بداية البعثة، ما الذي يهمّ محمد صلى الله عليه وسلم؟ يهمه حياته هنا لأنه كان في ضيق؛ كان في شدة؛ كان في لأواء؛ وفي مرحلة عصيبة، فالدروس هنا تؤخذ من البعثة فصاعدًا.
في سورة القصص دروس أخرى، دروس سوف نراها بدأت من ولادته؛ المشيئة المطلقة، فرعون يريد أن يقتل والله يريد أن يربيه، تتحدى أنت القدرة الإلهية؟!
المقدم: أبداً؛ الله يفعل ما يريد.
د. المستغانمي: جلَّ ثناؤه؛ ومن ثَمَّ لها قالب خاص وإيقاع خاص. أعود (إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ)[طه: 10]، كانت ليلة باردة شاتية جدًا.
المقدم: (أو جذوة)[القصص: 29]
د. المستغانمي: في سورة النمل والقصص وردت (جذوة) وهنا (بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)[طه: 10] من البداية الخط الثاني، قبل قليل رسمنا الخط: نفي الشقاء، الخط الثاني لملامح سورة طه: تثبيت الهدى، وسوف نراه، وهم متلازمان، الذي يهديه الله لا يشقى (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)[طه: 123]، أول الآيات (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)[طه: 10]، بينما لو ذهبنا إلى سورة النمل أو سورة القصص، يقول: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)[القصص: 29]، تصطلون: تتدفأون من شدة البرد، لماذا تصطلون؟ هذا يتناسب مع جو سورة النمل الذي فيه برودة وخوف وشدة.
سورة الهداية هي سورة طه، سنبدأ -طبعاً أنا سأختصر وإلا سوف لا ننتهي- (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) طه)، انظر إلى العناية، ( يَا مُوسَى)، (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ)، نحن لو ناداك فقط أستاذ؛ لو ناداك رئيس شركة، لو ناداك وزير، الآن ناداك الله، اختيار ربّاني؛ اصطفاء، في سورة الأعراف قال: ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ)[الأعراف: 144].
المقدم: هنا التكليم لموسى؟.
د. المستغانمي: تكليم وتكريم، كلَّمه قال: (يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ).
المقدم: هنا أريد إشارة أن نقف عليها، حينما يناديه الله سبحانه وتعالى وهو لا يرى الله سبحانه وتعالى، من كل الجهات، فحينما يأتي هذا الصوت، يعطيه الأوامر وهو لا يعرف مَنْ صاحب هذا الصوت، ربما يعني يُغمى عليه؛ ربما يُغشى عليه؛ ربما يخاف؛ لكن بدأها بـ (أَنَا رَبُّكَ).
د. المستغانمي: تثبيت وتكريم وإضافة تشريف (يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طوى) هذا وادي الطهارة، وادي تكليم الله لموسى.
المقدم: أين كان؟
د. المستغانمي: في الجانب الأيمن من الطور، الذي كلّم الله فيه موسى الذي رأيناه في سورة مريم، (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ)[مريم: 52]، تكريمًا لموسى قال: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ)[مريم: 52]، لما تحدّث عن محمد صلى الله عليه وسلم في سورة القصص، هل محمد صلى الله عليه وسلم رأى موسى وهو يوحى إليه؟ لا، قال له: (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ)[القصص: 44]، قال: (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ)[القصص: 44]، ماذا يقصد؟ بجانب الطور الأيمن، لكن لو قالها: “وما كنت بجانب الطور الأيمن” لنفى اليُمنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلام صعب جدًا، ففي الاثنين الله عظّم أو فضّل النبيين، فضّل موسى وأثنى عليه، أثبت له الحديث والمناداة عند جانب الطور الأيمن، لما نفى قال: (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ)، هذا إنزياح ؛ عدول، عدول للتلطّف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هنا قال: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طوى)، الوادي “طوى” هذا بجانب الطور الذي كلّمه.
المقدم: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى)[طه: 13]؟.
د. المستغانمي: وهل ثمة عناية أكثر من الاختيار؟! (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ)[طه: 13].
– قال له مرة: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ)[طه: 13].
– في الأعراف: (اصْطَفَيْتُكَ)[الأعراف: 144].
– بعد قليل في سورة طه: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)[طه: 39]، لكن كل هذه في مقام محمد صلى الله عليه وسلم أتى بأشياء أخرى من بينها: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)[الطور: 48] وأشياء أخرى سنذكرها.
المقدم: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا (15) طه).
د. المستغانمي: (أَكَادُ أُخْفِيهَا)[طه: 15]، هذا المقطع الأول الذي أوحى الله إلى موسى عليه السلام وعرّفه بذاته جلَّ ثناؤه، والتعريف بذاته جلَّ ثناؤه هنا (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)[طه: 14]، أيضًا: التشريف لموسى عليه السلام وتعريف بالألوهية، وتعريفه بوظيفته لأنه سوف يكون نبياً مرسلًا إلى فرعون وإلى ملأ فرعون وقومه فأعطاه التكليف من البداية.
الذي يهمنا أن نقف عنده: أساليب التكريم، أما إذا شئت أن نفسر نشرح الآيات، لكن أنا أدعوك إلى مواصلة القراءة حتى نقف على مواطن…
المقدم: تذكرت بأن هذه القصة جاءت تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم، أين مواطن هذه التسلية؟ أين تتجلّى هذه المواطن؟
د. المستغانمي: قصة موسى انعكاس لقصة محمد صلى الله عليه وسلم.
المقدم: أنا أقصد من تفاصيلها يعني، ما الذي يُسلِّي النبي صلى الله عليه وسلم حينما يقول الله سبحانه وتعالى عل سبيل المثال: (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى)[طه: 16]، ما التسلية في هذا الموقف؟.
د. المستغانمي: كل القصة من بدايتها إلى نهايتها سوف يأخذ منها محمد صلى الله عليه وسلم العبرة ويتّعظ بالأحداث التي مرّ بها موسى، نحن مازلنا في المقدمة، عندما يُغلِظ فرعون([1]) ، عندما يريد قتل السحرة، عندما يهددهم بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف؛ ما زالت التسلية ستأتي.
لكنَّ الله سبحانه وتعالى بدأ القصة من أولها وكيف أوحى الله إلى كليمه موسى؟ وكيف عرّفه بالعقيدة؟ العقيدة هي هي، عقيدة موسى؛ عقيدة عيسى؛ عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم هي هي: الله وحده لا شريك له، عقيدة البعث، لكن الشرائع تختلف.
المقدم: هنا تحدث عن شيء من معجزاته قال: (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) طه) كأنه يريد ذكر شيء من هذه المعجزات للنبي صلى الله عليه وسلم؟.
د. المستغانمي: هذه المعجزات الحقيقة:
أولًا: يثبت قلب محمد صلى الله عليه وسلم بأن أخاك موسى كان لديه معجزات حسية؛ وعرّفه المعجزات الحسية التي أعطاها الله؛ من بينها اليد؛ كان يضم يده تحت جناحه أو في جيبه تخرج بيضاء من غير سوء، هذا احتراس، بيضاء من غير مرض، هناك مرض البرص مرض البهاق؛ لا ، هنا البياض ممدوح، هذا معجزة، (بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى)[طه: 22].
يلقي عصاه (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى)[طه: 20]، والله دائمًا يثبت (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى)[طه: 68]، كما ورد في آيات كثيرة، هذه معجزات حسية لموسى.
أما معجزات محمد صلى الله عليه وسلم من البداية (تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى)[طه: 4] هذه المعجزة العقلية الخالدة.
الآن نسأل: أين معجزات موسى عليه السلام؟ انقضت ومضت وانتهت، آمن بها من آمن؛ من رآها، ونحن آمنا لأنها وردت في القرآن الكريم.
معجزة عيسى، كان يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله -كما تعرف- كما ورد في سورة المائدة وآل عمران، لكن آمن بها من رآها.
معجزة محمد صلى الله عليه وسلم أين هي؟ بين يديك الآن، إعجاز عجيب عظيم من كل النواحي العلمية والاقتصادية واللغوية والفكرية والغيبية، لذلك معجزة محمد في البداية ثم بدأه بقصة موسى، ثم بدأ يثبت من قلبه بما لاقى موسى؛ سوف تلاقي يا محمد ولكن النصر لكما بإذن الله سبحانه وتعالى.
المقدم: هل سنستمر في سرد القصة؟ أم نقف عند بعض المواطن فيها؟.
د. المستغانمي: سنستمر لكن نقف عند بعض المواطن فيها إذا كان فيه نصيب من الوقت.
