سورة يوسف هي إحدى السور المكية التي تناولت قصص الأنبياء بإسهاب وإطناب دلالة على إعجاز القرآن في المجمل والمفصّل وفي الإيجاز والإطناب (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) آية 111 . وقد أفردت الحديث عن قصة نبي الله يوسف بن يعقوب وما لاقاه من أنواع البلاء ومن ضروب المحن والشدائد من إخوته والآخرين في بيت عزيز مصر والسجن وفي تآمر النسوة حتى نجّاه الله تعالى. والمقصود بهذه السورة التسرية عن النبي بعدما مرّ به من أذى ومن محن في عام الحزن وما لاقاه من أذى القريب والبعيد فأراد الله تعالى أن يقص عليه قصة أخيه يوسف وما لاقاه هو في حياته وكيف أن الله تعالى فرّج عنه في النهاية لأنه وثق بتدبير الله تعالى ولم ييأس لا هو ولا أبوه يعقوب. ونلاحظ أن سورة يوسف تناولت قصة يوسف الإنسان وليس يوسف النبي إنما جاء ذكره كنبي في سورة غافر لذا فقصته في سورة يوسف لها ملامح إنسانية تنطبق على يوسف وقد تنطبق على أي من البشر. وقصة يوسف تمثل قصة نجاح في الدنيا (أصبح عزيز مصر) وقصة نجاح في الآخرة أيضاً (وقوفه أمام إغراءات امرأة العزيز رغم كل الظروف المحيطة به خوفاً من الله عزّ وجلّ).
وقد اشتملت قصة يوسف على كل عناصر القصة الأدبية واشتملت على الكثير من المشاهد التصويرية بحيث تجعل القارئ يرى فعلا ما حدث وكأنه ماثل أمام ناظريه. وللسورة أسلوب فذ فريد في ألفاظها وتعبيرها وأدائها وفي قصصها الممتع اللطيف وتسري مع النفس سريان الدم في العروق وجريان الروح في الجسد ومع أن السور المكية تحمل في الغالب طابع الإنذار والتهديد إلا أن سورة يوسف اختلفت عن هذا الأسلوب فجاءت ندّية في أسلوب ممتع رقيق يحمل جو الأنس والرحمة وقد قال عطاء: “لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها”وقال خالد بن معدان: “سورة يوسف ومريم مما يتفكّه به أهل الجنة في الجنة”. ولقد ابتدأت السورة بحلم (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) آية 4 وانتهت بتفسير الحلم (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) آية .100
وتسير أحداث القصة بشكل مدهش فالأصل أن يكون محبة الأب لابنه شيء جميل لكن مع يوسف تحول هذا الحب لأن جعله إخوته في البئر، ثم إن الوجود في البئر أمر سيء لكن الله تعالى ينجي يوسف بأن التقطه بعض السيّارة ثم كونه في بيت عزيز مصر كان من المفروض أن يكون أمراً حسناً لولا ما همّت به امرأة العزيز، ثم السجن يبدو سيئاً لكن الله تعالى ينجيه منه ويجعله على خزائن الأرض ثم يصبح عزيز مصر وكأن الرسم البياني للسورة يسير على النحو التالي:
بيت الأب قصر العزيزعزيز مصر
البئرالسجن
وقد أسهبت السورة في ذكر صبر يوسف على محنته بدءاً من حسد إخوته له وكيدهم ثم رميه في الجبّ ومحنة تعلق امرأة العزيز به ومراودته عن نفسه ثم محنة السجن بعد الرغد الذي عاشه في بيت العزيز ولمّا صبر على الأذى في سبيل العقيدة وصبر على الضر والبلاء نقله الله تعالى من السجن إلى القصر وجعله عزيز مصر وملّكه خزائن الأرض وجعله السيد المطاع والعزيز المكرم . وهكذا يفعل الله تعالى بأوليائه ومن يصبر على البلاء فلا بد لرسول الله أن يقتدي بمن سبقه من المرسلين ويوطّد نفسه على تحمل البلاء (فاصبر كما صبر أولي العزم من الرسل). وكأنما قصة يوسف مشابهة نوعاً ما لما حصل مع الرسول r فيوسف لاقى الأذى من إخوته والرسول r لاقاه من أقرب الناس إليه من أقاربه وعشيرته ويوسف هاجر من بلده إلى مصر وفيها أكرمه الله بجعله عزيز مصر وفي هذا إشارة للنبي أنه بهجرته إلى المدينة سيكون له النصرة والمنعة ويحقق الله تعالى له النصر على من آذوه وأخرجوه من مكة. وقد تحدثت الآيات كثيراً عن عدم اليأس في سورة يوسف فالأمل والصبر موجودان دائماً للمؤمن مهما بلغت به المحن والبلايا (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) آية 87 وآية 110 (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). ولننظر إلى قمة التواضع عند يوسف فبعد كل ما أعطاه الله تعالى إياه من ملك مصر وجمعه بأهله جميعاً ماذا طلب من ربه بعد هذا كله؟ قال: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) آية 101، فيا لتواضعه .
