في رحاب سورة

في رحاب سورة الحج – 5 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة

د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1436 هـ

في رحاب سورة الحج – 5

تقديم الإعلامي محمد خلف

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

سؤال: تصحيح لما ورد في الحلقة الماضية حول استخدام جذر كلمة (خبت) ذكر د. محمد أنه ورد في سورتي هود والحج فقط ولكنه ورد أيضًا مرة واحدة في سورة الإسراء ليس وصفًا للقلوب وإنما للنار قول الله تعالى (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ﴿٩٧﴾)

المادة اللغوية للجذر خبت وأخبت، الخَبْت هو الموضع المنخفض من الأرض (وبشّر المخبتين) بشّر المتواضعين (والذين أخبتوا) تواضعوا تمسكنوا أمام الله تعالى وتضرعوا خبت وأخبت وردت في سورة الحج وسورة هود. أما (كلما خبت) خبت من خبا يخبو أي انطفأ وذلك جذر آخر مختلف تمامًا ولو بحثنا في المعاجم اللغوية نجد خبا يخبو أي انطفأ بينما نحن نتكلم عن جذر خبت أخبت ورد في سورة الحج وسورة هود فقط.

المقدم: ولو أنهما يشتركان في المعنى العام.

د. المستغانمي: اشتراك من بعد: خبا خبو خبت النار أما خبت فهي مادة أخرى أضيف لها التاء. نحن في هذا البرنامج لسنا في صدد ذكر دقيق للإحصاء نحن نؤصل لبعض القضايا التدبرية البيانية في القرآن الكريم، فقط نريد أن نظهر الثوب البياني للسور والتناسق فيها والمواضع التي نناقشها أما الإحصاء فله متخصصون.

توقفنا عند قول الله تعالى (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴿١٥﴾) هذه السورة فيها صور بلاغية كثيرة وجميلة جدًا وهذا من مميزات السورة.

(مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴿١٥﴾) هذه آية عظيمة جدًا، علماء التفسير وقفوا عندها ولهم فيها رأيان اثنان، دعني أقول أقول القولان الواضحان بعضهم يقول بهذا الرأي وبعضهم يقول الرأي الثاني وكلاهما صحيح لأن القرآن حمّال يتحمل هذا ويتحمل ذاك وهذا اجتهاد والرأي الذي وقفت عليه ويذكره الإمام البيضاوي ويذكره عدد من العلماء عندما يقول (من كان يظن) يتكلم عن طائفة من طوائف البشرية ألم نقل في المرات الماضية أن سورة الحج أتت على ذكر بعض أنماط من البشرية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ﴿٨﴾) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ﴿٣﴾) وذكرت هنا طائفة يفقدون الأمل بسرعة، ثمّة من دخل إلى الإسلام على حرف فإذا رزقه الله مالًا وأنتجت خيْله ونوقُه قال هذا دين عظيم وإذا أصابته ضراء وأصابه بلاء ووقع في فتنة قال هذا دين لم يأت بخير لي وانتكس وارتكس ووقع في الحمأة هنا بعض العلماء يقول من الناس من يظن أن لن ينصره الله إذا وقع في ضائقة (يتكلم عن نفسه) يستبطئ النصر، النصر بمعنى المؤازرة، العون، الرزق، الفتح، يستبطئ ذلك يقول من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ماذا عليه أن يفعل؟ القنوط يخرجك من رحمة الله ولا يقنط من رحمة الله إلا القوم الخاسرون، قال هذا إن استطاع أن يرتقي إلى السماء ويمدد بحبل فليشنق نفسه فلينظر هل يذهب ذلك غيظه؟ هذه طريقة تهكمية، صورة، على المسلم الذي يؤمن إيمانا صحيحا أن يعلم أن كل شيء بقضاء الله وقدره أحيانا يصاب المسلم وكل ما أصابنا خير ويصبر ذلك خير، يشكر الله عندما يعطيه ويوسع عليه ذلك خير، فهذا المعنى محتمل لأن السياق ذكر أنماطًا من البشر.

حينما نتخيل قول الله سبحانه وتعالى (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) قال ليقطع ولم يقل يقطعه لأنها واضحة، الآية تصور صورة الإنسان الذي يشنق نفسه والعياذ بالله، وهل هذا الشنق والانتحار يُذهب غيظه؟ يذهب الضيق الذي هو فيه؟ هل يشفيه؟ بعض العلماء قال يقطع نَفَسَه، كلاهما يؤدي نفس المعنى، هل يفعل غيظه وكيده شيئا؟! لا يفعل شيئا.