المقدم: هو لم يبقى لنا من الوقت سوى دقيقة واحدة فقط، معنى ذلك نرجئ هذا الأمر لعله إلى الحلقة القادمة.
د. المستغانمي: لأني أنا أريد أن نتتبع القصة، ممكن أن نشرح بعض الكلمات لكن الخط العام قلت لك ما هو؟ العناية تبدو:
– وأنا اخترتك.
– ولتصنع.
– لما يقول لموسى وهارون: (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه: 46]، سوف يبدو خط العناية، هذا الذي أنا أحرص على بيانه، وبالتالي نصل إلى زبدة ما نريد -إن شاء الله- في الحلقة القادمة.
المقدم: إذن في الحلقة القادمة سوف نبدأ من أمر الله سبحانه وتعالى لنبيه موسى بأن ينطلق إلى فرعون حينما قال له: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)[طه: 24]، وبعد ذلك نفصّل القول بإذن الله.
شكرًا لك وأنا استمتعت كثيرًا، تفاسير القرآن موجودة بين أيدينا والقرآن موجود بين أيدينا، لكن حينما نأخذ بعض اللفتات التي لم نعتد على سماعها هذا أمر غريب جدًا، حينما نعرف أن محوراً للسورة عام يحكمها؛ يتحدث في شأن معين وهذا يتكرر في مفردات السورة وفي ألفاظها وفي كلماتها، فهذا أمر بالفعل لم نعتد على سماعه، فجزك الله خيراً وأحسن إليك على مسعاك الطيب وجهد الطيب هذا.
في رحاب سورة
د. محمد صافي المستغانمي
قناة الشارقة – 1436 هـ
الحلقة – في رحاب سورة طه – 2
تقديم الإعلامي محمد خلف
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
محور السورة: العناية الإلهية بأنبياء الله سبحانه وتعالى وبعباده الصالحين
العناية الإلهية بالمرسلين وبالمدعوين تتبين في كل السورة منها أول آية (طه ﴿١﴾ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ﴿٢﴾) عناية بمحمد صلى الله عليه وسلم وتسلية ومواساة له لأن المشركين كانوا يعيرونه أنه شقي بالقرآن
ثم موسى عليه السلام، الله تعالى يتكلم معه (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴿١٢﴾ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴿١٣﴾)
القرآن موجه لمحمد صلى الله عليه وسلم فقصص موسى مرآة لقصص محمد صلى الله عليه وسلم في كثير من التفاصيل فكان صلى الله عليه وسلم إذا ضاق ذرعا من قريش وكفرها وجد في القرآن سلوانا. لما تحدث الله مع موسى قال له (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) هذه رعاية عظيمة لموسى عليه السلام وايضا الرعاية لمحمد صلى الله عليه وسلم منذ كان وليدا كما رعى الله موسى موسى تابعت الرعاية الإلهية محمدا صلى الله عليه وسلم
أول حديث مع موسى عليه السلام قال (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) لم يقل إلهك؟ الله اسم العلم على الذات الإلهية يفيد الإلهية والألوهية، الله إله نعبده والله رب بحكم أنه يربي ويرزق ويلطف وقالها لموسى ليحذف الوحشة من قلبه والرب ليس من شأنه أن يشق على المحبوب، (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) فيها كثير من الرعاية والله جلّ جلاله رب وإله، رب لأنه هو الرزاق واختار لفظ الرب هنا لمناسبتها للعناية وفي مكان آخر اختار الله للتوحيد.
(وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) ثم قال (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴿٤١﴾) بدأها بأسلوب ثم ترقى في الأسلوب، اصطنعتك فيها زيادة في المعنى (على عيني) بالإفراد قالها لموسى وقال لمحمد (فإنك بأعيننا) كل ما ورد في حق موسى ورد في حق محمد قال في حق موسى (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ﴿٣٧﴾ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ﴿٣٨﴾ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) هذا كلام لا يقوله إلا إله (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) ألقيت عليك غشاء من المحبة الإلهية محبة خارقة للعادة ليست عادية ولذلك زوج فرعون آسيا أحبته، والمحبة عادة لا تكون إلا بعد معايشة (قرة عين لي ولك ) هذا من فراستها، فقال لها فرعون لك أما لي فلا. (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) العناية الإلهية، موسى رسول ولكنه بشر وهارون بشر (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ﴿٤٥﴾) قال الله لهما (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴿٤٦﴾) هل يوجد عناية أكثر من هذه العناية؟
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ﴿٧٧﴾) بنو إسرائيل عباد الله أيضًا (عبادي) إضافة تشريف. (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ﴿٨٠﴾) واعد موسى ولكن خوطب بنو إسرائيل بشخص آدم والله أعطى موسى التوراة لأجل بني إسرائيل
عناية بالمرسل إليه (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) لفرعون، هل هناك عناية بالمربوبين أكثر من هذه؟
سأله الله تعالى (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴿١٧﴾) أجاب (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ﴿١٨﴾) كان يكفي أن يقول هي عصاي فلماذا استطرد؟ غرابة السؤال اقتضت من موسى أن يجيب هذه الإجابة. طمأنه الله في البداية (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴿١٤﴾) وبعدها سأله (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) المفترض أن يقول عصاي، لكنه قال هي عصاي وظن موسى أن الأمر لا يحتاج إلى حقيقة العصا وإنما ذهب إلى وظيفتها ظنا منه أن الله يعلم بعصاه فجاء الجواب بهذا الإطناب تلذذا بالخطاب، إذا تكلمت مع محبوبك تطيل الحديث.
بداية القصة الله سبحانه وتعالى يتحدث عن قصة موسى ليس بهذه البداية (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)طه) المخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم وفي سور أخرى يقول (وَإِذْ قَالَ مُوسَى 5 الصف) (واذكر) السؤال هنا ليس على حقيقته ليس استفهاما يريد من ورائه الفهم الاستفهام يكون إما للحقيقة ويكون لأمور أخرى منها الإنكار ومنها التشويق هنا وهذه بداية عظيمة (هل) في السؤال تفيد التوكيد مثل (قد) وتفيد التشويق وتتناسق مع السياق العام لسورة طه التي ورد فيها اسئلة عديدة (أخت موسى دخلت القصر بعد أن تتبعت موسى قالت (هَلْ أَدُلُّكُمْ 12 القصص) فيها تأدب ولطف وتشويق، وآدم مع إبليس وردت القصة في عدد من السور (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) طه) لم يرد هذا السؤال في اي سورة، الأسئلة فيها عناية وهي تتشكل وفق محور السورة التلطف هنا لأن سياق السورة يقتضي ذلك. \( فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) طه) وفي أماكن أخرى قال ثعبان ومرة كأنها جانّ فما الفرق بينها؟
لكل سورة قالبها اللفظي وأسلوبها وألفاظها المختارة وطريقة بناء الجمل. سورة طه سورة طمأنة وإدخال السرور على قلب موسى ومحمد فاستعمل حية من الحياة أما الثعبان فهو مخيف ذكرها في سورة الشعراء في مناظرة فرعون والسحرة مع موسى الثعبان يلقف ما يأفكون. أنسب الألفاظ في سورة طه (حية) في الشعراء والأعراف فيها مبارزة عبر بالثعبان في سورتي النمل والقصص أراد الله إثبات بشرية موسى يخاف (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31)القصص)( كَأَنَّهَا جَانٌّ) صغار الحيات التي تهتز بطريقة مخيفة تتقلب بسرعة شديدة الحركة وهذه تخيف أكثر (ولى مدبرا المرسلون) في سياق الخوف الجان أولى وفي سياق المناظرة الثعبان أولى.
كل لفظ في القرآن اختير بعناية تتناسب فلما تجد بعض المفردات لما ضرب موسى الحجر بعصاه (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ60 البقرة) وفي الأعراف (إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ 160 الأعراف) الانفجار أكثر والانبجاس أقل سياق سورة البقرة سياق الإنعام على بني إسرائيل وافقه الإنفجار وفي الأعراف سياق المعاصي وآثام بني إسرائيل فوافق (الانبجاس) الفخر الرازي قال الذي استسقى في البقرة هو موسى فأجابه الله (انفجرت) وفي الأعراف بنو إسرائيل هم الذين طلبوا الاستسقاء فقال (انبجست). البيان القرآني يختار لك لفظة تناسب سياقها.