ملاحظة: في سورة هود كلها حكيم قبل عليم وفي سورة يوسف كلها عليم قبل حكيم.
قال تعالى في أولها:(الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)) وقال في الخاتمة:(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)) إذن هذا أحسن القصص (وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) هذا مرتبط. إذن هذا الترابط كانت الآية حينما تنزل يقول جبريل ضعها بين هذه الآية وتلك وهذا الترتيب توقيفي. الآية قد تنزل لسبب معين (أسباب النزول) وقد تنزل من ربنا سبحانه وتعالى المشرّع سواء سأل عنها السائل (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ (222) البقرة) أو لم يسأل أو حادث معين (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) المجادلة) قد تنزل لسبب أو قد تنزل لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى لكن وضعها يكون في مكان مناسب لما قبلها وما بعدها ولذلك نلاحظ جبريل كان يعارض الرسول r في رمضان يعرض عليه ما نزل من القرآن وفي السنة الأخيرة عرضه عليه مرتين معناه كل آية وضعت في مكانها توقيفاً.
في خواتيم سورة هود قال تعالى: (وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)) وقال في أوائل يوسف:(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3))، (وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) أثبت أن الله تعالى يقصّ على الرسول r في سورة هود لكنه أثبت صفة أنه أحسن القصص في يوسف. قال: (وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)) وقال في يوسف:(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ). قال في خاتمة هود: (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)) ربنا ليس غافلاً عما فعله إخوة يوسف بيوسف.
في خاتمة سورة يوسف قال تعالى:(مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)) ما هو هذا؟ هذا القرآن، بداية الرعد (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1)) قال في يوسف:(وَهُدًىوَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وفي الرعد: (وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ)، عموم وخصوص، المؤمنون قلة مع أنه تفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ولكن أكثر الناس لا يؤمنون، إذن الكلام متصل. في خواتيم سورة يوسف قال:(وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)) وذكر من هذه الآيات في بداية الرعد: (اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)) وكأيّن من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون، فصّل بعد إجمال. (وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ) وفي الرعد فصل الآيات رفع السموات ومد الأرض وجعل الرواسي وهذه كلها آيات لكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون.
#تأملات_قرآنية
#التربية_بالقرآن
#سورة_يوسف
بقلم: سمر الأرناؤوط حصريا لموقع ومدونة وقناة وحساب إسلاميات
تعلّمنا أن التربية في الصغر لها بالغ الأثر وستؤتي ثمارها لا محالة
يعقوب الذي قال ليوسف في صغره مربيّا له (إن (ربك) عليم حكيم) لم يقل: إن الرب عليم حكيم بل قال (إن ربك) أشار له بكاف الخطاب ليشعر يوسف الطفل بهذه الصلة الخاصة بينه وبين ربه ويقر هذا المعنى في قلبه وروحه ومشاعره كأنه يقول له: ربك أنت يا بنيّ على وجه الخصوص، ربك أنت يا بنيّ عليم حكيم ليوقع الرهبة والمحبة في قلب يوسف الطفل الصغير فلا ينسى لحظة أن له ربا هو الذي خلقه وهداه وهو الذي سيرعاه ويحفظه فيحبه ويخشاه..
لم ينس يوسف الطفل هذه العلاقة التي زرعها أباه في نفسه وروحه وقلبه فاستحضرها في مواقف حياته وهرع لائذا بحماها من ساعة ما تآمر عليه إخوته وألقوه في الجبّ إلى أن تحققت رؤياه
لم ينسها يوسف وهو شابّ قد بلغ أشدّه فاستعاذ بربه ساعة الابتلاء والمحنة في بيت العزيز (معاذ الله)
ولجأ إليه عند ابتلاء النسوة (رب السجن أحب إليّ..)
ولم ينسها وهو داعية في السجن فدعا بما علّمه ربّه ولم ينسب العلم لنفسه (ذلكما مما علمني ربي)
ودعا صاحبي السجن إليه (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)؟
وأرجع الحكم إليه (إن الحكم إلا الله)
ونسب العلم له (والله أعلم بما تصفون)
وولم ينسها وهو ممكّن على خزائن الأرض فاعترف بنعم ربه عليه (قد منّ الله علينا)
واعترف بفضله على المحسنين (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)
ورغّب إخوته بمغفرته (يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين)
ونسب المشيئة له (وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين)
ولم ينسها حين جمع الله شمله بأهله فاعترف بمنّة ربه عليه (قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن..)
