في رحاب سورة

في رحاب سورة الأنبياء – 1 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة

د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1436 هـ

الحلقة  – في رحاب سورة الأنبياء – 1

تقديم الإعلامي محمد خلف

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

سورة طه كان محورها الرئيسي عناية الله جلّ وعلا برسله وبالمرسَل إليهم أما الأنبياء فهي سورة مكية هي السورة 71 من حيث ترتيب النزول وفي المصحف الشريف تقع بعد سورة طه وقبل سورة الحج. نذكر العلاقة التي تربطها بسورة طه: سورة طه تنتهي (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)) تنتهي بهذه الموعظة وهذا البلاغ العظيم كلٌ ينتظر كيف ستكون النتيجة ومن هم أصحاب الصراط السوي ومن سيكونون على ضلال فجاءت سورة الأنبياء أصحاب الصراط السوي ممثلين بالأنبياء وأعظم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ 253 البقرة).

سورة الأنبياء في بدايتها (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)الأنبياء) حديث يحمل وعيدً شديد اللهجة ونذيرا شديد، اقترب للناس حسابهم حال كونهم غافلين معرضين هذا المطلع القوي يناسبه المقطع الأخير من السورة عندما يقول الله سبحانه وتعالى قبيل نهايتها (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)) هنا نجد التناسق بين مطلع سورة الأنبياء (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) ومن أدلة ما اقترب وإشارات ما اقترب قال (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)) وجاء على ذكر يأجوج ومأجوج وهي من الإشارات الكبرى وبعضهم يقول هي نهاية الصغرى وبداية الكبرى.

في بداية سورة الأنبياء المشركون كانوا يتخبطون في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: شاعر، اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ساحر وأن القرآن سحر، وقالوا أضغاث أحلام،  تخبطوا بالصفات التي يصفون بها النبي صلى الله عليه وسلم وفي آخر سورة الأنبياء (قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴿١١٢﴾) وصفوه بأنه ساحر، بأنه شاعر، بأنه مجنون، ربنا المستعان على ما تصفونني به لأنه ما انتصر لنفسه قال (على ما تصفون) بشكل عام أو تصفونني به.

علاقتها بسورة الحج بعدها الأنبياء تبدأ (اقترب حسابهم) وفي نهايتها (واقترب الوعد الحق) ومن بين إشارات وعلامات الوعد الحق الزلزلة الكبرى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)الحج) هذا نوع من التوافق بين السورتين. الزلزلة كبيرة الكرة الأرضية يصيبه الزلزل الأكبر وأخرجت الأرض أثقالها.

المحور العام السورة

سورة الأنبياء لها محور كبير يتكون من فرعين: الفرع الأول هو التوحيد تحدثت من بدايتها إلى نهايتها عن التوحيد (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)الأنبياء) وتجلى في قصة إبراهيم الخليل عندما جاء وقوال أهذه آلهتكم التي تظعمون؟! فكسر الأصنام (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)) (أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)) (أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)) لا توجد سورة تحدثت عن تفنيد الآلهة كما تحدثت سورة الأنبياء تكرر فيها الآلهة خمس مرات، السورة محورها التوحيد.

والفرع الثاني ذكرت السورة خصائص الأنبياء ولهذا سميت سورة الأنبياء وتحدث عن كل نبي ما يميزه عن غيره وكلهم ينصهرون في بوتقة التوحيد، كل دعوا إلى توحيد الله سبحانه وتعالى لكن كل له صفة تميزه عن غيره، أيوب عليه السلام اتسم بالصبر، إسماعيل عليه السلام اتسم بصدق الوعد، ابراهيم عليه السلام جادل قومه جدالا عجيبا وكان خليل الله سبحانه وتعالى وكان حريصا على دعوة قومه ثم بين لهم بالطرق الإقناعية الدقيقة بأن آلهتهم مزيفة، يونس غضب واحتد وخرج بدون إذن وكان من المسبحين، زكريا كان من الداعين حيث لجأ إلى الله، سليمان وداوود اتصفا بالحكم والعدل، ذكرت السورة خصائص الأنبياء وما اتصفوا به من صفات عظيمة وكلهم يدعون إلى توحيد الله. إذن السورة تحدثت عن محور التوحيد وعن محور الأنبياء بشيء من التفصيل إلى أن يصل القارئ إلى أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