ثم يذكر الله تعالى المعجزات التي أعطاها لموسى عليه السلام (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى ﴿٢٢﴾) استعارة تصريحية شبه يده وعضده بالجناح وذكر الجناح وإذا ذكر المشبه به تكون الاستعارة تصريحية عبر وأراد ما تحت ابطه. بيضاء بياض غير عادي بياض مثل القمر يتلألأ لكن حتى لا يظن أن هذا البياض من مرض كالبرص قال من غير سوء وهذا ما يسميه البلاغيون بالاحتراس وهو أن يأتي المتكلم البليغ بجملة تفصيلية تجعل القارئ يفهم المعنى المراد لأنه عقل المخاطب قد يهب بعيدا ويكون فيه التباس والاحتراس في القرآن كثير مثال (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)البقرة) لو وقف عند (عن دينكم) قد يأتي وهم في ذهن المخاطَب أنهم يستطيعون فجاءت جملة (إن استطاعوا) احتراس لأنهم لا يستطيعون زحزحة المسلمين عن إيمانهم. مثال آخر (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)محمد) الماء إذا كان راكدا أسن خمر الدنيا فيها مرارة وعسل الدنيا فيه شوائب واللبن في الدنيا يتغير طعمه قال المفسرون هذه الآية من أعظم آيات الاحتراز حتى لا يقع المخاطب بالوهم، فيكون هناك تجلية للكلام.
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴿٢٥﴾ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴿٢٦﴾) ما دلالة تكرار (لي)؟ وما دلالة ورود (لي) في الجملتين؟ هل هي زائدة؟ يمكن أن نقول اشرح صدري.
توقف البلاغيون عندها، عندما يبدأ الكلام بالإجمال ثم يفصل هذا أفضل لما قال (اشرح لي صدري) علم المخاطب أن شيئا مشروحا لكن ما هو؟ صدري تبين الإبهام قبلها، لو قال رب اشرح لي يعطي إبهاما ثم قال (صدري) تبين الأمر وتفسره هذا البيان بعد الإجمال من أروع ما يكون (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين). (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ﴿٢٧﴾ يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴿٢٨﴾ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ﴿٢٩﴾) لم يقل واحلل لي، تسمى لام التبيين من فوائدها أنها تبين، (لي) تبيّن، للمنفعة الشخصية، كان موسى مكدرا لما يحيط به فقال يا رب وسع صدري واجعلني قويا ولكنه قال واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، ليس من أجلي أنا يا رب أنا راض بما أعطيتني يا رب ولو كان في لساني حبسة ولكن احلل عقدة من لساني يفقهوا هم قولي. لا يوجد زيادة في القرآن. نلاحظ في هذه الآية أن موسى طلب من ربه أن يشرح له صدره وأن يجعله قويا ثابتا ويزيل عنه كل المكدرات (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) ومحمد صلى الله عليه وسلم منّ الله تعالى عليه بشرح الصدر قبل أن يطلب (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)الشرح)، قال موسى (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)طه) قال لمحمد (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)الضحى)(وقال له (لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)طه) قال موسى في سورة القصص (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)القصص) وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)الضحى) لو درسنا القرآن دراسة متفحصة دقيقة لوجدنا في القرآن ثناء على محمد صلى الله عليه وسلم بطريقة عجيبة.
قال سبحانه وتعالى بعد أن ألقت أم موسى موسى في اليم (فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ (40)طه) وفي القصص (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ (13)القصص) هل هناك فرق بين الرد والرجع؟
في سورة الكهف ذكرنا (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي (36)) لأن الثوب اللغوي لسورة الكهف قد بني ونسج من ألفاظ معينة منها الردّ وهنا (ورجعناك) لأن السورة فيها الرجع (فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ) (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا) (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ﴿٨٩﴾) (قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ﴿٩١﴾) في سورة القصص (رددناه) لأن في السورة (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ (7)القصص) تناسق عجيب في الألفاظ واللفظان متقاربان ولكن القرآن ينتقي ما يتفق مع السياق وفي آخر القصص قال (لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ (85)القصص) هذا من النسيج اللغوي للسورتين.
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)طه) ما الداعي أن يذكر الله سبحانه وتعالى موسى بقتله مع العلم أن هذه الفعلة غير مستحبة هل هذا يتسق ذلك مع نسق الرعاية في السورة؟
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ﴿٣٧﴾ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ﴿٣٨﴾ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴿٣٩﴾ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) ثمة شيئا، الشيء الأول: منّ الله عليه من فرعون لأن الذي قتله موسى كان قبطيا ومان فرعون يفضل الأقباط على الإسرائيليين وموسى لم يكن يقصد قتله وهو قتل عمد لكن ضمير موسى يؤنبه لأن الأرواح لها عصمة. امتن الله عليه قال (وَقَتَلْتَ نَفْسًا) حتى يجعل موسى يفكر مليًا في فعلته، تذكيره عندما ضخّم الأمر في البدياة حتى يشعر موسى بفظاعة الجريمة ومنّة الله تعالى عليه. ولقد مننا عليك وأنجيناك من الغم، لكن لو قال ولقد مننا عليك إذ قتلت، يقول العلماء أين ذهب دم الإنسان المعصوم، سياق المن والرعاية نعم لكن الله لم يرد أن يذهب دم القبطي وهذا يسمى الإدماج، أن تريد هدفا وتدمج معنى آخر، أدمج الله شيئا من الهم والغم في قلب موسى حتى يتذكر وكأن القرآن عاقبه بطريقة غير مباشرة فإن أفلت من فرعون فالله فتنه من هم وغم الاقتصاص فخرج منها خائفا يترقب ويتربص. رعاية لهذه النفس أدمجها أثناء المن على موسى، لم يشأ الله تعالى أن يذهب دم القبطي هباء فجاء نوع من الهم والغم والافتتان لموسى (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا (40)طه) والفتون هنا فتن مرة بها موسى على وزن فعول سعيد بن جبير كان تابعيا سأل ابن عباس فقال له ما معنى فتناك فتونا فقال ابن عباس تذكر موسى فقال له ولد موسى وفرعون يقتل الأبناء وتلك فتنة يا ابن جبير، رمته أمه في التابوت وألقته في اليم وتلك فتنة يا ابن جبير، همّ فرعون بقتله لما أمسك بلحيته وتلك فتنة يا ابن جبير، قتل نفسا بغير حق وتلك فتنة اصابه هم وهو هارب وتلك فتنة يا ابن جبير، بعد كل فتنة أخذ درسا وتغرب عن بلاده فكل غربة فيها آلآم ولهذا صنف موسى أنه من أولي العزم.
(فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴿٤٤﴾) هنا يقول قولا لينا وورد في القرآن قولا سديدا، كريما، معروفا، ما الفرق بينها؟
كلها متقاربة، وكلها صحيحة ولكن لا نقول انها مترادفة تعطي نفس المعنى، هنا احتاج فرعون أن يرقق قلبه مما قاله له 5موسى في سورة النازعات (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)النازعات) (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا (44)طه) دعاه في سورة النازعات واللين في الدعوة أصل من أصول الدعوة. (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)) كأن في الموقف مقابلة: قابلا طغيان فرعون باللين وديننا مبني على الليونة (ما كان الرفق في إلا زانه) اللين مطلوب مع رفعون ومطلوب في الدعوة.
مع الوالدين قولا كريما يحتاجان من ابنهما قولا كريما يبين لهم طيب العنصر وفي سورة الإسراء (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ (70)الإسراء) ومن تكريمك لوالديك أن تقول لهما قولا كريما. هذا تناسق! ابليس قال في غير موضع في القرآن (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)ص) وقال في الإسراء قال (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)) تناسب التكريم في الآية قبلها (ولقد كرمنا بني آدم) جاء الجواب يتناسب مع سياق السورة وسياق التكريم فيها. يختار الثوب اللفظي بما يتسق مع سياق السورة.
قولا سديدا في سورة الأحزاب، عندما قالوا في موسى كلاما خطيرا واتهامات فبرأه الله مما قالوا. عليكم أن تقولوا قولا سديدا، عندما اتهموا رسول الله صلهم وعندما يريدون أن يؤذوا رسول الله بكلامهم قال لهم الله قولوا قولا سديدا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله، فقولوا قولا سديدا.
(فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)طه) قال العلماء دأب الدعاة أنهم يدعون بالتي هي أحسن وبالقول اللين فالمدعو لن يكون في الطغيان أسوأ من فرعون ومع ذلك أمر الله موسى وهارون بأن يقولا له قولا لينا فما بالك بمن هو أقل من فرعون طغيانا؟!
(قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)) ووردت في الشعراء (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)الشعراء) هما رسولان بدليل (فاتياه) في سورة طه حضور مكثف لشخصية هارون من بداية السورة لآخرها (اتيا، اذهبا، قولا، ربنا إننا نخاف ، لا تخافا إنني معكما) على الرغم من أن موسى هو النبي وهارون يساعد موسى وهو وزيره، الزوجية ملحوظة في كل السورة وقصة هارون مع السامري هارون له حضور فقال (إنا رسولا ربك) أما في سورة الشعراء مبنية على الخطاب المفرد لموسى هو النبي الرسول وهارون وزيره، هو رسول واحد بحكم أن الرسالة واحدة لأن هارون بعث ضمن رسالة موسى برسالة واحدة.
في رحاب سورة
د. محمد صافي المستغانمي
قناة الشارقة – 1436 هـ
الحلقة – في رحاب سورة طه – 3
تقديم الإعلامي محمد خلف
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
(سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)) ما قال (فأخرج) (وأنزل يستقيم معها فأخرج) أو (وأنزلنا – فأخرجنا)؟
هذا كثير في القرآن الكريم، يسمى في اللغة العدول أو الانزياح والبلاغيون يسمونه الالتفات (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ 22 يونس) دائما الحضور والغياب لنكت معينة، ففي الفاتحة نقرأ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) ينقلب اضمير من الغائب إلى المخاطب، الإلتفات يراد به الاستحضار. وفي آية سورة طه (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)طه) موسى يحاجج فرعون: من الذي خلق السماء؟ من الذي خلق الأرض؟ من الذي أنزل المطر من السماء؟ الله جل ثناؤه، هناك ترقي، وهذه قاعدة متكررة مطردة في القرآن (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)الزخرف) في سورة الزخرف، وفي سورة النمل(أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)النمل) كأن الأسلوب القرآني يقول أنا أحاججك، آتي بك إلى أرضية معينة: من خلق السماء؟ الله، من الذي أنزل؟ الله، يترقى الأسلوب، ما دمت آمنت أن الله هو الذي خلق وهو الذي أخرج قال (فأخرجنا) نون العظمة تفيد الطاعة المطلقة، التفات يدل على الطاعة المطلقة، المتحدث يترقى مع مخاطبه وهذه قضية مطردة في القرآن الكريم، في سورة الأنعام (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)).
(إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)طه) ما دلالة (أكاد أخفيها)؟ هي الساعة مخفاة أصلًا
الساعة لها أجل محدد عند الله سبحانه وتعالى (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)الرعد) (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)المؤمنون) أخفاها حتى يبتلينا (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)الملك) الشيء المخفى نحن لا نعلمه. (أكاد أخفيها) أكاد أجعلها خافية تمامًا، كثير من الآيات في القرآن تذكر بيوم القيامة وتُهر يوم القيامة حتى يعود المجرم ويرعوي المفسد. أكاد أخفيها إخفاءها الحقيقي. أبو علي الفارسي لغوي كبير قال: أكاد أزيل خفاءها (عكس المعنى الذي يذكره المفسرون)، أكاد أجلّيها لكم لأن الهمزة تفي الإزالة، فلان أعجم الكتاب أي أزال عجمته، أكاد أخفيها يعني أكاد أزيل خفاءها، الهمزة عندما تدخل قد تفيد التعدية وقد تفيد الإعجام، الضد والإزالة، وهنا لها المعنيان وهذا من التوسع الدلالي، يجوز لنا أن نفهمها: أكاد أخفيها إخفاء حقيقيا وأكاد أخفيها أكاد أظهرها وهذا من عظمة القرآن.
قال (إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)طه) وفي مواضع أخرى قال (إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)غافر) اللام المزحلقة المؤكدة وردت في سورة الحجر (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)الحجر) عندما يكون الخطاب مع المشركين الكافرين الذين لا يصدقون يحتاجون لتأكيد فقال (لآتية) أما موسى مؤمن صادق لا يحتاج لتوكيد. الساعة هنا يوم تقوم الساعة يُقصد بها القيامة .
في قصة موسى مع السحرة (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)طه) ما دلالة تقديم هارون على موسى؟
وردت في القرآن موسى وهارون (رب موسى وهارون) في سورة الشعراء وفي الأعراف، الأصل موسى نبي بني إسرائيل وهو كليم الله وهارون وزيره، لكن في سورة طه نجد حضورا لهارون مكثّف. في السورة صورة التثنية وأعطى الله تعالى لهارون دورا أساسيا في الآيات (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)طه) موسى نقل شعور أخيه (إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا) وفي قصة السامري أيضًا حضور هارون (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)طه) حضور هارون في سورة طه واضح مكثف فكان من تكريمه تقديم هارون على موسى ونطق السحرة الذين انقلبوا إلى مسلمين مؤمنين نطقوا باسمه أولا من وحي اللقاء ولا ينبغي أن نحكم أن هارون أفضل من موسى، بعض المفسرين قالوا لأنه أكبر من موسى هذا كلام جميل لكن ليس بدليل لأن في السور الأخرى تم تقديم موسى على هارون. ومن بركات هذا الأسلوب (آمنا برب هارون وموسى) يتناسب مع الإيقاع الصوتي لسورة طه (يخشى، أرى، هدى، ينسى…) لكن لا نقول تم تقديم هارون فقط لأجل الإيقاع الصوتي والفاصلة القرآنية، وإنما لأجل حضور هارون البارز، لأجل تكريمه شاء الله تعالى أن يقدّمه، وقد يكون السحرة مرة قالوا هارون وموسى ومرة قالوا موسى وهارون ويمكن أن بعض السحرة قالوا هذا وبعضهم الآخر قال القول الآخر، والبيان القرآني ينقل لنا الصورة ببيان عجيب.
في سورة الأعراف ذكر رب العالمين (قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)الأعراف) في سوة طه لم يرد (رب العالمين) لأنه لم يرد في السورة بهذه الكثافة التي في سورة الشعراء، في الشعراء تكرر فيها من البداية (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)الشعراء) (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)الشعراء) لما آمن السحرة قالوا (آمنا برب العالمين) الذي ورد في السياق حتى إبراهيم الخليل ورد في حديثه (رب العالمين) (إِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)الشعراء) (رب العالمين) لها حضور في سورة الشعراء فنطق بها السحرة في سورة الشعراء. قال الإمام الرازي القرآن كله كأنه كلمة واحدة دليل على الاتساق والانسجام في استعمال الكلمات.
السحرة قالوا (آمنا برب هارون وموسى) لم يعب عليهم أي شخص هذا الإيمان صحيح، فرعون قال (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)يونس) فلم يقبل منه، لماذا؟
لأنه آمن بعد فوات الأوان، عندما أدركه الغرق قالها (حتى إذا أدركه الغرق قال )
الرسول صلى الله عليه وسلم حينما جاء اليهودي وهو في الاحتضار يحثه على الشهادة (لعلي أنقذ هذه النفس) فكيف نفهمها مقابل قصة فرعون؟
لم يقل فرعون آمنت بالله رب العالمين كما يقال إيمان تحت السيف، في اللحظات الأخيرة وفرعون ما فعل وقتل من قتل وكان جزاؤه أن الله أخذه نكال الآخرة والأولى. فرعون حتى في ساعة موته متجبر متكبر ومن تكبره ما قال آمنت برب موسى وإنما قال (آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل) وفي سورة طه لما خاطبه موسى وهارون قال (فمن ربكما يا موسى) لم يقل فمن ربي يا موسى؟ موسى قال له (قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ 47 طه) كان المفترض والقياس أن يقول: فمن ربي يا موسى؟ ولكنه استنكف واستكبر ولم يقل ربي لأنه لا يريد أن يعترف بمربوبيته إله رب وخشي أن بني إسرائيل من حوله يظن أحدهم أنه اعترف أن الله ربه وهو كان يدّعي الربوبية (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)النازعات).
بعد أن آمن السحرة برب هارون وموسى توعدهم فرعون بأصناف العذاب (قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)طه) لماذا قال (في جذوع النخل) ولم يقل على جذوع النخل؟
في اللغة العربية نقول: التصليب يكون على، صُلّب على لكن فرعون الغاضب الطاغية الحاقد يريد أن ينتقم، ملك جبار طاغية كل السحرة الكابر انقلبوا مؤمنين وهو يريد أن ينتقم منهم شر انتقام فتوعدهم توعدا كبيرا فنقل التعبير القرآني تلك الشحناء وذلك الحقد الدفين العظيم الذي كان يكنه فرعون في صدره للمؤمنين الذين آمنوا فلم يكتفي بقوله (لأصلبنكم على) وإنما قال (في جذوع)، وهي نفيد الظرفية يريد أن يصلبهم في داخل الجذوع وكأن أجسادهم والجذوع داخلة في بعضها وهذه تعكس الكراهية الشديدة التي كان يكنها فرعون للمؤمنين الذين انقلبوا مؤمنين، كأنه بدل على استعارة، كأننا استعرنا في الظرفية على (على) التي تفيد الاستعلاء لأن (على) لم تقم بدورها المناسب في هذا السياق بينما (في) أدت دورها (لأصلبنكم في) وكثيرا ما تتعاور حروف الجر في اللغة العربية، يؤتى بحرف جرّ بدل الثاني (وارزقوهم فيها) بدل (منها) ارزقزهم فيها أي تاجروا في أرباحها، حروف الجر تتعاور وتتعاقب.