ولم ينسها وقد تحقق له ما شاءه له ربه فأثنى عليه ببعض آثار ربوبيته عليه (إن ربي لطيف لما يشاء) وأكّد بـ(ربي) ربي أنا تمامًا كما علّمه أبوه (ربك) أنت..
وأكّد على صفات ربه التي رافقته من صغره حين رأى الرؤيا وقصّها على أبيه يعقوب إلى لحظة تحقيقها واقعا مشاهدا أمام ناظريه، جمع شمله بأبويه وإخوته لم يكن يدور في خلد يوسف حين رماه إخوته في البئر أن اللقاء الثاني سيكون هكذا، حقّا: (إنه هو العليم الحكيم)
ولم ينسها يوسف وهو يتضرّع إلى ربه سائلا حسن الختام بما أغدق عليه من النعم وما مكّن له في الأرض فدعاه بالاسم الذي تربّى عليه مذ كان طفلا (رب) (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا توفني مسلما وألحقني بالصالحين)
ما أعظمها من تربية! بدأت بكلمتين رافقتا يوسف عمره كله فأحسن ونجا وأفلح ومُكّن له!
أن تكون مربّيا لأبنائك فعليك أن تكون قدوة
يوسف الذي أسرّ في نفسه اتهام إخوته له بالسرقة وقال (والله أعلم بما تصفون)
ربّاه يعقوب القدوة الذي قال (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)
وقال (والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين)
وقال (وما أغني عنكم من الله شيئا)
وقال (إن الحكم إلا لله عليه توكلت)
وقال (فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم)
وقال (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون)
وقال (ولا تيأسوا من روح الله)
وقال (ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون)
وقال (سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم)
قد يبتعد عنك أبناؤك بالجسد لكن إن زرعت فيهم حب الله فستتواءم أرواحكم على التعلق بالله مهما بعدت المسافات حتى تتواءم أقوالكم في المواقف الشداد..
التطابق في كلام يعقوب ويوسف:
يعقوب قال (والله المستعان على ما تصفون)
ويوسف قال (والله أعلم بما تصفون)
يعقوب قال (إنه هو العليم الحكيم)
ويوسف قال (إنه هو العليم الحكيم)
الرسالة:
اغرس في أبنائك حبّ الله واربطهم بأسمائه الحسنى واسأل ربك أن يجعل غرسك مثمرا ينفعه وينفعك وينفع الناس
ولا تستهن بأثر كلمة تربي أبناءك عليها تقع في قلوبهم الغضّة الصافية موقعا يشكّل فيما بعد تفكيرهم وشخصياتهم وحياتهم من حيث لا تدري..
هذا والله أعلم
سورة يوسف تعلمنا الصبر الجميل يقينا أن تدبير الله لطيف ويرد كل كيد إلى ضده رعاية لأوليائه المحسنين..
تنقلنا آيات السورة بين الابتلاءات التي قد تعرض للعبد في مراحل حياته المتعددة وفي كل مرحلة يرفع شعار (فصبر جميل)
فصبر جميل سكن به قلب يوسف بعد أن ألقاه إخوته في غيابت الجب فاجعله شعارك حين يؤذيك أقرب الناس إليك
فصبر جميل سكن بها قلب يعقوب على فقد يوسف اجعله شعارك عند كل فقد ومصيبة…
فصبر جميل عن معصية الله حفظ الله بها يوسف من المراودة فاجعله شعارك عندما تراودك الدنيا بشهواتها وشبهاتها ومناصبها…
فصبر جميل خرج به يوسف من ضيق كيد النسوة إلى سعة السلامة في السجن فاجعله شعارك حين تجتمع عليك الفتن…
فصبر جميل حول به يوسف سجنه إلى مجلس رحب للدعوة إلى الله والإحسان إلى خلقه فاجعله شعارك في كل ابتلاء وضيق تُسجن فيه…
فصبر جميل لم يؤاخذ به يوسف صاحب السجن على نسيانه ذكره عند الملك فأجابه بتأويل الرؤيا مباشرة دون كلمة عتاب فاجعله شعارك حين ينساك الخلق فأنت تعمل لأجل الخالق لا لأجل الخلق…
فصبر جميل محى به يوسف جُرح فعلة إخوته فتحول إلى لا تثريب عليكم فاجعله شعارك اعفُ به عن كل إساءة من قريب أو بعيد…
فصبر جميل عاش عليه يعقوب سنين طويلة فنقله من الاعتصام بالله من ألم الفقد (والله المستعان) إلى نور الأمل بقرب الفرج وفرح اللقاء (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) فاجعله شعارك تحيا عليه حتى تلوح بشائر الأمل وترسو سفن الفرج على شطآنك فيغدو ألمك فرحا وكربك فرجا وعسرك يسرا وقلقك طمأنينة وأمنا…
فصبر جميل يقينا بأن الله غالب على أمره…
فصبر جميل يقينا أن ربك لطيف خبير يدبر لك وأنت صابر محسن، فهو يحب الصابرين وهكذا يجزي المحسنين…
هذا والله أعلم
#رمضان_١٤٤٢
#وقفات_تدبرية
#الجزء_١٣
المتأمل لآيات سورة يوسف والرعد وإبراهيم يلفت نظره اشتراكها في بعض الألفاظ التي تستوجب تدبرها
في ختام سورة يوسف حديث عن القرآن عظيم:
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) يوسف)
قصص القرآن عبرة لمن؟ لأولي الألباب
في صحبة القرآن
نحاول من خلال البرنامج أن نكوّن علاقة وصحبة مع سور القرآن الكريم.