والصورة الثانية التي أميل إليها (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ) عن محمد صلى الله عليه وسلم لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم معلوم حاضر في الأذهان، العهد الحضوري، المخاطَبون يعلمون أن كل الحوار حول القرآن حول البعث وحول العقيدة وحول نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فمن يظن من هؤلاء الكافرون أن الله لن ينصر محمدًا فليزدد غيظا وليمت بغيظه لأنه ثمة آية في القرآن (قل موتوا بغيظكم)[آل عمران: 119] تجعلنا نرجح هذا المعنى (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ) ليجرّب هل يذهبن هذا التدبير غيظه؟!  هل يذهبن حقده على الإسلام؟! الإسلام منصور لا محالة (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف: 9]. انظر إلى توالي الأفعال “فعل الأمر المسبوق بلام الأمر” (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ) (فليمدد، ثم ليقطع، فلينظر) توالي لام الأمر وهذا لا يأتي دائما في القرآن بهذه الطريقة وليدلنا البيان القرآني أن ذلك مقصود بدقة عجيبة كرر لام الأمر في سياق سورة الحج (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴿٢٩﴾ لم يرد على ما أذكر في سور أخرى هذا التناسق في نفس الآية، لام الأمر تستعمل لكن بقلّة (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ)[الطلاق:7] لكن لا توجد في السورة نفسها ست مرات!. لام الأمر توجد لكن ليس ست مرات في آيتين، هنا وردت ثلاث مرات في كل آية. وعندما تكلمت آيات سورة البقرة عن الحج لم يأت فيها مثل ذلك (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴿١٩٧﴾ البقرة) أما في سورة الحج (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا) دليل على القصد والحكمة في اختيار اللفظ القرآني والبناء القرآني ليتناسب مع هذه السورة.

(وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ﴿١٦﴾) ما علاقة إنزال آيات الله، كتاب الله سبحانه وتعالى بهذه السورة؟

ماذا فعل البيان القرآني في كل ما سبق؟ (يا أيها الناس اتقوا) (يا أيها الناس إن كنت في ريب من البعث) (ومن الناس) (ومن الناس من يجادل في الله) (ومن الناس من يعبد الله على حرف) ذكر أنماطًا، بينت لنا أنماطا من البشر، أنماطًا من المؤمنين، أنماطا من الكافرين وسيذكر أنماطا أخرى في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿١٧﴾) هذا بيان من الله، هذا تعليق (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ﴿١٦﴾) أنزلنا القرآن، الضمير يعود على القرآن مع أنه لم يرد ذكره، لأنه معلوم من السياق وكذلك (أن لن ينصره) يعود على النبي صلى الله عليه وسلم. (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ﴿١٦﴾) هنا آيات بينات وورد في آيات أخرى (مبينات) (وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) هؤلاء الذين سبق ذكرهم للأسف الشديد لم يشأ اللهم لهم الهداية وهم انغمسوا في حمأة الشرك والريب والتذبذب خصوصًا منهم من يعبد الله على حرف. نقف على قوله (كذلك) مثل ذلك البيان، الكاف للتشبيه، (ذلك) القرآن مثل هذا البيان أنزلنا القرآن بمعنى وصل البيان القرآني إلى قمة الإبانة والتفهيم والإيضاح حتى شبّه القرآن بالقرآن. (كذلك) مثلُ ذلك البيان أنزلناه آيات، وصل البيان القرآني قمة الإيضاح فشبه آيات القرآن بالبيان القرآني وهذا شيء عظيم لا يوجد إلا في كلام الله.

في سورة الزخرف (حم ﴿١﴾ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿٢﴾ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿٣﴾) القسم بالكتاب المبين، (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا) قسم بالقرآن على القرآن، هذا القسم لا يوجد في كل القرآن، المقسم به والمقسم عليه. أحد المفسرين قال: حاول أبو تمام الشاعر العباسي أن يحاكي ذلك فقال: وثناياك إنها إغريض (حلف وأقسم بثنايا محبوبته إنها إغريض) لكن أين هذا من بيان القرآن؟! وهنا (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) مثل هذا البيان أنزلنا هذا القرآن.

