في رحاب سورة

في رحاب سورة الحج – 7 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة

د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1436 هـ

في رحاب سورة الحج – 7

تقديم الإعلامي محمد خلف

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

سؤال: ورد في القرآن كلمتان (عندنا) و(لدنا) يقول الله سبحانه وتعالى (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴿٦٥﴾) في سورة الكهف وفي الآية العاشرة من السورة نفسها (فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) هل يوجد فرق بين الكلمتين؟

د. المستغانمي: سؤال يحتاج إلى كثير من التدقيق لأن التفريق بين الظروف في اللغة العربية شيء ليس بالسهل، بحثت في عدد من التفاسير لا يشيرون إشارات دقيقة إلى الفرق بين لدن وعند وكلاهما ظرف مكان بالدرجة الأولى وقد يستعمل ظرف زمان “الصبر عند الصدمة الأولى” أي حين الصدمة الأولى، لكن بالدرجة الأولى هي ظرف مكان. الذي استطعت أن أحصره باختصار بما يتناسب مع البرنامج: عند من الظروف المكانية وهي أوسع الظروف. عندنا: عند ولدن ولدى. (عند) ظرف مكان لكنها أوسع انتشارًا في القرآن وفي اللغة العربية لأنها تدل على الحضورالحسي والحضور المعنوي (فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) رأى عرش بلقيس عنده هذا شيء مادي، (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ) العلم شيء معنوي بالدرجة الأولى، (عند) هي ظرف مكان قد يكون مظروفها حاضرًا حسًا أو معنى وقد يكون قريبًا، قد تستعمل للزمان أيضًا ولا تأتي إلا منصوبة أو مجرورة بـ(من) تأتي بالاثنين (الظروف منصوبة لكن لما نقول: عندَه مالٌ، منصوب، نقول: جئت من عندِه مجرورة) إذا كان مسبوقة بـ(من) تكون مجرورة وإذا كانت مضافة. في القرآن وردت كلمة (عند) 196 مرة بينما كلمة (لدن) هي أخص في اللغة العربية هي ظرف مبني (أي يلازم حركة بناء معينة) بينما (عند) ظرف مُعرب، (لدن) مبني على السكون وهو ظرف. جاءت في القرآن مثل (عند) لكن لابتداء الظرف أو لابتداء المكان كأن يقول أحدهم: جئت من لدنه أي ابتداء من بيته، يقال لابتداء الغاية، ولدن لا تكون إلا فضلة أي زيادة لا تكون مبتدأ أو خبر بينما (عند) تكون (وعنده مفاتيح الغيب) عنده خبر ومفاتح الغيب مبتدأ ولا تأتي لدنه مفاتح الغيب. لدن تنوب عن (عند) في مواطن ولا تنوب عنها في جميع المواطن مثال: في القرآن الكريم لم ترد (لدن) إلا مجرورة. (عند) تكون فضلة وتكون عمادًا في الجملة. بينما (لدن) تكون فضلة فقط، هذا قول النُحاة. (لدن) قد تضاف للجملة أيضًا هي مخصوصة بالملاصقة وتفيد الملاصقة وشدة الاقتراب ويدل على ذلك استقراء القرآن الكريم، وردت في الدعاء كثيرا (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) النمل) (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)[آل عمران:38] (وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا)[النساء:75] (فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا)[مريم:5] استقراء الآيات دلّ على أنها تستعمل كثيرا في الدعاء وفي المناجاة وفيما يؤتيه الله من أجر وحنان (وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) مريم) (وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن  لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) النساء) فيما يؤتيه الله من فضل ويخصص به عباده الصالحين. بينما (عند) عامة وردت 196 مرة، هذا ما وقفت عليه من فروق ومن أراد الزيادة عليه بمراجعة الكتب المتخصصة في النحو.

سؤال: في سورة الأنعام (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿١٥١﴾) قد يفهم من ظاهر الآية الكريمة تحريم عدم الشرك بالله بحثت في التفاسير فلم أجد ما يزيل هذا الإشكال.