سورة يوسف يظن البعض أنها مجرد قصة وعلاقتهم مع سورة يوسف أنه (تاه ووجدوه) لكن لسورة أعمق من هذا بكثير ونحن نحاول أن نصنع علاقة صحبة مع السور والحبة ليست فق بالحفظ ولكن حت لو عندك فهم عام لمعاني السورة. عندما يُذرك أمامك صاحب لك تأتي في نفسك وفي صدرك أشياء عنه أخلاقه، شكله، ذكريات بينكم، هذه هي الصحبة.
تكلما عن سورة هود وذكرنا أنها شيبت النبي صلى الله عليه وسلم والسورة ذكر فيها مصارع الأمم وكيف واجه الأنبياء هذه الأمم المكذبة الظالمة.
سورة يوسف امتداد لمدرسة الأنبياء ولكن بشكل مختلف. أغلب قصص الأنبياء في القرآن تكون كلاماً مجملاً سريعاً لكن في قصة يوسف سورة بالكامل تتكلم عن قصة نبي، كل السورة تتحدث عن قصة سيدنا يوسف عليه السلام ما عدا آخر صفحة أو صفحتين لكن القصة بشكل عام كلها في تفاصيل دقيقة جداً في حياة النبي يوسف عليه السلام. وهذا له علاقة بتوقيت النزول. سورة يونس وسورة هود وسورة يوسف هذه السور الثلاث التي سميت بأسماء أنبياء وهي متتالية نزلت في فترة واحدة وقيل أن سورة يوسف نزلت في عام الحزن الذي توفيت السيدة خديجة رضي الله عنها وتوفي فيه عم النبي صلى الله عليه وسلم ابو طالب وحصل فيه الاستضعاف الشديد وكانت الأحزان شديدة جداً على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكانوا بحاجة إلى تثبيت وهذا من أحد مقاصد ذكر قصص الأنبياء كما ذكرنا في سورة هود (وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ (120) هود) هذا تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً هذه السورة التي بين أيدينا التي فيها قصة ابتلاء شديدة جداً قصة سيدنا يوسف عليه السلام، أيّ مبتلى ينظر إلى ما حلّ بيوسف عليه السلام من جفوة بينه وبين إخوته ومن ظلم وقع عليه ومن وِحدة أصابته في البئر. كثيرٌ منا يقرأ قصة يوسف عليه السلام ولا يتخيل نفسه لحظة أنه هو نفسه في البئر المظلم وكان يوسف في ذلك الوقت غلاماً صغيراً في بئر مظلم قد يكون فيه ما فيه من دوابّ الأرض والظلام وما إلى ذلك ويكفيه جفوة الأهل أن إخوته هم الذين رموه في البئر وأبعدوه عن حضن أبيه. ابتلاءات وراء ابتلاءات وهو الكريم ابن الأكرمين يصبح عبداً يُباع ويُشترى، كل هذه ابتلاءات لما نعرض كيف تعامل معها سيدنا يوسف عليه السلام يمكن تلخيص سورة يوسف بكلمة (إعمل الصحّ) سيدنا يوسف عمل الصح في كل موقف، مواقف صعبة جداً وُضع فيها سيدنا يوسف عليه السلام وابتلاءات شديدة جداً وفتن شديدة جداً سواء فتن سرّاء أو فتن ضرّاء، سواء فتن شهوات أو فتن ابتلاءات وفي كل مرة كان يوسف عليه السلام يفعل الصحّ.