المقدم: الله سبحانه وتعالى يقول (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿١٧﴾) ستة، وفي آية أخرى في سورة البقرة قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ َالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) قدّم النصارى على الصابئين لم يذكر ستة وإنما ذكر أربعة أصناف، في سورة المائدة قال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)) بالرفع وأخّر النصارى. هذه فيها كلام كثير كلام نحوي ومعنوي.

علماؤنا رحمهم الله ما تركوا شاردة ولا واردة إلا تحدثوا فيها ولكن يبقى القرآن عطاؤه عظيم، يوصف بأنه القرآن العظيم والقرآن المجيد والكريم والحكيم والمبين لكن من أعظم أوصافه الكريم لأن الكريم عطاؤه يتجدد، سخاء، عطاء القرآن لا ينتهي. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ َالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) في سورة البقرة ذكرت في سياق الحديث عن الإيمان وعن عظمة الإيمان والعمل الصالح، هنا ذكر أهل الكتاب: المسلمون (الذين آمنوا) واليهود (الذين هادوا) بمعنى تابوا إلى الله والنصارى أهل كتاب والصابئين فرقة من النصارى ملحقو بهم، الصابئين هم الصابئة بعض العلماء يقولون إما صبأ النجم بمعنى طلع وإنا صبأ يصبو بمعنى مال يميل فهم مالوا عن الديانات الصحيحة والطاهر بن عاشور يقول: إن قلت أنهم مالوا عن جميع الأديان لكان ذلك صحيحا لأنهم درسوا ما سبق من اليهودية ثم مالوا عن جميع الشرئع السابقة ويدعون أن لديهم كتبا من عهد شيث بن آدم عليه السلام وهذا كلام غير دقيق وغير صحيح. ألحقهم الله بالذين آمنوا لأنهم أهل كتاب يؤمنون بالله سبحانه وتعالى ولديهم كتب، هم يؤمنون بالله العظيم العالم الخالق جلّ وعلا ولكن يقولون البشر أعجز من أن يعبدوا الله مباشرة فيعبدون الأرواح المقدسة التي تكمن في رأيهم وبزعمهم في الكواكب السيارة والنجوم لكن لأنهم يؤمنون بإله عظيم قدير حكيم خالق ألحقهم القرآن بأهل الكتاب في آية سورة البقرة لذلك ذكرهم بعد الحديث عن أهل الكتاب وقدّم أهل الكتاب لأفضلتيهم.

استطراد من المقدم: بعض العلماء هم ستة وبعضهم قال خمسة

أقول ستة لأن الواو تفيد المغايرة ولو أراد الله أن يقحمهم بالنصارى ما ذكرهم ولألحقهم، الواو تفيد المغايرة هنا (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) ستة.

يبقى الحديث لماذا رفع الصابئون في سورة المائدة؟ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ) الصابئون هم ليسوا من أهل الكتاب وهم من أشد الفرق ضلالًا فكأن البيان القرآني يقول: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون كذلك، هم مثلهم، ألحق الصابئين بهم ولأنهم ليسوا من أهل الكتب السماوية فرّقهم ورفعهم ليبين أنها جملة دخيلة على جملة (إن الذين آمنوا والذين هادوا) لو أنه نصبهم لظن القارئ أنهم من أهل الكتاب لكنه قال (إن الذين آمنوا والذين هادوا) (والصابئون كذلك) (جملة اعتراضية عطفها بالرفع على نية التأخير) فلما تقرأ في “إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم والآخر فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (والصابئون كذلك)” مبتدأ وخبر قدّمها وحذف الخبر، هذا رأي سيبويه والخليل وجميع المفسرين تقريبًا. لماذا قدمهم على النصارى؟ لأن السياق في سورة المائدة في تفنيد عقائد النصارى عقيدة التثليث التي يؤمن بها النصارى ويريد السياق أن يثبت الإيمان الصحيح فكل من آمن بالله إيمانًا صحيحًا وشفع الإيمان الصحيح بالعمل الصالح يغفر الله له ولو كان من الصابئين. الصابئون كانوا ضلالًا في العقيدة ومع ذلك يغفر الله لهم إذا آمنوا وعملوا صالحًا فما بالك بغيرهم؟ فمن باب أولى يغفر للطوائف الأخرى؟!