د. المستغانمي: لو قرأنا الآية قرآءة مستمرة دون وقف قد يهم الإنسان في الفهم لكن لو قرأها: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ): (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) وفي الحقيقة (ألا) هذه هي (أن) المفسرة مع (لا الناهية) وادغمتا على اعتبار الجملة السابقة فيها معنى القول، كأن الآية تقول: تعالوا أقل لكم: أن لا تشركوا به شيئا، أن تفسّر. ثمة معنى آخر ذهب إليه النحاة أيضًا: (أن) مصدرية قل تعالوا أتلو ما حرم ربكم عليكم: أن لا تشركوا، مصدرية وهو الشرك بالله سبحانه وتعالى يعني (أن) مع الفعل تصير مصدر مأوّل، فـ(ألا تشركوا) هي بدل من (ما حرّم عليكم) كأنه يقول: تعالوا أتلو عليكم أن لا تشركوا به شيئا فلو قرأها القارئ الكريم بهذه الطريقة لا يدخل اللبس وطبعًا (أن) تفسيرية تفسّر ما سبق.

سؤال: (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا)[القصص:19] ما وظيفة (أن) الأولى التي وردت في الآية؟

د. المستغانمي:  سؤال وجيه جدًا وتوقف عنده العلماء واللغويون، القياس اللغوي: فلما أراد أن يبطش، النحويوين يقولون زائدة ولكن المفسرون يقفون: زائدة لكن ما المعنى الذي تؤديه؟ تؤدي معنى جميلًا، هي (أن) زائدة تزاد بعد (لما) الحينية التي تفيد الوقت. (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا)[القصص:19] الآية واردة في المشهد الثاني عندما ناداه ذلك القبطي واستصرخ به واستنجد به فعلم موسى أن ذلك الرجل في الحقيقة فيه شر يريد أن يدفعه إلى شرّ آخر فأراد أن يبطش به هو لا بعدوه لكن هنا تريث نوعًا ما فقال (فلما أن أراد) (أن) زائدة نحويًا لكن تفيد مدى التريث والإبطاء ولا يوجد شيء زائد في القرآن (فلما أن أراد) تفيد الإبطاء وهي تدل على الإبطاء لما يقول (فلما أن أراد) يختلف عن قول: فلما أراد، فهي جاءت لتصوير موسى عليه السلام تردد وإلا لو شاء فلما أراد أن يبطش، لأنه أخذ درسًا من الوقعة الأولى (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) ويماثلها في القرآن (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ) تأكد يعقوب عليه السلام. للنحاة كلام و(أن) تفيد الإبطاء بلاغيًا وأنا لدي شيء آخر وهو التناسق في سورة القصص كما سوف نراها ففي سورة القصص هي الوحيد التي ورد فيها (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٣٠﴾) في طه وفي الشعراء وفي النمل (يا موسى) أما في القصص (أَنْ يَا مُوسَى) وفيها (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ) هذا من ثوب سورة القصص اللفظي وهندستها اللفظية.

سورة الحج

وقفنا عند قول الله تعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴿٢٧﴾) الله سبحانه وتعالى قال رجالا حال أي راجلين وعلى كل ضامر راكبين، لكن قد يقول قائل لم لم يقل الله سبحانه وتعالى: يأتوك رجالا وراكبين؟ لماذا نوّع في التعبير؟

د. المستغانمي: وقفنا عند هذه الآية في المرة الماضية والخطاب موجه لإبراهيم الخليل عليه السلام وليس للنبي صلى الله عليه وسلم بحكم السياق مع أن بعض المفسرين قالوا هذا الكلام، أقوال ولكن (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿٢٦﴾) كل السياق وذكر إبراهيم عدد من المرات في القصة (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا) أي راجلين على أرجلهم (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) أو راكبانا، إما راجلين أو ركبانًا وأشرت في المرة الماضية أن الواو هنا تفيد التوزيع والتقسيم معناها (أو) وليست معناها الجمع، التفريق أو التفصيل والعلماء يسمونها التوزيع، كأنه يقول وأذن في الناس بالحج يأتوك بين راجل وراكب أو كأنه يقول: رجالًا أو ركبانًا ولا يستقيم أن يأتي الإنسان راجلًا وراكبًا في نفس الوقت، والقرآن فيه هذا الكلام (ثيبات وأبكارا) هنا الواو تفيد التوزيع ثيبات أو أبكارا. (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) وضّح الآلة أو الوسيلة، الوسيلة قد تكون ناقة أو إبل، ووصفها، لو قال يأتوك رجالًا وعلى كل راحلة، صحيح لكن القرآن موجز يد أن يصفها بالضمور نظرا لشدتها وسهولة حركتها وتعب صاحبها فضمُر لحمها، كلمة ضامر تعني قليلة اللحم، (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) الفجّ هو الطريق بين جبلين والسبيل هو الطريق والصراط والشارع والنهج، اللغة العربية واسعة وهنا قال (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) الرواحل تأتي وقد شرّفها وهي تأتي طائعة، ركبانا تعود على الرواحل. (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) بكة محاطةٌ بالجبال فهم يأتين عن طريق الرواحل من فجاجها وكل فجاج مكة كما قال صلى الله عليه وسلم منحر، فالمشي في الفج بين جبلين أصعب من المشي في الطريق السالكة والمشي في الفج يؤدي إلى ضمور الناقة أكثر، ثمة ترابط بين ضامر وبين كلمة فجّ لأن السير في الجبال صعب وبالتالي يؤدي إلى ضمور الرواحل والراحلة الضامر هي أيضًا صفة محببة في الخيل وفي النوق.

