في رحاب سورة

في رحاب سورة الأنبياء – 5 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة

د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1436 هـ

في رحاب سورة الأنبياء – 5

تقديم الإعلامي محمد خلف

التفريغ لموقع إسلاميات حصريًا

المقدم: الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على الهادي البشير والسراج المنير. أيها الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل الخير، ها نحن نلتقي مجددًا “في رحاب سور القرآن”، وحديثنا لا زال مستمراً “في رحاب سورة الأنبياء” مع فضيلة الشيخ الدكتور محمد صافي المستغانمي.

المقدم: كنا قد أنهينا الحديث في أواخر سورة الأنبياء, أنهينا الحديث حول أيوب -عليه السلام- وتحدّثنا حول: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأنبياء:83], (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ )[الأنبياء:84], ثم تحدّثنا عن الأنبياء الآخرين: إسماعيل وإدريس وذا الكفل, ووصلنا إلى (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ )[الأنبياء:87] مع العلم بأننا لا نفسر مفردات القرآن, ولا نقف عند كلمات القرآن، نتحدث عن محور السورة بالكامل وما فيها من أسرارٍ بلاغية مرتبط بمحورها.

إذن ما الذي يمكن أن نتحدث فيه في هذه الآية حينما يقول الله سبحانه وتعالى (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا)[الأنبياء:87], مع العلم بأنه ذكر ذا النون في أكثر من موقع لكن ذكره بأسماء أخرى قال: يونس, وقال: وصاحب الحوت, هنا قال: وذا النون, فهل للاسم هذا أو للصفة هذه معنى؟

د. المستغانمي: صحيح هذا الكلام, بسم الله الرحمن الرحيم, وصلى الله على سيدنا محمد، هذه الآية حول سيدنا يونس عليه السلام ولقبه فيها الله تبارك وتعالى بـ”ذي النون”, طبعًا وردت في سياقها العام الذي يخدم المحور الخاص بسورة الأنبياء، ونحن -من باب التذكير فقط- قلنا: إن سورة الأنبياء لها محوران ظاهران بارزان, وهذا لا ينفي بعض المواضيع الفرعية.

المحور الأساسي: هو توحيد الله تبارك وتعالى ونفي الآلهة, وتفنيدها ودحضها, ورد لفظ “الآلهة” خمس مرات كما ذكرنا,(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا )[الأنبياء:22],(لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا )[الأنبياء:99]؛ تفنيد الآلهة.

الخط الثاني: ذكر الأنبياء، كُلٌ بما يتصف به, وعبادتهم لله سبحانه وتعالى, خط العبودية المتمثل في عبادة الأنبياء, هذا يتصف بالصبر, وهذا يتصف بالصلاح, وهذا يتصف بالدعاء وكثرة الدعاء, وكلهم ذكرهم الله بما يتميزون به, وإن كانوا يشتركون كلهم في صفة العبادة لله سبحانه وتعالى, (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)[الأنبياء:73].

المقدم: ذا النون, ما النون؟.

د. المستغانمي: “ذا النون” هنا هو يونس عليه السلام , والنون: هو الحوت, كلمة “النون” من أسماء الحوت؛ الحوت الكبير, وفي سورة القلم قال: (كصاحب الحوت) [القلم:48] , وهذه تفسر هذه.

المقدم: هل هناك ارتباط ما بين صاحب الحوت التي ذكرت في القلم وبين بداية سورة القلم (ن)؟.

د. المستغانمي: لا، في ذلك المكان -أي في سورة القلم- سمّاه: صاحب الحوت, وهنا سمّاه: ذا النون، أولًا أقول: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا)[الأنبياء:87]  هنا سمّاه ذا النون؛ صاحب النون, وثمة سمّاه صاحب الحوت, ستقول لي: لماذا؟.

أولًا: النون هو الحوت وكنّى الله وذكره بهذه التسمية.

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا)[الأنبياء:87], في هذه السورة كرّم الله الأنبياء أيّما تكريم, وذكرهم بأبرز ما يتميزون به وشرّفهم, سورة فيها تلطّف مع الأنبياء أكثر, ففي هذا السياق سمّاه (وَذَا النُّونِ )[الأنبياء:87], بينما في سورة (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)[القلم:1], سورة القلم؛ جاءت في سياقٍ نهى الله جل جلاله محمداً صلى الله عليه وسلم أن لا يتشبه بصاحب الحوت, (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ )[القلم:48]، سياق النهي, قال له (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ )[القلم:48]، وسأقول لك لماذا؟

المقدم: مع أننا -ذكرنا في الحلقة الماضية- بأنه كان يتحدث سلفًا حول إسماعيل وإدريس وذا الكفل (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين) [الأنبياء:85] إلا أن يونس عليه السلام لم يكن منهم؟.

د. المستغانمي: هو لم يكن من الصابرين في هذا الموقف, هو نبي الله, لكنه خرج مُغاضبًا من قومه, قومه الذين كفروا به ولم يصدقوه وتوعّدهم بنزول العذاب.

المقدم: إذن خرج مغاضبًا من قومه وليس من سواهم؟.