في سياق الحج (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) هنا إضافة طائفتين المجوس (عبدة النار) والذين أشركوا (الذين يعبدون الأصنام)، أضاف الطئفتين هنا لأن السياق في الفصل بين جميع الملل والنحل، الفصل: الحكم والقضاء يوم القيامة، (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يفصل بينهم أي يحكم بينهم ويفصب بينهم ويُدخل المؤمنين الصادقين إلى الجنة ويُدخل من لم يؤمن بالله ويعمل صالحا النار، الكلام يوم القيامة. (يفصل بينهم) أي يحكم ويفصل ويفرّقهم. نقرأ في القرآن (إن الله يفصل بينهم) ونقرأ (إن الله يحكم بين عباده) ما الفرق بين الحكم والفصل؟ الحكم يعني يقضي بينهم، القاضي الله جلّ جلاله يقضي بينهم بالحق، الفصل أوسع يحكم ويفصل، هؤلاء يؤخذون إلى الجنة وهؤلاء يؤخذون إلى  النار بما أنهم أشركوا وعبدوا. فالسياق سياق فصل فهنا ذكر جميع النحل وبما أن سورة الحج تحدثت عن المشركين (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث) فعطف المجوس والذين أشركوا على جميع النحل وقال (إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شهيد)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴿١٨﴾) من الثوب اللفظي لسورة الحج كثرة تكرار (من) الموصولة وهنا نجدها بارزة أمامنا

هذه الآية عظيمة جدًا من الآيات التي تحدثت عن تسبيح الكون لله سبحانه وتعالى كل ما خلق الله يسبح لله سبحانه وتعالى ويسجد بين يديه جلّ جلاله (ألم تر) هنا رؤية علمية ليست رؤية بصرية والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم للتقرير، دائما عندما نقرأ السؤال (ألم تر) (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) سؤال يفيد التقرير ويهزّ وهنا قد يدخل فيها الرؤية البصرية وإنما هنا يقصد الرؤية العلمية (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) (من) اسم موصول يطلق على العاقل و(ما) تطلق لغير العاقل ولكن (ما) تطلق لغير العاقل وللعاقل أحيانًا. (من) مخصصة بالعاقل قولًأ واحدًا: جاءني من يحسن كذا، أكرمت من جاءني، أما (ما) تنطبق على غير العقلاء وتنطبق على العاقل أحيانًا (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) (ما) نكرة (ونفس وما سواها) من الذي سواها؟  تنطبق على الله جلّ جلاله (وما خلق الذكر والأنثى) من الذي خلق؟ الله الذي خلق، فـ(ما) أعمّ و(من) أخصّ. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) (من) يعني الجميع العقلاء وغير العقلاء، (من) تنطبق على غير العاقل، قد يقال هل ثمة عقلاء في السماء؟ (ما من دابة في السماء والأرض) لا يستطيع أحد أن يثبت شيئا نحن نثبت ما أثبت القرآن ونقف، الآية تثبت أن ثمة عقلاء، والبعض يقول بأن المقصود الملائكة وقد يكون غيرهم فما لا ندركه نحن لا نثبته ولا ننفيه. (والشمس) الشمس النجم المضيء التي نستضيء بدفئها وبضيائها (والقمر والنجوم) الألف واللام تفيد الجنسية والاستغراق يعني كل النجوم بالمليارات عظمة الكون المدرك فيه نجوم بالمليارات، انظر العظمة: إذا كانت الشمس نجمًا متوسطًا وثمة نجوم حمراء وبرتقالية وزرقاء تفوق الشمس في الحرارة والوهج والكبر النجوم عالم عظيم والقرآن خصص (والسماء والطارق) (لا أقسم بمواقع النجوم) وسنفصل الحديث عنها، لا يقول أحد إن القرآن الكريم كتاب لم يأت لعلم الفلك، نقول القرآن كتاب هداية ولكن الله تعالى بث فيه من الحقائق العلمية ما تجعل العقل البشري يخضع ويركع ويسجد أمام عظمة منزِل القرآن. (والشمس والقمر والنجوم والجبال) كل الجبال والألف واللام تفيد الاستغراق. (والشجر والدواب) كل ما يدب فوق كوكب الأرض كلها تسجد لله سجودا يليق بها لذلك قال العلماء السجود هنا يقصد به المعنى الحقيقي والمعنى المجازي،