قصة سيدنا يوسف عليه السلام قصة نموذج ناجح، موضوع السورة يتجاوز مسألة سرد قصة بأحداثها للتسلية، لا، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ (111)) وقصة سيدنا يوسف قال الله الله سبحانه وتعالى في نفس السورة (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ (3)) هي أحسن القصص لا تقال للتسلية، وإنما القضية أكبر من هذا، نحن نتعلم العقيدة عملياً وهذه هي مدرسة الأنبياء التي تحدثنا عنها في سورة هود، مدرسة الأنبياء تخرّجك عالم بالعقيدة بشكل عملي. قد تسمع كلاماً طويلاً عن التوكل وفضائل التوكل لكن هذا الكلام يمكن أن يُختصر عندما ترى مشهد توكل حقيقي وتستشهده وتعيشه، مثلاً لما تعيش قصة سيدنا هود التي ذكرت في سورة هود وهو واقف أمام أقوى قوة على الأرض في ذلك الوقت ويقول لهم (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56) هود) تتعلم من هنا القوة في الحق، تتعلم قوة موسى عليه السلام وهو يواجه فرعون، كل هذه مدرسة، مدرسة الأنبياء تعلم عقيدة عملية، مدرسة أناس عملوا الصحّ ومن ضمنهم قصة يوسف عليه السلام.
كلنا يعرف تفاصيل قصة يوسف عليه السلام وهي من أكثر السور التي فيها فوائد لكننا سنمر على نموذج النجاح في كل شيء، يوسف عليه السلام ناجح في دينه، ناجح في عمله، ناجح في فهمه، ناجح في كل الابتلاءات التي تعرض لها وكان يلخص لنا هذا المعنى في كل تصرف من تصرفاته. تجد دركاً شديداً وأمراً محزناً للغاية ثم فجأة يرتفع بك سيدنا يوسف إلى أعلى السحاب لما ترى تصرفه وكلمته في مواجهة كل فتنة وكل شيء محزن. لن نسرف في الإسرائيليات كما يفعل البعض وهم يتحدثوا عن قصة يوسف وإنما نحن سنكتفي بالقرآن، نحن نتعلم سورة يوسف وليس فقط قصة يوسف.
معاني نتعلمها من سورة يوسف
سورة يوسف تعلمنا معاني ودروس عظيمة:
الدرس الأول: الثبات على العمل مهما كانت الفتم.
أول معنى نقف عليه في معاني هذه السورة العظيمة: معنى الثبات على العمل مهما كانت الفتن. مهما كانت الفتن أنا أعمل، سيدنا يوسف عمل الصواب في كل موقف، في كل موقف وفي كل مغريات أو ابتلاءات القصة تجد سيدنا يوسف عليه السلام واقفاً مشهد عظيم جداً. في السورة خمس مواقف ليوسف عليه السلام تظهر الثبات على العمل وكيف أنه يعمل الصواب في هذه المواقف:
الموقف الأول: موقفه مع المراودة من امرأة العزيز ومن النسوة. من أعظم مشاهد السورة التي يمكن للإنسان أن يُشده لما يراها مشهد امرأة العزيز وهي تراوده عن نفسه. ولنتخيل الموقف: سيدنا يوسف شاب بلغ أشدّه (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا (22)) في ريعان الشباب، جميل جداً وجمال يوسف يضرب به الأمثال والنسوة قطّعن أيديهن لما رأوه، غريب ليس من مصر، عبد والعبد عقوبته ليست كعقوبة الحرّ. كل هذه الظروف تدعوه أن يعضي. ليس هذا فقط في المقابل امرأة العزيز امرأة ذات منصب ذات جمال غلّقت الأبواب حتى لا يراه أحد، تهدده (وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)) وليست هي الوحيدة التي راودته وإنما كل نسوة المدينة يراودنه يدل عليه قول الله عز وجل (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ (33)) وهناك رجال أيضاً يدعونه رجال نُزعت عنهم الرجولة لما رأى سيدها لدى الباب أي كان واقفاً هناك. ما هذا الجو المقيت المظلم جو الشهوة المستعرة، امرأة تغلّق الأبواب وتريد أن تفعل الفاحشة فنجد سيدنا يوسف يصعد بنا إلى أعلى عليين بعد أن كنا ننظر إلى دركات من الشهوة والمعصية يقول يوسف عليه السلام كلمة واحدة تطيش بكل هذه الشهوات (معاذ الله) كلمة رقيقة وجميلة وبسيطة. كثير من الناس يتعرضون لشهوات وفتن ولا يتمكنوا من قول هذه الكلمة لكن سيدنا يوسف قالها (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)) لا يفعل إلا الصحّ. قد يصل الإنسان إلى مرحلة من مراحل ولاية الله عز وجل أن يكره المعصية ولا يطيق فعلها. لكن أن يصل بغض المرء للمعصية أن يفضّل السجن عليها هذا سيدنا يوسف عليه السلام. وصل يوسف عليه السلام إلى مرحلة قال (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ) لو فكّرنا في معنى هذه الكلمة أن السجن أحبّ إليه، في الوقت الذي نجد فيه بعض الشباب يبحث عن المعصية ويبذل كل وسعه ليعمل المعصية. سيدنا يوسف تُعرض عليه المعصية ويُهدد حتى يفعلها ويؤذى لأجل ذلك ومع هذا يقول: لا، السجن أحب عندي من أن أعصي الله، هذه درجة عالية من المعرفة معرفة الله عز وجل ومن التقرب إلى الله ومن تقوى الله عز وجل. هذا هو الموقف الأول. سيدنا يوسف مع كل المغريات والفتن ثبت على الصواب وثبت على الحق ولم يزلّ ولم يأخذه اإغراء ولا التهديد.