د. المستغانمي: طبعًا من قومه لعدم إيمانهم فخرج مغاضبًا, وتوعدهم بالعذاب, ولما قَرُب وقت نزول العذاب آمنوا, (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)[يونس:98].

المقدم: البعض يقول: إنه خرج خشية العذاب أن يلحق بهم!!.

د. المستغانمي: جميل، خرج أن يلحق بهم؛ لكنه خرج غير مأذون له, توعدهم بالعذاب فلم يؤمنوا فلما خرج استيقظت ضمائرهم وقالوا: نبي الله خرج, هم يعرفون, فقد ينزل بنا العذاب فآمنوا (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ)[يونس:98] هم القوم الوحيدون في القرآن لما توعّدهم نبيهم آمنوا، فخرج مغاضبًا من كفرهم وهم كانوا يغاضبونه أيضًا لأن كلمة “مغاضباً” تفيد المشاركة؛ غاضبه، أنا لو قلت: أنا غاضبتك, لم يقل: خرج غضبانًا, خرج مغاضبًا قومه, معنى ذلك: هم شاركوه وغضبوا منه, وهو خرج لعدم إيمانهم, لكن لما جاء الأجل وقرُب آمنوا فرفع الله عنهم العذاب, هذا الرأي الأول.

الرأي الثاني: أنه خرج مغاضبًا لعدم نزول العذاب لأنه توعدهم فآمنوا, قال: كيف أنا توعدتهم وآمنوا في أخر لحظة, فنزلت رحم الله وتداركتهم, (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)[الأنبياء:87]، سمّاه “ذا النون” في هذه لأن السياق في ذكر صفة من صفاته العظيمة وهي: تسبيحه, كان من المسبحين, أنت قلت لي في الحلقة الماضية: لم يصبر وذكر مع الصابرين, هو لم يُذكر مع الصابرين؛ ذُكر من المسبحين, كما في سورة الصافات (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ)[الصافات:143]، تسمّى بصفة التسبيح, وهنا قال:(فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء:87], ذكر الله هذه الآية -أي الدعاء الذي كان يذكره- أي: أنه لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين, ففي سياق تشريف الأنبياء ذكره الله باسم ذي النون, ما الفرق بين ذي النون وصاحب الحوت؟!, “ذي” معناها صاحب في اللغة, أبٌ أخٌ حمٌ فو ذو؛ من الأسماء الخمسة أو الأسماء الستة، بمعنى: صاحب، لكن كلمة “ذو” فيها تشريف, لماذا؟ نقول: ذو علم, ذو مال, ذو علم أضفنا له العلم, “ذو” أشرف في الاستعمال وأمدح من “صاحب” لماذا؟ في القرآن وردت “ذو” خاصة بالله تبارك وتعالى, (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ)[الكهف:58], (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)[البروج:15],(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ)[البقرة:243], لم تَرِد: “صاحب فضلٍ على الناس” أبدًا, في حق الله سبحانه وتعالى وردت “ذو” فـ”ذو” أشرف من “صاحب” هذه استنباطات العلماء.

ثانيًا: كلمة “صاحب” تستعمل عامة, أصحاب الجنة,أصحاب النار, صاحب علم, صاحب مال, لكن أحيانًا الصاحب يكون أقل من المصحوب, لمّا نقول: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أيهما أفضل الصحابة أم الرسول؟ المصحوب الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال الإمام الفخر الرازي في “مفاتيح الغيب”,(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)[الفيل:1], أصحاب الفيل كانوا أقل شأناً من الفيل نفسه, لأن الفيل نفسه توقف وأبى وحجزه حابس الفيل، بينما أبرهة وجنوده حاولوا أن يهاجموا فكانوا أقل شأناً من الفيل فسمّاهم الله أصحاب الفيل.

–   أحيانًا كلمة “صاحب” تستعمل عامة.

–  وأحيانًا تدل على أن الصاحب أقل من المصحوب.

في سورة (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)[القلم:1], لما نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم قال:(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)[القلم:48], هنا المقام ليس في مثل تمدُّح وتلطُّف سورة الأنبياء, فسمّاه هنا ذا النون وسماه هنا صاحب الحوت, المقام يختلف، هذه رقم واحد.

لو قال في سورة القلم: “فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الْنون” لفَهِم العلماء ولَفَهِم الناس أن النون, هو النون والقلم, النون التي أقسم بها, من باب الاحتراس الذي ذكرناه في البلاغة, حتى لا يُفهم أن النون هو نون والقلم, قال: (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)[القلم:48].

المقدم: لكن النون هناك من الحروف المقطعة؟.

د. المستغانمي: نعم, من الحروف المقطعة، حرف لغوي من حروف اللغة العربية, لكي يُذْهِبَ الله عنّا نحن القارئين الوهم والظنّ الخطأ حتى لا نقول: وصاحب الحوت هو صاحب النون هو نون, سمّاه صاحب الحوت, هذا اسمه احتراس, والاحتراس نقع فيه حتى ننفي الخطأ.