يرد السحرة على فرعون (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)طه) ما دلالة الواو في (والذي)؟ هل هي واو قسم
قد تكون واو القسم، أو واو العطف. قد تكون لن نؤثرك أي نفضلك على ما جاءنا من البينات والأدلة ولن نفضلك على خالقنا، فتكون الواو عاطفة. والمعنى الثاني: لن نؤثرك والله الذي فطرنا، فهي واو القسم. وأُخّرت لتفيد هذا المعنى لأنه لو تم التقديم يصبح المعنى واحدًا فقط، لو قال لن نؤثرك على الذي فطرنا وعلى ما جاءنا تصبح واو عطف فقط، لكن لما أخّرها احتملت الواو معنيين والقرآن حمّال وجوه والتوسع الدلالي حتى في حرف الواو وهذا القسم الوحيد بهذا الشكل في القرآن (والذي فطرنا).
(إنما تقضي الدنيا) الآن أقسم السحرة بالله سبحانه وتعالى الفاطر فكأن الإيمان تجلى في قلوبهم وهم لمّا يعرفون تفاصيل الشريعة؟
الإيمان مغروز في الفطرة الإنسانية أيقظه الله تعالى في قلوبهم، الإيمان كامن أيقظه ذلك الحدث، علموا علم اليقين أن ما جاؤوا به هو السحر وعلموا أن ما جاء به موسى هو المعجزة الإلهية التي تتلقف ما يأفكون، فالسحرة كانوا يبطلون عمل الله، يبطلون المعجزة الإلهية! لا، هؤلاء تابوا توبة نصحة وما يخوفهم به فرعون لا شيء، استهانوا بفرعون.
بعد ذلك أوحى الله تعالى إلى موسى (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)طه) أضل فرعون قومه واضحة، فلماذا فصّل وقال (وما هدى)؟
فرعون أضل قومه فعلًا ولم يهدهم سواء الصراط إنما أخذهم للهاوية. (وما هدى) هذا في اللغة يسمى تأكيد عن طريق الترادف (أضل – وما هدى) تساويها في المعنى فهو توكيد عن طريق الترادف وهذا كثير في اللغة العربية وفي القرآن، يؤتى بكلمات تتقارب وهذه تقوي الثانية وهي للتأكيد وتنسجم مع الإيقاع الصوتي، في القرآن عندما يقول الله تعالى عن الأصنام (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ (21)النحل) نفس المعنى الأموات غير أحياء هذا يسمونه توكيد عن طريق الترادف، يعطي معنى سلبي وآخر إيجابي. هنا أضلهم وما هداهم. الإمام العلامة الزمخشري قال (وما هدى) تهكم بفرعون، سخرية، في سورة المؤمن قال (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)غافر) رد الله عليه (وما هدى) أنت تهدي لأي شيء؟! تهديهم إلى الضلال (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)هود) ردّ الله تعالى عليه (وما هدى) ما هداهم إلى صراط الله المستقيم.
ختام قصة موسى مع فرعون وتأتي قصة جديدة حينما ذهب موسى إلى ربه وابتدع السامري بدعة جديدة وقوم موسى سألوه قبل أن يذهب كما في سورة الأعراف (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)) بيّن لهم موسى ونهاهم ولما ذهب موسى للقاء ربه اغتنم السامري هذه الفرصة وهارون كان موجودا ولم يفعل شيئا، نلخص قصة السامري بشكل عام والفوائد منها.
بعدما اجتاز موسى وبين إسرائيل البحر الأحمر من ظلم فرعون خرجوا من مصر إلى سيناء قالوا (يا موسى اجعل لنا إلها) رأوا أناسا يعبدون شجرة لها أنواط وهم كانوا أناسا ماديين يريدون شيا محسوسا وموسى خاطبهم بشيء عقلي ذهني فطلبوا من موسى أن يعجل لهم إلها (قال إنكم قوم تجهلون) بعض المفسرين قال: لم تنشف أرجلهم بعد من ماء البحر الذي اجتازوا بعد معجزة عجيبة مادية! فأنبهم موسى (قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)) متبر هلاكك ما هم فيه من التبار أي الهلاك. فذهب موسى إلى ميقات ربه ليكلمه الله في الموعد المحدد. السامري يقال أنه لم يكن من من بني إسرائيل وإنما كان من قبيلة أخرى، السامري نسبة إلى سامرة هل هي التي كانت عند الفينيقيين أو من بقايا أهل مدين، فهذا نسبته سامري. اغتنم الفرصة وكان رجلا ذكيا وماكرا فقال هؤلاء عندهم ذهب أصنع لكم عجلا تعبدونه فصنع العجل وكان ماهرا وبحيلة معينة أنتج للعجل خوارا(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)طه) وقال (هذا إلهكم وإله موسى) سولت له نفسه وأعاد بهم إلى الجاهلية الأولى، هارون نصحهم (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)طه) فلم يسمعوا نصحه ولا كلامه، هارون كان مترددا أن ينهاهم نهيًا قاطعًأ فيتفرق شمل بني إسرائيل فيفترقوا وموسى أوصاه (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي 142 الأعراف) أو أنه كان يحافظ على جماعة بني إسرائيل بالحكمة إلى أن يرجع موسى فيتصرف معهم فاختار أخف الضررين وأهون الشرّين وإن اختلفوا في العقيدة. إلى أن جاء موسى وعاتبه (يا بانؤم أمري) إلى أن خاطب السامري: ما الذي دعاك يا سامري؟ (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)) تسويل من الشيطان. العبرة من القصة أن بني إسرائيل كانوا قومًا ماديين ولما خرجوا من عند الأقباط وهربوا مع موسى أتوا بالحلي من الذهب وقذفها السامري وأخذ قبضة من أثر جبريل كما يقولون، القصة مفادها أن الله لا يُجسّم، الله جل ثناؤه هو إلهنا نؤمن به بالغيب ونثني عليه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، موسى كان يدفع لهذا الاعتقاد الصحيح ولكنهم أرادوا عجلا فلما جاء موسى بيّن لهم بالطريقة الملموسة: هذا إلهكم؟ قالوا نعم،( قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)) (لنحرقنه ثم لننسفه في اليم نسفا) حرٌّه وذراه في البحر، لم يستفد منه وبيّن لهم بيانًا ماديًا مصيره، لم يستفد من بقايا الذهب، أرادهم أن يتعلموا (انظر إلى إلهك نسفا) قال لنحرّقنه فيها تشديد ثم (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98))أرجعهم للعقيدة الصحيحة، ماذا يعلم هذا العجل؟ هل يتحدث معكم؟ (أفلا يرجعون أن لا يؤجع ليهم قولا ) قصة ترد الناس إلى العقيدة الصحيحة وبنو إسرائيل انحرفوا عن العقيدة الصحيحة فجاء موسى وأرجعهم.
(إنما إلهكم) حصر وقصر مثل قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ(10)الحجرات). (إنما إلهكم إله واحد ) أتى بالتوحيد والعلم، الله سبحانه وتعالى له صفات كثيرة وهنا ذكر العلم والتوحيد. إنما مؤكدة تفيد الحصر والقصر كأننا أتينا بما النافية وإن، وهي تبطل ما قبلها.
بعض المفردات وردت في صيغة معينة في سورة طه مثل كلمة (رجع) هنا قال (فَرَجَعَ مُوسَى 86 طه) كلمة رجع ايقونة لفظية في سورة طه (فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ 40 طه) (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)) بينما في سورة الأعراف قال (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)الاعراف) لأن التكليم في سورة الأعراف أكثر (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي 144) (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ 143) فناسب (أنه لا يكلمهم) أما في سورة طه فالسياق فيه كلمة رجع (فرجعناك إلى أمك) (ألا يرجع لهم قولا) (فرجع موسى) (حتى يرجع إلينا موسى).
