فطَر اللهُ تعالى الخلقَ على حبّ الأبناء, ولكنه كما في كل الرزق الذي يرزقنا به يحب أن نستعمله في طاعتهتعالى ومرضاته, والله تعالى يريد من عباده أن يجعلوا أولادهم حفظة للدين حتى تتوارثه الأجيال كما نورث أبناءنا المال من بعدنا. فحبُّ الأبناء أمرٌ فطري, ولكن للذرية هدف أسمى من المتعة الفطرية بهم ألا وهو حفظ الدين للأجيال. ولذا فإن أكثر كلمتين تكررتا في السورة هما (الولد والوراثة).
وراثة الدين: تبدأ هذه السورة المكية بالحديث عن وراثة الدين التي تمثلت في دعوة سيدنا زكريا (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) آية 5 و 6 إلى (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) آية 12 نتيجة الدعاء. والسبب الذي من أجله طلب زكريا الولد هو أن يرث الرسالة والكتاب، كما هي الحال في آل عمران, فزوجة عمران وهبت ما في بطنها لله وزكريا يريد ابناً يرث الدين من بعده ومريم وعيسى ثم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ثم إسماعيل وأولاده فكل هؤلاء آباء تورث أبناءهم هذا الدين. الأمر واضح, صدق سيدنا زكريا ربه بدعائه وعلم الهدف حقًّا فاستجاب له تعالى بأن وهبه سيدنا يحيى الذي آتاه الحكم صبيا.
عيسى : النموذج الثاني في السورة و سيدنا عيسى (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * …* وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) آية 30و 32. وجاءت كلمة البر على لسان عيسى ويحيى وهذا لأن أهلهم ربّوهم ليرثوا هذا الدين, فكان الأبناء بارّين بأهلهم وهذا دليل حسن الخلف لخير السلف.
إبراهيم عليه السلام: قصة إبراهيم الخليل هي نموذج عكسي لما سبق؛ إذ أن إبراهيم هو الذي كان ينصح أباه المشرك برفق وأدب ورقة, تكررت كلمة (يا أبت) أربع مرات, ولمّا لم يستجب له أبوه واعتزلهم وهب الله تعالى له إسحاق ويعقوب ليكونوا من ورثة دينه الحنيف (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا) آية 49 .
ثم تصل الآيات إلى سيدنا إسماعيل(وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) آية 55 وكيف كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة.
التعقيب:(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبراهيم وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) آية 58, وتذكر الآية الذرية الصالحة الذين يتوارثون الدين والرسالة جيلاً وراء جيل. نلاحظ تكرار كلمة (ذرية) ويأتي مقابل هذا الإرث من لم يطبق هذا الأمر (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) آية 59, كيف سيحلّ عليهم عذاب الله. ونرى بديع سياق الآيات القرآنية وكأنها بناء متماسك يطلب توريث الأبناء الرسالة والمنهج الحق ويعرض عقوبة الذي يخالف هذا المنهج.
ومن سياق الآيات نلاحظ أن ثلاثة أرباع السورة تقريباً تحدثت عن حاجة البشر للولد ونماذج مختلفة بأسلوب رقيق, فجاءت فواصل الآيات رقيقة عذبة لأن الولد نفسه يمثل الرقة والحنو والعطف, وقد وردت كلمة الرحمن في السورة 16 مرة. أما الربع الأخير من السورة فجاءت الآيات تنفي حاجة الله تعالى للولد وهو خالق الخلق كلهم, وجاء أسلوب الآيات قاسياً وفواصل الآيات شديدة لأن هذا الأمر تخر الجبال له وتكاد السموات يتفطرن وتنشق الأرض منه, فالله تعالى واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد لا إله إلا هو لا شريك له وما اتخذ صاحبة ولا ولدا سبحانه وتعالى عما يقولون ويفترون.
سميت السورة بـ (مريم) تخليداً لمعجزة خلق إنسان بلا أب, ولأن الأم التي تمثلت في مريم عليها السلام هي المؤسسة والمورثة الحقيقية للأبناء وهي تمثل نموذجاً للمصاعب والمحن التي يواجهها توريث الدين للأبناء وهي سيدة نساء العالمين الطاهرة العذراء البتول.
ذكر في أولها رحمته بعبد من عباده وهو زكريا (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)) وفي الآخر ذكر رحمته بعباده المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)) فذكر رحمته بعبد من عباده في الأول وذكر رحمته بعباده المؤمنين على الإطلاق وبشر في أولها عبداً من عباده وهو زكريا (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)) وبشر في الآخر عباده المتقين (فَإِنَّمَايَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97))، رحم عبداً في الأول وبشره ورحم عباده المتقين في الآخر وبشرهم، بدأ بالفرد وانتهى بالجماعة. رحمة وتبشير في الأول ورحمة وتبشير في الآخر ورحمته ليست خاصة بعبد من عباده والتبشير ليس خاصاً. سورة مريم فيها رحمة وتبشير تبدأ بعبدٍ من عباده وتنتهي بالناس بعموم المتقين.
في خواتيم الكهف قال تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)) وما فعله مع زكريا عندما طلب زكريا من ربه أن يهَب له غلاماً (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)) أليس هذا من كلمات ربي؟ الكلمات تعني القدرة. كلمات ربي تعني قدرته لا تنتهي. الكلمات تعني علمه وقدرته سبحانه. ما فعله مع مريم (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)), وهو تعالى سمى عيسى كلمة؛ فقال تعالى: (إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (45) آل عمران) (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47) آل عمران) هذه من كلمات الله. قال في بداية مريم (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)) وسورة الكهف كلها في الرحمات, رحم المساكين أصحاب السفينة بأن أنجاهم, ورحم الأبوين المؤمنين بإبدال خير من ابنهما, ورحم الغلامين بحفظ الكنز, ورحم القوم الضعفاء من يأجوج ومأجوج, ورحم الفتية أصحاب الكهف عندما حفظهم.
سورة الكهف كلها رحمات, فهذه في رحمة عباد الله وسورة مريم بدايتها في رحمة عبد من عباد الله (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)).
قال في خواتيم سورة مريم (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)) هذا القرآن وقال في بداية طه (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2)) أنزلناه لتبشر به المتقين لا لتشقى. الكلام في القرآن وكأن الرسول r كان يحمِّل نفسه الكثير. قال في خواتيم سورة مريم (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93))وفي طه قال (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)) فما فيهما ومن فيهما له سبحانه، ما في السموات ومما في الأرض له ومن فيهما عباده ولهذا قال (إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) الكل سوف يأتي الله سبحانه وتعالى له ما في السموات والأرض يعني ملكية ومن في السموات عباده. في ختام مريم قال (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)) وفي بداية طه ذكر قصة فرعون إلى أن قال (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)) كم أهلكنا، خذوا مثلاً فرعون. السورة وحدة واحدة كل سورة تسلم لما بعدها.
بعد الحركة السريعة في سورة الكهف وهذا اللهاث الشديد ننتقل لسورة هادئة، ننتقل لواحة إيمانية وارفة الظلال، فيها كلام الرحمات والعطاءات الربانية لأهل الإيمان، سورة مريم.
سميت سورة مريم باسم امرأة صالحة كاملة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم “كمل من النساء ثلاثاً مريم بنت عمران وخديجة رضي الله عنها وآسيا امرأة فرعون”. وقصة مريم مليئة بالخوراق والأعاجيب والفتوحات التي تستغرق نحو ثلثي آيات سورة مريم.
سورة مريم من أهم خصائصها أنها أكثر سورة في القرآن ورد فيها ذكر اسم (الرحمن) ورد 16 مرة وهذا يساعد في تدبر السورة ومعانيها من خلال تكرار كلمة فيها أو من خلال اسم السورة من خلال أسباب نزولها. فورود لفظ الرحمن فيها 16 مرة يستدعي التوقف عنده وهو أعلى معدل تكرر فيه هذا الاسم في سورة واحدة في القرآن وهو من أكثر الأسماء تكرراً في القرآن الكريم ابتداء من سورة الفاتحة (الرحمن الرحيم) لكن في سورة مريم تكرر بأعلى معدل 16 مرة تليها سورة الزخرف 7 مرات. اسم الله الرحمن يمتلئ بالرحمات وهذا ما سنجده في آيات سورة مريم. فالسورة يمكن أن نطلق عليها سورة عطاءات الله لأهل الإيمان وعقوبته لأهل الطغيان والنكران فكما أن السورة فيها عطاءات فيها أيضاً عقوبة الذين طغوا وتكبروا وأفسدوا واشركوا وكيف عاملهم الله سبحانه وتعالى أيضاً باسمه الرحمن (في الثلث الأخير من السورة).
بعض الناس تظن أن اسم الرحمن هو رحمة خالصة والحقيقة عندما نستعرض الآيات في السورة التي ورد فيها عقوبة (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ﴿٨٨﴾ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ﴿٨٩﴾ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ﴿٩٠﴾ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ﴿٩١﴾ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ﴿٩٢﴾ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴿٩٣﴾ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ﴿٩٤﴾ وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴿٩٥﴾) اسم الرحمن يتكرر مع العقوبات. بعض العلماء قالوا أن اسم الله الرحمن هناك معنى جلال فيه ليس فقط هو اسم جمال بحسب تقسيم العلماء لأسماء الله الحسنى، يقسمونها أسماء جلال وأسماء جمال، أسماء الجمال مثل الرحمن، الرحيم، الودود، الغفور والتواب، الأسماء التي تأخذ بقلب الإنسان بالرجاء وهناك اسماء جلال مثل القهار، الجبار، القوي المتين، الأسماء التي فيها قوة تجعل الإنسان يرهب، فما بين الترغيب والترهيب تأملك في اسم الرحمن ستجد المعنيين.