المقدم: لكن لماذا قال (عميق) (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) هل العمق له دلالة أو مرتبك بالفج؟

د. المستغانمي: عميق في اللغة معناها بعيد ولكن ليس بعدًأ أفقيًا، إنما إلى أسفل، إلى القاع، نقول هذه بئر عميقة. في اللغة العربية لدينا مسافة بعيدة أو مسافة عميقة إلى أسفل. إذن المفسرون قديمًا رحمهم الله يقولون (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي بعيد واستعير العمق للبُعد من باب الاستعارة لكن كلمة عميق في الحقيقة فيها معنيان اثنان:

المعنى الأول: كل من يأتي إلى مكة يأتي من فج عميق فيها معنى روحي، نحن في كل الكرة الأرضية نعيش في أسفل وعندما نذهب إلى مكة نسمو وكأننا نرتفع إليها، نرقى إليها، فيها السمو فعندما يذهب الإنسان مهما كان مصليًا وقارئا للقرآن وتائبًا عندما يذهب إلى الكعبة يسمو فهو يأتي من مكان عميق إلى السمو، هذا معنى مجازي. لكن المعنى الإعجاز العلمي، المدينة المنورة تبعد عن مكة بحدود 400 كيلومتر، نقول بعيد، تبوك تبعد عن مكة بحدود 700 كيلومتر، الأردن بحدود 1000 كيلومتر، لو جئنا إلى المغرب العربي يبعد 6 آلاف كيلومتر هل نأتي من فج بعيد أم من فج عميق؟ كلمة عميق فيها إعجاز علمي كأن الآية تشير إلى كروية الأرض هذا ما قاله العلماء في الإعجاز العلمي في القرآن. لو قال من كل فج بعيد يعني مستقيم، من كل فج عميق كلما ابتعدنا عن مكة زاد العمق، ففيها إشارة إلى كروية الأرض وهذا مثل قوله تعالى (والأرض مددناها) الشكل الهندسي الذي أينما ذهبت وجدته ممدودًا، المثلث عنده حدود والمربع والمكعب عنده حدود، الكرة ممدودة أينما ذهبت. القرآن غلّاب فيه المعاني العلمية التاريخية. العلماء القدماء قالوا استعار البيان القرآني العمق للبعد. عميق فيها معنى جديد وكل من يأتي من بعيد فهو في الحقيقة يأتي من عمق لأن الأرض كروية الشكل والله أعلم.

المقدم: كنت أقرأ في تفسير النسفي فمرت قصة جميلة جدًأ يقول: قال محمد بن ياسين قال لي شيخ في الطواف من أين أنت؟ فقلت من خراسان، قال بينكم وبين البيت؟ قلت مسيرة شهرين أو ثلاثة فقال: أنتم جيران البيت، قلت أنت من أين جئت؟ قال: من مسيرة خمس سنوات خرجت وأنا شاب فاكتهلت، قلت والله هذه الطاعة الجميلة والمحبة الصادقة، قال: وأخذ ينشد

زُر من هَويتَ وإن شطّت بك الدار وحالَ من دونه حجبٌ وأستار

لا يمنعنّك بُعدٌ عن زيارته إن المحبّ لمن يهواه زَوّار

حتى قال بعض المفسرين أن إبراهيم عليه السلام ارتقى إلى جبل أبي قبيس وأذن في الحج بالناس فهذا يدل على أن الناس أتوه من كل فج عميق

د. المستغانمي: ووعده الله بالإجابة لأن قال (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) يأتوك في الإعراب جواب الطلب فكأن الله ضمن له الإجابة، هذا ما يقوله بعض المفسرين.