لما رجع موسى قال (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)) هل يريد لأخيه أن يتبعه أم يريده ألا يتبعه؟ لماذا عبّر بصيغة النفي هنا؟
توقف الغويون كثيرا في هذه المسألة (يا هارون ألا تتبعن) المقصود ما منعك أن تتبعني وهذا يسمى في البلاغة الاحتباك أن يذكر المتكلم كلمة في الجملة الأولى ويعني معنى آخر في الجملة الثانية مثال: ما منعك أصلها ما منعك أن تتبعني وما اضطرك أن لا تتبعني، هي للتوكيد لم يكتفي بقوله ما منعك أن تتبعني وما اضطرك أن لا تتبعني؟ كلمة ما منعك دلت على (أن تتبعني) وكلمة (ألا تتبعني) دلّـ على المحذوف (اضطرك) وهذا هو الاحتباك.
مثال آخر (قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ 13 آل عمران) الأخرى كافرة فكيف كانت الأولى؟ تقاتل في سبيل الله معناها الأولى مؤمنة يفهم من السياق، كلمة كافرة تدل على مؤمنة وأصل الكلام: قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الشيطان، لكن لا داعي أن يقول في الأولى مؤمنة ولا في الثانية في سبيل الشيطان.
وهنا قال (ما منعك إذ رأيتهم أن لا تتبعني) أصل الكلام: ما منعك أن تتبعني وما حملك على أن لا تتبعني؟ موسى مغتاظ حتى أنه أخذ برأس أخيه ولحيته، في سورة الأعراف قال الله تعالى في قصة آدم وإبليس (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ 12 الأعراف) أصلها في سورة ص (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ 75 ص) التحليل ما منعك أن تسجد وما حملك أن لا تسجد والسياق في الأعراف أشد، هذا الاحتباك.
هارون يقول (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)) أيّ قول؟
لما جاءه موسى ولامه وعاتبه عتابا شديدا، هارون كان حليما وموسى كان لديه حدّة فقال دعني أشرح لك (لا تأخذ برأسي إني خشيت) لم يقل خفت وإنما خشيت لأن الخشية أشد من الخوف. الخشية شدة الخوف. أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولا ترقب قولي الذي قاله موسى له في سورة الأعراف (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)) لا بد أن نقرأ القرآن متكاملا، سورة الأعراف تجيب عن القول الذي ذكره هارون في آية سورة طه.
قال (يا بانؤم) هو أخوه وهنا عدول عن ذكر الأخ، كان المقتضى أن يقول يا أخي فعدل عنها إلى (يابنؤم) ولم يقل يا ابن أبي لأن الأم تذكر بالبطن الواحد واللبن الواحد، سأله سؤالًا عاطفيا يستجيشه ويستثيره كأنه يقول ارحمني يا ابنؤم يا من جمعني بك بطن واحد ولبن واحد، عندما تناشد أخاك بأمه فأنت تشد آصرة الأمومة وهذا كلام جميل أما لو قال له يا أخي، لكن ناشده بما يجمعهم من أمور.
تنتهي قصة موسى مع السامري ونأتي إلى بعض الآيات في نهايات سورة طه. يقول الله سبحانه وتعالى (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108))
(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ) يوم القيامة حين يحين الوقوف بين يدي الله يدعو الداعي (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ 7 القمر) الكل يأتي من الأجداث إلى أرض المحشر يوم تبدل الأرض.
(يتبعون الداعي لا عوج له) يذهبون بطريق مستقيم إلى أرض المحشر وخشعت الأصوات هنا مجاز عقلي أُسند الخشوع للأصوات وفي الحقيقة هم اصحاب الأصوات خشعوا، لا تسمع إلا همسا صوتا خفيا (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)) تصوير عجيب للموقف الشديد العصيب الذي لا يجرؤ فيه أحد أن ينبس بكلمة ولو همسا، حتى الذين يريدون أن يشفعوا والله وافق وأذن لهم أن يشفعوا لا يتكلمون (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)) لا يستطيع أحد أن يتحدث أمام جلال الألوهية إلا إذا أذن الله له أن يتحدث.
(يومئذ لا عوج له) يذهبون مسرعون إلى الهدف يبادرون ويسمعون الكلام وقبلها قال تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)) أرض مستوية غير الأرض التي نحن عليها، أرض جديدة نظيفة ليس عليها قطرة دم فبما أن الأرض لا عوج فيها ولا أمتا أتى بالتعبير الثاني من باب التناظر (لا عوج له) بطريق مستقيم كان يمكن أن يقو مستقيم لكنه ذكر (لا عوج له) مراعاة للتناظر في الأسلوب.
من الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجبال؟ في سورة الإسراء وردت (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ (85)الإسراء) وكانت قريش سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن فتية الكهف وعن الرجل الصالح وعن الروح.
هذه الآية توقف فيها الكثير من العلماء للفاء الموجودة في الجواب (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا) الفاء في الجواب تدل على سرعة التعقيب كأن الله سبحانه وتعالى يقول: إن يسألوك عن الجبال فقل ينسفها ربي، هي واقعة في الجواب أما كل الأسئلة التي وردت في القرآن لا يوجد فيها الفاء (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ 220 البقرة) (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ 85 الإسراء) (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ 222 البقرة) إلا هنا (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا) المفسرون لهم تخريج جميل قالوا كأن الآية نزلت قبل السؤال، فإن يسألوك يا محمد، قال تعالى قبلها (لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) أين الجبال؟ أين جبال مكة؟ وأين جبال أراضي الحجار؟ (يجعلها ربي دكاء) إن يسألوك (فقل ينسفها ربي نسفا) ويستبدل الأرض التي عليها، فهي تحتمل هذا الجواب والفاء هنا التصقت بجواب شرط مقدّر. وقد بحثت عن المسألة عند المفسرين لأنه لا أحد يستطيع أن يقول في القرآن برأي ولكن نستنير بأقوال المفسرين الكبار.
(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)) هنا (وقد خاب من حمل ظلما) وفي قصة فرعون (وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)) وقال (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا) الظلم هو الهضم.
(تكرر افترى في السورة: وقد خاب من افترى، ويلكم لا تفتروا على الله كذبا، )
الظلم هو الانتقص، الهضم، هنا نجد (ظلما ولا هضما) وفي سورة الجن قال (فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)) في سورة طه تتميز بثوب خاص: الكثير من الكلمات المتقاربة تأتي في سورة طه (لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)) تخاف – تخشى، وهنا (ظلما ولا هضما) ظلما – هضما، كلمات متقاربة تشبع المعنى وتعطيه زيادة (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا (150)) الغضب من شيء يجعله في غضب وأسفا فيه شيء من الحزن، هو غضب مع حزن. سورة طه جمعت كثيرا من الكلمات المتقاربة لتقوية المعنى.
(وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا (113)طه) لم يقل كتابا وفصّلا وقال (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114))
في رحاب سورة
د. محمد صافي المستغانمي
قناة الشارقة – 1436 هـ
الحلقة – في رحاب سورة طه – 4
تقديم الإعلامي محمد خلف
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
(وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)) لماذا قال الله تعالى مخاطبًا نبيه (ولا تعجل بالقرآن) ولماذا اختار لفظة القرآن بدل الكتاب كما في سورة الكهف (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1))؟
هذا من باب رد العجز على الصدر أول آية في السورة (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2)) تعود السورة بعد قصة موسى تعود السورة للهدف الذي صيغت له السورة وهنا امتن على الأمة العربية (وكذلك عربيا) بها نعمة اللغة العربية التي هي وعاء القرآن ومن خلالها يفهم القرآن، مدح وثناء للقرآن الذي نسجته العناية الإلهية باللغة االعربية ثانيا تعريض بالمشركين وتحميق لهم، إذا كنتم تتفاعلون مع الشعر وتستنصرون وتأخذكم الحمية بالشعر فما بالكم وهذا القرآن أفصح نص بياني لغوي، هذا تجهيل لهم، كأنه يقول لهم أنتم لا تعرفون مصلحتكم، كيف تحركم قصيدة ولا يحرككم هذا الكلام؟! عمرو بن كلثوم من أصحاب المعلقات كان قومه يحفظ معلقته ألهتهم عن كل المكارم فما بالكم أيها العرب الذين تحسنون اللغة وبلاغتها كيف تقفون موقفًا معاديًا للقرآن الذي أنزل بأعظم كلام بأعظم لسان؟! فهي منّة على الذين أنزل إليهم وذكرنا أن السورة فيها منّة على الرسل ورعاية للرسل والمرسل إليهم وهنا ذكر منّته سبحانه وتعالى على العرب (كذلك أنزلناه قرآنا عربيا)
(ولا تعجل بالقرآن) الرسول صلى الله عليه وسلم بشر كان لفرط حبه بالقرآن ولشغفع بالكلام المنزّل كان يخشى أن يفوته شيء منه أو يفوته لفظ فكان يردد القرآن عقب جبريل مباشرة حتى لا ينسى (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) الأعلى) حتى جاءته الطمأنة وجاءته طمأنة أخرى في سورة القيامة (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) القيامه) في صدرك وقرآته حتى تحسن قرآءته لغيرك (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) القيامه) اي فاتبع قرآءته، القرآن هنا مصدر بمعنى القرآءة. النبي صلى الله عليه وسلم عنده أعظم مهمة في الحياة، خاتم الرسالات كان يخشى أن ينسى فقال (ولا تعجل وحيه) من قبل أن يتم جبريل من الوحي إليك وعندما ينتهي من القرآءة ستجده مكتوبا في صدرك.