وفي تأملنا في هذين المعنيين نجد هذه السورة تنقسم إلى هذين القسمين:
القسم الأول: عطاءات الله لأهل الإيمان (من الآية الأولى إلى الآية 58) وقبل كل عطاء نجد البطولة التي ربنا سبحانه وتعالى ذكرها لهذا النموذج من أهل الإيمان. في سورة مريم يضرب نماذج لأهل الإيمان منهم النموذج الذي سميت السورة باسمه وهي السيدة مريم وابنها سيدنا عيسى المسيح عليه السلام. كلما نقرأ نموذجاً من هذه النماذج سنجد ذكراً لبطولاتهم الإيمانية والتعبدية والأخلاقية، سنجد معاني عظيمة في إيمانهم وثباتهم وعفتهم وفي بر سيدنا ابراهيم لأبيه وهكذا وبعدها تجد عطاءات الله عز وجل وكراماته ومعجزاته التي أكرم بها هؤلاء أهل الإيمان. ولهذا تتكرر في هذا القسم من السورة ألفاظ العطاءات والهبات والرحمة وأسماء الإشارة (نُبَشِّرُكَ) البشارة، (لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) الهبة التي هي عطاء من غير سبب دنيوي، سيدنا زكريا وهبه الله سبحانه وتعالى الولد مع أنه كان عجوزا وامرأته عاقرا، (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا) رحمة، سورة الرحمات سورة مريم مليئة بالرحمات والعطاءات (وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا) (وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) وقول الله عز وجل (وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا). وكما ذكرنا قبل الرحمات والعطاءات والهبات نجد البطولات التي عملها هؤلاء النماذج وأغلب هذه البطولات هي بطولات محرابية تعبدية إيمانية كما تبدأ قصة زكريا عليه السلام فهي بطولة تعبدية وآية من آيات حسن الظن بالله عز وجل (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴿٢﴾ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴿٣﴾) قال بعض العلماء أن (خفيا) هنا لأن زكريا عليه السلام معتاد على الخلوة مع الله عز وجل معتاد أن يستخفي بعبادته ويكون بينه وبين ربه سرّاً ويمكن أن نتعلم من سيدنا ظكريا بأن يكون بيننا وبين ربنا سبحانه وتعالى مناجاة، حال خفي لا يعلمه إلا الله جل وعلا. (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴿٢﴾ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴿٣﴾) وبعضهم قال خفياً لأن زكريا كان رجلاً طاعناً في السن ووهن عظمه واشتعل رأسه شيباً ويطلب من ربه أن يعطيه ذرية فكيف يطلب هذا الطلب وهو عجوز وامرأته لا تنجب فالأسباب منقطعة وبعضهم قال لو كان زكريا جهر بهذا النداء لكان أثار استغراب الناس لكنه حسن ظنه بالله عز وجل. قول سيدنا زكريا (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) وقول سيدنا ابراهيم (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) هذه جمل نجتاج أن نجعلها شعارات في حياتنا. (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) شعار ضعه أمام عينيك وأنت تدعو ربك سبحانه وتعالى، لن تشقى في حياتك وأنت تدعو الله سبحانه وتعالى وتطلب منه عز وجل (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) طه) الشقاء مرتبط بالبعد عن الله عز وجل لكن الذي يرتبط بالله عز وجل كيف يشقى؟! فبطولة سيدنا زكريا هي حسن ظنه بالله سبحانه وتعالى والدعاء والتبتل فقد دعا ربه هذا الدعاء الخفي وهو قائم في المحراب يعرض حاله في بداية مناجاته لربه سبحانه وتعالى (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) كله شعر رأسه أبيض دلالة على كبر سنّه (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴿٤﴾ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ﴿٥﴾) قبل أن يطلب زكريا من لدن الله ولياً قال السبب فهو لم يكن يريد الولد لنفسه أو لأجل دنيا وإنما طلبه (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) خفت على بني إسرائيل من بعدي فقد كنت كبيرهم وليس هناك من وريث بعدي (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴿٤﴾ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي) طلب الهبة وليس العطاء لأن الهبة غير العطاء فالهبة من غير ثمن، زكريا ليس عنده أسباب يحصل بها على الولد فطلبه هبة من ربه سبحانه وتعالى (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) الشورى) الأولاد هبة من الله سبحانه وتعالى، وكله بأمر الله عز وجل نتعلم من زكريا هذه المعاني وهذه البطولة الإيمانية. (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴿٦﴾) اجعله راضياً واجعله مرضياً وقدّم زكريا بين يديه ربه بطولات محرابية تعبدية، الملائكة نادته وهو قائم يصلي في المحراب فقال في سورة آل عمران (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى (39) آل عمران) كان في المحراب وفي سورة مريم قال (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ) ونجد كلمة المحارب تتكرر مع أنبياء بني إسرائيل، مع زكريا، مع سيدنا سليمان النبي الملك القوي (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ (13) سبأ) المحراب هو مكان العبادة، مع مريم عليها السلام (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ)، مع زكريا (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ (39) آل عمران) (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ)، داوود عليه السلام (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) ص) مع أن داوود كان ملكاً وقائداً لكنه لم ينس المحارب، مكان العبادة. إياك أن تنسى مكان العبادة. المحارب نجده واضحاً في قصص أنبياء بني إسرائيل وعُبّاد بني إسرائيل وفي قصة زكريا في هذا الجو المحرابي التعبدي تأتي البشارة والنداء من عند الله سبحانه وتعالى (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا) لم يسمى أحد قبله بيحيى. (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) كل هذا هيّن على الله سبحانه وتعالى ولا شيء يصعب عليه عز وجل (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) تذكر ماذا كنت قبل خلقك؟ كنت نطفة من ماء مهين فخلقك الله عز وجل فلا تستعجب. هذه قصة زكريا وهذه هبة الله تعالى له وعطاؤه. وليس الوقت هنا وقت كلام وإنما وقت ذكر فقال تعالى (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أمام هذه الآية العظيمة نجد بطولات أيضاً في قصة سيدنا يحيى عليه السلام (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) بقوة وعزيمة وبأس في التعامل مع دين الله عز وجل (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) كان إنساناً حنوناً على المدعويين، على أهله. (وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) هذا سيدنا يحيى عليه السلام ثم يأتي العطاء من الله سبحانه وتعالى (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا).
ثم تنتقل الآيات إلى النموذج الثالث وهو السيدة مريم عليها السلام. بطولات السيدة مريم بطولات تعبدية وإيمانية لما أرسل الله سبحانه وتعالى لها جبريل عليه السلام كانت في المحراب أيضاً، مكان العبادة لا يغفلون عن عبادة الله عز وجل ولا يقصّرون في طاعة الله عز وجل أبداً، سيدنا داوود سيأتي تفصيل قصته في سورة الأنبياء وفي سورة ص لكنه وهو يقضي بين الناس تسوروا المحراب، محرابه كان له سور لأنه كان يعتزل في عبادته فيكون قريباً من الله سبحانه وتعالى. السيدة مريم الكاملة المنذورة لله عز وجل نذرتها أمها لله (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) آل عمران) رب العالمين تقبل السيدة مريم بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا، ويذكر القرآن بطولاتها التعبدية (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ (37) آل عمران) هذه الشابة الورعة التقية لا تفعل شيئاً في حياتها إلا التقرب لله عز وجل، هذه البطولات التعبدية كان فرعاً عليها في العفّة لما دخل عليها جبريل عليه السلام وفزعت منه قالت (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا) نموذج في العفة، (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) قالت (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) لم يمسسني ولم أك (وليس لم أكن) حذفت النون كما يقول العلماء للدلالة على الامتناع التام أنه لم يلمسها أحد لم يقترب منها أحد، هذه امرأة عفيفة شريفة لا يقترب منها أحد ومع ذلك ستبتلى ابتلاء عظيماً أنها ستوهب ولداً بغير زواج، الكل سيأتي وبني إسرائيل سيتكلمون (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ﴿٢٧﴾ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴿٢٨﴾) كلهم سيتكلمون فيها ومريم عليها السلام عنده ثقة تامة بالله عز وجل وثقة بموعود الله قلم تتكلم معهم وإنما أشارت إشارة (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ). هل من الطبيعي أن تشير إلى طفل رضيع؟! ماذا سيقول؟! لكن الثقة بالله عز وجل أشارت إليه (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) وتبدأ العطاءات من الله سبحانه وتعالى بعد هذا الابتلاء ويبدأ الفرج (وقد بدأ بالفعل قبل هذا عندما قالت مريم (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا) وقري عينا كلمة فيها مودة ورحمة من الرحمن سبحانه كما قالها لأم موسى عليه السلام (فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا (40) طه) الله عز وجل الودود سبحانه يتودد لعباده ويريد أن تقر أعينهم وأن يسعدوا وأن يطمئنوا وأن لا يحزنوا ولا يخافوا (وَقَرِّي عَيْنًا). تأتي الفتوحات والعطاءات وكلام سيدنا عيسى عليه السلام في المهد. ومن الفوائد هنا أن أول كلمة قالها عيسى بن مريم عليه السلام (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) لست إلهاً ولا ابن إله وإنما عبد الله (آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ﴿٣٠﴾ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴿٣١﴾) البركة من الله سبحانه وتعالى، البطولة أن يصلي ويزكّي طوال حياته (مَا دُمْتُ حَيًّا) وليس معنى مقامي وبركتي أن أنقطع عن عبادة الله، لا، (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا). وهنا فرق بين ختام الآية في قصة يحيى عليه السلام (وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) ومع عيسى عليه السلام ختمت الآية (جَبَّارًا شَقِيًّا) الشقاء اشد من المعصية، لأن عيسى عليه السلام ليس له إلا أم أما يحيى عليه السلام فله أب وأم فلو حصل أن أخطأ في حقهما فهذه معصية لكنهما سيساعدوا بعضهم إنما السيدة مريم ليس لها إلا عيسى عليه السلام (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) وهذه يستفاد منها لكل من له أم فقط أو اب فقط أن يزيد من برّهم والتذلل لهم وخفض الجناح لهم لأن البديل هنا شقاء. (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ) ولد بشراً ليس إلهاً ولا ابن إله ولا نصف إله (وَيَوْمَ أَمُوتُ) سيموت كما يموت البشر (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) هذه هي حقيقة المسيح عليه السلام. عطاءات الله تعالى له كثيرة، كلامه في المهد، وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً.
تنتقل الايات لنموذج آخر وهو ابراهيم عليه السلام نموذج في البر والدعوة والحرص على هداية الأهل (يَا أَبَتِ) كلام فيه رقة وفيه مودة ودعوة بالحسنى وحكمة وموعظة حسنة (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴿٤٢﴾ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴿٤٣﴾ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ﴿٤٤﴾) كلام بالحجة والمنطق، كيف تعبد الشيطان وهو يعصي الله عز وجل؟! (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ) أشعِر الناس أنك تخاف عليهم، كن حريصاً على دعوة الناس (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴿٤٥﴾ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴿٤٦﴾) فيرد عليه ابراهيم عليه السلام (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) حسن الظن بالله وإحساس بمودة الله عز وجل وبنعم الله سبحانه وتعالى، بطولات في حسن الدعوة إلى الله والخوف على الناس والبراء (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا) براء من الكفار واعتزال وبراءة من أعداء الله عز وجل. وهنا مع البراء من أعداء الله تأتي العطاءات (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا) وتستمر العطاءات (وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)
ثم ينتقل الحديث إلى موسى عليه السلام (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا) يأتي الفتح مباشرة (وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا) ربنا قرّبه وناجاه فهو كليم الله سبحانه وتعالى (وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا)
ثم سيدنا اسماعيل عليه السلام كان حريصاً على أهله وكان يأمر أهله بالصلاة (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) والعطاء من الله سبحانه وتعالى أن يرضيه في الدنياوالآخرة
ثم سيدنا ادريس عليه السلام وصدقه وصديقيته (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا) فيأتي العطاء من الله سبحانه وتعالى (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) والنبي صلى الله عليه وسلم قابله في السماء الرابعة.