المقدم: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)[الأنبياء:87], ربما يقول قائل وهو يقرأ القرآن: كيف يظن نبي الله أن الله لن يقدر عليه؟.

د. المستغانمي: هذا سؤال سأله معاوية رضي الله عنه فعلًا، جاء عبد الله بن عباس في النهار يزور معاوية, فقال له معاوية رضي الله عنه: ضربتني أمواج القرآن البارحةَ يا ابن عباس, فغَرِقت -فكِدت أغرق- يعني: وقف حيراناً عند هذه الآية بالذات, فقال له ابن عباس ترجمان القرآن: وما تلك؟! قال:أويظن نبيُ الله أن الله لا يقدر عليه؟! قال: تلك من القَدْرِ لا من القُدرة, من القَدْر أي: من التضييق ( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)[الأنبياء:87], ظن أن لن نُضيق عليه.

المقدم: والقرآن يفسر بعضه بعضاً, ورد في سورة الفجر (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ)[الفجر:16], أي ضيَّق عليه رزقه.

د. المستغانمي: وفي كثير في آيات القرآن (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)[الإسراء:30] يقدر: يضيق؛ هنا: ظن أن لن نُضيق عليه, فالله سبحانه وتعالى ضيق عليه -وكما تعرف- (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)[الصافات:141] فرُمي في البحر, (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ)[الصافات:142], ما معنى “وهو مُليم”؟ وقد أتى ما يُلام عليه, “وهو” يعود إلى يونس عليه السلام, (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ)[الصافات:142] يعني: فالتقمه الحوت؛ في ذلك الحين وفي ذلك الضيق العظيم نادي بهذا الدعاء.

المقدم: ما المقصود بالظلمات هنا؟.

د. المستغانمي: قال العلماء: ظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة بطن الحوت, ثلاث ظلمات, وهذا الدعاء, أنا أُنبِّه المشاهد الكريم (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء:87], هذا من أعظم الأدعية، وكل أدعية القرآن عظيمة وهي مستجابة.

المقدم: ما الذي يجعله من أعظم الأدعية؟

د. المستغانمي: أولًا: ذكر فيه “لا إله إلا أنت”, بدأ بالتوحيد، ثانياً: “سبحانك” التسبيح : التنزيه، ثالثاً: (إني كنت من الظالمين). هذا دعاء يتكون من ركائز التوحيد والتسبيح….

المقدم: حتى ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه من دعى الله باسم الله الأعظم يستجيب الله دعاءه أو شيء من هذا القبيل.

د. المستغانمي: وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهم يدعو ويقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت؛ يا عزيز يا منان يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام, يا حيّ يا قيوم, قال:«دعا صاحبكم الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب», فمن بينه قال: “لا إله إلا أنت يا عزيز يا منان”, هذا دعاء عظيم، والدليل أيضاً من الآية (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)[الأنبياء:88], مباشرة والفاء للتعقيب، لسرعة التعقيب والترتيب, (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ) وهل هذا خاص بيونس؟ (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء:88].

المقدم: أي من انتهج هذا النهج فسوف ينجيه الله سبحانه وتعالى.

د. المستغانمي: بيقين, بيقين “أدعو الله وأنتم موقنون بالإجابة”, هنا ذكر الله سبحانه وتعالى تسبيح يونس في بطن الحوت, لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين, ذكر ماذا قال, بينما في سورة الصافات ونحن نجمع بين خصائص السور, ذكره بصفة التسبيح قال: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ)[الصافات:143] (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[الصافات:144]. قد يتساءل: لماذا هنا ذكر دعاءه, وثمة ذكر صفة تسبيحه؟ سأعطيك المناسبة:

المناسبة في سورة الصافات: ذكر الله سبحانه وتعالى: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا  (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) الصافات), الصافات مَنْ هم؟ الملائكة تصف للوحي,(فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا)[الصافات:2] الملائكة تزجر الشياطين, (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا)[الصافات:3] الملائكة تتلو الذكر احتفاء به.

الصافات مؤنث أو مذكر؟ اسم مؤنث, والمرسلات, والذاريات,والصافات, والنازعات, مؤنث, (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)[الزخرف:19], الملائكة ليسوا إناثاً, الملائكة خلق آخر .

في نهاية سورة الصافات قال الله على ألسنة الملائكة, (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ)[الصافات:165], (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ)[الصافات:166], الملائكة هم الصافون, وفي بداية السورة, قال: (وَالصَّافَّاتِ )[الصافات:1] بجمع التأنيث, في نهاية السورة قال: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ)[الصافات:165] بجمع التذكير, ماذا يعني هذا؟ يعني: أن الملائكة ليسوا إناثاً وليسوا ذكورًا؛ هم خلقٌ آخر, فقالوا:(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ)[الصافات:165], (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ)[الصافات:166], (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ)[الأنبياء:20]. لمَّا ذكر الله الملائكة بأنهم الصافون وأنهم المسبحون ناسب ذكر يونس بأنه من المسبحين, وعلمًا أن في كل القرآن ذكر الله التسبيح بالصيغة الفعلية, وليس بالصفة أو الصيغة الاسمية, ذكر:”سبح لله”, “يسبح لله”, “سبح اسم ربك الأعلى”, “سبحان” المصدر، هنا ذكرهم بصفة اسم الفاعل: “المسبحون”, “المسبحين”, فذكر يونس بصفة التسبيح.