(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)) لما نهاه الله سبحانه وتعالى عن الاستعجال عن العجلة فتح له باب الدعاء، علمه كيف يدعو، سياق العلم (وقل رب زدني علما) كل الأدعية التي علمها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم هي مفيدة وكل دعاء يتناسب مع سياق السورة وهنا سياق السورة العلم وفي سورة الإسراء في سياق الوالدين قال (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا 23 الإسراء) علمه كيف يكرم والديه فيقول (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)الإسراء)، في نهاية سورة الإسراء لما أحاطت به قريش وأرادوا أن يسجنوه وأن يقتلوه (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)الإسراء) لما استفزوه علّمه أن يقول (وقل رب أدخلني مدخل نصيرا) كل دعاء علّمه الله جلّ جلاله لرسوله صلى الله عليه وسلم فهو يتفق وينسجم مع السور والسياق والحدث، في سورة البقرة لما أمر إبراهيم واسماعيل برفع القواعد من البيت (ربنا تقبل منا ) علّمه (رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) البقرة) هذا خير الدعاء. في سورة الكهف قال أهل الكهف (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)) فعلّمه أن يقول (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)) استفد من أهل الكهف وادعُ دعاءهم لعل الله ينفعك لذلك يفترض أن يقرأ الإنسان أدعية القرآن بتبصّر فإذا ما رأينا دعاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أن فيه سرًا عظيمًا.
تنتقل السورة إلى قصة خلق آدم وقد تكررت كثيرا في القرآن وأمر الله سبحانه وتعالى للملائكة أن يسجد لآدم، قصة آدم يبدأها دائما (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ) ولكن هنا (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)) ما الذي عهده الله تعالى إلى آدم؟ هل الآية مرتبطة بما قبلها (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114))؟
الواو هنا استئنافية. لم تتكرر هذه الآية في القرآن كاملًا في قصة آدم، ذكرنا سابقا أن قصة آدم تكررت في القرآن في سبعة مواقف أكثرها (وإذ قلنا) وهنا (ولقد عهدنا إلى آدم) العهد هو الميثاق الذي بلغه الله كُل من كل الجنة إلا من هذه الشجرة، نهى آدم ونهى حواء زوجه. المناسبة هنا مراعاة النظير والاتساق في النص القرآني، هنا (ولقد عهدنا إلى آدم) فنسي وأكل من الشجرة موقعها هي شبيهة تماما بقصة موسى مع بني إسرائيل: موسى قال لهم (اعبدوا الله ) وعلمهم العقيدة وبمجرد أن ذهب للقاء ربه نسوا وذهب العهد فلما رجع قال لبني إسرائيل (أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)) وهنا (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) هم نسوا وآدم نسي أيضًأ، كيف نسوا؟ بنو إسرائيل نسوا لما صنع السامري لهم العجل قال (فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)) نسي بنو إسرائيل ونسي السامري، الكل نسي. وآدم أصابه النسيان (فنسي)، ثمة تناظر: آدم وسوس إليه الشيطان والسامري قال (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)) تسويل النفس هو من الشيطان، ثمة تناظر بين قصة آدم وكيف وسوس له الشيطان وبين السامري مع بني إسرائيل لذلك جاءت الآية رابطة للقصة من نظيرتها، ثم جاءت قصة آدم على المعهود (وإذ قلنا للملائكة)
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)) أيّ جنة؟
جنة عند الله سبحانه وتعالى، هل هي الجنة التي سيجزي بها عباده أم هي جنة خاصة؟ للعلماء أقوال، والأرجح أنها عند الله بدلالة الفعل اهبطوا الذي يدل على أنه من علو. قال المفسرون إما أن تكون الجنة التي سيجازي الله بها عباده لأن فيها كل شيء وأعطاهم تجربة أن يأكلا من هذه الشجرة
هل يعقل أن يكون في الجنة التي سيجزينا الله تعالى بها بإذن الله ويكون فيها ما ينهانا عن أكله؟ هذه كانت تجربة خاصة، والأرجح أنها جنة لدى الله سبحانه وتعالى جنة تجريب وتدريب وليست جنة الآخرة، إبليس كان أعبد من الملائكة لذلك نقول أن الأرجح أنها ليست جنة الجزاء هي جنة عند الله كان فيها الابتلاء والامتحان وأنزله الله منها إلى الأرض (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)) يأتينكم مني هدى من السماء إلى الأرض.
أين نزل آدم؟ بعضهم يقول في عرفات حيث تعرف على حواء، نزل في الأرض وهذه التفاصيل، القصص القرآن لم يذكر الله سبحانه وتعالى كثيرا من التفاصيل لأنها لا تهم، مواقع وأشخاص، وأسماء ولون أصحاب الكهف، المهم العبرة (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (111)يوسف). أنزل الله تعالى آدم وحواء وإبليس إلى الأرض قال (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)طه) والامتحان (إما يأتينكم مني هدى) عن طريق إنزال الوحي فمن اتبع هداي ومن تبع هداي فلا خوف ولا هم يحزنون، ولا يضل ولا يشقى، ثم توالت الشرائع تترى ويوم القيامة تبدل الأرض غير الأرض والسموات. لكن القصة فيها كثير من العبر.
قال الله سبحانه وتعالى (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) طه) وفي موضع آخر (أَبَى وَاسْتَكْبَرَ34 البقرة) وفي موضع (أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ 32 الحجر)
هنا قال (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا فسجدواإلا ابليس أبى) رفض وامتنع وأتى بها مطلقة، أولا سياق السورة يناسب وأبى تتفق مع الإيقاع الصوتي لكل آيات السورة المنتهية بالألف المقصورة، (أبى أن يكون مع الساجدين) وردت في سورة الحجر قال الله (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)الحجر) حديث عن السجود وفي ختامها قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم (وكن من الساجدين) تناسق في اختيار الألفاظ. في سورة البقرة (إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) والسورة فيها تفصيلات عن الكافرين وبينت أهل الكفر وإبليس استكبر وكان ضمن الكافرين. في سورة الكهف (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ 50 الكهف) فسق عن أمر ربه، بيّن خروج إبليس عن أمر الله لأن السورة مبنية على أمر الله (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16)الكهف) (وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي 73 الكهف) (يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ 21) كلها مبنية على الأمر على الشأن فإبليس فسق عن أمر الله فجاءت كل آية بحسب السياق لكل سورة تتحدث عنه. إبليس أبى وامتنع ولكن البيان القرآني يصوغها في كل سورة بمقتضى حال السورة لكل مقام مقال وهذه قمة البلاغة وهي مطابقة الكلام لمقتضى الحلال لكل مقتضى أسلوب معين.
(فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)) لم يقل فتشقيا لأن السورة قال (إن هذا عدو لك ولزوجك) لم يرد في كل القرآن في غير هذا الموضع مع أن القصة وردت في القرآن في سبع مواضع تناسب تماما كما قال عن موسى وفرعون (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ 39) يخرج القرآن هذا من مشكاة إلهية! مراعاة لما ورد في السورة.
(فلا يخرجنكما) خطاب للاثنين (فتشقى) مفرد أصلها فتشقيا ولكن شقاء الزوج هو شقاء للمرأة فهي تابعة لزوجها (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ 34 النساء) فإذا شقي هو شقيت هي تبعًا. هناك تلازم بين الشقاءين وإشفاقا على المرأة قال فتشقى وفيها تناسق إيقاعي مع إيقاع السورة من بدايتها لخاتمتها (تذكيرا لمن يخشى، طغى، الأولى،…) وإن كان ليس هذا هو الهدف الأول وإنما شقاء الرجل يدل على شقاء المرأة لأنهما بيت واحد ثم المراعاة الصوتية.