ثم تختم هذه العطاءات لأهل الإيمان في القسم الأول من السورة (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)) هنا سجدة، بطولة تعبدية. ذكر الله سبحانه وتعالى أن كل هذه العطاءات لأنهم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكياً خاشعين لله قريبين منه سبحانه وتعالى.
القسم الثاني: (الآيات 59- نهاية السورة) عقوبات الله عز لهؤلاء الذين غيّروا وبدّلوا، وفي هذا القسم تذكر الجريمة ويذكر بعدها العقاب
تأتي الجرائم (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59))، (وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) يكذّب بالبعث فتأتي العقوبة (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ﴿٦٨﴾ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ﴿٦٩﴾ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا ﴿٧٠﴾) عقوبات. الذين يشككون ويستهزئون (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) العقوبة (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) (قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) العقوبة بعدها (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا) وقصة العاص بن وائل لما كفر بآيات الله عز وجل جاءه خبّاب بن الأرتّ يطلب منه حقاً له عنده فقال له لن أعطيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال لا حتى تموت ثم تُبعث فقال العاص بن وائل أئذا مت سأُبعث؟ قال نعم، قال إن لي هناك مالاً وولداً فيقول ربنا سبحانه وتعالى هنا (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا) مثل صاحب الجنتين في سورة الكهف الذي قال (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا (36)) عندهم كبر وغرور ويظنون أنهم سيستمرون على بطشهم وطغيانهم في الآخرة أيضاً فقال تعالى (كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ﴿٧٩﴾ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ﴿٨٠﴾) ثم جريمة ادّعاء الولد لله سبحانه وتعالى (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ﴿٨٨﴾ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ﴿٨٩﴾ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) صواعق لمن ادّعى لله عز وجل الولد وكذّب ونسي هذه القصة الحقيقية التي ذكرتها الآيات عن المسيح عليه السلام. (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ﴿٩٤﴾ وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴿٩٥﴾) ثم تختم السورة (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴿٩٦﴾ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴿٩٧﴾) بشارة للمتقين والسورة كما ذكرنا منقسمة أكثرها بشارة للمتقين وعطاءات الله عز وجل لأهل الإيمان (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴿٩٧﴾ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ﴿٩٨﴾) عطاءات الله لأهل الإيمان وعقوبات الله لأهل الطغيان والكفران، هذه نظرة عابرة على سورة مريم.
🔹سورة مريم فيها جو الرحمة والحنان والرعاية الربانية والحنان والمحبة والحرص على حمل ميراث الكتاب بين الأجيال المتعاقبة عبر الزمن، والدعوة فيها مرتبطة بالدعاء لأن قلوب العباد بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء والهداية منه وحده.. نسمع زكريا بدعائه الخفي يتضرع طالبا ولدا يحمل ميراث النبوة لتستمر بعده أجيالا فيجيبه الله ببحيى ويأمر يحيى أن يأخذ الكتاب بقوة..
ونسمع كلاما من عيسى في مهده يعلن أنه عبد الله من أم عابدة لله قد نذرتها أم عابدة لله لخدمة بيت الله
ونسمع محاولات إبراهيم عليه السلام لدعوة أبيه لينضم لحملة ميراث الكتاب لكنه يأبى فيأتي العوض من الرحمن بذرية حملت إرث النبوات من جناحيها: إسحق وذريته وإسماعيل وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم
ونسمع دعوات موسى وحرصه أن يشاركه أخوه هارون في حمل تكليف الرسالة
ونسمع حرص إسماعيل على صلاح أهله بدعوتهم للصلاة كما ورث من أبيه الذي دعا يوما بمكة وهو آنذاك واد في دي زرع (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) فكانت الإجابة…
وهكذا هم الأنبياء ذرية بعضها من بعض حريصون على استمرارية الرسالة وعلى ميراث الكتاب وبعد النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم صارت المسؤولية على كل أسرة وكل فرد فيها أن يحرص على إكمال هذه المسيرة المتناقلة لميراث الكتاب جيلا بعد جيل حتى يرث الله الأرض ومن عليها، البشرية تتناسل وتتوارث الرسالة إما رسالة التوحيد فيساقون وفدا إلى الرحمن وإما رسالة الكفر والعياذ بالله فيساقون إلى جهنم، كلهم آتي الرحمن يوم القيامة فردا مهما توارثت الأجيال فهنيئا لمن يرث ويورث توحيدا وإيمانا وتقوى! ويا خسارة من كان إرثه كفرا وضلالا فلن ينفعه أحد وسيجد عقوبة افترائه على الله الأحد (وما ينبغي الرحمن أن يتخذ ولدا)..
يقولُ تعالى -على لسانِ زكريَّا (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي (4)) لا شكَّ أنَّ التالي لهذه الآية يشعرُ بتناسقٌ موسيقيٌّ أخَّاذ في ترتيبِ الكلمات، فالنسقُ بُنِيَ على ترتيبٍ لا يصلُحُ فيه التقديمُ والتأخير، فلو حاولتَ مثلاً أن تُغيرَ وَضعَ كلمةِ {مِنِّي} فقط، فتجعلها سابقةًً لكلمةِ {الْعَظْم} فتقول (قال ربِّ إني وهن منِّيَ العظم) لأحسستَ بما يُشبهُ الخَلَلَ في التناغُمِِ اللفظيّ، ذلك أنَّ {مِنِّي} تتوازنُ مع {إِنِّي} في صّدْرِ الفِقْرة هكذا {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعّظْمُ مِنِّي}.
ولنتأمَّلُ في قولهِ تعالى على لسانِ زكريّا (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) هذا الأسلوبُ الرقيقُ في استرحامِ اللهِ واستجلابِ عطفِهِ، فقد أسند الوَهنَ إلى عظامِهِ دونَ غيرها مما شَمَلَهُ الوَهنُ في جسدِهِ، فلم يقل (إني ضعيف) أو ما شابه، لأنَّ إسنادَ الوهنِ إلى العظمِ أوجزُ في الدِّلالةِ على عمومِِ الوهنِ لجميعِ بدنهِ لأنَّ العظمَ هو قَوامُ البدن، وهو أصْلَبُ شيئٍ فيه فلا يبلُغُهُ الوَهنُ إلّا وقد بَلَغَ ما فوقَهُ.
(قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأسُ شَيْبًا (4)) إنَّ التعبيرَ القرآنيِّ يَنْبِضُ بالحياةِ والحركة، فما إن يَمَسُّ الساكِنَ أو ما شأنُهُ السُّكون حتى تَدُبَّ فيهِ الحياة فيَنْتفِضَ حيًا مُتحرِّكًا، فالرأسُ ساكِن، ولكنَّ هذا التعبيرَ المُصَوِّر يُخَيِّلُ للشيبِ في الرأسِ حركةً تَخْيلية سريعةِ الحركة كسرعةِ اشتعالِ النارِ في الهَشيم، وهي حركةٌٌ جميلة تُثيرُ الخيال، وتُشْرِكَ النظرَ والمُخَيِّلَة في تذوُّقِِ ما فيها من جَمال.
(وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)) انظر إلى هذه العناية الإلهية التي أحاطت بسيدنا يحيى عليه السلام. فهو محاط بالأمن والسلام الإلهي في مختلف مراحل حياته وبعد مماته ومكلوء بالرحمة في كل لحظة. ألا ترى كيف عبّر ربنا عن ذلك بيوم الولادة إلى يوم الوفاة وأتبعه بيوم حشره وبعثته ليكون ذلك عاماً له دونما استثناء.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)) إن السياق القرآني نكّر لفظ (مكاناً)، فلِم عاد ووصفه بالشرقي فقال (مَكَانًا شَرْقِيًّا)؟ في وصف المكان بالشرقي نكتة بديعة في تاريخ الشرائع. فهذا الوصف كان للتنبيه على أصل اتخاذ النصارى الشرق قِبلة لصلواتهم.
(قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23)) عندما تتلو هذه الاية أو تسمعها فكأنك ترى مريم عليها السلام مشحونة بمشاعر الخوف والأسى. وذلك بفضل قوة العرض والإيحاء. فمريم العذراء عليها السلام تحمل في بطنها جنيناً في موقف مهول مرعب. فتنزوي مفكِّرة بأي وجه ستقابل مجتمعها. فتعذبها الآلآم النفسية وتواجه الآلآم الجسدية آلآم الوضع وهي بِكرٌ وحيدة غريبة. فماذا تراها تنطق في مثل هذا الموقف المفزع؟ إنها تطلق عبارات تبلغ القمة في تصوير ما تحس به من شتى الأحاسيس. ولذلك لم تقف عند أمنية الموت (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا) بل بالغت في أمنية الموت قائلة (وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) وبذلك رصدت هذه العبارة حالتها النفسية المحطمة.
(يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ (28)) في هذه الآية يخاطب القوم مريم بنت عمران، فلِمَ عدلوا عن التصريح بإسمها إلى التعريض بـ (أخت هارون). خاطبها القوم بأخت هارون لأن هارون كان صالحاً وفي إضافتها إلى إسمه توبيخ لها. أي ما كان لأخت رجل مثله أن تفعل فعلتها.
(فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)) لِمَ هذا الاطناب في السؤال؟ هلاّ قالوا “كيف نكلم صبياً”؟ في زيادة الفعل (كان) مع (المهد) دلالة على تمكن ظرفية المهد من عيسى عليه السلام وذاك للمبالغة في الإنكار والتعجب الذي صدر منهم إزاء مقالتها. إذ يُعدّ هذا الطلب استخفافاً بهم. ولذلك أطالوا في صيغتهم فقالوا (من كان في المهد) للتأكيد على سبب استغرابهم.
(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إذ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)) هنا وصف يومِ القيامة، فقد سَمَّاهُ اللهُ يومَ الحسرة مع أنَّ المراد: “أنذرهم الحسرةَ في يومَ الحساب”، فجعلَ الحسرةَ هيَ اليومَ ذاته، وما ذاك إلّا لِما يحدثُ في يومِ القيامة من شدَّةِ الحسرات، حتى لَكَأنَّما اليومَ مُختصٌّ بالحسرة ولا شيء آخرَ فيهِ سواها، فهوَ للظالمينَ يومُ حسرة، وإنْ كانَ يومَ فرحةٍ بالنسبةِ للصالحين.