المقدم: يقول الله تعالى (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴿٢٨﴾) (منافع) نكرة على أساس أن المنافع دينية ودنيوية. هنا قال (وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) وفي آية أخرى بعدها (وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) فمن هو البائس ومن هو الفقير ومن هو القناع وومن هو المعترّ؟ ولماذا فرّق بين هذين التعبيرين؟

د. المستغانمي: من المنافع التي يشهدها المؤمنون الحجاج لبيت الله لحرام أنهم يأخذون الأجر منافع لهم ومن بين المنافع أنهم ينحرون ويتصدقون، لماذا كل هذا؟ الله سبحانه وتعالى فرض الحج للتآخي بين المسلمين في كافة الكرة الأرضية، هنا (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) جمهور العلماء على أن الفقير هو البائس والبائس هو الفقير، يعني بدل، هو نفسه يؤكده، إذن لماذا ذكرهما ما دام الفقير هو البائس والبائس هو الفقير؟ البائس بؤسه يظهر عليه كأن كلمة الفقير لكثرة دورانها على الألسنة صارت لا تستدر عطف الناس لا تؤثر في الناس لا تحرك أشجانهم وعواطفهم، أصبحت مستهلكة ارتبطت بشريحة معينة فقال الله (وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) هذا الذي يظهر بؤسه وشقاؤه في ثيابه في منظره في شعره في كل شيء، هذا الذي يقول بالتساوي والذي يقول باختلافهما يقول هي لاستيعاب الفقير من تكون ثيابه حسنة ولا يسأل الناس أما البائس الذي يبدو البؤس عليه أكثر فلاستيعاب جميع الشريحة الاجتماعية فعددها. (الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) فيها خلاف بين العلماء، القانع لدينا معنيان اثنان: إما من قنَع أو قنِع، فلو قلنا القانع الإنسان الذي عنده قناعة، القانِع من القناعة الذي يستغني عن الناس عن مالهم وعنده قناعة، هذا قَتِع قناعة أما قَنَع قنوعًا فهذا بمعنى سأل وتذلَّل في الطلب، بعض المفسرين يقولون: القانع هو المستغني والمعترّ هو الذي يعتري المجالس، السائل الذي يعتري المجالس، عكس المعنى، هذا يستغني ويتعفّف وهذا يسأل كما قال زهير بن أبي سلمى:

على مُكثريهم رزقُ من يعتريهم       وعلى المُقلِّين السماحةُ والبذل

المعترين الذين يعترون المجالس والطرقات. وأنا أميل إلى هذا التفسير: القانع هو السائل المتذلِّل. أحد العلماء يجمع بين النظائر يقول:

العبدُ حرٌ إن قَنِع (من القناعة) والحرّ عبدٌ إن قَنَع

فاقنع ولا تقنع فلا شيء يُشين سوى الطمع

فاقنع من القناعة ولا تقنع من التذلل لأن قَنَع قناعة وقنِع قنوعا وهنا نحن نميل إلى سأل وتذلل، مرادف بدليل (الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) أما من قال القانع المستغني فأيضًأ معنى صحيح فالمطلوب أن نستوعب جميع الشرائح من الفقراء والذين يعترون الناس.

المقدم: هنا يقول الله تعالى (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) ما هو التفث؟

د. المستغانمي: التفث أيضًا من الكلمات التي ذكر العلماء لهم شروحا يقول ابن عباس وابن عمر: مناسك الحج كلها تفث، نفطويه وقطرب واللغويوين يقولون التفث أي الوسخ، فليقضوا تفثهم أي يزيلوا عندما يكون محرمًا يطوف طواف الإفاضة يرمي الجمرات ويتحلل يزيل ما به من شعث ومن غبار ومن وسخ ويقلّم الأطفار، فهذا إزالة التفت لكن الأرجح لغويًا (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) بأنها المناسك، كلمة (ليقضوا) لام الأمر والقضاء أي قضاء المناسك وفي سورة البقرة (فإذا قضيتم مناسككم) هذه الآية في سورة البقرة ترجح أن التفث يراد به المناسك لأن القرآن يفسر بعضه بعضا أما من فسّرها لغويًا هي الدرن والوسخ وقص الأظافر هو مما يُعنى به في اللغة.