الموقف الثاني: موقفه مع الملك والرؤيا
يوسف سُجن وأوذي في الله جاءه الملك يريد تأويل رؤيا، لو كان مكان يوسف إنسان عادي كان ممكن أن ينتقم ويتشفّى لأنه أوذي وهُدد وراودته عن نفسه واتهموه لكن سيدنا يوسف لما جاءه الرجل الذي كان معه في السجن يريده أن يعبر له رؤيا الملك لما رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لم يفعل يوسف عليه السلام أياً من الأمور التي كان من الممكن له أن يفعلها كالتشفّي أو الانتقام أو المساومة على خروجه من السجن أو حتى الرفض. لكن سيدنا يوسف كان يفعل الصواب ويقدّم منفعة الناس على منفعته هو، ففسّر لهم الرؤيا وليس هذا فقط وإنما دلّهم على طريق النجاة من المجاعة (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)) (فَذَرُوهُ) فعل أمر وسيدنا يوسف يوجههم ويضع لهم برنامجاً وليس يفسر لهم الرؤيا فقط. (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48)) توجيه، (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)) هذه ليست في رؤيا الملك، هذه السنة الإضافية توجيه من يوسف عليه السلام. سيدنا يوسف لم يفسّر الرؤيا فقط. تفسير الرؤيا أن هناك سبع سنين فيهم خير وفيهم مطر وزرع وسبع سنين مجاعة، هذا هو تفسير الرؤيا. لكن سيدنا يوسف عمل الصواب وعرّفهم كيف ينجوا من المجاعة وكيف ينفعوا الناس وعلمهم ما هو الحل وعملهم ماذا يفعلوا (فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ) يعطيهم توجيهات علمية أن يخزّنوا الحب في سنبله حتى لا يفسد. (إِلاَّ قَلِيلاً) توجيه بالاقتصاد في الأكل لأنها ستأتي أيام مجاعة فيخزنون شيئاً لأيام المجاعة وحتى في أيام المجاعة سيحصنوا (إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ) لأنهم لو أكلوا كل الحب والثمر لا يجدوا ما يزرعوه. ثم يأتي العام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ويعلمهم سيدنا يوسف أن هذا العام سيأتي وستحل فيه مشاكلهم. سيدنا يوسف فيهذا الموقف فعل الصواب وعرّفهم وعمل لهم خطة خمس عشرية لينجوا من المجاعة.
الموقف الثالث: موقفه مع رسول الملك
كان من حق يوسف عليه السلام بعد أن أنقذ الناس من المجاعة وقال الملك ائتوني به (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي (54)) لأنه يحتاجه ويأتيه رسول الملك وأول كلمة يقولها يوسف له (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)) أنا قضيتي ليست قضية دنيا وليست مجرد خروجي من السجن فقط لكن كيف أخرج؟ أنا داعي إلى الله وأنتم شوهتم سمعتي وأدخلتوني السجن بتهمة مخلّة بالشرف (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) إذا كنت سأخرج من السجن أخرج بريئاً (فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) يجب أن يظهر الحق أولاً وليس مجرد خروج فقط.
النبي صلى الله عليه وسلم قال كلمة جميلة جداً في هذا الموضوع ” لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبتُ الداعي” يعرّفنا النبي صلى الله عليه وسلم قيمة الكلمة التي قالها سيدنا يوسف عليه السلام كلمة (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) ليس مجرد خروج من السجن ولكن كداعية يجب أن يبرّئ ساحته ولا يقال عنه كلمة مخلّة بالشرف.