ويقول تعالى عن إبراهيمَ عليه السلام (إذ قَالَ لِأَبِيْهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيئًا (42)) نتأمَّلَ هذا التلطُّفَ والتأدُّبَ من إبراهيمَ النَّبي معَ أبيهِ المشرك، ولو قال (وإذ قال إبراهيمُ لأبيه لِمَ تعبدُ ما لا يسمعُ) لكانَ الكلام مُستقيمًا، ولكنَّهُ آثَرَ أنْ يُناديَ أباهُ بقوله {يَا أَبَتِ} لِأمْرَينِ اثنين: أوَّلِهِما أنه أرادَ أنْ يكونَ بارًّ بأبيهِ، مؤدبًا في خطابه له، وثانيهما أنَّ إبراهيم عَلِمَ أنَّ في طَبْعِِأهلِ الجهالة تحقيرَهم للصغيرِ مهما بلغَ حالَهُ في الْـحَزَق وخاصًة الآباءُ معَ أبنائهم، فتوجَّهَ إلى أبيه بخطابهِ بوصفِ الأُبُوَّة، إيماءً إلى أنَّهُ مُخلصٌ له النصيحة حتى يَسْتَرْعِيَ انتباهَهُ ويَمْتَصَّ نَقْمَتَهُ وغضَبَهُ.
ويقول تعالى في نفس الموضع على لسانِ إبراهيم عليه السلام (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًا (44)) في هذه الأية نجد سيدُنا إبراهيمَ عليه السلام ينهى أباهُ عن عبادةِ الشيطان، وهل كانَ أبوهُ يَعتقدُ بألوهيةِ الشيطانِ حتى يَعْبُدَه؟ المرادِ بعبادةِ الشيطان عبادةُ الأصنام، وقد عبَّرَ عنها بـ (عبادةِ الشَّيْطَان) إفصاحًا عن فسادها وضلالها، فإنَّ نسبةَ الضلالِ والفسادِ إلى الشيطان مُقَرَّرة في نفوسِ البشر، ولكنَّ اللذينَ يتبعُونَهُ لا يَفْطَنونَ إلى حالِهم ويتبِعونَ وَساوِسهِ تحتَ سِتارِ التَّمْوِيه، فإبراهيمُ يعني: لا تَعْبُد يا أبتِ الأصنام لأنَّ اتِّخَاذها من تَسْوِيلْ الشيطان وَعبادَتَها من وَساوِسِ الشيطان، وفي جعلِ عبادةِ الأصنامِ عبادةًً للشيطان تَبْغِيضٌ لِعبادةِ الأصنام، لأنَّ في قَرَارَةِ النفوسِ بُغْضَ الشيطان والحذرَ مِن كَيْدِه، وقد أكَّدَ ذلك الحذرَ منَ إضْلالَه بقولِهِ (عَصِيًا) دونَ (عَاصٍ) لأنَّ (عَصِيًا) فيها مُبالغةًٌ للعِصيان.
(وَاذكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)) قُرِأت كلمةُ (مُخْلِصًا) بالكسرِ أي: مُخْلِصًا، وبالفتح (مُخْلَصًا) وإنَّما خُصَّ موسى بالوَجهينِ لأنَّ ذلكَ مَزِيَّتُهُ، فأمَّا {مُخْلِص} (بالكسرِ) فلِأنَّهُ أخْلَصَ في الدعوة إلى الله واستخَفَّ بأعظمِِ جَبَّارِ وهو فرعون وجادَلَهُ مُجادَلَةَ الأكِفَّاء، فكانَ الإخلاصُ في أداءِ الامانةِ إلى اللهِ تعالى مَزِيَّتُهُ، وأمَّا {مُخْلَص} (بالفتح) فلِأنَّ اللهُ اصطفاهُ بكلامهِ مباشرةً قبلَ أن يُرْسِلَ إليه المَلَكُ بالوَحيِّ، فكان (مُخْلَصًا) بذلك أي مُصْطَفَى.
(فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)) تأمل هذا الوعيد والتحذير لكل من أضاع الصلاة وفرّط بها واتّبع شهوته فهو عُرضةٌ للغيّ والخسارة. وقد عُبَّر عن هذا الجزاء بالمضارع (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ) ليدل على أن لقاءهم الغيّ متكرر في أزمنة المستقبل. وفي هذا مبالغة في وعيدهم وتحذيرهم من الإصرار على ذلك.
(جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ (61)) إن الجنة هي جزاء المؤمنين وهذا ما وعدنا به الله جزاءً لطاعتنا، فلِمَ وصف الجنة بقوله (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ) وهذا معلوم لنا؟ وصف الجنة بقوله (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ) لزيادة تشريفها وتحسينها. وأنت تفتخر بما وعدك به من هو فوقك لأنه وعدٌ ممن تحترمه وتجلّه، فكيف إذا كان الوعد من الله العليّ الكبير؟. فلا يخفى ما في هذا الوصف من التكريم والتشريف للموعودين.
(إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)) المأتيّ هو الذي يأتيه الآخرون فكيف يأتي الناس إلى الوعد؟ استعير الإتيان لحصول المطلوب المترقَب فالإنسان يحصل على الشيء بعد أن يسعى لتحصيله. وكذلك وعد الله فهو أشبه بمكان يقصده الطائعون. وسوف يبلغونه ويحصلون على ما وُعِدوا به.
(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (63)) انظر إلى هذا الفضل الإلهي. فقد جعل الجنة لك رثاً فلم يقل مثلاً “تلك الجنة نهبها من عبادنا من كان تقياً”. لأن الهبة فيها منّة بلا عمل وبلا سبب. أما الإرث فهو في حقيقته انتقال مال القريب إلى قريبه بعد موته لأنه أولى الناس بماله. وفي جعل الجنة إرثاً لك يوحي بأن هذه الجنة قد ورثتها عن حق وسبب وهي ملك لك.
(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)) لِمَ عبّر ربنا عن الصبر على العبادة بالاصطبار فقال (وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) ولم يقل “واصبر على عبادته”؟ الاصطبار هو شدة الصبر على الأمر الشاقّ. وآثر البيان الإلهي وصف الصبر على العبادة بالاصطبار دون الصبر لأن العبادة مراتب كثيرة وكلها تحتاج إلى مجاهدة النفس وهذا يتطلب صبراً مبالغاً فيه حتى لا تضعف النفس وتتقاعس عن أداء ما أُمرت به. ولأن بعض العبادات قد تثقل على النفس فتغلبها الشهوة وتتراخى عن أدائها فناسب ذلك بالحضّ على الاصطبار.
(فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)) انظر إلى هذا التصوير الحسي وهذا المشهد الحركي لأولئك الكافرين. فهم محشورون يوم القيامة ولكن مع من؟ إنهم يُحشرون مع الشياطين في صورة مهينة ذليلة في هيئة الخاضغ الذليل وهم جاثون على رُكبهم جثو الخزي والفزع.
(ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)) هناك ألفاظ يصور جرسها ولفظها على ما فيه ثقل وشدة صورة الألم. فلو قرأت كلمة (لَنَنزِعَنَّ) لشعرت بثقل الكلمة الذي يوحي بالصعوبة. فأنت بهذا اللفظ أمام مشهد كامل. فهم يُنزعون طائفة فيلقون في النار وإنما يُختار منهم أولاً فأولاً أعتاهم وأشدهم وأقواهم. ففي اللفظ وتشديده صورة لهذا الانتزاع تتبعها صورة القذف المتخيَّلة وهي الحركة التالية في الخيال للانتزاع.
(ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)) لم اختير وصف الرحمن في الآية ولم يصرح بلفظ الجلالة الإسم العلم للإله فلم يقل “أيهم أشد على الله عتيا”؟ في ذكر صفة الرحمن هنا تفظيع لحالة عتوّهم لأن شديد الرحمة بالخلق حقيقٌ بالشكر له والإحسان لا بالكفر به والطغيان.
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)) ابتدأت الآية بالاستفهام مقترناً بالرؤية للعتجيب من كفر هذا الكافر. والمقصود من هذا الاستفهام والرؤية لفت الذهن إلى معرفة قصة الآية أو إلى تذكرها إن كان عالماً بها. فالآية نزلت في خبّاب بن الأرتّ والعاصي بن وائل السعمي. فقد كان خباب يصنع السيوف في مكة فعمل للعاصي بن وائل سيفاً وكان ثمنه ديناً على العاصي. وكان خباب قد أسلم فجاء خباب يتقاضى دينه من العاصي فقال له لا أقضيك حتى تكفر بمحمد. فقال خباب وقد غضب لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يبعثك. قال العاصي: أو مبعوث أنا بعد الموت؟ قال نعم، فقال العاصي متهكماً: إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك، فنزلت هذه الآية في ذلك.
(أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)) انظر إلى هذا التهكم الذي تضفيه كلمة (أَاطَّلَعَ) فهي تدل على المبالغة في حصول فعل الطلوع وهو الارتقاء. والطلوع يُطلق على الإشراف على الشيء فالذي يروم الإشراف على مكان محجوب عنه يرتقي إليه من علوّ. وهذا الاستفهام في الإطلاع على الغيب فيه استنكار وتعجب. وكأنه يقول: أوَ قد بلغ من عظمة شأنه أنه ارتقى إلى عالم الغيب فرأى مالاً وولداً معدين له حتى يأتي يوم القيامة بهما؟!
(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)) يقول الشاعر:
وجهٌ مثل الصبح مبيضٌ
وشعرٌ مثل الليل مسودُّ
ضدّان لمّا اجتمعا حَسُنا
والضدُّ يُظهِر حسنه الضدُّ
هذا شأن الأضداد أن تظهر حسن الحسن وقبح القبيح. والله تعالى يرصد لنا في هاتين الآيتين مشهدين: مشهد المتقين ومشهد المجرمين ليرغّبك أيها المؤمن في الإيمان وينفِّرك من الكفر والفسق. ففي آية المتقين بدأها بالحشر والحشر يُطلق على الخير والشر. ولذلك أتبع فعل الحشر بوصف سمة المحشورين فسماهم (وَفْدًا) لأن الوفود تُطلق على الداخلين على الملِك ولا شك أن الوفود يكونون مكرّمين من مضيفهم لا سيما إن كان الملك هو الرحمن. هذه صورة عباد الرحمن فهم وفودٌ مكرّمة. فما شأن المجرمين؟ إنهم مساقون سَوْق كراهة. وقد اختار البيان الإلهي لحشرهم لفظ (وَنَسُوقُ) دون غيره لما في السَوْق من المذلة. فالسوق هو تسيير الأنعام أمام رعاتها يجعلونها أمامهم لترهب زجرهم وسياطهم فلا تتغلب عليهم. وأكّد صورة المذلة لهم وحشرهم على هيئة الأنعام بقوله (وِرْدًا) فقابل لفظ (وَفْدًا) للمؤمنين. والورد أصله السير إلى الماء وتسمى الأنعام الواردة (وِرْدًا) فهل أذلّ من هذه الصورة؟!