(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)عدم الأكل وعدم وجود اللباس () وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119))) ما دلالة تضحى؟
الضحو يضحى عندما يبرز للشمس، عندما يكون الإنسان بارزًا واضحًا أمام الشمس نقول يضحى. كيف نجمع بين الجوع والعري؟ لم يقل مثلا أن لا تجوع ولا تظمأ لأن القرآن له اعتبارات أخرى: الجوع خلو البطن من الطعام يؤدي إلى ألم باطني شديد وخلو الظاهر من اللباس يؤدي إلى الألم، ألم الشمس وألم البرد فجمع بين ألم الباطن وألم الظاهر، قال العلماء إن لك أن لا تجوع وتتألم داخلياً خلو داخلي وألم وخلو خارجي وألم فجمع بين النظيرين بزاوية مختلفة. (وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) فيها قرآءتين (وأنك لا تظمأ) (وإنك لا تظمأ) الظمأ هو العطش الشديد ألم داخلي شديد من شدة الظمأ والظمأ هو حرارة الداخل وتضحى حرارة الخارج فجمع بين حرارة داخله بالظمأ وحرارة خارجه الجلد فقال (ولا تضحى) وإلا في غير القرآن كان يمكن أن يقول لا تجوع ولا تظمأ لكن للقرآن اعتبارات أخرى وأضف إلى ذلك الإيقاع الصوتي (تعرى، تضحى) القرآن جاء معجزة أدبية لغوية فنية أعجز العرب من حيث المعنى وأعجزهم من حيث الصوت.
(فوسوس وهدى)
هذه القصة وردت في القرآن بأساليب مختلفة، إلى أن قال تعالى (بعضكم لبعض عدو) بني آدم مع إبليس وذريته. (فإما يأتينكم مني هدى ولا يشقى) يضل من الضلالة في الدنيا والشقاء في الآخرة، (يضل هدى) طباق وهو من المحسنات اللفظية، ملمح أساسي في سورة طه (الهدى) لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة والآية التي بعدها توضحها (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)) الآيتان تفسران مع بعضهما في نفس السياق.
نفس الآية وردت في سورة البقرة قال (فمن تبع هداي) لأنها هي أصل الكلام والفرع في سورة طه، في طه (فمن اتبع هداي) ما الذي سوّغ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في سورة البقرة وفي سورة طه (لا يضل ولا يشقى). في سورة البقرة (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) تكررت في السورة 6 مرات (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) (الذين ينفقون أموالهم ) (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)) (إن الذين آمنوا من آمن بالله واليوم ) لما جاءت آية آدم قال (فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) تناسب سياق سورة البقرة. في سورة طه قال (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) (ولا يخرجنكما من الجنة فتشقى) فتأتي (فلا يضل ولا يشقى) مراعاة للسياق ولكل سورة ثوب خاص بها.
في نهاية سورة طه يقول الله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)) ما الذي ينهى الله تعالى نبيه عنه؟
هذه الآية (ولا تمدن في الدنيا) أزواجا يعني أصنافًا من متع الحياة الدنيا والرسول صلى الله عليه وسلم مخاطب بالآية وخوطبت الأمة بشخص نبيها نحن مطالبون بعدم مد العين تتبع هذه الدنيا وتطيل النظر فيها وتطلق لها العين والله تعالى قد يعطي الكافرين (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)الإسراء) الله إذا وسع على إنسان ليس بالضرورة أنه يحبه وإنما قد يكون قد ابتلاه وإذا وسع على مسلم قد يكون يحبه وابتلاه. هنا قال (زهرة الحياة لنفتنهم فيه) هذه فتنة، والذكي الكيّس من فطم نفسه ولم يتبعها هواها (لنفتنهم فيه) لنبلوهم واختار لنفتنهم لأن سياق سورة طه في الفتنة (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) وبنو اسرائيل قال (إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ) الثوب اللفظي لسورة طه الفتنة والافتتان فهنا قال (ورزق ربك خير وأبقى) ما عند الله خير وأون وابقى لك يا محمد ولكل المسلمين. لكن انظر إلى السلوب رزق ربك الذي يحبك الذي رباك ورزقك خير وأبقى ما قال أعظم وأدوم، هذا يذكرنا بفرعون لما هدد الذين كانوا سحرة ثم انقلبوا مؤمنين (قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)) ردوا عليه (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)) ما عند الله خير وعذاب الله أشد والجنة عند الله أبقى وفي ختام السورة (خير وأبقى) ليتناسب مع الكلام. خاطب الله عز وجلّ النبي صلى الله عليه وسلم ويخاطب الأمة أن لا تمدن عينيها إلى الدنيا وفي سورة الرعد قال (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ (96)النحل) تناسب ما ورد فيها (مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)الرعد).
سورة طه ورد فيها كثير من القصص لكن بين الفينة والأخرى يذكرنا الله أن هذه السورة محورها العام خطاب للنبي ليتذكر كيف رعى الله رسله فهي رعاية يقول له (هل أتاك) (لا تمدن) (رزق ربك) (وأمر أهلك ) يذكرنا أن هذه السورة جاءت خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم وأن القصص التي فيها هي تسرية له.
السورة مسوقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بدايتها تسلية له وتطمينًا له (طه لتشقى) بل لتسعد وكل ما في السورة يبين الله تعالى كيف اعتنى بأنبيائه وكيف رعاهم وكذلك الشأن بالنسبة لك يا محمد وكاف الخطاب أيقونات تخيط جسم السورة إلى أن قال (هو رزق ربك) يا محمد (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)) اسماعيل عليه السلام في سورة مريم قال (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)) والنبي صلى الله عليه وسلم أمره (واصطبر عليها) زيادة في المبنى زيادة في المعنى الله تعالى قالها لمحمد فما بالنا لا نقولها لأبنفسنا مع ابنائنا؟! نحتاج إلى اصطبار. في سورة الكهف قال (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ 28 الكهف) لأنه يصبر على نفسه فقط
محصلة سورة طه وربطها بما بعدها سورة الأنبياء:
للسورة سياق عام ومحور عام وأن السورة من القرآن ترتبط بما قبلها وبما بعدها فهل هناك ارتباط بين طه والأنبياء؟
سورة طه سورة الرعاية المطلقة العناية الهية الربانية بمحمد صلى الله عليه وسلم وبموسى والعناية بالمرسل إليهم حتى بفرعون اعتني به لما قيل لموسى وهارون (وقلا لينا) وعناية ببني إسرائيل () وكل السور التي وردت فيها تخدم هذا المحور على اختلاف بين القصص.
في نهاية السورة آية تربط هذه السورة بسورة الأنبياء بعدها (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)) اللزام العذاب، لولا كلمة من الله في أزله، الله في عليائه قضت حكمة الله أن لا يعذب أمة محمد رغبة أن يخرج من بطونهم من يعبده، ولولا ذلك لكان العذاب نازل على الكافرين لا محالة، حتى الكافرين أراد الله أن يخرج من اصلابهم من يؤمنون. قبلها أمره بالصبر لأنها قضية تحتاج للصبر، لو شاء الله جلّ جلاله لأهلك الكافرين عندما قالوا لولا يأتينا بآية، وإنما قال (ولولا كلمة سبقت لزاما) لكان العذاب لزامًا (وأجل مسمى) وأصل الكلام لولا كلمة سبقت وأجل مسمى لكان العذاب (تقديم وتأخير) لذلك الله تعالى لم يعذب الأمة الإسلامية لأنه أراد أن يخرج منهم من يوحد الله ه
في أول الأنبياء (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)) تخويف، خوفهم في آخر طه وهو يريد أن يجذبهم للقرآن والإسلام. سورة الأنبياء سورة عجيبة، افتتح الأنبياء بمزيد من التخويف (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)) حديث مباشر مع الذين كفروا، انتهت سورة طه يتخويفهم وتحذيرهم ثم جاءت سورة الأنبياء تخوفهم بمطلعها ثم تأتي بقصص من قصص الأنبياء بما يخدم سورة طه والأنبياء.
كأن السورة في محورها العام تتحدث عن رعاية الله للمرسلين ولمن أُرسل إليهم المرسلون لأنها في نهايتها ذهبت بالحديث لتخويف من كفر بالمرسلين وكانوا سببا في التنغيض على المؤمنين فكانت النتيجة محسومة ومع ذلك أمرهم ربهم بالتربص وبالانتظار (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)طه) وستعلمون من ضل سواء الصراط النقي المنظم وستعلمون من ضل سواء الصراط فهي تمهد للسورة التي بعدها تمد للسورة التي بعدها.
حديث في سورة طه حديث للنبي في ختامها يحدّث الذين ضايقوه .