استطراد من المقدم: الحقيقي معروف فكيف المجازي؟

سجود يليق بها، الشمس تسجد لكن كيف لا ندري، الله أثبت السجود للشمس تعبد الله وتسجد بالطريقة التي تليق والكل خاشع لله لكن ليس لإنسان مهما كان أن يحدد كيف تسجد الشمس لله، هي تدور في فلكها فهي خاضعة في كونها لله سبحانه وتعالى هل رفضت الشمس يوما أن تطلع من المشرق؟ (قالتا أتينا طائعين) سجود يليق بهذه الكواكب والشموس والأقمار قال العلماء السجود هنا قد يكون مجازيا يقرّبه الله إلينا لكن (وكثير من الناس) سجود حقيقي، نحن نسجد ونضع الجبهة على الأرض خضوعًا لله (وكثير حق عليه العذاب) في جميع المخلوقات الأخرة ذكرها بالألف واللام التي تفيد الجنس بينما هنا قال كل الشموس والأقمار والكواكب والنجوم والجبال والشجر والدواب، والجانب الثاني (وكثير من الناس) (وكثير حق عليه العذاب) هنا فصّل كثير يعبدون الله جلّ جلاله ويسجدون له وكثيرون يعبدون الأصنام والكواكب والنجوم، لكن البيان القرآني هنا تقنية لغوية رائعة (كثير من الناس) يسجدون ما قال وكثير ما يسجدون أعطى النتيجة، هنا المقتضى اللغوي أن يقولوكثير من الناس يسجدون وكثير منهم لا يسجدون فحقّ عليهم العذاب لكنه ذكر النتيجة (وكثير حق عليه العذاب) هذا من الاحتباك البياني الرائع فكأن البيان القرآني يقول: وكثير من الناس يسجدون فوجبت لهم الجنة وكثير لا يسجدون فحق عليهم العذاب. كلما كان القرآن موجزًا والمعنى يُفهم عن طريق الذكاء البشري يحذفه الله تعالى (الله يصطفي من الملائكة  ومن الناس) يعني رسلًا حذفها لأن (رسلا) الأولى دلّت عليها. الإيجاز أبلغ الكلام وقديمًا قيل ما البلاغة؟ قال: لمحة دالّة، القرآن كله موجز، سورة البقرة مفصلة لكنها تحتوي على العجب ولو أراد البيان القرآني أن يطنب لجاءت البقرة في آلآف الصفحات ففيها إيجاز عجيب فالبلاغة هي الإيجاز وقد يكون ثمة إطناب في السياق لكن أيضًا فيه بلاغة.

(الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) قال كثير من الناس يسجدون وكثير من الناس حق عليه العذاب لا يسجدون وهذا قد أهانه الله ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء، هذه لعا علاقة وتعليق على الذي حق عليه العذاب، هو تسبب في اختيار الشرك والكفر وهذا أهانه الله سبحانه وتعالى، هذه النتيجة ولكن اختيار الله (وهديناه النجدين) أعطاك وسيلة الاختيار.

(ألم تر أن الله يسجد من في السموات ومن في الأرض) مرات نجد (من في السموات ومن في الأرض) وأحيانا نجد (من في السموات والأرض) وأحيانًا نجد (ما في السموات وما في الأرض) وأحيانا نجد (ما في السموات والأرض) وهي في سورة التسابيح كثيرة.

اسم الموصول في اللغة يجوز حذفه (الم ﴿١﴾ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ﴿٢﴾ البقرة) من هم المتقين؟ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿٣﴾) الواو عاطفة لم يقل والذين يقيمون الصلاة لأن هنا ليس الذين يقيمون الصلاة جنس آخر بل هم ذاتهم (الواو تفيد التفريق في الأعمال التي أتت يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) ليس أن هؤلاء جنسا آخر، هم جنس واحد لكن أحيانا تحذف ويدل السياق أنه يسبح لله ما في السموات والأرض أي (وما في الأرض) هنا محذوفة إجباري نقدّرها لأن ما في السموات غير ما في الأرض وما في الأرض غير ما في السموات.

متى يذكر الله الاسم الموصول ويكرره؟ هناك ثلاث حالات:

عندما يريد التنصيص على الأفراد بدقة كما في قوله تبارك وتعالى في سورة يونس (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) يونس) أرادت هذه الآية ملكية الله لمن في السموات ومن في الأرض وفرق بينهما وذكرها لأن الضرورة تستدعي ذلك.