المقدم: هنا يقول الله تعالى (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) وردت هذه كثيرا (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴿٣٢﴾) (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴿٦٠﴾) في سورة الحج فهل هناك دلالة معينة لاسم الإشارة (ذلك) في السورة؟

د. المستغانمي: أولًا ذكرنا في الحلقة الأولى أن من ثوب السورة اللفظي استعمال (ذلك) وتكرر (ذلك) اسم الإشارة للبعيد في السورة 15 مرة، ولكن أشير أن ذلك هنا ليست بمعنى اسم إشارة مبتدأ، لا، ذلك تعتبر للتنبيه: ذلك، ومن يعظم حرمات الله. ذلك، ومن يعظم شعائر الله، يعني أيها القارئ أو المستمع استمع سيأتيك بلاغ مهم. الكتّاب والبلغاء الكبار يتكلم في حديث أو فقرة معينة يقول: هذا، وقد صرّح الأمير بكذا، هذا وقد تمّ كذا. متى نحكم على اسم الإشارة أنه للتنبيه؟ إذا كان ما بعدها غير صالح لأن يكون خبرًا، لو كان خبرًا فهو اسم إشارة فقط. لو قلنا (ذلك الكتاب لا ريب فيه) هنا ليست للتنبيه وإنما للإشارة إلى بُعد منزلة القرآن، ذلك الكتاب في رفعته. (ذلك الكتاب) بَدَل. ما بعد الإشارة إذا عُرِّف فهو بدل وإذا كان مشتقًا فهو صفة “ذلك الشاعر”. ذلك رجلٌ هذا مبتدأ وخبر، (ذلك) الذي تعتبر للتنبيه ما بعدها لا يصلح أن يكون خبرًا (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ) (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ) كأن الله يقول: ذلك الأمر، ومن يعظّم، فهي هنا للتنبيه أكثر والخبر سيأتي فيما بعد. مثلها في سورة ص (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ﴿٥٧﴾ ص) (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ ﴿٥٥﴾ ص) بلاغة القرآن مرة يستعمل اسم الإشارة للقريب ومرة للبعيد، بخلاف (هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي)[الأنبياء:24] هنا مبتدأ وخبر.

المقدم: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ) ثم قال (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ) ما الحرمات وما الشعائر؟

د. المستغانمي: الحرمات هي كل شيء ذي حُرُمة، الحُرُمات جمع حُرُمة (بضمتين) هكذا يقول اللغويون، فهي لا تنتهك، زيد بن أسلم من كبار التابعين يقول: الحرمات هي البيت الحرام، الكعبة، المسجد الحرام، مكة الحرَم، البلد الحرام، الشهر الحرام، المحرِم من بداية إحرامه، هذه كلها حرمات جمع حُرُمة بالضمّ. أما الشعائر فهي جمع شعيرة هي جميع المناسك، الشعيرة تُطلق على البَدَنة التي تُضحّى ثم أطلقت على جميع المناسك والشعائر. البدنة هي الناقة كان الرجل إذا نوى أن ينحر ناقته في الحرم بمنى أو بمكة يُشعِرها بمعنى يضربها بمُدية أي سكين في لبّتها اليمنى (تحت العنق) فيسيل دمها فإذا سال دمها كان ذلك إشعارًا إلى أن ذلك الرجل نواها هديًا لله سبحانه وتعالى فسميت شعيرة من هذا الباب، فهي مُشْعَرة وأًطلق الاسم بعد ذلك على جميع المناسك. فإذن كلمة شعائر الله هي مناسك الله في الرمي وفي الجمرات وفي المبيت بمنى وفي كل الشعائر المناسك.

المقدم: هل تطلق هذه الكلمة على مناسك الحج فقط أو كل الشعائر العملية مثل الصلاة على سبيل المثال؟

د. المستغانمي: في هذا السياق تدل على شعائر الحج. (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ) أي مناسك الحج في منى والمزدلفة وفي عرفات فكلمة شعائر أخصّ من الحُرُمات، بدأ بالعامّ ثم خصّص وكلاهما من تقوى القلوب (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) دليل على أن صاحبها يتقي الله ويحب الله سبحانه وتعالى.