المقدم: هل من عِظم الدعاء هذا التسبيح الذي ورد فيه؟

د. المستغانمي: طبعاً، عجيب هذا الدعاء.

المقدم: لأنه ورد هناك “لولا” ألا تفيد الحصر؟.

د. المستغانمي: “لولا” تفيد امتناع لوجود, لولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه , يعني: التسبيح هوسبب نجاته, أنا فقط ذكرت, (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ)[الصافات:143]. هنا ماذا ذكر في سورة الأنبياء, ذكر دعاءه، لماذا ذكر دعاءه ولم يذكر صفته؟! لأن الرسل الآخرين ذكر أدعيتهم, (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأنبياء:83], زكريا(وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)[الأنبياء:89], فلما ذكر أدعية الأنبياء ذكر دعاءَه, لما ذكر صفة الملائكة ذكر صفته، هذا الذي أريد أن أوجزه.

المقدم: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)[الأنبياء:89], ربما يسأل السائل فيقول: ما الذي يقصد به (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)[الأنبياء:89]؟ طبعاً هذه القصة ذُكرت في سورة مريم كذلك .

د. المستغانمي: وأتى الله بشيء يخص هذه السورة, ذكر كيف أن زكريا كان عنده يقين عند الله سبحانه وتعالى؛ استفاده من مريم, لما قال:(أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ )[آل عمران:37], (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ )[آل عمران:38], في تلك اللحظة, اليقين الذي كان يتّسم به زكريا, قال: (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا)[الأنبياء:89], واحدًا؛ أي اجعلني شفعًا؛ اشفعني بولد (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)[الأنبياء:89]. في سورة مريم ماذا قال: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا)[مريم:5] (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)[مريم:6],  يعني: حتى يرث النبوة هو لا يقصد المال, الأنبياء لا يورِّثون درهماً ولا دينارًا “إنا نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة” يقصد النبوة؛ العلم؛ التقوى؛ الصلاح؛ الحُكم؛ ثم قال,(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)[مريم:6], هنا قال: (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)[الأنبياء:89] لماذا قال (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)؟ لسببين:-

السبب الأول: يا رب أنا أعلم أنك أنت الوارث الحقيقي.

المقدم: فبالتالي إذا جاء من يرثني أو لم يأتي فأنت خير الوارثين.

د. المستغانمي: بارك الله فيك، وعلّمتنا السنة أن ندعو الله بأسمائه الحسنى: يا كريم أكرمنا, يا وهّاب هب لنا, يا رزاق ارزقنا, يا غفور اغفر لنا، يا خير الوارثين أعطني من يرثني, دعاه باسمه.

المقدم: يعني:الدعاء بما يناسب المقام.

د. المستغانمي: يستعمل اسماً من أسماء الله بما يتناسب مع الدعاء، هذا السبب الأول. السبب الثاني: أيوب ماذا قال: (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأنبياء:83], فتناسق (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأنبياء:83] مع أيوب, هنا قال:(وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)[الأنبياء:89] فيه تناسق في الاستعمال, لو قال:لا تذرني فردًا يرثني ويرث … ما تتناسب, دعا الله, (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)[الأنبياء:89], بما يتناسق مع (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

المقدم: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ )[الأنبياء:90], “أصلحنا له زوجه” قلت: أنها من باب أنها أنجبت, مع أنه يُقال كان عمرها في التسعين؟.

د. المستغانمي: نعم, هكذا يقول العلماء كانت عجوزًا لا تلد, بدليل: (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا )[مريم:5], فهنا قال: (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَه)[الأنبياء:90], النُكتة هنا قال: أصلحنا له امرأته أم زوجه؟!

المقدم: قال “زوجه” ما قال: امرأته، هناك قال: (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا )[مريم:5].

د. المستغانمي:  البيان القرآني دأب واعتاد البيان القرآني إذا انفصلت الزوجية يسميها “امرأة”, (امرأة لوط), (امرأة فرعون) لماذا؟ لأنها كانت تخالفه في العقيدة.

المقدم: لماذا قال هناك:(وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا)[مريم:5]؟.

د. المستغانمي: لم تكن الزوجية مكتملة؛ كانت عاقرًا, الزوجية هي أن تتماثل في الدين.

المقدم: هنا تمّت بيحيى.

د. المستغانمي: تمت بيحيى, (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَه)[الأنبياء:90], عندما أصلحها سماها زوج, قبل لما كانت عاقرًا لم يقل: وزوجي عاقرًا, قال: (امْرَأَتِي عَاقِرًا)[مريم:5].

المقدم: وهنا قدَّم الله سبحانه وتعالى, قال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ)[الأنبياء:90].

د. المستغانمي: بمجيء “يحيى” أصبحت زوجاً حقيقية, قبل مجيء يحيى كانت امرأة فتختلف كلمة “امرأة” عن “زوج”.