أحيانا يقصد الجنس فقط، جنس العمل، جنس المذكورين (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴿٢٩﴾ الرحمن) هنا السياق في ذكر آلآء الله وإحاطة الله وملكوته، السياق ليس في ذكر الأفراد بالتفصيل. (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴿٦٨﴾ الزمر) بقصد التنصيص، ووردت في النمل (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴿٨٧﴾) حتى لا يُفهم أن من في السموات يفزعون ومن في الأرض لا يفزعوه فهنا ضرورة أن يبين أن من في الأرض أيضًا يفزعون.

ثانيًا إذا كان الموطن دالًا على التفصيل يذكر الله سبحانه وتعالى اسم الموصول سواء كان (من) أو (ما). مثال: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ﴿٦﴾ طه) موطن التفصيل يذكر جميع أسماء الموصول سواء كانت (من) أو (ما). في سورة المجادلة (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿٦﴾ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿٧﴾) في الإحصاء والإحاطة يستدعي التفصيل (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) التفصيل هنا والإحاطة ظاهرة فيذكر اسم الموصول. أما لما لا يكون الأمر متعلقًا بالتفصيل (قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[العنكبوت:52] لا تتعلق بالتفصيل كما وردت في آية سورة طه.

الموضع الثالث الذي يذكر فيه الاسم الموصول ويكرر وخصوصًا في المسبّحات الخمس: سورة الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن. العلماء قالوا عندما يذكر البشر ويكون الحديث متعلقًا عن البشر في بداية السورة يكرر اسم الموصول مثل سورة الصف (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿١﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٢﴾ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٣﴾) الحديث عن البشر كرر اسم الموصول. في الحشر (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿١﴾ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴿٢﴾) حديث عن البشر كررها، يتعلق الحديث بما في الأرض، لأن (ما) تفيد العقلاء وغير العقلاء، إذا تحدث عن البشر يكررها لأن (ما) تحتوي الجميع العقلاء وغير العقلاء. في سورة الحديد (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿١﴾ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢﴾ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿٣﴾) الحديث عن ذات الله فما كررها. في سورة الجمعة الحديث عن البشر (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿١﴾ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٢﴾) وفي التغابن (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١﴾ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿٢﴾ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴿٣﴾) هذه مطردة في المسبّحات الخمس.

إذا تعلّق الأمر بذكر أهل الأرض يعيد اسم الموصول، إذا تعلق الأمر بالتفصيل يعيد اسم الموصول إذا لم يتعلق يحذفه وللقرآن أسرار كثيرة.

استطراد من المقدم: حينما يقول الله سبحانه وتعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ۩﴿١٨﴾) الحديث عن السجود والسجود مجازي وحقيقي.

د. المستغانمي: على عكس ما يقول الزمخشري يقول السجود حقيقي فقط على كل الكائنات، هو لا يقبل أن يرد في الجملة ذاتها كلمة يُعنى بها المجازي والعقلي، هذا رأيه.

المقدم: عندما قال الله تعالى (وكثير من الناس) سجود حقيقي، والسجود الحقيقي عند بعض الناس فيه شيء من الإهانة ربما لأنه ينزل جبهته للأرض فالبعض يراه بأن فيه شيء من الإهانة لكن الله سبحانه وتعالى (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) بالإهانة لمن لا يسجد لله تعالى.

د. المستغانمي: المعنى وارد، عندما يعفّر المسلم جبهته في الأرض ليست إهانة أبدا أمام الله أما أمام البشر فنعم، الذي يهين نفسه هو الذي لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى.

الآية التي بعدها (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) هل هذه الآية متعلقة بالآية التي قبلها والتي قبلها؟ هل هؤلاء الذين اختصموا في ربهم هم المقصودون في الآية (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)؟