المقدم: لا أفهم قول الله سبحانه وتعالى حينما قال (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) ما العلاقة بين الرجس وبين قول الزور؟

د. المستغانمي: الرجس من الأوثان أي الشرك، اجتنبوا الشرك. الكبائر معروفة: الشرك بالله، عقوق الوالدين، قتل النفس، شهادة الزور، نهى عن الشرك (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) اي اجتنبوا الشرك الذي هو رجس معنوي واجتنبوا قول الزور، ما الحكم في الربط بينهما؟ شهادة الزور أن يشهد إنسان زورا وبهتانًا ما ليس بحقيقة، يشهد كذبًا وهل ثمّة أكذب من إنسان يقول هذه آلهة تسمع وترى؟! كأن هذا هو الزور بعينه. النهي عن الشرك والنهي عن قول الزور لأن قول الزور في مثل هذا السياق هو شهادة المشرك بأن الآلهة تسمع وتنفع وتغني، هذا الزور الحقيقي لم يقل الحقيقة فنهى الله عن الشرك ونهى عن أعظم وأفظع أنواع الزور.

المقدم: لذلك جاءت بعدها الآية (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)

د. المستغانمي: حنفاء لله أي مخلصين لله جلّ وعلا والحنيف هو الرجل المخلص في عبادته يميل عن الشرك إلى الله. نقول فلان أحنف يميل في مشيته يتمايل. لذلك (حُنَفَاءَ لِلَّهِ) كأنه يقول مخلصين له ميالين إليه غير مشركين به. (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) هي في الحقيقة من الاحتراس حتى لا يهِمَ المستمع والمخاطَب ويقع في سوء الفهم. يستطيع أحد أن يقول (حنفاء لله) كافية لأن القرشيين كانوا يقولون نحن على دين إبراهيم لكن إبراهيم الخليل لم يكن مشركًا فهنا (غير مشركين به) به احتراس، لا تفهموا أن هذه الحنفية التي كنتم عليها. وفي سورة النحل (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)) احتراس حتى لا يهيم المشركون ويقولون نحن على دين إبراهيم، إبراهيم لم يكن مشركًا. في سورة البقرة (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا) ليس معناها اليهود والنصارى قالوا كونوا هودًا، معناه اليهود قالوا كونوا هودا تهتدوا والنصارى قالوا كونوا نصارى تهتدوا، على التوزيع لو قال (قل بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) لقالت قريش والله نحن على ملة إبراهيم فقال (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) احتراس. في ثلاثة مواضع بنفس الطريقة (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وإبراهيم وصفه (حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهنا نفس الكلام (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) هذا الاحتراس فإذا كنت تريد فعلًا أن تنتمي إلى إبراهيم فاحذر من الشرك فإنه لم يكن من المشركين.

المقدم: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) هذه صورة عجيبة جدًا.

د. المستغانمي: هذه الصورة استوقفت المفسرين كثيرا فسّرها اللغويون، ثمة تناسق عجيب بمجرد ما قال (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) اجتنبوا الشرك (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) وهو شرك ثم قال (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) وإن كنتم لا تعرفون فظاعة ما ترتكبون من شرك فتعالوا أبيّن لكم صورة الشرك، إن كنتم لا تعرفون فظاعة ما ترتكبون (ومن يشرك بالله) والعياذ بالله (فكأنما خرّ) والخرور هو السقوط بسرعة شديدة (خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) وفي قرآءة (فتخطّفه الطير) يعني الطيور تتخطفه وتنتزعه وتأكله في حواصلها، هذا لا يبقى، صورة عجيبة! تتخطفه الطير وتنتزعه وتتقسّمه ويذهب في حواصلها. (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) سحيق أي عميق لا يرجى منه نجاة، هذا هو المشرك وما قال عميق وإنما قال سحيق. من أيقونات سورة الحج (ذلك هو الضلال البعيد) (من كل فج عميق) (فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) والخرور هو السقوط من أعلى إلى أسفل والهويّ (يهوي) ما هذه اللغة التي تختار ألفاظًا من نفس العائلة!! إذا كنا في الربيع نختار الريحان والياسمين والفلّ والانفتاق وإشراق النبات لكن هنا الشرك شيء خطير فاختار البيان القرآني كلمات كلها بعيدة الغَوْر. بعض العلماء يقولون: إن شئتَ شبّهه بمن يخرّ فتتخطفه الطير هذا للمشرك الكافر غير المستقر، هذا تتقاسمه الطيور ولا نجاة له أبدًا هذا متذبذب، ثمة إنسان مستقر على الكفر هذا تهوي به الريح في مكان سحيق إذا وجد من ينقذه ومن يزيل عنه الغبار ربما يهتدي إلى الله، هذا أقل من الأول. ثمّة صورتان.