الموقف الرابع: موقفه مع إخوته بعد كل الذي حصل منهم
استرجع مشهد إخوة يأخذون أخاهم ليرموه في البئر فتخيل كيف كانوا يكلموه وكيف يتعاملون معه، موقف فيه كراهية. سيدنا يسوف يسترجع كل هذا الموقف وإخوته أمامه، ويتذكر أحواله وهو في البئر وأحواله وهو يباع ويُشترى، ومع ذلك ورغم كل هذه الدركات من الكراهية يرتفع بنا سيدنا يوسف بكلمة جميلة جداً (قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)) يدعو لهم أيضاً. موقف ثبات على الصواب. أول درس نتعلمه من قصة يوسف عليه السلام “الثبات”. كان بإمكانه أن ينتقم لكنه قال (لاَ تَثْرَيبَ) لا لوم ويحافظ على وعده إلى آخر لحظة لما استرجع اللام عما حصل قال (مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي (100)) مع أن إخوته هم الذين رموه في البئر ينسب الأمر للشيطان لأنه قال لهم (لاَ تَثْرَيبَ).
الموقف الخامس: موقفه مع صاحبي السجن ودعوتهما
الدرس الثاني: شهود نعمة الله بالقلب
الدرس الثاني الذي نتعمله من قصة يوسف عليه السلام: شهود نعمة الله بالقلب. سيدنا يوسف عليه السلام نموذج لهذه القيمة، قيمة الإحساس بنعمة الله دائماً. لم يُبتلى أحد كما ابتلي سيدنا يوسف، قصة ابتلاءات شديدة ورغم هذا نجد كمية شكر متكرر في هذه القصة غريبة جداً وهو في السجن وصاحبي السجن يكلموه قال لهم (ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38)). في السجن في الابتلاء في الأسر في العبودية في المراودة فيظلم الإخوة وجحودهم ورغم هذا كله رأى النصف الممتلئ من الكوب ولم ير إلا نعمة الله عز وجل (ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) أنني أوحد الله عز وجل (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ (38)) هذا التوحيد وهذه العقيدة وهذه القيمة التي يحمد يوسف ربه عليها (ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ) نحن لا نُشرك (ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) لكن أنت يا يوسف لست من هؤلاء، أنت تشكر حتى وأنت في قعر السجن. حتى في آخر السورة سيدنا يوسف يشكر، كان ممكناً في آخر السورة أن يقول سيدنا يوسف كلمة مثلاً (وقد ابتلاني) فقد حصل له ابتلاءات شديدة جداً لكنه رغم هذا يقول (وَقَدْ أَحْسَنَ بَي) مع أن لو قال “وقد ابتلاني” فقد صدق لكنه لم يقل هذا وقال (وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)) كلام جميل. المعنى الذي نركّز عليه هو شهود نعمة الله في القلب ما دام الدين سليماً لا يوجد ما أحزن عليه. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما تحصل مصيبة أو ابتلاء فيقول: وتذكرت مصيبتي في رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمدت الله لأنها أهون وتذكرت أنها ممكن أن تكون أكبر فحمدت الله وتذكرت أنها لم تكن في ديني. ما دام الدين سليماً لا يهمّ ما سواه “اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا” لندعو الله بهذا الدعاء. مع كل الذي حصل لسيدنا يوسف قال (ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) لأنه موحّد لله، لأنه يعرف الله عز وجل لأنه كل ما حصل له في ناحية وأن يخدش توحيده في ناحية ولذلك قال (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ (33)) أدخل السجن لكن لا يُصاب ديني وما دام ديني سليماً (ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ). ويتذكر يوسف دائماً نعمة الله سبحانه وتعالى عليه فيقول (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)) نتعلم من تواضع يوسف عليه السلام فلم يكن يزكّي نفسه، سيدنا يوسف رغم كل هذا يقول (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا) وبعض الناس في يومنا هذا غافل ومع هذا ضامن لنفسه الجنة! عنده إحساس دائم أنه بعيد عن الفتنة! أما يوسف عليه السلام فيدعو الله عز وجل أن يبقه مسلماً ويدعوه أن يُلحقه بالصالحين. يريد أن يلتحق بالصالحين فمن تواضعه لا يعتبر نفسه منهم. نتعلم من سيدنا يوسف هذا التواضع الجمّ وهذا الأدب الشديد.