المقدم: الله سبحانه وتعالى يقول هنا: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ )[الأنبياء:90], هل يقصد فيها “زكريا” و”يحيى” و”زوجه” أم من يقصد؟.

د. المستغانمي: يقصد “زكريا” و”يحيى” و”زوجه” ويقصد الأنبياء السابقين, كل الذين سبق ذكرهم؛ كلهم دعوا الله (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)[الأنبياء:76] نوحاً نادى, أيوب (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأنبياء:83]. وذا النون (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء:87], (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ )[الأنبياء:89] كلهم جاء التعليق القرآني: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)[الأنبياء:90]  أدعيتهم مستجابة أم غير مستجابة؟

المقدم: مستجابة.

د. المستغانمي: جيد؛ إذا أراد المشاهد الكريم والقارئ الكريم أن يكون الدعاء مستجابًا تأسّى بهم, في ماذا؟

( كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)[الأنبياء:90] المسارعة في الخيرات.

– كانوا (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء:90], مقابلة وطباق, طباق رائع (رَغَبًا وَرَهَبًا).

– (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء:90].

قال العلماء استنباطًا من هذه الآية: “أيُّما داعٍ دعا الله وتبتل بين يديه وتضرع، وكان يسارع في الخيرات, ويدعو الله رغبًا ورهبًا صادقًا، وكان خاشعًا في دعائه فبشِّره بالاستجابة”.

المقدم: :(وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء:90], والحديث هنا عن الأنبياء السابقين الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى.

د. المستغانمي: علمًا أنه وصفهم:

– مرة قال: (كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ)[الأنبياء:85].

– ومرة قال: (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)[الأنبياء:73].

– ومرة قال: (وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ)[الأنبياء:72].

– وهنا قال: :( وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء:90], فجمعوا بين الصفات.

المقدم: هل سيأتي ذكر الأنبياء فيما يلي؟.

د. المستغانمي: في مريم وابنها عيسى عليه السلام, في قوله تعالى: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:91].

المقدم: طبعًا هو مريم لم يذكرها وإنما وصفها.

د. المستغانمي: وصفها بالموصول, (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا )[الأنبياء:91].

المقدم: وتحدثنا: لماذا لم يذكرها باسمها؟.

د. المستغانمي: هنا كلام, (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:91], وابنها مَنْ؟ عيسى عليه السلام, لم يذكرها باسمها وإنما ذكرها بالاسم الموصول, وبما في الصلة من تعريف (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَاَ)[الأنبياء:91]. اشتهرت عند الناس بأنها أحصنت فرجها؛ هي المُحصنَّة, هذا ردّ على اليهود الذين اتهموها بالسفاح وبكذا، (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَاَ)[الأنبياء:91], بينما في “سورة التحريم” وفي “سورة مريم” ذكرها بالاسم,(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا )[التحريم:12], في سورة مريم ذكرها أيضًا بالاسم (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ )[مريم:34].

هنا ذكرها بالصفة، لماذا؟ قال بعض العلماء: “هي ليست نبية” فيه خلاف, لو ذكرها باسمها كان ذلك نصًا صريحًا أنها من الأنبياء، لّما ذكرها بالاسم الموصول (وَالَّتِي)[الأنبياء:91], اسم موصول وذكرها بصلة الموصول, فهذا فيه تلميح وإشارة؛ وذكر ابنها معها تشريفًا لهما في سياق تشريف الأنبياء.

المقدم: هنا الله سبحانه وتعالى يقول: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا )[الأنبياء:91], وفي سورة التحريم قال: ,(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ) فيه يعود إلى “عيسى”؟!.

د. المستغانمي: لا؛: في كُمّها، في مكان النفخ، أو في جيبها كما ورد عن بعض المفسرين, ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)[التحريم:12].

المقدم: لماذا قال هنا: “فيها”, وهناك قال:” فيه”؟.

د. المستغانمي: هذا كلام طويل لكن سأشرحه بشكل مختصر, (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا)[الأنبياء:91], قلت وأعيد: كل الأنبياء الذين ذكرهم الله هنا تلطّف في ذِكرهم ومدحَهم وأثنى عليهم. في سياق مدح الأنبياء والثناء عليهم بما اتصفوا به, وصفها بأنها أحصنت فرجها, قال: ( فَنَفَخْنَا فِيهَا )[الأنبياء:91], في ذاتها المطهرة؛ في ذاتها المقدّسة, هي البتول العذراء المُطهّرة؛ التي وهبها الله ولدًا من دون زوج, (فَنَفَخْنَا فِيهَا)[الأنبياء:91], في صفة المدح.

بينما ذِكرها في سورة التحريم, ليس ذكر مدح لشخصها وتشريف لها بتلك الطريقة, إنما ذُكرت في سياق ذكر امرأة فرعون المؤمنة, (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ )[التحريم:11], (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا ), لما ذكر المرأة التي آمنت وكانت مثلًا في الإيمان, ذكر مريم وأثنى عليها؛ ذكرها بالإيمان والتصديق, (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)[التحريم:12],  هنا جاء (فَنَفَخْنَا فِيهِ)[التحريم:12], يعني: في مكان النفخ, ولم يدعُ الداعي إلى ذكر شخصها, بينما في سورة الأنبياء تحدّث عن شخصها فقال: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا)[الأنبياء:91], وبدلالة أنه قال: (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً )[الأنبياء:91], شرّفها الله بالذكر مع الأنبياء وجعلها آية للعالمين.