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)) تأمل هذا النعيم الذي يعدنا به الرحمن. فهو نعيم معنوي دقيق يلقي بظلاله النفيسة الرقيقة على الوجوه. فالنعيم قوامه الودّ السامي بين الرحمن والمؤمنين. وللتعبير بالودّ في هذا الجو نداوة رخيّة تمس القلوب فهو نعيم معنوي. ولكن لا يماثله أيّ نعيم مادي محسوس. وهل أعظم من الودّ بينك وبين ملك الملوك سبحانه وتعالى؟
(فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (97)) لِمَ عبّر الله تعالى عن المؤمنين بصفة المتقين فقال (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) ولم يقل “لتبشر به المؤمنين”؟ إن اختيار صفة المتقين كان بها من القوة والجمال ما يعجز لفظ المؤمنين عن تجسيده. فالتقوى تعني الطاعة والامتثال لأمر الله. وهذا الموقف يقابله موقف الألدّ الذي يعني العصيان والمكابرة والمراء. وفي وصفهم بالألدّ تعريض بأن كفرهم عن عناد مع علمهم أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحقّ.
يا معاشر النساء لكنّ في كتاب الله عز وجل ما ليس للرجال. لما كنا نتحاور مع النصارى في بلاد الغرب قلنا لهم في كتاب الله عز وجل سورة باسم مريم، عيسى عليهما السلام ليس في القرآن سورة باسم أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي بل وليس في القرآن سور بأسماء كثير من الأنبياء، هناك سور بأسماء أنبياء ولكن أكثر الأنبياء لم تأت لهم سور بأسمائهم في كتاب الله عز وجل ومع ذلك جاءت سورة باسم مريم. وسبحان الله حينما أتأمل في هذا الاسم العجيب لهذه السورة العجيبة وأتأمل في مقصودها الذي أشار إليه شيخ الاسلام ابن تيمية يقول: سورة مريم هي سورة رحمة الله بأوليائه وعباده الصالحين. فسورة مريم سورة رحمة وجاءت تسمية هذه السورة باسم أنثى لأن مضمونها رحمة في رحمة والأنثى متى ما كانت قريبة من الله كانت قريبة من رحمة الله كانت قريبة لأن تكون سبباً هي في تنزّل رحمة الله على أسرتها وعلى الناس من حولها. ولذلك هذه المرأة الشريفة العفيفة الطاهرة مريم عليها السلام لما كانت بهذا النحو من الإيمان والحفاظ على طهارتها أنزل الله عز وجل عليها رحمة بل وسمى سورة الرحمة باسمها فكانت علامة على نشر الرحمة بين الناس. ولذلك لما نقرأ في أولها سنجد ونحن نطالع إن أردنا أن نجعل سورة مريم حياة لنا في كل أحوالنا بمعنى أن نستنزل رحمة الله علينا وعلى أبنائنا وعلى أسرتنا وعلى جيراننا وعلى الناس من حولنا فعلينا أن نقرأ هذه السورة بتؤدة حتى نجعلها بالفعل لنا حياة في كل حال وفي كل زمان.
الله عز وجل في مطلعها بدأ بحروف مقطعة عَجَب (كهيعص) هكذا بدأت السورة، وقد تكلم المفسرون كثيراً في هذه الحروف المقطعة كيف بدأت بهذا النحو -لا يهمنا ذلك- ولكنها حروف جاء بعدها مباشرة التنبيه على سبب تنزّل السورة حينما قال الله عز وجل (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) فهذه السورة هي ذكر رحمة الله عز وجل على عبد من عباده وهو زكريا عليه السلام، زكريا حينما تنزلت عليه الرحمة كان الله وهبه يحيى من ذريته ثم مريم جاءها عيسى فكانت الرحمة هنا منصبّة على قضية في غاية الأهمية وهي أن يوهَب المرء من ذريته من يكون رحمة عليه وعلى الناس أجمعين. ولذلك إذا طلب العبد رحمة من الله فيكون أول ما يطلب أن يقول لله عز وجل (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ (74) الفرقان) لأن رحمة الله لما تنصبّ عليك تكون بدءاً في ذريتك وما يرزقك الله عز وجل في أسرتك أن يكونوا رحمة عليك وعلى الناس وعلى العالمين أجمعين.
رحمة الله التي ذكرها الله عز وجل في هذه السورة إذا أردت أن تتلبسّ بها دعني أعطيك شيئاً وطريقاً سهلاً ويسيراً: الله عز وجل قال (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56) الأعراف) لما ترد أن تكون ممن رحمهم الله كن من المحسنين في كل أحوالك. أذكر أحد أقرابي وهو رجل كبير في السن كانت زوجته تحكي عنه تقول إن أبا محمد كان مع والدته من أبرّ الناس، تقول تزوجت به وهو رجل كبير في السن فلما تغضب عليه والدته يتغير شيئ من ملامحها، تعاتبه بنظرة من عينيها تقول يدخل في فراشه ليلاً ويبكي كما يبكي الطفل تماماً فتقول له يا صالح أنت رجل وإلى الآن تبكي هذا البكاء المرير؟ يقول إن أمي قد تغير وجهها عليّ حتى يأتي الفجر فتقوم الأم هذه من أجل أن تتعبد الله قليلاً فما يرتاح حتى يسقط عند قدمي والدته فيقبلهما حتى تقول له يا صالح رضيت عليك، رضيت عليك. إن الله عز وجل قد نثر رحمته فيه وفي ذريته ومن ذريته أفاضل وأخيار وبارك الله فيهم وأعطاهم ما أعطاهم وأقول دائماً إن الله حينما نظر إلى هذا العبد ورحمه وأكرمه إنما كان ذلك بسبب إحسانه إلى والدته بل وإحسانه إلى الناس من حوله فإن أردت رحمة الله فعليك أن تكون من المحسنين.
من عجائب سورة مريم أن اسم الرحمن ومشتقات هذا الاسم تكررت في هذه السورة ما لم تتكرر في سورة أخرى. لننظر إلى خطاب ابراهيم الخليل لأبيه وهو يعظه قال (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ﴿٤٤﴾ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴿٤٥﴾) عذاب من الرحمن؟! هذه سورة الرحمة، عندما يخاطبه يقول له يمسك عذاب من الرحمن ولم يقل من الجبار. وحينما نأتي إلى الآيات بعدها ونحن نتصفح آيات السورة العظيمة سنلحظ جلياً كيف يتكرر هذا الاسم (ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)) يتكرر اسم الرحمن كثيراً. ولذلك من أراد أن يتعلم كيف يستنزل رحمة الله عز وجل على نفسه فعليه أن يتلو في آياتها سيجد أن من أعظم أسباب تنزّل الرحمة هي الرحمة بالخلق ولذلك يحيى عليه السلام، عيسى عليها السلام كلاهما إنما كان رحمة بالناس، هذا رحمة بوالديه وهذا رحمة بأمه لم يكن جباراً عصياً وذاك لم يكن جباراً شقياً وإنما هو رحمة بالناس. ولذلك من أراد أن يستنزل رحمة الله فأول ما يكون أن يرحم الناس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الراحمون يرحمهم الرحمن. اِرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. كثيرٌ منا يوقن بهذا ويؤمن به ولكن أين من يطبقه في الحياة؟! أين الأم حينما تكون شديدة على ولدها تضربه وتدعو عليه أين رحمتها في قلبها وهي تتعامل مع صغيرها؟! أين رحمة الجار بجاره حينما يمر به ظرف في حياته؟! أين رحمة رئيس دولة بشعبه حينما يسلّط عليهم الجند ليسجنوا ويقتلوا ويسحلوا ويفعلوا ما يفعلوا؟! أين هذه الرحمة في واقع الحياة؟! هذه الرحمة التي نريد أن نجعلها حياة لنا في كل أمورنا؟ من أراد ذلك فما عليه إلا أن يتدبر في آيات سورة مريم سيرى مظاهر هذه الرحمة ي كل آية من آياتها، سيرى رحمة الله عز وجل في كل كلمة من كلماتها، سيرى الوسيلة التي إن اتبعها سيكون هو من المرحومين بل سيكون سبباً في رحمة الله عز وجل على الناس ولذلك اٍقرأوا سورة الرحمة، تفكروا وتدبروا في آيات سورة مريم ستجدون أن رحمة الله عز وجل تتنزّل علينا، تتنزّل على بيتنا، تتنزّل على حيّنا، تتنّزل على الأمة من حولنا، أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المرحومين.