كثير من آيات السورة تحدثت عن موضوع آخر ألا وهو خلق الكون والسموات والأرض وهي السورة الوحيدة التي تحدثت عن كيفية الخلق (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)) تتحدث عن نشأة الكون وتتحدث عن نهاية الكون وما بينهما تتحدث وتقول (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19))(وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)) (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)) موضوع الإعجاز العلمي في هذا السورة له حضور واضح لكن ليس لدرجة أن يكون محورا كبيرا، هو موضوع كبير ناقشته السورة لكنه ليس محورا وإنما هو موضوع يثبت الوحدانية، السورة تتحدث عن وحدانية الله ليس له شريك وهو الخالق المستحق للعبودية، ما الدليل؟ آلهتهم المزعومة لم تقل شيئًا، الله أخبرنا عن بداية الخلق وأعطانا أدلة علمية مقنعة واضحة تدحض أقاويلهم وكذبهم البراهين التي تثبت أن الله وحده الذي خلق الكون (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)الكهف)

وحتى الحديث المتعلق عن خلق السموات والأرض متعلق بمسألة التوحيد أنه ربط الموضوع بالكفار (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا) موضوع الإعجاز في هذه السورة شيء عجيب يكفيها فخرا أنها سورة بدايتها تتحدث عن بداية خلق الكون ونهايتها تتحدث عن نهاية الكون وكل ما فيها حقائق والعلماء أمضوا فيها قرونًا، أحسن فرضية هي الانفجار العظيم ولديهم أدلة والقرآن يرجح الانفجار العظيم  الكون الآن في توسع (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)الذاريات) وأثبتت الآن الفيزياء النظرية أن جميع الكواكب والمجرات في توسع بسرعة عظيمة تقرب من 300 ألف كيلومتر في الثانية، الكون يتوسع بسرعة الضوء (وإنا لموسعون) وأثبتوا أن هذه السرعة سوف تتنافص وعندما تتناقص تغلب جاذبية مركز الكون قوة الدفع فينسحق الكون وينكمش فسموها نظرية الانسحاق العظيم والقرآن سماها (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104))

سورة الأنبياء لها محوران اثنان: المحور الأول هو توحيد الله جل في علاه والمحور الآخر هو الأنبياء وكيف كانت دعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى والمحوران واضحان منذ بداية السورة إلى نهايتها.

تحدثت السورة عن موضوعات أخرى من بينها الإعجاز العلمي في خلق الكون، نشأة الكون، السموات والأرض، الليل والنهار. وهناك مواضيع أخرى في السورة. ثمة فرق بين محوري السورة وبين الموضوعات التي تحدثت عنها وهذا الذي جعل المفسرين القدامى يتحدثون عن موضوعات السور وجاء التفسير في العصر الحديث التفسير الموضوعي وصار يتلمس المحور العام للسورة ولكن هذا المحور تخدمه مواضيع. تحدثت السورة عن الكافرين وصفاتهم: الإعراض، اللعب، اللهو، الغفلة منذ البداية (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)) الذكر هو القرآن، البعض يقول يستمعون وهم يلعبون (لاهية قلوبهم) احتراز أضاف لاهية قلوبهم حتى لا يفهم من الآية أنهم يستمعون وهم يلعبون ولكن قد يسمعوه ولكن الآية أوضحت أنهم لا يسمعون (لاهية قلوبهم) كان الكفار لا يسمعوا للقرآن ويلغوا فيه (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)فصلت)

السورة وصفت الكافرين وغطّت كثيرا من صفاتهم وبرّأت المؤمنين بأنهم لا يتصفون بمثل هذه الصفات.