المقدم: ذاك يبلغ أجله قبل أن يبلغ النجاة.

د. المستغانمي: وقبل أن يصل إلى قعر الوادي السحيق. (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴿١٧﴾ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴿١٨﴾ البقرة) صوّر المنافقين ثم قال (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) أعطاهم صورة ثانية فإن شئت صوّرهم كذا وإن شئت خذ لك صورة كذا، نحن نقرّب لك في القرآن.

المقدم: لديك وقفة مع الآية (فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)

د. المستغانمي: صورة الحج جاءت فيها أوصاف القلب (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ) فإن ذلك التعظيم صادرٌ من تقوى قلبه (فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (فإنها) فإن ذلك التعظيم وتلك الخشية من تقوى القلوب. استوقفني (فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ومرة قال (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) والوجل شدة الخوف والرجف، يرتجف القلب، الوجيف والارتجاف، في اللغة العربية لدينا الخوف والخوف أن تخشى من أمر غير متوقع، فوق الخوف عندنا الخشية وهي خوف مع تعظيم (إنما يخشى الله من عباده العلماء) يعظمونه ثم يخشونه، يخافونه ثم يخشونه، فيها تعظيم. الوجل درجة أكثر من الخشية لأن القلب يكاد لا يستقر في مكانه ينفطر من شدة الخفقان والوجيب هنا قال (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (تَقْوَى الْقُلُوبِ) في آية أخرى في سورة الحج (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) تتواضع وتستقر وهذه من الألفاظ التي لم ترد في القرآن إلا في سورة الحج وفي سورة هود. وأنا أبحث في القلب في القرآن لنظهر شخصية كل سورة وردت للقلوب صفات إيجابية ووردت صفات سلبية للقلوب في سورة الحج. (تَقْوَى الْقُلُوبِ) صفة إيجابية (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إيجابية (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) إيجابية، العكس (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) عمى القلوب، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) القلب الذي لا يعقل ووردت القاسية قلوبهم فالسورة وقفت عند القلب لأن الذي يذهب إلى الحج لا بد أن يستحضر ذلك الخشوع ذلك الوجل ذلك التواضع العظيم أمام عظمة الله في الحج. في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ذكر الله صفات القلوب الإيجابية والسلبية 48 مصطلحًا في القلب 16 صفة إيجابية و32 سلبية في القرآن بشكل عام. لدينا في القرآن القلب السليم (إلا من أتى الله بقلب سليم) القلب المنيب (من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب) القلب المخبت (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) القلب الوجل (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) القلب الخاشع (ألم يئن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم) القلب المطمئن (ولتطمئن به قلوبهم) القلب التقي، ما أحرانا أن نتدبر، القلب العاقل (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) القلب الطاهر (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) القلب الليّن (ثم تلين جلودهم وقلوبهم) سؤال مطروح: هل تلين قلوبهم هي تطمئن قلوبهم؟لا، لا يوجد مفردة تشبه الأخرى في القرآن إذن ثمّة معنى آخر فما أحوج الباحثين أن يقفوا عند القلوب الإيجابية في القرآن.

لو جئنا إلى القلوب السلبية المريضة عندنا القلوب المريضة (فيطمع الذي في قلبه مرض) القلب الأعمى (ولكن تعمى القلوب) وحتى نعرف أنه القلب الحقيقي قال (التي في الصدور) القلب المختوم (ختم الله على قلوبهم) القلب المطبوع عليه (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) القلب الأغلف المغلّف الذي لا يصل إليه الهدى (وقالوا قلوبنا غلف) (قلوبنا في أكنة) عليها كِنان، أكنّة جمع كِنان أي غطاء شديد، القلب المتكبر، القلب المشمئز (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة) القلب القاسي (ثم قست قلوبهم) القلب الغليظ (ولو كنت فظا غليظ القلب) القلب الغافل، القلب الزائغ، القلب المريب، هذا بحث تكتب فيه دكتوراه!

لذلك استوقفتني سورة الحج وهي تتحدث عن القلوب وليس عبثا أن ترد فيها ثلاث صفات إيجابية وثلاث صفات سلبية.

