بعد أن عرفنا قدر الله سبحانه في (سورة الملك) وتعلمنا ووثّقنا العلم في (سورة القلم) وحسّنا أخلاقنا كما في (سورة القلم) وتذكير بالآخرة كما في سورة (القلم) والتحلي بصفات وأخلاق الداعية كما في سورة (المعارج) تأتي سورة نوح (سورة مركزية) في وسط الجزء تعطينا نموذجاً من الدعاة من البشر وتعرض وسائل الدعوة في قصة نوح . فهو مكث في قومه 950 سنة يدعوهم إلى الله بشتى الوسائل وفي كل الأوقات, وآيات السورة كأنها تعرض كشف حساب يقدمه نوح إلى ربه. والسورة اشتملت على فن الدعوة (ليلا ونهارا) كما في قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا) آية 5 والإلحاح في الدعوة وقد ابتدأ بالدعوة ليلاً لتدل على أنه لم يفتر في دعوته لا ليلاً ولا نهاراً، وقد دعا قومه سراً وجهراً وعلانية كما في قوله تعالى: (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) آية 8 و 9. ومن فنون الدعوة إلى الله سبحانه البدء بترغيب الناس لا بتخويفهم بدلالة قوله سبحانه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) آية 10 ذكّرهم بنعم الله تعالى في الكون ودعاهم لاستغفار الله تعالى. ثم ذكّرهم بتذكير (سورة الملك) وعدد لهم في اسلوب الدعوة عظمة الله تعالى في الكون كما في قوله تعالى: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ) آية 13 إلى (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) آية 20 وتذكرة بالآخرة : (قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا) آية 21 كما في سورة الحاقة، وهذا مرتبط بالجزء 28 (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) سورة التغابن، آية 15 الذين انشغلوا بالمال والولد عن طاعة الله.
وتختم السورة بدعاء سيدنا نوح (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ) آية 28 لأنه من صفات الداعية وواجباته أن يدعو للأمة كلها.
هي في قصة نوح من أولها إلى آخرها قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)) إلى آخر قوله سبحانه: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)) من أول السورة إلى آخر آية هي قصة واحدة.
ذكر في آخر المعارج قوله تعالى: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)) وذكر قومه من الذين خاضوا ولعبوا وهم قوم نوح إلى أن قال سبحانه: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)) ضرب لنا مثلاً بهولاء الذين خاضوا ولعبوا كما في قوله تعالى: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)) هؤلاء قوم نوح الذين لعبوا واستهزأوا إلى أن لقوا يومهم الذي يوعدون, مثل لمن خاض ولعب حتى يكون التهديد واضحاً بما ضرب في المثل.
في أول سورة الجن قال على لسان مؤمني الجنّ: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)) وفي أواخر نوح قال قوم نوح: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)) فرق بين المؤمن والكافر كما في قوله تعالى: (لن نشرك بربنا أحداً) – وقوله: (لا تذرنّ آلهتكم). تذرنّ بمعنى تتركون، إذن هم يدعون إلى الشرك وعدم ترك الآلهة. في الجن قال سبحانه: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)) وفي نوح قال سبحانه: (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)). وقال في نوح : (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)) وفي الجن قال سبحانه: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)) القاسطون أي الظالمون وقال تعالى: (وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)). قال في الجن قال تعالى: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)) وفي نوح قال سبحانه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)) وكأن الاستقامة على الطريقة تتمثل في استغفار الله تعالى.
هذا الكلام إذا أحببنا أن ندرس القرآن الكريم بهذه الشاكلة يندرج تحت ماذا؟
هو التناسب، تناسب الآيات والسور.
جرى ذكر السماء في سورة نوح وذكر من أجرامها الشمس والقمر كما في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)) وفي سورة الجن ذكر الشهب والسماء قال تعالى: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)) ذكر هنا السماء والشهب وهناك ذكر الشمس والقمر. جرى ذكر الناصر في السورتين عند العذاب قال سبحانه: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا (25) نوح) وفي سورة الجن قال تعالى: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)) إذن هنالك علاقات بين هاتين السورتين ومناسبات في أكثر من موضوع.