وتحدثت عن الواقع الذي كان يعيشه محمد صلى الله عليه وسلم وكيف كانوا يستهزئون به كيف كانوا ينعتونه بشر النعوت والصفات كانوا يقولون عنه شاعر، ساحر، مجنون. محمد الذي كان أعقل الناس وأصدقهم ويتهموه أنه شاعر الشعر ليس مسبة لكنهم يريدون أن يتنقصوا من شأن القرآن، ويقولون أنه ساحر أو يقولوا أضغاث أحلام، اختلطت عليه الأحلام (ضغث) حزمة الحشيش، كانوا يقولون ما يراه محمد أضغاث أحلام يعني أحلام مختلظة لا معنى لها كأنه جمعها عوض أن يقولومجموعة أحلام قال أضغاث أحلام (تكررت أضغاث هنا وفي سورة يوسف وفي سورة ص (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)) على معناه الحقيقي. (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)) استفهام انكاري تعجيبي للتحقير، اسم الإشارة يؤتى به هنا للتحقير وكانوا يستهزئون، لم يذكروه وإنما قالوا (أهذا) أسلوب تحقير وكانوا يستهزئون (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ(64)النساء) فمن مواضيع السورة استهزاء الكفار بالنبي صلى الله عليه وسلم وكيف كان الكفار يعاملون النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن المواضيع الإعجاز العلمي: خلق السموات والأرض، الليل والنهار، انقاص الكون (أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)  )

جاءت القصص التي لم تتكرر في غيرها: قصة تكسير إبراهيم للأصنام كاملة لم ترد في سور أخرى بهذا التفصيل. هنا جاءت القصة كاملة، في سورة مريم جاءت قصة ابراهيم المتعلقة بأبيه لأن محور السورة الرحمة والبر والعطف (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)مريم) أما في الأنبياء فمحور السورة التوحيد وقوم إبراهيم كانوا يعبدون الأصنام فجاءت السورة تخدم محور التوحيد.

سورة الأنبياء تتميز بأنها وصفت وركزت على بشرية الرسل (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ) (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)) بشرية الرسل (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)) لأنهم كانوا يقولون لو شاء الله لأنزل ملائكة. هؤلاء الرسول كانوا يمرضون أيوب مرض حتى قال (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)) وتبدو بشرية الرسل في أنهم يجتهدون في الحكم (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)) زكريا يدعو ويتضرع يطلب الولد أما الله في غنى عن خلقه (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)) حتى الملائكة عباد

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)) منهم يعني من البشر أو الملائكة.

الصفة الظاهرة في السورة العبودية، ملمح العبودية ظاهرة من بداية السورة إلى نهايتها (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)) الملائكة وصفهم (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)) لما سأل ابراهيم الخليل المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام (قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)) يريد أن يرجع بهم إلى عبودية الله الحق فقال (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)) وصف الأنبياء (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)) ولما جاء بقصة أيوب (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)) (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)) بينما في سورة المؤمنون (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)) الملمح العام تعبيد العباد لرب العباد. في سورة الأنبياء ذكرت لفظة عبد كثيرا ولها حضور مكثف.

تتميز سورة الأنبياء بالذكر ولم يرد فيها لفظ القرآن، في الإسراء تكرر القرآن 11 مرة وتكرر الكتاب في الكهف وسورة طه ورد فيها القرآن أما في سورة الأنبياء وصف القرآن بالذكر (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أهل الذكر أهل الكتب السابقة (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)) شرفكم وعزّكم (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)) هذا القرآن معي وذكر من قبلي ائتوني بالتوراة والإنجيل والزبور لا تتحدث عن آلهة مزعومة ووصف التوراة بالذكر هنا (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)) في سورة المائدة يصف التوراة أنها هدى ولهذا مناسبة مع السورة. (مِنْ ذِكْرٍ) (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)) (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)) الذكر هو الأساس، هو القرآن في اللوح المحفوظ وأنزله الله على خاتم الأنبياء (ذكر مبارك أنزلناه) أما الكتب السابقة فكتب مؤقتة.