خواطر في سورة مريم
(كهيعص “1”) هذه خمسة حروف مقطعة ، تنطق باسم الحرف لا بمسماه، لأن الحرف له اسم وله مسمى ، فمثلا كلمة ( كتب ) مسماها ( كتب ) أما بالاسم فهي كاف ، تاء ، باء . فالاسم هو العلم الذي وضع على اللفظ . وفي القرآن الكريم سور كثيرة ابتدئت بحروف مقطعة تنطق باسم الحرف لا مسماه ، وهذه الحروف قد تكون حرفا واحدا مثل : ن ، ص ، ق . وقد تكون حرفين مثل : طه ، طس . وقد تكون ثلاثة أحرف مثل : الم ، طسم . وقد تأتى أربعة أحرف مثل : المر . وقد تأتى بخمسة أحرف مثل : كهيعص ، حمعسق . لذلك نقول : لا بد في تعلم القرآن من السماع ، وإلا فكيف تفرق بين الم في أول البقرة فتنطقها مقطعة وبين {ألم نشرح لك صدرك “1”} (سورة الشرح) فتنطقها موصلة ؟ وصدق الله تعالى حين قال : {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه “18”} (سورة القيامة)
ونلاحظ في هذه الحروف أنه ينطق بالمسمى المتعلم وغير المتعلم ، أما الاسم فلا ينطق به إلا المتعلم الذي عرف حروف الهجاء . فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمياّ لم يجلس إلى معلم ، وهذا بشهادة أعدائه ، فمن الذي علمه هذه الحروف ؟ إذن : فإذا رأيت هذه الحروف المقطعة فاعلم أن الحق سبحانه وتعالى نطق بها بأسماء الحروف ، ونحن نتكلم بمسميات الحروف لا بأسمائها . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : (ذكر رحمة ربك عبده زكريا “2”) الذكر : له معان متعددة ، فالذكر هو الإخبار بشيء ابتداء ، والحديث عن شيء لم يكن لك به سابق معرفة ، ومنة التذكير بشيء عرفته أولا ، ونريد أن نذكرك به ، كما في قوله تعالى : {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين “55”} (سورة الذاريات)
ويطلق الذكر على القرآن : {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون “9”} (سورة الحجر)
وفي القرآن أفضل الذكر ، وأصدق الأخبار والأحداث كما يطلق الذكر على كل كتاب سابق من عند الله ، كما جاء في قوله تعالى : {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون “43”} (سورة النحل)
والذكر هو الصيت والرفعة والشرف ، كما في قوله تعالى : {وإنه لذكر لك ولقومك .. “44”} (سورة الزخرف)
وقوله تعالى : {لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم .. “10” } (سورة الأنبياء)
أي : فيه صيتكم وشرفكم ، ومن ذلك قولنا : فلان له ذكر في قومه . ومن الذكر ذكر الإنسان لربه بالطاعة والعبادة ، وذكر الله لعبده بالمثوبة والجزاء والرحمة ومن ذلك قوله تعالى {فاذكروني أذكركم .. “152”} (سورة البقرة)
ومن قوله تعالى: {ذكر رحمة ربك .. “2”} (سورة مريم)
أي : هذا يا محمد خبر زكريا وقصته ورحمة الله به . والرحمة : هي تجليّات الراحم على المرحوم بما يديم له صلاحه لمهمته ، إذن : فكل راحم ولو من البشر ، وكل مرحوم ولو من البشر ، ماذا يصنع ؟ يعطى غيره شيئا من النصائح تعينه على أداء مهمته على اكمل وجه ، فما بالك إن كانت رحمة الله لخير خلقه محمد ؟ إنها رحمة عامة ورحمة شاملة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أشرف الأنبياء وأكرمهم وخاتمهم ، فلا وحي ولا رسالة من بعده ، ولا إكمال . إذن فهو أشرف الخلق ، ورحمة كل نبي تأخذ حظها من الحق سبحانه بمقدار مهمته ، ومهمة محمد أكرم المهمات . وكلمة ( رحمة ) هنا مصدر يؤدى معنى فعله ، فالمصدر مثل الفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول ،كما نقول : آلمني ضرب الرجل ولده ، فمعنى :
{رحمت ربك عبده زكريا “2”} (سورة مريم)
أي : رحم ربك عبده زكريا . لذلك قال تعالى : {رحمت ربك .. “2”} (سورة مريم)
لأنها أعلى أنواع الرحمة ، وإن كان هنا يذكر رحمته تعالى بعبده زكريا ، فقد خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله :
{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين “10”} (سورة الأنبياء)
فرحمة الله تعالى بمحمد ليست رحمة خاصة به ، بل هي رحمة عامة لجميع العاملين ، وهذه منزلة كبيرة عالية . فالمراد من {ذكر رحمة ربك عبده زكريا “2”} (سورة مريم)
يعنى هذا الذي يتلى عليك الآن يا محمد هو ذكر وحديث وخبر رحمة ربك التي هي اجل الرحمات بعبدة زكريا . وسبق أن أوضحنا أن العبودية للخلق مهانة ومذلة ، وهي كلمة بشعة لا تقبل ، أما العبودية لله تعالى فهي عز وشرف ، بل منتهي العز والشرف والكرامة ، وعللنا ذلك بأن العبودية التي تسوء وتحزن هي عبودية العبد لسيد يأخذ خيره ، أما العبودية لله تعالى فيأخذ العبد خير سيده. لكن ما نوع الرحمة التي تجلى الله تعالى بها حين أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بخبر عبدة زكريا ؟ (ذكر رحمة ربك عبده زكريا “2”) قالوا: لأنها رحمة تتعلق بطلاقة القدرة في الكون ، وطلاقة القدرة في أن الله تبارك وتعالى خلق للمسببات أسبابا ، ثم قال للأسباب : أنت لست فاعلة بذاتك ، ولكن بإرادتي وقدرتي، فإذا أردتك ألا تفعلي أبطلت عملك ، وإذا كنت لا تنهضين بالخير وحدك فأنا أجعلك تنهضين به . ومن ذلك ما حدث في قصة خليل الله إبراهيم حين ألقاه الكفار في النار ، ولم يكن حظ الله بإطفاء النار عن إبراهيم ، أو بجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم أن ينجى إبراهيم ؛ لأنه كان من الممكن ألا يمكن خصوم إبراهيم عليه السلام من القبض عليه ، أو ينزل مطرا يطفئ ما أوقدوه من نار ، لكن ليست نكاية القوم في هذا ، فلو أفلت إبراهيم من قبضتهم ، أو نزل المطر فأطفأ النار لقالوا : لو كنا تمكنا منه لفعلنا كذا وكذا ، ولو لم ينزل المطر لفعلنا به كذا وكذا . إذن : شاءت إرادة الله أن تكيد هؤلاء ، وأن تظهر لهم طلاقة القدرة الإلهية فتمكنهم من إبراهيم حتى يلقوه في النار فعلا ، ثم يأتي الأمر الأعلى من الخالق سبحانه للنار أن تتعطل فيها خاصية الإحراق : {قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم “69”} (سورة الأنبياء)
وكذاك في قصة رحمة الله لعبده زكريا تعطينا دليلا على طلاقة القدرة في مسألة الخلق ، وليلفتنا إلى أن الخالق سبحانه وتعالى جعل للكون أسبابا ، لأن الخالق سبحانه قد يعطيكم بالأسباب ، وقد يلغيها نهائيا ويأتي بالمسببات دون أسباب . وقد تجلت طلاقة القدرة في قصة بدء الخلق ، فنحن نعلم أن جمهرة الناس وتكاثرهم يتم عن طريق التزاوج بين رجل وامرأة ، إلا أن طلاقة القدرة لا تتوقف عند هذه الأسباب والخالق سبحانه يدير خلقه على كل أوجه الخلق ، فيأتي آدم دون ذكر أو أنثى ، ويخلق حواء من ذكر دون أنثى ، ويخلق عيسى من أنثى بدون ذكر . فالقدرة الإلهية إذن غير مقيدة بالأسباب ، وتظل طلاقة القدرة هذه في الخلق إلى أن تقوم الساعة ، فنرى الرجل والمرأة زوجين ، لكن لا يتم بينهما الإنجاب وتتعطل فيهما الأسباب حتى لا نعتمد على الأسباب وننسى المسبب سبحانه ، فهو القائل : {لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور “49” أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير “50”} (سورة الشورى)
وطلاقة القدرة في قصة زكريا عليه السلام تتجلى في أن الله تعالى استجاب لدعاء زكريا في أن يرزقه الولد . قال تعالى : {ذكر رحمة ربك عبده زكريا “2”} (سورة مريم) أي: رحمه الله ، لكن متى كانت هذه الرحمة؟ يقول الحق تبارك وتعالى : (إذ نادى ربه نداء خفيا “3”) أي : في الوقت الذي نادى فيه ربه نداء خفيا . والنداء لون من ألوان الأساليب الكلامية ، والبلاغيون يقسمون الكلام إلى خبر ، وهو أن تطلب شيئا من عندك ، فلو قلت : يا محمد فأنت تريد أن تنشئ إقبالا عليك ، فالنداء إذن طلب الإقبال عليك ، لكن هل يصح أن يكون النداء من الله تعالى بهذا المعنى؟ إنك لا تنادى إلا البعيد عنك الذي تريد أن تستدنية منك . فكيف تنادى ربك تبارك وتعالى وهو أقرب إليك من حبل الوريد ؟ وكيف تناديه سبحانه وهو يسمعك حتى قبل أن تتكلم ؟ فإذا كان إقباله عليك موجودا في كل وقت ، فما الغرض من النداء هنا ؟ نقول : الغرض من النداء : الدعاء . ووصف النداء هنا بأنه : {نداء خفيا “3”} (سورة مريم) لأنه ليس كنداء الخلق للخلق ، يحتاج إلى رفع الصوت حتى يسمع ، إنه نداء لله تبارك وتعالى الذى يستوى عنده السر والجهر ، وهو القائل : {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور “13”} (سورة الملك)
ومن أدب الدعاء أن ندعوه سبحانه كما أمرنا : {ادعوا ربكم تضرعا وخفية .. “55”} (سورة الأعراف)
وهو سبحانه: {فإنه يعلم السر وأخفي “7”} (سورة طه) أي : وما هو أخفي من السر ؛ لأنه سبحانه قبل أن يكون سرا ، علم انه سيكون سرا . لذلك ، جعل الحق سبحانه أحسن الدعاء الدعاء الخفي ؛ لأن الإنسان قد يدعو ربه بشيء ، إن سمعه غيره رنما استنقصه ، فجعل الدعاء خفيا بين العبد وربه حتى لا يفتضح أمره عند الناس . أما الحق سبحانه فهو ستار يحب الستر حتى على العاصين، وكذلك ليدعو العبد ربه بما يستحي أن يذكره أمام الناس ، وليكون طليقا في الدعاء فيدعو ربه بما يشاء ؛ لأنه ربه ووليه الذي يفزع إليه . وإن كان الناس يحزنون ويتضجرون أن سألتهم أدنى شئ ، فإن الله تعالى يفرح بك أن سألته . لكن لماذا أخفي زكريا دعاءه ؟ دعا زكريا ربه أن يرزقه الولد ، ولكن كيف يتحقق هذا المطلب وقد بلغ من الكبر عتيا وامرأته عاقر ؟ فكأن الأسباب الموجودة جميعها معطلة عنده ؛ لذلك توجه إلى الله بالدعاء : يا رب لا ملجأ لي إلا أنت فأنت وحدك القادر على خرق الناموس والقانون ، وهذا مطلب من زكريا جاء في غير وقته . أخفاه أيضا ؛ لأنه طلب الولد في وجود أبناء عمومته الذين سيحملون منهجه من بعده ، إلا أنه لم يأتمنهم على منهج الله ؛ لأن ظاهر حركتهم في الحياة غير متسقة مع المنهج ، فكيف يأتمنهم على منهج الله وهم غير مؤتمنين على أنفسهم ؟ فإذا دعا زكريا ربه أن يرزقه الولد ليرث النبوة من بعده ، فسوف يغضب هؤلاء من دعاء زكريا ويعادونه ؛ لذلك جاء دعاؤه خفيا يسره بينه وبين ربه تعالى . لقد أوضح زكريا عليه السلام العلة في ذلك في الآيات القادمة فقال : {يرثني ويرث من آل يعقوب .. “6” } (سورة مريم)
إذن : فالعلة في طلب الولد دينية محضة ، لا يطلب لمغنم دنيوي ، إنما شغفه بالولد أنه لم يأمن القوم من بعده على منهج الله وحمايته من الإفساد . لذلك قوله : ( يرثني ) هنا لا يفهم منه ميراث المال كما يتصوره البعض ؛ أن الأنبياء لا يورثون ، وبذلك يخرج النبي من الدنيا دون أن ينتفع أحد من أقاربه بماله حتى الفقراء منهم.فالمسألة مع الأنبياء خالصة كلها لوجه الله تعالى ؛ لذلك قال بعدها :
{ويرث من آل يعقوب .. “6”} (سورة مريم)
أي : النبوة التي تناقلوها . فلا يستقيم هنا أبدا أن نفهم الميراث على انه ميراث المال أو متاع الدنيا الفاني . ومن ذلك قوله تعالى:
{وورث سليمان داود .. “16” } (سورة النمل)
لقراءة المزيد من خواطر الشيخ الشعراوي في سورة مريم اضغط على الوصلة التالية: سورة مريم
– علوم سورة مريم .
– الإجابة عن أسئلة المشاهدين حول السورة وحول الجزء التاسع عشر من القرآن الكريم .