هنا مقام الذكر والمدح والتشريف فأثنى عليها وعادت “الهاء” على شخصها, بينما هناك عادت “الهاء” على الموضع.

المقدم: قال الله سبحانه وتعالى: (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً)[الأنبياء:91], ولم يقل آيتين؛ لماذا ؟.

د. المستغانمي: هذا أسلوب لغوي عظيم، أولًا: جعل الله مريم وابنها آية عظيمة واحدة.

المقدم: بينما قال:(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ).

د. المستغانمي: لأن الليل آية وحده, و النهار آية وحده، لما تتأمل في خلق الليل، العجب العجاب, (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارَِ)[البقرة:164], الليل آية عظيمة والنهار آية عظيمة, بينما مريم وابنها آية واحدة؛ رزقها الله ولدًا بدون أب.

المقدم: يعني مريم لوحدها ليست آية وعيسى ليس آية, وإنما أن يأتي عيسى من مريم بهذه الطريقة دون أب فهذه آية.

د. المستغانمي: الله أراد أن يوحِّد الآية هنا حتى يزداد المؤمنون تبصرًا وتدبرًا في هذه المعجزة العظيمة, رزق الله مريم ولدًا بدون أب وبدون وسائل.

أسئلة المشاهدين خلال الحلقة

السؤال الأول من الأخ ياسين من الشارقة: ورد في سورة الأنبياء (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:92] وورد في المؤمنون (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)[المؤمنون:52], نود من الدكتور الفاضل أن يبين لنا الفرق بينهما, لماذا قال هنا: (فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:92] وهناك (فَاتَّقُونِ)[المؤمنون:52]؟

السؤال الثاني من الأخ ياسين من الشارقة: تحدَّث الدكتور الكريم عن الاحتراز ودفع الوهم (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا)[المؤمنون:53], (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ)[الأنبياء:93]، وجاء بعدها في الأنبياء (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ)[الأنبياء:105], والزبور: هو جمع زُبُر, فهل هذا من الاحتراز حتى نحن كقارئين للقرآن لا نتوهم أن “زبرًا” هي جمع زبور الوارد في الآية؟.

سؤال من الأخ علي من الشارقة: قرأنا في سورة طه, أن الله سبحانه وتعالى يتحدث مع موسى وهارون في قوله سبحانه: (فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ )[طه:47], وقال لهما في سورة الشعراء: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الشعراء:16], فلماذا قال هناك “رسولا” وهنا “رسول”؟ هناك جاءت مثنى وهنا مفرد.

سؤال من الأخ أحمد من الشارقة: باختصار ما هو “تفسير البحر المحيط”؟ وما أبرز التفاسير اللغوية التي تنصحنا بقراءتها؟.

المقدم: حتى لا نقطع سير البرنامج ونحن نختم سورة الأنبياء نُرجئ هذه الأسئلة وكذلك الأسئلة التي وردتنا عبر بريد البرنامج الإلكتروني لآخر الحلقة -إن شاء الله- .

نُكمل, حين قال الله سبحانه وتعالى – ولعلّ هذا فيه إجابة على الأخ- (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:92], وقالها في سورة المؤمنون (فَاتَّقُونِ)[المؤمنون:52]؟.

د. المستغانمي:  وهذه كأننا أشرنا إليها المرة الماضية أو ما قبلها؛ باختصار(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة) بعض العلماء قال: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة)الخطاب للأنبياء السابقين الذين ذكرهم الله, الذين ذكرهم الله, والرأي الثاني: أنه خطاب للأمة الإسلامية كلها؛ لجميع الأمة, (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ )[الأنبياء:92] حال كونها أمة واحدة  (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:92], وأنا أرجح هذا الرأي في الحقيقة، وهذه جملة استئنافية (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)[الأنبياء:92], بمعنى: ملتكم ملة واحدة, كلمة “أمة” هنا تعني “مِلّة”, لأن قال: ( وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ )[الزخرف:22], أي: على ملة من الدين, كلمة “أمة” من الكلمات المشتركة:

– قد تعني أمة؛ جماعة.

– وقد تعني ملة.

– وقد تعني قرنًا من الزمن, حسب الاستعمال.

فهنا: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)[الأنبياء:92], إن هذا دينكم هو دين واحد, (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:92], سؤال السائل وفي الحقيقة أنا كنت ناوي أتعرض له, (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:92].

المقدم: أنا أعرف الإجابة, تعرف لماذا أعرف الإجابة؟ ليس لعلمٍ مني وإنما تابعت حديثك قبل ذلك وقد أشرت إليها, لأنك قلت بأن سورة الأنبياء خطُّها العبادة.