هذا سؤال سأله جميع المفسرين، كل ما يرد في ذهن كل إنسان تساءل عنه المفسرون، منهم من أجاب ومنهم من أعطى احتمالات. الآية تقول هذان فريقان اختصموا في شأن ربهم في أمر الألوهية، كل الطوائف السابقة اختصموا في شأن الله الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئون والمجوس والذين أشركوا لم يختلفوا حول مال وإنما اختلفوا حول الاعتقاد الصحيح إذن الآية تحتمل أن تنطبق على ما سبق، الآية تحتمل أن الله يشير إلى فريق المؤمنين وفريق الكافرين والسورة كلها تتحدث عن فريق المؤمنين وفريق الكافرين، هذا رأي عند المفسرين. والذي يجزم به أبو ذر الغفاري رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: أقسم أن هذه نزلت في حق أهل بدر من المؤمنين وغير المؤمنين، نزلت في حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعتبة بن الحارث والجانب الثاني عتبة بن ربيعة شيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة الذين تبارزوا في غزوة بدر، هذه حادثة تاريخية صحيحة، قبل أن بدأت غزوة بدر تبارز الفريقان فخرج المشركون وهم الذين طلبوا النزال فقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم أخرج لنا نظراءنا من قومنا فأخرج لهم محمد صلى الله عليه وسلم حمزة وعلي وعتبة بن الحارث واقتتل الفريقان (هذان) اسم اشارة للقريب معهود في ذهن المخاطَبين هكذا قال العلماء فحضور تلك المبارزة حاضر في أذهان المخاطبين فقال (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) ثم بدأ يفصّل. الآية تنطبق على المؤمنين بشكل عام وفريق المشركين والكافرين بشكل عام بالدليل (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ) (والذين آمنوا…)

وهذا يأتي في سياق السورة لأن السورة تتحدث عن طوائف وهاتان طائفتان اختصموا في ربهم، قد يقول قائل (هذان خصمان) لماذا اختصموا؟

هذان بالنسبة للطائفتين أتى بالمثنى واختصموا لأن كل طائفة فيها أعداد بالآلآف فالواو عادت على المجموع في الطائفتين من الأفراد وهذا ديدن القرآن قال الله تعالى في سورة الحجرات (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) لم يقل اقتتلتا وإنما قال اقتتلوا عادت إلى ما تحويه الطائفة من الأعداد.

يفصّل في العذاب (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴿١٩﴾) هذه صورة جميلة جدا، قطّعت لهم ثياب من نار، فصّلت لهم ثياب من نار، الإجمال نجده في (هذان خصمان) ثم يبدأ التفصيل (الفاء هذه تسمى فاء التفريع) تفرّع الفريق الأول والثاني (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ) الله سبحانه وتعالى خلق لهم وأعدّ لهم ثيابًا من نار، من جنس النار ثياب تلتصق على جلودهم وعلى أجسامهم حارقة تحرقهم. (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) (من فوق) وليس (فوق)، إذن (من) تفيد الالتصاق، ابتداء الغاية، الحميم لا يأتي من مسافة وإنما ابتداء من الرأس فيكون أشد غليانًا. ماذا يفعل؟ (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴿٢٠﴾ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ﴿٢١﴾) مقامع حديدية، جمع مقمعة، أسواط يقمعون بها من حديد، مقامع جمع مِقمعة وهي وسيلة قمع، سوط رهيب من حديد، اسم آلة مثل مساطر مسطرة ، منقلة، مقمعة، كلما أرادوا أن يخرجوا من النار من شدة الغم لأنهم لا يستطيعون أن يتنفسوا أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق توبيخًا وتقريعًا (الأفعال مبنية لما لم يسمى فاعله).

بعدها مباشرة (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴿٢٣﴾) هذه الفئة الثانية، عرفنا مباشرة أنها الفئة الثانية، كان المفترض أن يكون السياق فالذين كفروا قطعت لهم ثياب (والذين آمنوا) لكن القرآن يخالف قواعد اللغة لأن البليغ الحكيم يفهم أن ذلك هو المقصود المقتضى أن يقال (والذين آمنوا) لأنها هكذا في اللغة تأتي دائما (فريق في الجنة وفريق في السعير) لماذا غاير الأسلوب؟ خالف التركيب ليبرزها بالتوكيد (إنّ) ويبرزها ويتوجها بلفظ الجلالة (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) هو منّ عليهم بذكر اسمه جلّ جلاله (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) انظر إلى المقابلة الرائعة (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) تقابل (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ)، مقابلة. (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) تقابل (وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ)، (وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) مقابل (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ) نحن نريد قرآءة تدبرية تجعلنا نفقه كلام الله ونعيش في رحاب هذه السور.

المقدم: وردت في سورة محمد (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) وقول الله (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا) لماذا لؤلؤا وليس لؤلؤ؟ وقال لباسهم فيها حرير ولم يقل يلبسون حريرا؟ أسئلة للحلقة القادمة