———————-
سورة مريم
إسم السورة
د. إبراهيم: السورة لها إسم مشهور وإسم غير مشهور، أما إسمها المشهور فهو مريم وجاء في صحيح البخاري عن ابن عباس في بعض نسخ صحيحة ثابتة أن إبن عباس كان يسميها كهيعص بإسم الحروف التي افتتحت بها هذه السورة. والتسمية واضحة أما بالنسبة للحروف فلهذا الافتتاح وأما بالنسبة لإسم مريم فلأنها أبرز قصة وردت في هذه السورة وفيها من العجائب وخوارق العادات ما فيها ولذلك سميت بهذه التسمية.
نزول السورة:
د. إبراهيم: سورة مريم إذا جمعنا بعض الأحداث الواردة حول هذه السورة نستطيع أن نحدد بما يقارب الدقة وقت النزول. أولًا هي نزلت بعد سورة طه وهذا ثابت وسورة طه قبل إسلام عمر وعمر رضي الله عنه أسلم في السنة السادسة وقيل في السنة الخامسة من البعثة وهذا يقرب لنا وقت النزول. وحدث آخر ارتبط بهذه السورة وهو أن جعفر إبن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي في الحبشة وكانت الهجرة في السنة الخامسة ومن هنا نكاد نجزم أن السورة نزلت إما في السنة الرابعة كما جزم به ابن عاشور قبل هجرتهم للحبشة أو في أوائل السنة الخامسة قبل هجرتهم إلى الحبشة لأنهم هاجروا وهي معهم وهي من السور المتقدمة في النزول.
د. عبد الرحمن: لماذا الحديث عن بني إسرئيل بكثرة في السورة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لم يختلطوا باليهود إلا في المدينة؟
د. إبراهيم: سؤال في محله. نعلم أنه من أعظم أهداف السور المكية تقرير النبوة. العرب في جاهليتهم لا يعرفون حقيقة النبوة ولذا كانوا يطالبون بأن ينزل ملك فتأتي السور المكية لتقرر مبدأ النبوة وأنه من الممكن بل مما جرت به سُنّة الله سبحانه وتعالى بعث رسل. وتأمل هذا النص في سورة مريم عن يحيى عليه السلام (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)) وهو صبي أوتي الحكم، وهذا المولود الذي في المهد يقول (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30))، ثم راعي الغنم موسى عليه السلام يبعث إلى فرعون وجبابرة مصر ثم الفتى إبراهيم عليه السلام (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) الأنبياء) عندما خاطب قومه كان فتى يرسل إلى جبابرة العراق، فبلسان الحال تقول لهم هذه الآيات إذا كان هناك صبي يؤتى الحكم وهناك صبي في المهد يقول أنا نبي وهناك راعي غنم يبعث إلى جبابرة مصر وفتى يبعث إلى جبابرة العراق فما المانع أن يرسل لكم أيها العرب واحد من أوسطكم ومن خيركم ومن أفضلكم وعمره قد جاوز الأربعين فما وجه العجب؟!
محور سورة مريم:
أولًا قبل أن نأتي للمحور، السورة في الجملة طبعًا – وإلا الآيات مملوءة علمًا وحكما وفوائد- لكن في الجملة تدور على ثلاثة مواضيع رئيسة: التوحيد والنبوة والبعث، هي تقرر هذه الأمور الثلاثة. لكن المحور البارز التوحيد (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)) (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ (30)) (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ (36)) (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ (44)) (وأعتزلكم) فالتوحيد بارز في هذه السورة ولذلك يرى كثير من المفسرين أن المحور الذي تدور عليه السورة هو التوحيد. لكن لي وقفة لا نشك أن التوحيد موضوع بارز في السورة لكن إذا تدبرنا ألفاظ السورة ومعاني السورة وما حفّ بالسورة والكلمات التي تكررت في السورة فمن الممكن أن نقول أن المحور هو تقرير صفة الرحمة للرحمن، كيف؟ أولًا إسم الرحمن ورد في هذه السورة 16 مرة وهذا لم يرد في أي سورة من سور القرآن وهي عدد آياتها 98 والعجب أن إسم الرحمن لم يرد في القرآن كله إلا 58 مرة فإذا كان في سورة واحد ورد 16 مرة فمعناه أكثر من الربع من العدد تكرر في هذه السورة، هذا أولًأ. ثم إن لفظ الرحمة ورد في هذه السورة عدة مرات (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا (50)) فتكررت الرحمة في هذه السورة عدة مرات. ثم تجد رحمة الله بعبده زكريا رحمة الله بمريم رحمة الله بعيسى وبالأنبياء والأعجب أنه في آيات العذاب بل وأشد موقع ومكان لعذاب الله تذكر صفة الرحمة (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)) الرحمن لا يعذّب إلا هالِك، الرحمن لا يعذب إلا من لا تنفع فيه كل الوسائل. ثم في موقف جهنم (ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)) تذكر صفة الرحمن في هذا الموقف! مما يدل على أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب إلا من لا يستحق الرحمة.
د. عبد الرحمن: إذن المحور التوحيد والتنزيه ويمكن أن يكون الرحمة وتقرير صفة الرحمة لله عز وجل، ألا يمكن أن نربط بين المحورين؟
د. إبراهيم: ممكن، أعظم ما يرحم به العبد التوحيد، إذا أراد الله لعبد رحمة رزقه التوحيد هذه أعظم نعمة.
د. عبد الرحمن: إذن أعظم ما تستجلب به رحمة الله هو التوحيد
د. إبراهيم: أعظم ما تستجلب به الرحمة هو التوحيد وأعظم نعمة على العبد التوحيد.
د. عبد الرحمن: في قصة زكريا عليه السلام يبرز فيها دعاء زكريا عليه السلام بأسلوب رائع ملفت للنظر يمكن أن نسميه آداب الدعاء في قصة زكريا، هل يمكن أن نتوقف عند هذه النقطة؟
د. إبراهيم: يمكن أن نسميه آداب الدعاء ومن الممكن أن نعطيه عنوانا على كل من يظن أنه ميؤوس من حالته عقيم ابتُلي بآفة يظن أنه لا مخرج منها نقول “الدعاء يصنع المعجزات” لكن بشرط أن تعرف شروط الدعاء وما يحتف به من أمور تجعل دعاءك مستجاب. تأمل ما احتفّ بدعاء زكريا عليه السلام حتى استجيب:
أولًا: (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (1)) كان عبدًا لله، وفي سورة الأنبياء (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)) كانوا في السابق قبل الدعاء ولذلك من عرف الله في الرخاء عرفه في الشدّة.
ثانيًا: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا (3)) إخفاء الدعاء أدعى للإخلاص وأدعى لرقّة القلب ينبغي أن يكون دعاءك خفيًا وفي القرآن (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) الأعراف)
والثالث: قال (قَالَ رَبِّ) لم يقل (يا رب) قال (رب) بدون (يا) تأمل نداء إبراهيم لأبيه قال (يا أبت) وكررها عدة مرات مع أنه مجاور له يسمعه ويراه لكن بـ(ياء النداء) أما زكريا (رب) لشعور العبد بقرب الرب وأنه أقرب من جليسه فالرب أقرب لإبراهيم من أبي إبراهيم ولذلك تجد في القرآن (ربنا) ولا تجد يا ربنا، تجد اللهم ولا تجد يا الله لاستشعار العبد بالقرب.
ثم ذكر الاستضعاف (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا (4)) هذا الاستضعاف أجدى للقبول وكلما استضعف العبد لربه واستكان وتذلل كلما كان أحرى بقبول دعائه.
ثم شكر النعمة السابقة (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) كنت في الاسبق يا رب تجيب دعائي ما عهدت أنك رددت لي طلبا ما كنت بدعائك يا رب شقيًا وهذا الشكر يقتضي المزيد
د. عبد الرحمن: رجل قال لرجل كريم أكرمه أنا فلان الذي أحسنت إليّ العام الماضي قال مرحبًا بمن تشفع إلينا بنا
د. إبراهيم: وهذا من هذا، تتشفع بالله بكرمه السابق وبإحسانه السابق ولن تعدم.
وايضًا شدة الحاجة (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5)) ذكر أنه يخشى على تراث وميراث الأنبياء ويخشى عليهم من الضيعة ولم يجد من بني إسرائيل في زمانه من هو أهل أن يحمل هذا الميراث فاجتمعت هذه الأمور واحتفّت فاستُجيب لزكريا فاحرص يا عبد الله أن تجعل دعاءك يحتفّ به ما احتفّ به دعاء زكريا
د. عبد الرحمن: ولعل مثل هذه النصائح تكون مناسبة في مثل هذه الليالي الذي يكثر فيه دعاء القنوت ويكثر فيها دعاء الله سبحانه وتعالى.
د. عبد الرحمن: لفت نظري في قصة زكريا أنه حتى لما منع من الكلام في قوله سبحانه وتعالى (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)) هو فقد القدرة على الكلام آية على حمل زوجته وبالرغم من ذلك لم يتوقف عن الدعوة
د. إبراهيم: هذه لفتة جميلة ينبغي أن نغفلها وهي أن الداعية الموفق بتوفيق الله سبحانه وتعالى لا يدع الدعوة لأي غرض من الأغراض حتى يأتيك اليقين لأن الله قال (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)) لا بد من التواصي بالصبر حتى الممات. زكريا عليه السلام منع من الكلام ولم يستطع أن يدعو قومه وثلاثة أيام فقط ومع ذلك لم يدع الدعوة في هذه المحنة فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم بلغة الإشارة لم يستطع الكلام إذن بقي لغة الإشارة نقتنص من هذا أن الداعية الموفق إذا منع من قناة رسمية ينطلق إلى قنوات أخرى ومجالات أخرى لن يعدم المؤمن من انترنت قناة فضائية كتابة تأليف كتب لا تقل أنا مُنِعت فزكريا مُنِع وبحث عن وسيلة أخرى.
د. عبد الرحمن: في قصة مريم وهي القصة الرئيسية في هذه السورة مريم عليها السلام فوجئت بحمل عيسى وتمنت الموت (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23)) ثم كانت العاقبة ما ذكره الله في هذه السورة، هل من تعقيب على هذه القصة؟
د. إبراهيم: ممكن أن نعنون للفائدة التي نقتنصها من قصة مريم وفيها فوائد عجيبة وكثيره لكن ما لا يُدرك كله لا يترك جُلّه المحنة تلد المنحة فمريم عليها السلام ابتليت بهذا البلاء وتمنت الموت (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) وتأمل الموقف الهائل الذي لا يستطيع أقوى رجل أن يقفه حينما أتته بها قومها تحمله قالوا (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)) موقف صعب! هذه محنة فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أن مريم صارت سيدة نساء العالمين بلا منازع وهي المرأة الوحيدة التي ذكر إسمها في القرآن كل النساء إمرأة فلان أما مريم فبإسمها الصريح ثم ولدت هذا الولد المبارك الذي سُطر إسمه في التاريخ وغيّر التاريخ وكما قال الله تعالى (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا (21)) كان رحمة، ولو لم يكن من رحمة الله بهذا المولود المبارك إلا أنه كان تمهيدًا لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم بلسان الحال وبلسان المقال ولا يستدعي المقام التطويل لهذا لكنه رحمة.