نتعلم من سيدنا يوسف الحرص على الدعوة إلى الله. فهو في السجن لم يترخص بل دعى صاحبي السجن (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)) هم جاؤوا إليه يسألوه عن رؤيا ولكنه عليه السلام استغل الفرصة ليدعو إلى ربه لأن مهمته ليست تفسير رؤى للناس ولكن مهمته أن يدعو إلى الله عز وجل..
الدرس الثالث: سبيل الأنبياء
هذه السورة فيها معنى من أهمّ المعاني وهو معنى سبيل الأنبياء، سبيل الأنبياء الذي ظهر في قصة يوسف عليه السلام والذي أمر الله عز وجل رسوله في هذه السورة أن يقولها وأن يقولها من اتّبعه. سبيل الأنبياء الذي نتعلمه في السورة هو الدعوة إلى الله. الدين ليس علاقة روحانية بين العبد وربه كما يقول العلمانيون، الدين علاقة متفاعلة، دعوة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وإصلاح في الأرض وجهاد في سبيل الله، الدين ليس محبوساً داخل الصدر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي) سبيلي وطريقي (أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) على علم وليس وحدي (أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي). يقول ابن القيم: لا يكون الرجل تابعاً للرسول صلى الله عليه وسلم حق الاتباع حتى يدعو بما دعا إليه. أين نحن من الدعوة إلى الله عز وجل؟! نتعلم من سورة يوسف عليه السلام.
نتعلم من سورة يوسف أن لا نيأس (وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)) (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)) نتعلم من سورة يوسف الأمل، سيدنا يوسف لم يفقد الأمل قطّ لأن الأمل في الله عز وجل لا ينقطع.
الدرس الرابع: معرفة الله باسمه اللطيف
آخر قيمة نأخذها من قصة يوسف والقصة مليئة بالقيم ووقصة عميقة. نختم بالدرس الأخير وهو اسم الله اللطيف. نتعلمه من سؤال واحد: ما الذي مكّن سيدنا يوسف؟ سيدنا يوسف أصبح عزيز مصر في نهاية القصة وصار ممكّناً وجُمع مع أهله، كيف بدأ الفضل العظيم؟ ما هي البداية لتمكين سيدنا يوسف من هذه المكانة ومن هذه النهاية السعيدة في القصة؟
قد يقال هي رؤيا الملك وتأويل سيدنا يوسف لهذه الرؤيا، لكن هل كان الملك سيعرف أن يوسف يأول الرؤيا لو لم يدخل السجن؟ فهل يكون إذن دخوله السجن هو بداية التمكين؟ وهل كان سيدخل السجن لو لم تتم مراودته من نسوة المدينة وامرأة العزيز؟ إذن هل المراودة التي كانت شهوة وإغراء هي بداية التمكين؟ وهل كان سيحصل هذا لولا العبودية وأن يوسف استُعبد؟ فهل يكون الاستعباد بداية التمكين؟ وهل كان سيُستعبد من غير أن يُلقى في البئر؟ هذا هو المعنى: (فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) النساء) هذا هو معنى اسم الله اللطيف الذي يفعل ما يشاء من مصلحة العبد دون أن يعرف العبد من طرق قد تكون خفية على البعض، من طرق قد تكون مكروهة من البعض (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ (216) البقرة) لكن الله اللطيف لطيف بعباده الذي يعرف ما يُصلحك ويعرف ما هو خير لك ولا تعرفه أنت. ولذلك تختم السورة بكلمة سيدنا يوسف في آخر القصة (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء) بعد أن ذكر إحساسه بشهود نعمة الله سبحانه وتعالى (وَقَدْ أَحْسَنَ بَي) قال (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)).
دروس كثيرة من قصة يوسف عليه السلام:
الثبات على العمل، الثبات على عمل الصواب
الثبات في الفتن
شهود نعمة الله في القلب
التواضع الشديد
عدم الأمن من مكر الله عز وجل
عدم تزكية النفس
التدبر في معنى اسم الله اللطيف
هذه القصص ليست للتسلية لكنها كما قال الله سبحانه وتعالى في ختام السورة (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111))
خلاصة التجربة
ونصل في نهاية السورة إلى قاعدة محورية، قالها سيدنا يوسف عليه السلام بعد أن انتصر وبعد أن تحققت جميع أمنياته: (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ٱلله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ (90)).
إن قصة يوسف تعلّمنا أن من أراد النجاح ووضع هدفاً نصب عينيه يريد تحقيقه فإنه سيحققه لا محالة، إذا استعان بالصبر والأمل، فلم ييأس، ولجأ إلى الله (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ٱلله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ (90)). إن سيدنا يوسف – في هذه الكلمات – يلخص لنا تجربته في الحياة، والتي هي كما قلنا، تجربة إنسانية بشرية.