المقدم: ما علاقة هذا بمحور السورة؟

د. المستغانمي: محور السورة يدعونا إلى التعرف على الآخرة والبعث وحتى نؤمن بالبعث إيمانًا حقيقيًا أتى لنا بكثير من الأدلة ومحور السورة ذكر الحج الذي يرتبط بالبعث وقلنا الحج رحلة مصغرة إلى الآخرة. ما جدوى إنسان كان غنيًا أو فقيرًا يذهب إلى الحج وقلبه لا يُخبت وقلبه لا يطمئن وقلبه لا يوجل، وقلبه لا يخشع، وقلبه لا يتقي؟! ما جدوى أن تنحر البدنة وأن تذبح بقرة أو كبشًا وتقرّبه وقلبك لا يتقي وأنت غافل لذلك قال الله (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) فهذه وقفة عظيمة تجعلنا نرتبط بالحج الذي هو عبادة عظيمة.

المقدم: يقول الله سبحانه وتعالى (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) ثم بعدها بآيات بسيطة قال (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)

د. المستغانمي: أليسا صنفان من أصناف البشر؟ في البداية قلنا أنه ذكر أصناف المشركين (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) ثم ذكر طوائف المؤمنين الذين آمنوا واليهود والنصارى والمجوس إلى أن جاء إلى الذين يحجّون البيت الحرام من المؤمنين (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) ثم ذكر صفات المخبتين المتواضعين (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿٣٥﴾) صفات المخبتين المتواضعين الحقيقيين فإذا ما زادوا فوق الإخبات أنهم تكرموا وأحسنوا وضحّوا بالبدنة وبالنوق وبما يملكون زادوا إلى درجة الإحسان قال (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) وهذه قمة الطوائف المؤمنين المحسنين.

المقدم: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) ما معنى صواف؟

د. المستغانمي: عندما تنحر الإبل واقفة معقولة، الإبل في العادة أن تنحر واقفة تصف أقدامها معقولة لكن يطلق قدم منها الأول يُطلق وتصف وتعقل ثلاثة، (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) معناه انحروها، اذكروا اسم الله عليها كناية عن النحر وكم في سورة الحج من الكنايات لم يقل فانحروها صواف وإنما قال (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) ثم قال (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) وجبت يعني ماتت لم يقل ماتت وإنما قال (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) كناية عن موتها، انظر إلى ترفع البيان القرآني في الوصفّ فهذه من الكنايات الرائعة في سورة الحج قال (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) أي انحروها وهي واقفة وقال العلماء يجوز نحرها وهي قاعدة أو ينيخها صاحبها إذا خشي تفلتها لكن الأصل أن العربي ينحرها وهي واقفة معقولة لا تتفلت وهكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم

المقدم: هذه من الألفاظ التي يقف عندها كثير من الإخوة المشاهدين لا يعرفون معناها. يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴿٣٨﴾) كأننا عدنا مرة أخرى إلى أصناف الناس

د. المستغانمي: هذا هو المطلوب، قد يقال: تحدثت الآيات عن الحج فما علاقة (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا) ألم يسبق أن ذكرنا (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) هذه الطوائف من البشر الله تعالى يدافع عن الذين آمنوا، عن المؤمنين بالدرجة الأولى وحتى إذا قسنا اليهود بالمجوس اليهود أقرب إلينا لأنهم أهل كتاب، النصارى أقرب إلينا من المجوس ومن المشركين (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ)[المائدة:82] يجمعنا بهم الإيمان بالكتاب فصرّحت الآية (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) لأمانته (كَفُورٍ) ثم ربطت بالإذن بالقتال (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿٣٩﴾) لماذا أذن الله لهم بالقتال؟ هي آية مدنية وسورة الحج عجيبة فيها المدني والمكي والسفري والحضري والليلي والنهاري في المدينة أذن الله لهم بالقتال لكي ينصر دين الحق لأن الله تعالى لا يترك العباد يعانون وأهل الشرك يطغون حتى يزيلوا معالم الإيمان والحق في الكرة الأرضية أبدًا والدليل (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿٤٠﴾)

المقدم: نريد أن نقف عند هذه الآية، قد لا يعرف كثير من الإخوة المشاهدين معنى (صلوات) فما المقصود بالصلوات والبيع؟ كنت أفهم الصلوات على أنها جمع صلاة

د. المستغانمي: هي أماكن للعبادة خاصة بأهل الكتاب، الصلوات أماكن العبادة عند اليهود من كلمة صالوتة هكذا يقول المفسرون.

المقدم: ما المقصود في الآية (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)؟ على من تعود هذه الآية؟ نقف عندها وقفة متأنية في الحلقة القادمة إن شاء الله.