د. عبد الرحمن: يلفت نظري في قصة مريم في سورة مريم وفي سورة آل عمران أن الله يزاوج بين قصة زكريا وقصة عيسى فما الحكمة؟
د. إبراهيم: الحكمة واضحة وهي يحيى عليه السلام تمهيد للأمر الغريب الذي لا يكاد يصدق وهو ميلاد عيسى عليه السلام من أم دون أب فجاءت قصة يحيى عليه السلام وولادته من عجوز عقيم، العقيم إذا كانت شابة لا تلد فكيف إذا كانت عجوزًا؟! ثم إذا كان بعلها شيخًا هرِمًا ثم هذا الشيخ الهروم أمامه عجوز يمكن لو كانت أمامه شابة يتحرك لكن أمامه عجوز ثم يأتي هذا المولود فيكون يحيى عليه السلام تمهيدًا لجعل الناس يصدقون أنه من الممكن أن تلد أنثى من غير زوج.
د. عبد الرحمن: لفتة رائعة جدًا.
د. إبراهيم: ولذلك ذكر في سورة آل عمران (أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ (39)) مبشرًا بعيسى.
د. عبد الرحمن: قصة إبراهيم عليه السلام في هذه السورة قصة جديرة أن نتوقف معها وإبراهيم عليه السلام تكررت قصته في القرآن الكريم لكن في سورة مريم هنا جاء الحديث والحوار بينه وبين والده، جدير أن نتوقف معه.
د. إبراهيم: أولًا من الممكن أن نقتنص فائدة من حوار إبراهيم عليه السلام مع أبيه. قبل هذا لنسمع الآيات: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)) تأملوا هذا الحوار العطوف بين إبن عالِم نبيّ رؤوف بأبيه وبين أب قاسي غليظ كافر فاجر فالفائدة التي نقتنصها والتي تفيد الإنسان في واقعه المعاصر، نحن لا نتحدث عن تاريخ مضى لكن نتحدث عما يفيدنا في الوقت المعاصر. إذا كان الأسرة فيها خلل إما أن يكون الأب هو المقصر في حقوق الله سبحانه وتعالى أو الإبن هو المقصر في حقوق الله تعالى هل ينبغي أن تكون هناك مفاصلة مقاطعة بين من يرى نفسه تقيا وبين الآخر الذي يُرى أنه مقصِّر أو مخل بطاعة الله سبحانه وتعالى؟ قصة إبراهيم تفيد أن العلاقة بين الأبناء والآباء ينبغي أن لا تتوقف ولا ينبغي أن تكون العقيدة ما نعة من الرحمة في جوانب. تأمل إبراهيم يخاطب أباه (يَا أَبَتِ) ويكررها عدة مرات ثم لما هدده الشيخ العصي في جاهليته (لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)) قال إبراهيم (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ (48)) تأمل تاريخ إبراهيم عليه السلام في أخريات أيامه وبعد أن بُشر بإسماعيل وإسحق وقد جاوز الثمانين (رب اغفر لي ولوالدي) ولم يتبرأ من أبيه إلا في آخر لحظات حياته (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ (114) التوبة) بعد عمر طويل بعد أن جاوز إبراهيم الثمانين سنة. ينبغي أن نفرّق بين الدعوة بالحكمة واللطف واللين وبين الولاء والبراء لا نخلط بينهم بعض الشباب يقول هذا مبدأ الولاء والبراء إذن لا بد من الغلظة لا بد من القسوة لا بد من الشدة أين أنتم من (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (73) التوبة) نقول يا أخا الإسلام ما هكذا تورد الآيات فمبدأ الولاء والبراء له جانب لا ينبغي أن نفرّط فيه وهو جزء من عقيدة المسلم والدعوة بالحكمة واللطف واللين والتحبب انظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حياته: في الدعوة (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (125) النحل) (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (46) العنكبوت) فينبغي أن نفرّق بين الدعوة بالتي هي أحسن وبين الولاء والبراء بحيث أننا لا نحبه لكفره أما الحب الطبعي فالإسلام لا يمنع منه، لا نعينه على باطله لا نقرّه على كفره لا نساعده لأنه يهودي أو نصراني أبدًا هذا ولاء وبراء مفاصلة تامة هذه لا ينبغي أن نفرط بها، لكن دعوة، هدية، عطية (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) الممتحنة) هذا شيء آخر
د. عبد الرحمن: وكل يوضع في موضعه الصحيح.
د. إبراهيم: لا ينبغي أن نمضي ونترك الآية التي في آخر قصة إبراهيم (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) كل من يقول أنا على ملة إبراهيم وهي ملة محمد صلى الله عليه وسلم الحنيفية فينبغي أن يصدق في اعتزال كل ما يُدعى من دون الله، فنقول للمبتدع من غلاة المتصوفة من الشيعة ممن يضعف إذا رأى هؤلاء المبطلين فيدعو غير الله نقول هل أنت على ملة الإسلام؟ هل أنت على ملة إبراهيم قل (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48))
د. عبد الرحمن: ما أجدر كثير من المعبودات أن تعتزل! بل كلها. هناك آية استوقفتني قبل نهاية السورة وهي قوله سبحانه وتعالى (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)) الآن التقارير تنشر بكثرة في أوساط المسلمين وهي موازنة بين الحياة التي يعيشها الكفار والحياة التي يعيشها العالم الإسلامي وأن نسبة الفقر معظمها في العالم الإسلامي، حياتنا في العالم الإسلامي متخلفة حتى نسبة دخل الفرد بالنسبة لدخل الفرد في العالم قليلة جدًا مقارنة بأوروبا أو الولايات المتحدة، نفس المنطق هنا إذا أردتم أن تعرفوا الحق والباطل انظروا إلى الحياة المادية التي يعيشونها فأي الفريقين خير مقامًا وأحسن نديا؟!
د. إبرهيم: من الممكن أن نقول حول هذه الآية أن الاستدلال على الحق بتطور الإسمنت والحديد والماديات لعله يصح هذا. بعض الكفرة يرون أنهم على الحق بحجة أنهم أغنياء أنهم أقوياء أنهم ملكوا زمام الأمور أنهم استولوا على الأرض وهذه حجة داحضة القرآن أبدى وأعاد في إزالتها من ذهن المسلمين. مثلًا هذه الآية (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ (73)) العاقل يحتج بالدلائل بالبراهين بالبينات لا يحتج بمظاهر بلباس بزيّ بسيارة بطائرة، يحتج بمنطق بعقل بآيات بينات، هؤلاء ما حجتهم أنهم على الحق؟ (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)) نحن خير مقامًا أكثر تقدمًا أكثر تطورًا نحن أحسن نديًا مجالس مظاهر ويبين القرآن أن هناك من قال هذا القول وأُهلِك ولم تنفعه حجته (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)) عندهم تطوّر عندهم تمدن تجري من تحتهم الأنهار وليكن فرعون وقارون مثالًا لهذا التطور ومع هذا أُهلِكوا وأُبيدوا. نحن لا نخاطب كافرًا نحن ينبغي أن نخاطب المسلم ونقول لا تغرنك هذه المظاهر لا تجعل هذه المظاهر تحملك على الشك أنهم على الحق. المؤمن له حاضر ومستقبل له دنيا وآخرة ثم إن الدنيا دول، أكثر من ألف سنة والمسلمون هم الذين يمسكون زمام الأمور وهم المتقدمون وهم المتطورون وهم المصنّعون وهم الذين تهابهم جميع دول العالم فلماذا تحتجون بزمان دون زمان ومكان دون مكان؟! هذا من الخطأ الكبير والمنطق الجاهلي. خذ مثال يبين الله سبحانه وتعالى القضاء على هذه النظرة المادية الوقحة النظر إلى التكور والماديات والتقدم فيغتر البعض أنهم على الحق يقول الله سبحانه وتعالى (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) البقرة) لماذا يسخرون؟ لا بد أن الهيئة رثّة التقدم قليل الغنى قليل القوة قليلة لذلك صاروا مركز سخرية ومع ذلك وصف الله جل جلاله هؤلاء بـ(كفروا) وهؤلاء بـ(آمنوا) فالعبرة بحقائق يعتقدها القلب ويستدل بها العقل لا ماديات وزخارف وأشياء من هذا القبيل.
د. عبد الرحمن: والعجيب أن هذه سًنّة ماضية في الإسلام في عهد نوح كانوا يسخرون من الفقراء (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) الشعراء). يحدثني أحد الأصدقاء وقد أسلم حديثًأ يقول يقول لي والدي عندما رأني دخلت في الإسلام قال أين عقلك؟ أنظر إلى المسلمين كيف هم متخلفين ومتأخرين! فهي يبدو أنها سُنة ماضية ولذلك ينبغي أن يثبت المسلم على ما هو فيه بغض النظر هل هو في فقر أو حاجة أو مسكنة وهذا لا يعني أن المسلم دائما يلازمه الفقر والعوز.
د. إبراهيم: عندنا أغنياء وعندنا أثرياء. نقرأ الآية ونقول إياكم يا شباب أن تقعوا فيها (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) يمكن أن نعنون بتململ الأبناء من دين الآباء العظام لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنبياء عظام ورثوا جنات النعيم وعدهم الله سبحانه وتعالى بجنات النعيم قال (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ) الخَلْف هو عقب السوء والخَلَف الذرية الطيبة أما الخَلْف فالعقب السوء الذرية التي لا خير فيها (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) لم يحدد هذا الغيّ الغيّ الضلال العذاب الهلاك كل ما تحمله كلمة غيّ في اللغة العربية سيلقون شِدّة في الدنيا، في البرزخ، يوم القيامة، في الآخرة والعياذ بالله. فإياكم أن تكونوا خَلْف لآباء عظام! كنا إلى عهد قريب الآباء والكبار على خير على ملة حنيفية الآن اختلط الحابل بالنابل ودخل الكافر ودخل المبتدع فأصبح عندنا خلل في بعض الثوابت فأخشى أن تنطبق علينا هذه الآية والعياذ بالله (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59))
سؤال الحلقة
في الجزء التاسع عشر آيتان متتاليتان، جاء في الآية الأولى ذكر استهزاء الكفار بالرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الثانية اعتراف من الكفار بقوة حجة النبي وقوة بيانه الذي كادوا معه أن ينصرفوا عن دينهم.
فما هي الآية الثانية ؟
————————————–
الآيات التي ورد فيها ذكر الرحمن في سورة مريم
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26)
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا (75)
أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)
أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
الآيات التي ورد فيها ذكر الرحمة ومشتقاتها في سورة مريم
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21)
وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)