د. المستغانمي:  خطُّها العبادة من البداية إلى النهاية فيناسبها (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:92], الآيات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى من البداية, (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:25], لما تكلّم عن الملائكة قال: (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ)[الأنبياء:26], هذا من مميزات سورة الأنبياء, قال: (وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ)[الأنبياء:53]. حتى لما تكلّم عن سيدنا أيوب لما قال: ( وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)[الأنبياء:84], بينما في “سورة ص”, قال: (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ)[ص:43].  فهنا إبراهيم عليه السلام لما حطَّم الأصنام (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)[الأنبياء:52],(قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ)[الأنبياء:53], الخط هنا “العبودية” وخير من يمثل خط العبودية: الأنبياء, فهنا لما خاطب الأمة الإسلامية قال لهم: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:92], بينما في سورة المؤمنون -كما سوف نصل إن شاء الله إليها- بُنيت على لفظ التقوى.

أضيف لك شيئاً: سورة الأنبياء كلها من البداية إلى النهاية, لم يأتي فيها لفظ التقوى أبدًا, بينما في سورة المؤمنون ذكرت العبادة وذكرت التقوى, ولكن التقوى لها حضور, لأنه جاء فيها, (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ)[المؤمنون:23], كل نبي خاطب قومه قال: “أفلا تتقون”, فلما جاء قوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)[المؤمنون:52].

المقدم: ممكن نلخص السورة, أسلفنا وقلنا بأننا لا نفسر تفسيرًا حرفيًا, وأنت لبّيت لي رغبتي في الوقوف عند بعض الأسرار البلاغية, نلخّص السورة، المحور العام لهذه السورة وقد لخصنا وتحدثنا، ولكن نلخص الحديث بشكل عام حول هذه السورة قبل أن نلج سورة الحج, وعلاقتها مع سورة الحج؟.

د. المستغانمي: تحدثت سابقًا وقلنا هي تُثبِّت التوحيد (لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:25] وتنفي الآلهة المزعومة, وتدحضها وتبطلها وتفندها, في الوقت نفسه ذكرت الأنبياء وذكرت صفة العبودية المتمثلة فيهم, في صبرهم, في تقواهم، في تسبيحهم, في دعاءهم وجؤارهم، في حفظهم لأوامر الله.

مما تتّصف به سورة الأنبياء زيادة على خط العبادة, فيها بعض المميزات اللفظية, ومن المميزات اللفظية: مثلًا تحدثت سورة الأنبياء من البداية, (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)[الأنبياء:1] عن الإعراض, (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)[الأنبياء:2] ذكر عنهم صفة الإعراض وصفة اللعب.

لما تكرر خلق السماوات والأرض قال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ)[الأنبياء:16], بينما اذهب إلى سورة الأحقاف (مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ )[الأحقاف:3], ليناسب الحق في سورة الأحقاف لأن فيها ذكر “الحق” ستة مرات.

وحتى في بدايتها: (حم)[الأحقاف:1], (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى (3) الأحقاف) حتى إن الجن لما سمعوا القرآن قالوا: ( إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)[الأحقاف:30], فهي مبنية على الحق؛ وطرق أخرى سأذكرها.

المقدم: بينما هنا ذكر اللعب في بدايتها؟.

د. المستغانمي: ذكر اللعب, واللهو, واللهو قريب من اللعب ومرادف, وعندما إبراهيم عليه السلام كسّر الأصنام, (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)[الأنبياء:60], (قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ)[الأنبياء:55], من اللعب، لم يقولوا: أجئتنا بالحق أم أنت من المستهزئين، في ذات السورة، وذُكر كلمة “اللعب ” ثلاث مرات, وذكرت كلمة “اللهو” أيضاً.

مما تميزت به سورة الأنبياء: الإهلاك والقَصْم, ما معنى (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ) [الأنبياء:11] قَصَمَ  في اللغة: بمعنى كسّر إلى أجزاء, قضم وقصم، ذَكَرَ قَصَمَ ولم تُذكر في جهة أخرى, وتناسبت مع تكسير الأصنام وجعلها جذاذاً, ما معنى جذاذاً ؟ أجزاء دقيقة جدًا.

إذن لدينا ثلاثة ألفاظ من نفس العائلة:

– لدينا قَصَمَ.

–  وجُذاذ.

– دمغ (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ )[الأنبياء:18].

المقدم: وهذه ما وردت إلا في هذه السورة.

د. المستغانمي: أبداً، هذه من خصوصيات هذه السورة, (فَيَدْمَغُهُ)[الأنبياء:18], فيكسره, فيبطله فيمحقه.

من خصوصيات سورة الأنبياء: أدعية الأنبياء، وذكرت لك:

(وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)[الأنبياء:76].

–  (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأنبياء:83].

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء:87].

– (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ )[الأنبياء:89].

إذا أردت أن تكون عبدًا لله حقًا فنادي الله؛ فادعُ الله سبحانه وتعالى.

من خصوصيات هذه السورة: إثبات بشرية الرسل، قالوا:(هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)[الأنبياء:3], عن محمد صلى الله عليه وسلم, الله قال له: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ )[الأنبياء:7], (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ)[الأنبياء:8], الأنبياء وقال له: (أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)[الأنبياء:34].