بدأت السورة (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)) اقترب ورد هذا الفعل أكثر من مرة (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ1 القمر) وورد في سورة الأنبياء مرتين (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)). اقترب تفيد شدة القرآن، كتاب أحكمت آيات، في سورة النجم قال (أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ (57)النجم) ثم بعدها مباشرة (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ1 القمر) صيغة افتعل تدل على المبالغة، وتدل على الاكتساب، اقترب شدة القرب. افتعل في اللغة العربية تفيد الاكتساب، فعل الأمر افتعله، اقتبسه، اكتسبه.

حينما نتحدث عن المستقبل نستخدم المضارع من الأفعال فنقول نقترب من كذا، في الآية الاقتراب زمني وليس مكانيا لكن في الآية استعملت صيغة الماضي لإفادة تحقق الوقوع لأن الله سبحانه وتعالى متحقق ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو متأكد جلّ جلاله من تحقق وقوع القيامة. في آية أخرى (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)النحل) بحكم الله أتى. التعبير بالماضي عن أمر مستقبل فهو دليل التحقق التام.

الآيات الأولى إنذار شديد للمشركين وكثيرا ما يكنّي القرآن بلفظ الناس عن المشركين، يمكن أن يراد بها الناس عامة ويمكن أن يقصد بها المشركون والصفات التي بعدها تدل على صفات المشركين (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) بينما في سورة الحج (يَا أَيُّهَا النَّاسُ 1 الحج) عامة خطاب لعامة الناس الله تعالى ينادي الإنسانية.

(حسابهم) نسب الحساب لهم حتى يحرّكهم، (وهم في غفلة) وصفهم بالغفلة وهم معرضون (حين تعرض عن أحد بوجهك)، ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث (يتكرر حدوثه، صفة لتنزل القرآن بعد تنزل، متكرر) يصفهم بالبلاهة والبلادة وعدم الاتعا كلما نزل عليهم ذكر ازدادوا جهالة  وذكر (ربهم) الذي رباهم وأنعم عليهم حتى يحرك وجدانهم (إلا استمعوه وهم يلعبون) جملة حالية أي حالة كونهم يلعبون ولو توقف الوصف هنا قد يتوهم السامع أنهم يستمعون وهم يلعبون استماع من يعقل، لا، فقال (لاهية قلوبهم) وصفهم بأربع صفات: غفلة، إعراض، لهو وإعراض عن آيات القرآن وهذه الصفات الله بريء منها والرسول صلى الله عليه وسلم بريء منها والمؤمنون الصادقون بريئون منها وهذا بلاغ شديد اللهجة.

(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) النجوى تكون بين ثلاثة على الأقل (ما يكون من نجوى ثلاثة). أين الفاعل؟ أسرّ الذين ظلموا النجوى، هنا يقول العلماء على نسق “أكلوني البراغيث” وهذه لغة من لغات العرب يجوز أن يسبق الضمير الاسم الظاهر. لا تعود إلا عليهم الذين ظلموا الذين كفروا، يجوز أن يسبق الضمير الاسم الظاهر نحن نقول الذين ظلموا أسروا أو نقول أسر الذين ظلموا. للفعل هنا فاعلان: واو الجماعة والذين ظلموا. ولأنها واضحة جدا فالله سبحانه وتعالى قدّمها لأن العرب تقدم من الكلام ما به معنى، جملة سيبويه يقمون من البيان ما هو به معنى. أسروا النجوى أراد البيان القرآني أن يؤكد على إسرارهم بالخفاء ينم عن شيء سيء وهم أسروه بالغوا في الكتمان لكن هذا لا يخفى على الله فقال بعدها (قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)) لا يخفى عليه شيء سواء تناجيتم، أسررتم، كتمتم الله عز وجلّ يعلمه لا تخفى عليه خافية. الذين ظلموا يعني الذين كفروا (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)لقمان) ظلموا أنفسهم بالكفر.

(بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ﴿٥﴾) اتهامات كثيرة للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية لكن لماذا الإعراض بـ(بل)؟ (بل) للإعراض والانتقال، تكررت 3 مرات (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)) أصله إعراض وإضارب عن السابق الذي هو السحر (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) وصفوا الذكر الذي مع محمد بالسحر أتأتون إلى محمد ويقرأون هذا النوع من السحر؟! (بل) حرف إضراب للانتقال، تقول جاء عمر بل أحمد، تنفي ما قبلها، يسميه المفسرون إضراب انتقالي: قالوا سحر، لا، بل قالوا أضغاث أحلام، بل افتراه، بل هو شاعر، مرة يصفون الذكر ومرة يصفون الذاكر محمد صلى الله عليه وسلم إشارة إلى تخبّطهم لأنهم يتخبطون قالوا أضغاث أحلام بل هو افتراه بل هو شاعر أي أن القرآن سحر وشعر وأضغاث أحلام ومختلق ومفترى (بل) التي تفيد الإضراب والانتقال تشير وتصور تخبطهم وعدم استقرارهم على رأي حتى استقروا على قول الوليد بن المغيرة الذي قال أنه ساحر يفرق بين المرء وأهله (كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)) تخبطوا كثيرا وفي هذه الآيات وصفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم بأوصاف تجرح قلبه، وصف الإنسان الصادق البريء من هذه الصفات تجرح قلبه لذلك علمه الله في نهاية السورة (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112))

هذه الآيات وصف واتهام خطير للرسول صلى الله عليه وسلم وما سيأتي في الآيات سيسليه ويقول له لست وحدك يا محمد في طريق النبوة.

كأن القرآن لم يكفهم كآية فطلبوا آية كما جاء بها الأولون الذين جاؤوا بالعصا وإحياء الموتى، آيات مادية لأنهم لم يقتنعوا بالمعجزة العقلية العظيمة الخالدة، معجزات الأنبياء السابقين كانت حسية يخرج يده بيضاء وتنقلب العصا حية رآها من رآها ونحن نؤمن بها لأنا ذكرت في القرآن الكريم أما معجزة محمد صلى الله عليه وسلم فهي عقلية علمية تشريعية خالدة لذلك قالوا (لولا يأتينا بآية) آية كونية فقال الله سبحانه وتعالى لو جئتهم بآية كونية لأهلكتهم لأن حكمة الله سبقت أن الأقوام الذين يعطيهم آية كونية ولا يؤمنو بها يهلكهم الله ولكن الله تعالى لا يؤي أن يهلك أمة محمد ليخرج من أصلابهم من يبشر بهذا الدين العيم الخاتم لجميع الأديان..

تحدثت السورة عن بشرية الأنبياء وإبراز بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم أنكروا أن يأخذوا منه الوحي وقالوا (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (أفتأمنون لبشر) حتى فرعون قال (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)المؤمنون ) رفض أن يعبد البشر. السورة وصفت بشرية الرسل جميعا (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)) تجري عليهم سنة الحياة (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا) لاجالا يوحى إليهم ويأكلون الطعام ويمشون في الأسواق صفاتهم صفات جميع البشر لأن الله تعالى لو أنزل ملكا لقالوا الدين جميل لكنه يناسب الملائكة (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)الإسراء) (لعل في الحديث عن بشرية الأنبياء يتناسب مع توحيد الله) الله جلّ جلاله جعلوا الرسل بشرا حتى يكونوا مثالا للمدعويين.

(ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)) تتحدث عن الأنبياء والمرسلين صدقناهم، هم بشروا أقوامهم (إن تتبعوا الهدى ) يتوب الله عليكم وإن تستمروا في طغيانكم وكفركم وجحودكم سينالكم عذاب الله، ما قاله الأنبياء لأقوامهم صدقه الله فأنجيناهم أي الأنبياء والرسل (فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) هنا لقطة بلاغية وهي الاحتباس أصل الكلام ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم الأنبياء والرسل المفترض ومن شئنا معهم من المؤمنين وننجك يا محمد ومن نشاء فاختصر الكلام. ما قال أنجيناهم ومن شئنا لأن فيها احتباس ترغيبا للمشركين بأن يؤمنوا. استخدام المسرفين هنا، كل شيء فاق عن حده هو إسراف وهؤلاء تجاوزوا كل ظلم وكل حد في شركهم فناسب وصفهم بالمسرفين.