لابد أن يكون الرسول بشرًا حتى يعيش, لأنه لو لم يكن بشراًوجاءنا ملك من الملائكة مرسلًا من الله, قالوا: والله هؤلاء ملائكة لهم طبيعة خاصة وخصوصيات خاصة نحن بشر لا نصبر.

المقدم: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا)[الإسراء:95].

د. المستغانمي: فلها خصوصيات وأريد أن أذكر لك شيئاً -ولعلي ذكرته في حلقة من الحلقات- تميزت بطابعٍ لغوي الذي هو ذكر الله سبحانه وتعالى بصيغة (نا) الفاعلين, اسم الفاعلين, عندما قال سبحانه وتعالى –وهذا للدلالة على التعظيم-:

-(إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ)[الأنبياء:17].

– وقال: (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء:47].

( وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ)[الأنبياء:51].

(وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ)[الأنبياء:78].

“وكنا فاعلين” تكررت، ونا الفاعلين وردت وورد اسم “الراحمين”, “الوارثين”, كلها عن الله سبحانه وتعالى بصيغة مكثفة في هذه السورة.

المقدم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:107], ختم بها السورة؟.

د. المستغانمي: بدأ بها السورة وختم بها السورة, في بداية السورة: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ )[الأنبياء:10], وتكلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم, وقالوا: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ)[الأنبياء:36], تكلم عن محمد صلى الله عليه وسلم ثم ذكر له الأنبياء, كلًا بما يتصف به ذكره, ثم ختم بمحمد صلى الله عليه وسلم وذكر رحمته بالعالمين.

يعني إذا كان يونس اتصف بالتسبيح, وإذا كان أيوب اتصف بالصبر، وإذا كان زكريا اتصف بالدعاء, ومريم اتصفت بتحصين فرجها, وإبراهيم عليه السلام اتصف بشدته في الحق وتكسير الأصنام, محمد صلى الله عليه وسلم اتصف بكل هذه الصفات وبعثه رحمة للعالمين لا لقوم بأعيانهم, هذه من أعظم الآيات التي تلخص شخص محمد، بل حصر شخص محمد في الرحمة, قال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:107], كأن محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن له وظيفة إلا أن يأتي رحمة, للعرب؟!, لا, للعالمين, وانظر إلى لفظ “العالمين” كيف تكرر؟ تكرر في السورة كثير:

(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:71].

– تكرر لفظ العالمين وهنا قال:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:107], ختامًا بأعظم الأنبياء وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم والصفة التي تميز بها.

المقدم: أجد أننا لم نشبع هذه السورة مع أننا جلسنا فيها خمس حلقات, ولكن أشعر بأنه لا زال فيها المزيد, الله سبحانه وتعالى يقول:(قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ )[الأنبياء:108], هذا تأكيد لكل ما سبق, وبأن محور هذه السورة: العبادة والتوحيد.

المقدم: سؤال: الممتحِنة, أو الممتحَنة؟.

د. المستغانمي: هي ورد الاسمان، أولًا: كثير من الناس يقول فقط الممتحَنة, أنا ذهبت إلى كتاب الإمام القرطبي “الجامع لأحكام القرآن”, يقول: الممتحِنة, لمجيء آىة الامتحان فيها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ )[الممتحنة:10], آية الامتحان وردت فيها فسمّاها العلماء “الممتحِنة” أي المُختبِرة، هذه السورة. وتسمى “الممتحَنة” نسبة للمرأة التي امتُحنت, “الممتحَنة” اسم مفعول.

السائل سألنا عن بداية السورة, (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)[الممتحنة:1], الآية في الحقيقة نزلت بمناسبةٍ عظيمة, امرأة جاءت من المشركين إلى المدينة, وجاءت تطلب مساعدة من النبي صلى الله عليه وسلم وكانت مشركة, قالت: ذهبت عني يا ابن عبد المطلب وأنا في حاجة إلى كذا وكذا.

لما عادت إلى مكة بعث معها “حاطب بن أبي بلتعة” الصحابي الجليل، بعث معها رسالة إلى قريش يحذرهم فيها من مجيء محمد صلى الله عليه وسلم وجيشه؛ فأوحى الله لمحمد صلى الله عليه وسلم فبعث علياً والمقداد وابن الزبير ووصلوا إليها وأخرجوا الرسالة فوجدوها من حاطب بن أبي بلتعة -وكان صحابياً جليلًا- فلما اكتُشف أمره قال له صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما فعلت؟ قال: أنا كنت مُلصَقًا بقريش -يعني لست من الصميم- فخشيت فأردت أن يكون لي يد عندهم؛ أي فضل، فأخبرتهم، أما أنا لم أرتد وكذا وكذا, فنزلت الآية قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي) قريش (وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )[الممتحنة:1], لا ينبغي موالاة الكافرين والمشركين, والقصة طويلة، وسنصل إلى شخصية السورة في وقتها إن شاء الله.

 

https://www.youtube.com/watch?v=TofjkAqULWU&index=15&list=PLkfWtLTtKgCNPVnTm3YD9deZOub0-yPc5